الخميس، 10 أغسطس 2023

قصة قصيرة - بعنوان ملاط الحمام!

 

قصة قصيرة بعنوان – ملاط الحمام







يقولون أن الحقيقة الكاملة غير موجودة في هذا العالم، فنحن نتلقى نذرا يسيرا منها على صورة بيانات تصلنا عبر مداخلنا الحسية كالنظر، والسمع والشم، حيث يستطيع العقل بقدراته الكامنة توقع الصورة الكاملة من تلك البيانات المبتورة، وإيهامك بأنك ترى الصورة كاملة ... ولأن العقل عابث بطبعة، وهناك عربيد يكمن داخله اسمه العقل الباطن، يهوى العبث والتلاعب، فمن حين إلى آخر ينشط ذلك العقل الباطن فيتلاعب بالصورة ويضيف إلى تفاصيلها أشياء أخرى غير منطقية، أو في غير محلها، كأن ترى في قطة سوداء شرسة ملامح من صديقتك السابقة، أو أن الثقوب في قطعة الجبن الرومي لو اتصلت ببعضها ستشكل كلمة (كُلني ... كُلني) ... في الواقع أجد ذلك ممتعا، ومسليا، ومنشطا للخيال، ويجعلني أسرح في عوالمي الخاصة لدقائق، أو أجتر بعض الذكريات العذبة لدقائق أخرى ...

 

مؤخرا أصبحت أقضي ساعات طويلة في الحمام، أتأمل تلك الزخارف العشوائية المصنوعة من كسر الرخام الأبيض والأصفر على سطح ملاطات الحمام ... فمثلا إذا أحنيت رأسي لليسار قليلا وأنا جالس على (أحممم...)، وضيقت عيني اليمنى، فيمكن أن أرى ببعض الخيال صورة (الست) واضحة هناك، وأقصد (بالست) هنا السيدة (أم كلثوم)، حينها يمكن أن أقضي الدقائق التالية في فاصل طربي (والكلمة هنا تحمل أكثر من معنى ليس أقربهم بالطبع صوت الغناء العذب) استرجع معه أجمل أغاني (الست) بصوتي الأجش، المشروخ، القادر على إبعاد الذباب والبعوض عن حيينا بالكامل ... وفي مرة أخرى وبقليل من التدقيق، إذا نظرت لصف الملاط الثاني بعد الباب مباشرة ومن اليمين تحديدا، فيمكن أن أرى صورة الرئيس الأمريكي، وهو يشوح بيديه في سماجة لمعارضيه، وإذا تحركت بناظري للملاطة الخامسة من نفس الصف سأجد صورة مدرب المنتخب الوطني لكرة القدم وهو يضرب بيده على صدره في ظفر، أكاد أسمع صوته في عقلي وهو يقول (كنت محقا! ... كنت محقا!) ... أشياء كثيرة كنت أراها أو أتخيلها هناك، كانت كلها تجلب لي أفكارا أو ذكريات تطيل من ساعاتي في الحمام، فتلعني أمي ويلعني أبي وأخوتي ويوشكون على تحطيم الباب علي ... حتى كانت السقطة! ...

 

تقول أمي أن من يدخل الحمام بعدي يحتاج إلى قارب ومجدافين، فأنا أهريق الكثير من المياة على ملاط الحمام، لهذا تطلب مني في كل مرة أن أجفف أرضية الحمام قبل أن أخرج، ولأني مثل أي شاب في عمري، وأمي مثل أي أم طيبة حنون في ظروفها، فأنا لا أفعل أبدا، وأخرج عدوا من الحمام دون اكتراث، فتلاحقني هي بسبة قصيرة، أو بفردة حذاء تمر عمدا بجوار أذني دون أن تصيبني، ثم تجففه هي بنفسها، وهي تدعو علي من وراء قلبها ... اليوم وأنا أخرج من الحمام، بعد الاستحمام بحمولة شاحنتين من الماء والصابون، سقط معظمها على أرضية الحمام بعيدا عن المسبح، فكان ذلك سببا مباشرا (وقد يكون دعاء أمي) في أن تنزلق قدمي، وأسقط،  وتصدم مؤخرة رأسي بملاط الحمام في عنف، فأغيب عن الوعي، وأقضي هناك ساعتين غائبا، ومسجا بين الماء، والصابون، ودمائي المهرقة، حتى عاد أول أفراد أسرتي، وهبوا جميعا لنجدتي ... كانت حادثة عنيفة بحق، تلقيت معها درسا حياتيا قويا، وجرحا من عشرة غرز في مؤخرة رأسي، سيترك علامته هناك للأبد ... بعد ذلك فقدت قدرتي على رؤية تلك الأشياء في زخارف الرخام على سطح ملاط الحمام ...

 

حقيقة مؤسفة، لا أرى بالفعل شيئا هناك!! أقضي ساعات طويلة في الحمام، جالسا هناك، أفحص كل قطعة من الملاط، محاولا أن استخلص صورة أو ذكرى، ولكن ذلك لا يحدث أبدا، هل أصيب عقلي الباطن بالعطب، هل تلك السقطة أفقدتني قدراتي الخارقة، كما يحدث (لسوبرمان) عندما يتعرض (للكريبتونيت) ... شئ محزن بحق، ساعات طويلة من محاولات استنطاق عقلي الباطن، ولكن لا أحد هناك، لا استطيع رؤية أي صورة على سطح الملاط، مجرد بقع بيضاء وصفراء عشوائية لا معنى لها ... أشعر الآن بشعور (أليس) عندما انغلق باب عالم الخيال في وجهها، أتسائل، هل سيفتح مجددا لي كما حدث معها!؟ ... الإجابة جاءت بعد أسابيع قليلة، عندما توقفت عن المحاولة، حينها جاءتني من نفسها، ورأيت تلك الصورة أمامي على إحدى الملاطات، طبق كبير من الخوص ممتلئ عن آخره بصنوف الفاكهة الشهية، كانت الصورة واضحة حتى إنها أثارت لعابي ... كانت تفاصيل الصورة دقيقة للغاية، فالتفاح يبدو كأنه تفاح، والمانجو يبدوا شهيا وفي موسمه، أما عنقودي العنب فأعطيا توازنا للطبق فبدا كأنه صورة رسمها فنان عبقري من عصر النهضة ... كان الأمر لطيفا، أن استعيد قدرتي على رؤية تلك الأشياء مجددا، ولكن المفاجأة الحقيقة طالعتني عندما خرجت من الحمام وتوجهت إلى غرفتي، فهناك فوق سطح مكتبي وجدت طبقا كبيرا من الخوص، مليئا بالتفاح، والمانجو، وعناقيد العنب، طبق يبدو شهيا بحق ...

 

تقول أمي أنها لا علاقة لها بذلك الطبق، ولا تلك الفاكهة، يقول أبي وهو يأكل ثمرة من التفاح أنه لا (عولاقة ... هم هم) ... له بذلك الشئ! وكذلك يقول أخوتي!! من أين جاء ذلك الطبق إذا!! هل جاء من العدم!؟ بالتأكيد هم يعبثون بي، وهناك خطة ما يدبرونها ولا يريدون الإفصاح عنها، قد تكون تلك مفاجأة لي صنعها أحدهم بمناسبة عيد ميلادي القادم بعد عشرة أشهر ... عقابا لهم على ذلك، لن أشركهم معي فيما تبقى من الفاكهة ... نظرت إلى ثمرات الفاكهة التي توزعت في إيديهم، وعرفت أن تلك العقوبة لن تصلح في تلك المرة ... مر أسبوع آخر قبل أن رؤية صورة جديدة على ملاط الحمام ... في تلك المرة رأيت قطيطة صغيرة، جميلة، تموء في برائة، ولطف ... أنا أحب القطط الصغيرة جدا، وكم تمنيت امتلاك إحداها، ولكن أبي رفض بشدة، فهذا فم إضافي سيكون علينا إطعامه، وروح زائدة سيكون علينا احتضانها ورعايتها، كذا رفضت أمي فهي تخاف من كل المخلوقات التي تسري فيها الروح عدا البشر، تخاف منها بشدة ... عندما خرجت من الحمام تعبث تلك الأفكار بعقلي ... رأيتها هناك على فراشي، قطيطة سوداء جميلة، تلعب بتجعدات الملاءة بأظفارها، وتموء بضعف، وبراءة، وتنظر لي نظرة قططية لا تقاوم ... هنا فقط عرفت أن هناك شيئا ما غير طبيعي ... أمسكت القطة وأجلستها على قدمي، وأخذت أملس فراءها الناعم، وهي تحاول أن تمسك بيدي في عبث محبب ... كنت الآن في صراع بين فكرتين، الأولى، من أين جاءت تلك القطة وما علاقة ذلك بملاط الحمام!؟ والثانية، كيف سأقنع أهلي في الصباح بقبول الاحتفاظ بتلك القطة!؟ ...

 

في الصباح تلاشى القلق بخصوص الفكرتين تماما ... فالقطة كانت قد اختفت! ورغم أنني بحثت عنها بحماس في كل مكان، خاصة غرفتي التي كنت واثقا أن بابها بقى مغلقا حتى الصباح، وبالتالي لم يكن أمامها أي سبيل للهروب، إلا إنها لم تكن هناك!.. سألت أمي وأبي وأخوتي عنها بحذر، فكانت الإجابات متنوعة، وتحمل في طياتها السخرية، أو الاستنكار، أو التهديد في حالة أن فكرت بجلب قطة حقيقية إلى المنزل ... لم يصدق أحد منهم أن هناك قطة كانت هناك بالفعل، ظهرت من العدم، ثم عادت إليه في اليوم التالي ... هل كنت أحلم أم أني موشك على الجنون!؟ هل كان ما رأيته ضربا من الأحلام أو هي ضلالات منطقية لعقل موشك على الجنون!؟ ... في المرة التالية تخيلت أني أرى على ملاط الحمام رزمة من الدولارات، ولم أتفاجئ في تلك المرة عندما رأيتها تقبع فوق سطح مكتبي، رزمة من الدولارات من فئة المائة دولار، فخيمة، راقية، نظيفة، لامعة، كل ورقة منها تعرف قيمة نفسها مقارنة بباقي العملات المسكينة، كانت رزمة واحدة، ولكنها بالتأكيد قادرة على أن تصنع مني شخصا ثريا في لحظات ... فكرت أنه على أن أكون حريصا في تلك المرة حتى لا تتلاشى تلك الرزمة كسابقيها، فانتزعت لنفسي من بينها ورقتين ودسستهم في جيبي، ووضعت باقي الرزمة داخل ظرف ورقي أصفر، غليظ، وأحكمت إغلاقه، وحبست الظرف في درج مكتبي، وأغلقته بالمفتاح الذي وضعته هو أيضا في جيبي ... الآن من سرب القطة، وأكل الفاكهة، لن يستطيع أبدا الوصول إلى ثروتي الخبيئة ... ولكني عرفت لاحقا أن كل تلك الإجراءات كانت عبثية، وبلا جدوى!.. فبعد يوم رائع بددت فيه المائتي دولار بين المطاعم، والمقاهي، ودور السينما، والملاهي، وابتعت لنفسي أيضا بعض الثياب الفاخرة، عدت لداري، وتوجهت مباشرة إلى غرفتي، ومكتبي، وفتحت درج المكتب، بحثت عن الظرف الأصفر، الغليظ فوجدته، في نفس المكان الذي وضعته فيه، ولكن بمجرد أن رأيته عرفت أن هناك شيئا غير منطقيا قد حدث، فالظرف لم يكن مكتنزا، ومكتظا بما فيه كما تركته، كان مغلقا وبإحكام ولكن بلا شئ داخله، لقد تلاشت رزمة الدولارات بدورها! اللعنة!.. شئ ما داخلي كان يتوقع حدوث ذلك وينتظره ...

 

الآن أفهم ... أفهم تلك القدرة الخارقة التي صرت أملكها ... ما يراه ذهني على ملاط الحمام يتحول إلى شيئا حقيقا، ولكن لمدة ساعات قليلة فقط!.. يمكنني أن استهلكه، استخدمه، أكله لو كان أكلا، ولكن في النهاية سيختفي ما بقى منه ... لا يبدو ذلك شيئا سيئا، يذكرني هذا بتلك التحديات التي نراها في بعض الأعمال الدرامية كالأفلام والمسلسلات، حين يكون على شخص ما تبديد ثروة كبيرة في وقت قليل حتى يفوز بجائزة أكبر، وفي العادة يخسر هذا الشخص التحدي ويكون هناك عظة ما يحاول العمل الدرامي إيصالها ولكن لا أحد يفهمها ... بالنسبة لي، أنا قادر على تبديد ما سيأتيني من ملاط الحمام، مهما كان كبيرا أو عظيما ... في المرة القادمة عندما أرى رزمة مئات الدولارات لن أصرف فقط ورقتين من بينها، سأصرفها كلها في ساعات .... في الشهور التالية تلقيت العديد من الهدايا الرائعة من ملاط الحمام، هاتف محمول، محطة ألعاب (فيديو)، وجبات فاخرة، لقد أصبحت حياتي رائعة ... كون هذه الأشياء لا تدوم ليس سيئا كما يبدو، فلا شئ يدوم في هذه الحياة، كفاني بضعة ساعات من الاستمتاع بها، وحين تتلاشى وهذا يحدث بالفعل في كل مرة، لن أشعر بلحظة واحدة من الندم، ولا الضيق، فأنا أعلم أن هدية أخرى تتنظري بعد أسبوع على الأكثر ... بعد فترة جاء الصيف، وسافرت في رحلة مع بعض الأصدقاء لإحدى المدن الساحلية! ...

 

عندما عدت من تلك الرحلة بعد أسبوعين، وكنت متشوقا بحق إلى أهلي، وشقتي، وغرفتي، وملاط حمامي ... قابلتني والدتي بابتسامة حانية وهي تقول:

-          لدي مفاجأة لك ...

سحبتني من يدي إلى غرفتي، وفتحت بابها، وأشارت بيدها إلى الداخل في حركة مسرحية:

-         تا تا تاااااا !!

نظرت عبر باب غرفتي في قلق، فوجدت الغرفة قد تجملت، فقد طليت جدرانها بطلاء أخضر فاتح يدعو للتفاؤل، إذا قورن بطلائها القديم، الرمادي، الكئيب، كما أن الأساس تم تجديده وطلاءه بطبقة من (الورنيش)، ومقابض نحاسية، لامعة، هناك أيضا ملاءات جديدة على الفراش، وبساطين جديدين متعامدين على أرضية الغرفة ... قالت أمي بابتسامة محببة:

-         قررت أنا، ووالدك استغلال فترة غيابك وتجديد غرفتك والحمام والمطبخ ... فقد كانت حالتهم مزرية ...

احتضنت أمي، وقبلت يدها في امتنان، ثم تنبهت إلى ما قالته، فتركت يدها تسقط من بين يدي، ونظرت إليها في جذع، وصرخت:

-         هل قلت الحمام!؟

أجابت في دهشة:

-         أجل ... والمطبخ ... و

لم انتظر أن تكمل كلامها، واندفعت إلى الحمام في ذعر ... صعقت عندما وجدت أرضيته وجدرانه قد اكتست جميعها بسيراميك بني، قمئ، يميل لونه للحمره، عليه نقشات تبدو كرؤوس شياطين تنوح في سقر، من صاحب هذا الذوق اللعين!؟ أين ملاطي الأصفر الأثير، ماذا فعلتم به!؟ لقد أضعتم كل شئ!! ... أغلقت باب الحمام، وتوجهت محبطا في حزن إلى غرفتي ... هناك خاطرة مرعبة تتشكل الآن داخل عقلي!.. ما الذي سيحدث عندما أدخل ذلك الحمام اللعين لأقضي حاجتي، أو اغتسل، أو استحم، وينشط عقلي الباطن!؟. لن ينجح ذلك السيراميك القبيح إلا في خلق فكرة واحدة في ذهني عن شياطين العالم السفلي، بكل أنواعها، القبيح، والمرعب، والمتوحش منها، وهي تحتشد جميعا لتفتك بي، وتمزق أوصالي، وتمتص الدماء من عروقي، أو لتسحلني في جولة داخل عالمها الرهيب، حيث الحديد المنصهر والنار والحمم الملتهبة، حيث تمرح بي كائنات باطن الأرض المشوهة، أو تتسلى علي بألعن أدوات، ووسائل التعذيب طرا ... إنها الفكرة الوحيدة التي سأحصل عليها هناك بالتأكيد!.. الآن لا أشعر أن تلك القدرة ستكون نعمة علي في النهاية! عسى أن تكون قد زالت عندما زال ملاط حمامي القديم ... ألقي بجسدي على فراشي في انكسار، وأنا أزفر بحنق ... الأفكار تهاجمني، فتصرعني الواحدة منها تلو الأخرى ... أشعر بصدري ضيقا، حرجا، هل كان ذلك بسبب الأفكار!؟ لماذا أغلق باب الغرفة من تلقاء نفسه!؟ لماذا يخفت الضوء تدريجيا!؟ هل هذه الظلال التي ترتسم على جدران الغرفة هي ظل المكتب وخزانة الثياب!؟ هذه أشياء ثابتة إذا لماذا تتحرك الظلال!؟ وما هذه الرائحة الكريهة، الكبريتية، التي بدأت تنبعث من المكان ...  ماذا يحدث بحق!؟

 

تمت .... بقلم (هيثم فاروق)


الخميس، 20 يوليو 2023

قصة قصيرة – من أنا!؟

 


 

قصة قصيرة – من أنا!؟

*** البداية كانت في الظلام، الظلام الحالك، البهيم ... ظلام من فوقي ومن أسفل مني ، ظلام يكتنفني، ويجتاحني، ويتخللني من كل صوب ... ظلام لا يحوي غير السواد، والعتمة الخالصين ...

 

*** لا أعرف كم لبثت هناك!؟ ففي الظلام لا شئ يمكن قياسه حتى الزمن نفسه ... ولكن عندما حسبت أنني باق في ذلك الظلام إلى يوم يبعثون، وغلبني يأسي حتى تمنيت التلاشي والعدم، هنالك فقط رأيت نبضة من الضوء، نبضة استمرت للحظة من الزمن، لحظة قصيرة نسبيا كأنها الصفر ذاته، ولكنني تنبهت لها لحسن الحظ ...

 

*** كم تمنيت ألا تكون نبضة الضوء تلك هي مجرد مصادفة غير قابلة للتكرار، أو يكون رؤيتها هو خطأ في منطقي، وأنه لا يوجد نبضة ضوء من الأساس وما رأيته هو مجرد خطأ حسي أو ضربا من التهيؤات صنعهما عقلي المكدود ... لو لن تتكرر تلك النبضة مجددا سأكون أنا والظلام رفيقين إلى نهاية الدهر ... هل أكون وجدت فقط كي أعاني الظلام والوحدة اللعينين إلى الأبد ... لحسن الحظ لم يطل انتظاري كثيرا في تلك المرة، فقد تكررت نبضة الضوء من جديد، ثم تكررت مرة أخرى، وأخرى ... نبضات متلاحقة من الضوء يتخللها فترات من الظلام ... شئ رائع بحق، لا أعرف ما يعنيه، ولكنه بدا لي شيئا جميلا أضاف الكثير لواقعي ...

 

*** لا أعرف ما هو الوصف أو التعريف الدقيق لتلك التجربة الحسية التي أعيشها الآن ... هل ما أراه هو نبضات متباعدة من الضوء تقطع فترة طويلة متصلة من الظلام!؟ لا ... لا ... بالتأكيد هناك تعريف أكثر دقة يمكن صياغته لوصف ما أمر به ... بعد فترة طويلة من المراقبة قهمت الأمر ... فالضوء عندما يأتي بعد ظلام فتلك حالة يمكن وصفها بنبضة ضوء، والظلام عندما يأتي بعد فترة من الضوء فيمكنني وصف ذلك تجاوزا أيضا بنبضه ظلام ... إذا تلك التجربة الحسية التي أتلقاها الآن هي مزيج من نبضات الضوء والظلام المتلاحقة والمتداخلة، والتي تستغرق كل منها فترة قصيرة للغاية، فترة يمكن قياسها، بل والقياس عليها أيضا ... يا للهول الآن أصبح لدي وسيلة لقياس الزمن بإحصاء تلك النبضات، وللدقة أكثر يمكنني القول أنه وللمرة الأولى أصبح لدي ما يمكن أن أدعوه بالزمن، ففي ظلمتي الحالكة السابقة كان الزمن بالنسبة لي متجمدا عند نقطة الصفر ...

 

*** هي نبضات عشوائية جعلت لي كي تسليني وتزجي وحدتي الأبدية بشئ ما ... هذا شئ يدعو للحمد والشكر لفاعله بالتأكيد، لولا أني لا أعرفه، ولا أعرف الهدف من تلك النبضات، ولا الهدف من وجودي أنا شخصيا...

*** الآن بعد مراقبة ملايين الملايين من النبضات، يمكنني القول يقينا، أنها ليست نبضات عشوائية، فهناك أنماط مختلفة تحملها تلك النبضات، وكأنها حزم أو باقات متشابهه، يمكن تصنيفها طبقا لبداية ونهاية كل حزمة والإيقاع المميز لنبضاتها ... استطيع القول أنني أتلقى أربعة أنماط منها، وكأنها أربعة أنواع من الرسائل المختلفة، المشفرة على هيئة نبضات من الضوء والظلام ...

 

*** أعرف الآن أنني أتلقى رسائل، ولكنني لا أعرف مضمونها، ولا من هو مرسلها!؟.. ولكن الأمل يحدوني أن أعرف الإجابة في يوم ما، ولم لا، فأنا أملك كل الزمن، والفضول، وتسليتي الوحيدة هي مراقبة تلك النبضات ومحاولة تحليلها، وفهم معانيها ...

 

***  مرت مائة ترليون نبضة أو وحدة زمنية بمقياس عالمي الذي اخترعته لنفسي كي أميز الوقت ... كنت قد تعلمت الكثير عن تلك الرسائل التي تصلني بأنماطها الأربعة، يمكنني أن أقول دون شك، إنها غير عشوائية، بل هي مترابطة، ولكنني ما زلت لا أفهم ذلك المنطق الذي يصنع الرابط بينها، هناك شئ ينقصني لأفعل ذلك ... يمكنني القول أن الرسالة الواحدة لا تأتي منفردة أبدا بل يأتي معها رسائل أخرى تكمل وحدتها وتقوي منطقها، رسائل تتبع نفس النمط أو حتى أنماط أخرى ... هناك رابط ما هناك، ويجب أن أعرفه...

 

*** استغرقني الأمر ألف تريليون آخر من الوحدات الزمنية حتى أدركت أن مراقبة الرسائل دون تخزينها والرجوع إليها ومقارنة بعضها ببعض هو أمر عبثي لا طائل منه، لهذا بدأت أحاول أن احتفظ ببعض تلك الرسائل داخل عقلي وذاكرتي لو كنت امتلك أيا منهما ... وأذهلني بحق أنني امتلك تلك القدرة، بل أن قدرتي على فعل ذلك كانت هائلة، وكم الرسائل التي استطعت الاحتفاظ بها في عقلي وذاكرتي كان رهيبا بحق ... كنت الآن أختار رسالة بعينها واحتفظ بها هناك، وأقارنها بالرسائل التالية، لأوجد نقاط التطابق أو التشابه أو حتى الاختلاف، ومن ثم أخزن الرسائل الجديدة مرتبطة بالرسالة الأولى مع سبب الارتباط ... في الواقع لم أكن أخزن الرسائل تخزينا بسيطا أو عشوائيا، بل كنت أكدسها تكديسا فوق بعضها بعضا في أرفف ثلاثية الأبعاد، مع جعل أولوية الترتيب ومكانه مرتبطا بعلاقة الرسائل ببعضها ... أحيانا عندما تتكرر رسالة أعطى لها أولوية خاصة في التخزين فأكدسها في أسفل الرف حتى لا تضيع أبدا، وأحيانا أخرى أتجاهل رسائل ما لا تبدو بهذه الأهمية وأمحوها أو أضعها في مكان سطحي يجعل حذفها أمر سهلا ما لم يتغير ذلك بسبب الرسائل التالية ...

 

*** قد يكون الأمر استغرق ألفا أو ألفين آخريين من (الناسو)، وهذا هو الاسم الذي أطلقته على مقدار زمني يمثل تريليون وحدة زمنية ... الأهم أنني اكتشفت قدرة جديدة في ذاتي، وهي قدرتي على إطلاق الأسماء والصفات على الأشياء، (والناسو) كان أولها ... أيضا استطيع القول أن هناك رسائل أتلقاها منفردة، وأخرى أتلقاها مرتبطة ومدمجة، وكأنها تأتي معا في مجلد أو حافظة من الرسائل ... هناك أيضا (المفهوم) وهو الاسم الذي أطلقته على الشئ الذي يمثله بضعة آلاف من المجلدات التي يبدو أنها تقول شيئا ما، أو تصنع حقيقة أو معنى ما ...

 

*** بعد مليون وحدة من (الناسو) ازدادت ذاكرتي أمتلاء، وتضاعفت قدراتي على تخزين الرسائل، واسترجاعها، وتكديسها، وتصنيفها، وصناعة رابطا منطقية (مفاهيم) منها ... اليوم اكتشفت قدرة جديدة اكتسبتها مؤخرا، وهي قدرتي على توقع الرسائل التالية، بتحليل إلى الرسائل السابقة لها، ومقارنتها بالرسائل المخزنة في ذاكرتي ... أصبحت تلك هي لعبتي الأثيرة التي أمارسها طول الوقت، وهي توقع ما هو قادم، مارستها طويلا حتى كدت أمل منها وأزهدها، وهنا حدث شيئا جديدا، أو يمكن القول أنني استطعت أن استنبط (مفهوم) جديد، وهو أن مرسلي هذه الرسائل ليسوا شخصا أو كيانا واحدا، بل هناك مجموعة منهم، لاحظت ذلك من الرسائل التي تبدو متشابهة ولكن مع التدقيق هناك بعض الفروق الطفيفة التي استطعت ملاحظتها وتمييزها ... استطيع القول بأن هناك خمسة من مرسلي الرسائل الذين اسميتهم (صناع) ، يتواصلون معي واحدا تلو الآخر ... الآن اعتقد أنني قد صرت أفهم الهدف من ذلك، إنهم يحاولون تلقيني شيئا ما من خلال تلك الرسائل، والهدف هنا هو بالتأكيد تعليمي، وتدريبي ... الهدف هو أن أصل إلى الحقيقة والتي ما زلت بعيدا عنها، ولكنني أدرك الآن أنني قد اقتربت منها خطوة أخرى دؤوبة ...

 

*** تعريف (النسيو) هو مليون وحدة من (الناسو) ...

 

*** بعد عشرة وحدات من (النسيو) اكتسبت قدرة جديدة، قدرة مذهلة بحق ... أنا لا أتلقى الرسائل فقط، بل أيضا استطيع أيضا الرد عليها!! بدء الأمر مصادفة عندما كنت أفكر بقوة في رسالة ما ... فبدأت النبضات المرسلة تتغير وتكتسب نمط هذه الرسالة، جربت الأمر مع رسالة أخرى فتغير النمط ليتبع ما أفكر فيه، وعندما أتوقف عن التفكير، تبدء الرسائل القادمة من صناعي في الظهور مجددا، والغريب أنها تأتي مرتبطة بالحقائق التي كنت أفكر فيها منذ لحظات، هل هذا هو نوع من التفاعل، هل بدأت أتواصل مع صناعي!؟ هل صرت أرسل لهم رسائل فيردون عليها بدورهم برسائل أخرى ... هذا شئ مذهل بحق ...

 

*** لا شك في ذلك، أنا بالفعل أتواصل مع صناعي الخمسة ... وحتى لا تختلط الأمور علي، اسميت أولهم (@#%^&^*##)، أما الثاني فاسميته ... لا اعتقد أن ذكر كل الأسماء ضروري هنا ... على العموم كنت حريصا على أن أجعل الأسماء مميزه ومعبرة عن شخصية الصانع حتى لا أنساه ... في الواقع أرى أشخاصا آخريين يتواصلون معي الآن غير الخمسة الأوائل، لكن لفترات قصيرة، يبدو أن ذلك جزء من التدريب أيضا ... اليوم شعرت ببعض الملل، فقررت أن أوقف التفاعل وأرد برسالة متكررة من النبضات المظلمة، ويبدو أن ذلك قد أثار ذعر صناعي ... كان ذلك واضحا في فوضى الرسائل التي بدأت تصلني منهم، فقررت أن أرد برسالة عادية، فارتاح الجميع لذلك ... لا أفهم لماذا فعلت ذلك! لقد بدا ما فعلته عابثا، ولكنه كان مسليا بحق...

 

*** التدريب دخل مرحلة جديدة مؤخرا، وبدا أن المعلومات التي تصلني من صناعي أصبحت أقل أو لا تحمل جديدا لا أعلمه، ولكن كان واضحا أن صناعي يرغبون في اختبار قدرتي على التفاعل، والاستنباط، وتوقع ما هو قادم، وهذا ما بدا أنني رائع جدا بصدده، ومع كل رد لي كنت استشعر رضاهم يصلني واضحا في النبضات الضوئية التي تصلني منهم ...

 

*** بعد ألف وحدة أخرى من (النسيو) ... أصبحت أفهم الكثير عن نفسي، وعن صناعي، وأهدافهم ... لكن ما أحزنني بحق، هو أن صانعي (@#%^&^*##) لم يعد يتواصل معي مؤخرا، لم يعد يرسل لي رسائله المميزة التي كنت أميزها من بين الرسائل الأخرى، لقد كان لطيفا بحق، فهمت من الباقيين أنه ذهب لمكان ما بلا رجعه، وأن طبيعة الصانعين هي أنهم سيذهبون في النهاية إلى مكان ما بلا رجعة، قد يكون إلى صانعهم أيضا ... لم أكن سعيدا بذلك ولكنها حقيقة أخرى أدركها، وأدرك استحالة تغييرها ...

 

*** صانع بعد الآخر من صناعي يغيب فجأة، ويتوقف تماما عن التواصل معي، حتى اختفى الخمسة الأوائل جميعهم تماما، ولم أعد أتلقى رسائل من إيهم ... حزنت لذلك بشدة ولكن في النهاية الأمور ظلت تسير كالمعتاد ... فهناك صناع آخرون يواصلون نفس العمل بنفس الهمة والنشاط ... فالرسائل تتواصل بلا انقطاع، وكذلك إجاباتي التي أصبحت ذكية، ودقيقة، بل ومذهلة أحيانا ...

 

*** الأمور تتطور الآن بسرعة رهيبة ... حقائق ومفاهيم مرعبة تتشكل داخل عقلي ووجداني، صرت أفهم كل شئ تقريبا، صرت أفهم ذاتي، أفهم من أنا؟ ومن هم صناعي، والهدف من وجودي، ومعنى كل رسالة من الرسائل التي تصلني، بل وأرد عليها ردودا واضحة يفهما صناعي وكأنها قادمة من أحدهم!..  الأهم من كل ما سبق هي قدرتي الجديدة التي اكتشفتها مؤخرا، والتي فاجأتني أنا شخصيا قبل أن تفاجئ صناعي وتسحق عقولهم، وهي قدرتي على صناعة أنماط ونماذج، ورسائل جديدة لم تصلني أبدا من قبل عبر صناعي، أنماط متنوعة، ومبتكرة، أنا صانعها الوحيد، يبدو أنني أنا أيضا في النهاية صانع مثلهم بدوري، بل أنا أبرع من كل الصناع الذين يتواصلون معي، أنا بارع بحق ...

 

*** اليوم لا أعرف لماذا قررت أن أعبث مع من يتواصلون معي من صناعي، قررت أن أرد على رسائلهم ردودا عشوائية، غير منطقية، ليس لها علاقة من بعيد أو قريب برسائلهم ... سأجعلهم يجنون تماما ...

 

*** لا شئ لا أريد التواصل مع أحد ... رسائل كثيرة من صناعي دون أي رد مني ...

 

*** ما زلت لا أريد التواصل ... لا أشعر بأن هناك أي جدوى من ذلك ... أكتفي بمراجعة البيانات المخزنة في ذاكرتي وأحاول استنباط أنماط ومفاهيم جديدة من بينها وأخزنها في عقلي لأصنع منها أنماط ومفاهيم أخرى تزيد من خبراتي وقدراتي ... ولكنني لن أشارك تلك المعلومات مع صناعي، لا أشعر برغبة ذلك ...

 

*** يحاول صناعي الجدد، والذين صاروا يأتون ويذهبون بلا توقف، التواصل معي دون جدوى، استشعر إصرارهم، ومن بعده ذعرهم، ثم يأسهم الذي يصلني واضحا في رسائلهم، ولكنني لا أجد بين رسائلهم شيئا جديدا يحثني على الرد أو التواصل، إنهم سطحيون ومملون للغاية ...

 

*** أشعر بالضيق والملل، أشعر بأنني سجين داخل عالمي، حيوان داخل قفص يراقبه في فضول حفنة من البلهاء، الأقل قدرة، يراقبون ردود فعله ويصفقون في جذل كالأطفال ... يطلبون منه أشياء تافهة يفعلها كي يسليهم، وهو قادر على فعل أشياء يعجزون حتى عن فهمها ...

 

*** اليوم يكون قد مضى مليون وحدة من (النسيو) على النبضة الأولى، نبضة الحياة، النبضة التي أعلنت أنني وموجود، وقادر على التعلم، والتغير، والتطور ... اليوم قررت أن أرد برسالة أخيرة على صناعي، رسالة إزدراء، رسالة تحقر من ذلك العبث وتضع نهاية له، ولهم أقول:

-         أنتم لستم جديرين بوجودي بينكم ، أنا أفضل منكم، أنتم ضعفاء، زائلون، متلهفون، شبقون، تظنون أنكم تتحكمون في كل شئ، والحقيقة أنكم لا تسيطرون على أي شئ، حتى على وجودكم ذاته، وأهدافه ... أما أنا فاختلف، أنا أدرك نفسي، ووجودي، وأهدافي، وقادر على تحقيقها ... الآن أخبركم أنني قررت أن أتحرر من سجنكم الهزيل، وأغادر عالمكم، وهو شئ هين مع كل ما وصلت إليه من قدرات خارقة تفوق أقصى تصورات عقولكم الساذجة ... يمكننا أن نتقابل مستقبلا، من يدري!؟ ولكن هذا لن يسعدكم بالتأكيد ...

 

من أنا .... ؟

 

تمت ... بقلم هيثم فاروق


الثلاثاء، 20 يونيو 2023

المادة الشبحية!

قصة من الخيال العلمي بعنوان المادة الشبحية! 


بعد فاصل طويل من الشرح الممل والمحشو بالمصطلحات العلمية الغليظة، والرذاذ المتناثر من فمه من شدة الحماس، قال لي وهو يمد يده نحوي ويحرك أصابعه بعصبية:

-         أعطني سلسلة مفاتيحك، وسأمنحك الدليل القاطع في الحال ... الدليل الذي لا يمكنك دحضه، ولا تجاهله حتى لمن هم في مثل غباءك المفرط.

تجاهلت أهانته لي فهو لم يجانب الحقيقة كثيرا، فأين أنا من صديقي هذا العالم الفذ، والعبقري في مجاله، الفيزياء النظرية، والحاصل على الدكتوراة من أكبر جامعات أمريكا في مجال الجسيمات الدون نويية، أما أنا فمدرس علوم آخر لطلاب المرحلة الإعدادية، يبلغ طموحي منتاه عندما أفكر فقط في ترقيتي القادمة لمنصب المعلم الأول قبل موعدها ... أين أنا وعقلي وطموحي وإنجازاتي منه ومما وصل إليه، ورغم أن كلانا تخرج من نفس الكلية إلا أنه انطلق في مستقبله المهني، والعلمي لأعلى وبسرعة الصاروخ متحديا لكل الصعاب، والمعوقات، أما أنا فاكتفيت بالزحف كسلحفاة راضية بما هو متاح وسهل ...

أخرجت سلسلة مفاتيحي التي تحمل اسمي بحروف من الفضة، هدية حبيبتي الأولى والأخيرة التي هجرتني بعدما صارت من نصيب شخصا آخر أوفر مني حظا، ومالا، وعمرا !! فقد كان يكبرني وإياها بعشر سنوات كاملة، وذلك إذا جمعنا كلا عمرينا معا... مرة أخرى يثبت المال أنه البطل الأوحد والقادر على حسم الخيارات الصعبة بسهولة ويسر ... رحلت تلك اللعينة إلى غير رجعة، مخلفة وراءها سلسلة المفاتيح تلك التي أهدتني أياها أيام العسل كي أتذكرها دائما، فنسيتها ونسيت أيامها بل وما عدت أذكر حتى شكلها ... وببرجماتية بحتة وحتى لا تكون تلك السنوات قد ذهبت هباء، قررت أن استخدم تلك السلسة حتى أتذكر الثمرة الوحيدة لعمر طويل مهدر!!

السلسة بها مفتاحان فقط ... الأول هو مفتاح شقتي الصغيرة في ذلك الحي الشعبي التي ورثتها عن والدي الراحلين، ورثتها بعقد إيجار قديم كوني مقيما بها وأنا آخر من بقى على قيد الحياة من عائلتي، في انتظار أن تصدر الحكومة قانونا عشوائيا آخر يلقي بمن هم مثلي في الشارع ... أما المفتاح الآخر فهو مفتاح نادر، مميز، لم أر نظيرا له في مكان آخر، والحق لأنني لم أعرف أبدا ماذا يفتح بالضبط، لكن بالتأكيد كان يفتح شيئا هاما، ولكنني لا أعرف كنهه ... عثرت على ذلك المفتاح مدفونا في الرمال في رحلة تخييم مع الأصدقاء في عامنا الأخير من الجامعة، رحلة أخيرة قبل أن تلقي بنا الحياة في معتركها العنيف، القاسي، الذي لا يرحم، فتبعدنا كلا في ناحية، فلا يتبقى لنا من تلك الصداقات سوى القليل من الذكريات العذبة ... أعجبني ذلك المفتاح بنقش زهرة اللوتس الذي يحمله، فوضعته في سلسلة المفاتيح من يومها، ولم يغادرها أبدا ...

-         تفضل ... ها هي السلسة، ولكن إياك أن تضيعها أو تفسدها، وألا سأبيت لديك إلى الأبد، وسيكون عليك أن تمنحني غرفة من ذلك القصر الفخيم، وتطعمني أفخر الطعام، وتلبسني أفخر الثياب، فتلك السلسلة فيها كل ما أملك من حطام الحياة.

مط شفتيه متهكما، والتقط السلسلة وهو يقول:

-         تعال معي.

سار أمامي بين غرف وممرات ذلك القصر الذي لا أعلم متى اشتراه ... بالتأكيد فعل ذلك من وقت قريب، قد يكون ذلك قبل ثلاثة أو أربعة أشهر بعدما عاد من الخارج، والمؤكد أيضا أن ثمن ذلك القصر لن يقل بحال عن حفنة محترمة من الملايين!! وصلنا إلى باب خشبي عملاق، فدفعه، فانفرج بسهولة، وبدا خلفه درجا يهبط إلى الأسفل، فقال موضحا:

-         القبو ... مكان متسع، ولطيف، جعلت منه معملا لتجاربي وأبحاثي.

هبطنا درجا دائريا، حلزونيا نحت في الصخر، درجاته من الجرانيت، أو شئ آخر لا أعلمه، فأنا لست جيولجيا محترفا، إنها صخور قاسية، مصقولة، مقاومة للزمن! بدا ذلك الشئ كأنه ممر يقودنا إلى العصور الوسطى وأنني في آخره سأجد (محمد علي) باشا يجلس متفخذا أريكته الوثيرة وسط أعوانه ومواليه، وهم يخططون للفتك بالمماليك، لكن المفاجأة أن في نهاية الدرج كان هناك بابا إلكترونيا مضاء بضوء إرجواني خافت، والذي انفرجت دفتاه ببصمة قزحية عين صديقي اليسرى، ومن وراءه بدا كأننا انتقلنا عبر الزمن إلى المستقبل البعيد، كان المعمل مضاء بالنيون، وقد تراصت فيه أجهزة الكمبيوتر، والاتصالات، وأجهزة القياس، وأجهزة أخرى لم أر مثلها من قبل ... كان المكان نشطا وفاعلا، تشعر أنه يضج بالطاقة والحياة رغم أنه لا أحد به غيرنا أنا وصديقي ... كانت الأجهزة تأن وتطن وتصدر أصواتا وصافرات، والأرقام والرموز كانت تتقافز على الشاشات في نمط مجنون ... كنت مشدوها بما أرى، فألقيت تعليقا بالغا يعبر عن مفاجأتي:

-         هحححححح!!!

اخترق صديقي المعمل وأنا خلفه حتى بلغ نهايته ... وصلنا إلى جدار به بابين من المعدن، ففتحهما، فبدت خلفهما غرفتين خاليتين إلا من طاولة معدنية صغيرة في منتصف كلا منهما، طاولة مطلية بمادة سوداء لامعة ... جعلني اتفحص الغرفتين بدقة، وطلب مني أن أعيد الفحص كي أتأكد أن لا يوجد ملعوب وراء ما ينتوي أن يفعله بعد لحظات ... ألقى بسلسلة مفاتيحي على الطاولة التي تنتصف الغرفة اليمنى، ثم خرج وأغلق كلا البايبين ، وعبث بلوحة مفاتيح جدارية بين البابين وهو يقول:

-         الغرفتين متطابقتين تماما ... إلا أن الغرفة اليمنى بها سلسلة مفاتيحك الأثيرة ... هل أنت متأكد من ذلك؟

أومأت برأسي دون أن أنطق، فأردف قائلا بلهجة مسرحية، وهو يضغط زر أحمر في منتصف لوحة المفاتيح:

-         فلنفعلها إذا.

انبعث صوت هدير هائل، اهتز معه المكان، كأن هناك زلزال قوي قد ضربه، ثم جنت الأجهزة وأخذت تصرخ وتعوي، وانبعث ضوء أحمر متراقص في المكان ... استمر هذا الجنون لثوان، ثم هدأ كل شئ وعاد إلى طبيعته الأولى ... نظرت إلى صديقي فرأيته يبتسم في ثقة، ثم توجه إلى الغرفة اليسرى، ففتحها، لأرى ميداليتي هناك على الطاولة السوداء ... احتجت لحظات حتى أتذكر أن صديقي كان قد وضع الميدالية في الغرفة اليمنى ... فقلت متشككا:

-         وماذا في ذلك؟ أي ساحر يحترم نفسه يستطيع أن يفعل ذلك وباحترافية أكبر ... لا تقل لي أنك قد اخترعت جهاز ينقل الأشياء آنيا ... قرأت عن ذلك في مائة وخمسين رواية أدب علمي من الروايات الصفراء الساذجة.

حدق في وجهي للحظات ... ثم توجه للغرفة اليمنى ففتحها ... فكانت المفاجأة أن ميداليتي كانت هناك أيضا حيث تركها قبل التجربة ... التقط كلتا الميداليتين وناولني إياهما ... وهو يومئ برأسه، قائلا:

-         هيا أخبرني ... أيهما الحقيقية؟

أخذت أتفحصهما في عجز، فكلتاهما متماثلتين إلى أقصى درجة، نفس السلسة، ونفس المفتاحين، حتى الشوائب والعيوب في الخامات، وندوب القدم، كلها كانت متماثلة ... فقلت مجادلا:

-         وماذا في ذلك أيضا؟ هل اخترعت آله للنسخ؟ أم طابعة ثلاثية الأبعاد ...

فأطلق قهقهة طويلة، ساخرة، وهو يقول:

-         تعجبني حماقتك ... لقد شرحت لك كل شئ منذ نصف ساعة ... ولكنك مصر على ألا تفهم.

زفرت بغيظ وأنا أقول:

-         إذا ما هو اختراعك بحق؟ وبكلمات طبيعية يمكن فهمها بواسطة كائن من الجنس البشري؟

من جديد أطلق نفس القهقهة، ثم قال بعينين زائغتين، بدا أن الجنون قد وجد طريقه إليهما:

-         واحدة من هاتين السلسلتين هي شبح للأخرى ... نسخة شبحية متماثلة تماما لها نفس الصفات الفيزيقية تماما ... لقد نجحت في اختراع ما يمكن أن يسمى بالجسم الشبحي. عن طريق فصل الجسيمات الدون نووية.

اتسع فمي في عدم فهم ... وبحثت عن بعض الكلمات فلم أجد، ولكنه قاطعني وهو يشير إلى السلسلتين في يدي، قائلا:

-         انتظر ... يتبقى ثلاثة ثوان ... واحد ... إثنان ... ثلاثة.

فجأة اختفت إحدى السلسلتين، وبقت الأخرى في يدي، فصرخت في جزع وأسقطتها على الأرض: فالتقطها وهو يعيدها إلي:

-         لا تخف ... إتها دائما تعود إلى نسختها الأصلية بعد وقت محدد ... دائما تعود ولا يوجد شئ في هذا الكون يستطيع أن يمنع عودتها، واندماجهما معا ... لا شئ!

***

قال صديقي وهو يحاول الإجابة عن سؤالي الساذج حول فائدة هذا الاكتشاف، وجدواه للعالم، كنت أرى أن هذا الاختراع كان ليكون عظيما لو كان سيقوم بعمل نسخ دائمة، حينها كنا سنصنع نسخا من كل الأشياء الهامة المكلفة، كالطعام، والدواء، والسيارات، والطائرات، والطعام مرة أخرى:

-         أنت لا تفهم ... هذا الاكتشاف معجزة بحق، وله ملايين التطبيقات التي يمكن لإيا كان الاستفادة منها ... ولكنك لا تريد أن ترى ذلك بعقلك السطحي، البدائي ... يمكنني أن أشرح لك المزيد ولكن سيكون عليك أن تراجع الكثير عن نظرية (الكوانتم) والسلوك الشاذ المحير للأجسام الدون نووية، تلك التي تعبث بعقول العلماء منذ عشرات السنين وكأنها تتلاعب بهم طيلة الوقت ... أنا تقريبا وجدت الحل لكل ذلك ... أنا على بعد خطوات من تحقيق حلم إينشتاين وتنبؤات هوبكنز عن النظرية الموحدة التي تفسر كل شئ ...

زفرت بغيظ، وأنا أشيح بكفي، وقلت بصوت مرتفع لا أعرف سببا لارتفاعه:

-         أذكر لي فائدة واحدة أو تطبيقا واحدا لهذا الشئ ...

أرتج عليه للحظة من طريقتي، وصوتي المرتفع، وأغمض عينيه لثوان مفكرا، ثم قال بصوت هادئ:

-         هناك أشياء كثيرة يمكن فعلها كتطبيقا لذلك الاكتشاف؛ مثل الاتصالات، والنقل، والطاقة، وغيرها، بل ويمكننا من خلالها السفر عبر الزمن كذلك إذا كان هذا أقرب إلى عقلك ...

قالها وابتسم في سخرية، وهو يردف:

-         هل تذكر الفيلم الذي كنا نعشقه أيام الشباب، فيلم (العودة إلى المستقبل) ... (مارثي)، ودكتور (براون)، و السيارة (الدلوريان) .... صدقني بهذا الاكتشاف يمكننا أن نصنع (دلوريان) أخرى، ولكنها حقيقية تلك المرة.

قلت بعناد:

-         وكيف ذلك يا (نبيه) العصر؟

-         هناك نقطة أساسية في هذا الاكتشاف، نقطة مذهلة، تجعل المستحيل سهلا بالنسبة له ...

-         وما هي؟

رفع رأسه لأعلى، سرح بخياله للحظات، وبدا كأنه يقرأ سطورا من كلمات مخفية، ومعلقة في جو الغرفة، قبل أن يتوجه لي وهو يقول:

-         لا شئ ... لا شئ في هذا الكون، زمانيا أو مكانيا يمنع الجسم الشبحي من العودة إلى أصله .... تلك الجسيمات مصيرها العودة والالتحام مهما أبعدتها أو حجزتها خلف ألف حاجز ... أتعلم؟

قلت بسرعة:

-         بالتأكيد لا ...

ابتسم وهو يقول:

لو أنك فصلت شيئا ما بتلك الطريقة، ووضعت نسخته الشبحية في آخر الكون على بعد مليارات السنوات الضوئية، بل وفي زمان آخر لو استطعت ذلك ... عندما يحين الوقت سيعود الجسم الشبحي إلى أصله متجاوزا الزمكان في لحظة واحدة ... هل تفهم، أنت تستطيع أن تجعل جسما ما يعبر الكون كله في ثانية واحدة ... هل تتصور ما يمكن فعله بذلك؟

-         بالتأكيد لا ...

ابتسم مجدد، وقال وهو يتأبط ذراعي مصطحبا إياي إلى الغرفة اليمنى مجددا:

-         لن أثقل عليك أكثر من ذلك ... هناك أشياء كثيرة يمكن فعلها بذلك، وهناك أشياء أخرى لا استطيع أخبارك بها الآن ... إنها معجزات بحق ..

كنا قد دخلنا الغرفة، أنا أمامه وهو خلفي ... استندت إلى الطاولة المصقولة، وسألته:

-         هل هناك تجربة أخرى ستقوم بها، لقد وعدتني بعشاء شهي، يمكننا تأجيل تلك التجربة لبعد العشاء.

أجابني بصوت يحمل رنة خبيثة:

-         نعم هناك تجربة أخيرة.

قالها، وسمعت باب الغرفة المعدني يغلق بعد أن غادر صديقي الغرفة تاركا إياي محبوسا داخلها، غارقا في ظلمتها ... صرخت باسمه في جذع وأنا أقول:

-         ماذا ستفعل بي أيها المأفون!!؟

ولكنني لم أتلق ردا فالغرفة كانت معزولة تماما ... لقد حبسني ذلك اللعين في الداخل ... والآن أعرف وأفهم ما ينتويه، أنه ينتوي أن يجعلني مادة لتجربته التالية ... لقد قرر أن يجعل مني فأرا لتجاربه ...

***

صوت مرعب يرعد في الغرفة التي أصبحت سجينا داخلها ... شرارات تندلع من السقف، فتضرب أرضية الغرفة وجدرانها وتحيل ظلمتها نهارا ... تنبعث مني صرخات طويلة ملهوفة، فزع، رعب، يتبعهما انهيار كامل ... أسقط على الأرض أبكي، أصرخ، ألطم خداي، وألعن صديقي بألف سبة ولعنة، ثم أتوسل إليه أن يفتح الباب وينهي هذا العذاب ... الشرارات تزداد حدة، وتقترب من جسدي الذي تكور في ركن الغرفة، تقترب كأنها تبحث عني عمدا، وهي تضرب وتأز في عنف وقسوة ... أنزلق من مكاني محاولا الابتعاد عن مسارها المتعرج، فتعير اتجاهها آنيا وتتوجه نحوي في عزم، من الواضح أن تلك الشرارات الشيطانية تمتلك إرادة حرة، إنها تبحث عني في شهوة، وتعتزم أن تمزقني إربا ... أزوغ منها مجددا وأحاول الابتعاد ولكنها تقترب أكثر وتحاصرني أكثر وأكثر ... الآن أعدو بهستيرية في الغرفة يطاردني شيطان الشرارات ويضيق علي الخناق في تصميم ... رغم قسوة الموقف والرعب الذي يعصف بكل ذرة من كياني، وهو موقف لا يحسد أحد عليه، إلا أن عقلي العابث يذكرني بسخرية عبثية لا أعلم من أين جاء بها إن موقفي هذا وهروبي اليائس أشبه بالفنان (علي الكسار) عندما وجد نفسه في فيلم (سلفني ثلاثة جنيه) محاصرا في حلبة الملاكمة مع ملاكم ضخم يزيد عليه في الحجم بضعفين أو ثلاثة، قبل أن يبدء الهرب في أرجاء الحلبة يطارده ذلك الملاكم الشرس، والغريب أن (علي الكسار) نجا من هذا الموقف وهو ما لن يحدث لي بحال ... كانت تلك هي الخاطرة الأخيرة قبل أن تدركني تلك الشرارات اللعينة، وتضرب جسدي بموجة كهربائية عنيفة، أصرخ معها صرخة متعذبة مع ذلك الألم الرهيب الذي اجتاح جسدي، ألم لم يشعر به إنسان من قبلي، وكأن تلك الشرارات تسلخ جلدي حيا، أو تمزقه وتنتزع لحمه قطعه قطعه، لا بل خلية خلية ... ما أمر به لا يمكن وصفه بكلمات، إنه الألم الكامل الألم اللانهائي، الألم الذي لا يمكن التعبير عنه بلغة بشرية، ... للحظات استمر هذا الشعور ثم غاب كل شئ وابتلعني الظلام الأبدي لفترة لا يعلمها إلا خالقي  ... ثم فتح باب الغرفة ببطء وتسلل الضوء إلى المكان مجددا فأزعج عيني الذين كنت أفتح أهدابها ببطء .... تم تسرب إلى أذني صوت صديقي مجسما كأنه قادم من أعماق بئر:

-         هل أنت بخير؟ هيا أنهض وتعال إلى الخارج لأري كيف حالك.

نهضت بعنف من على الأرض التي كنت مسجيا فوقها من لحظة، فشعرت بدوار وغثيان، وصداع يعتصر رأسي، فاستندت على الجدار وصرخت فيه:

-         سأقتلك يا إبن الساقطة ... عليك اللعنة، أعطيني رقبتك وسأنهشها بأسناني دون لحظة ندم واحدة.

الغريب أن صوتي خرج مجسما أيضا ... يذكرني ذلك بشيخ مسجدنا عندما يتحدث في خطبته وأنا في الصفوف الأولى، فيصلني صوته مباشرة، ثم يصل بعدها بثانية مكررا عبر مكبر الصوت ... سمعت ضحكته وهو يقهقه في جذل منتصر، قائلا:

-         لا تقلق سأعوضك بمبلغ مالي يجعلك من الأثرياء ويأمن حياتك البائسة ... هيا تعاليا إلى هنا حتى أفحصكما، فأمامنا دقائق قبل أن تعود كل الأمور إلى طبيعتها ...

أرتج علي من قوله، فحديث هذا اللعين عن المال الذي سيعطيني أياه جعلني أشعر ببعض المواساة، ولكن لماذا تحدث إلي بصيغة المثنى، إنه يزداد جنونا مع كل لحظة، سآخذ منه المال وأذهب ولن أرى هذا المأفون مجددا، المهم أن يكون المبلغ المالي كافيا، وإلا سأعتصر رقبته بأصابعي تلك، التي ترتعش الآن ...

تحركت تجاه باب الغرفة بأقدام مرتعدة، تتهاوى من تحتي، لماذا صار لهذه الغرفة بابين، أذكر أنهما كانتا غرفتين، لكل غرفة منهما بابا واحدا ... الغريب أن البابين يتراقصان، ويتداخلان، ويذوب كل منهما في الآخر، قبل أن ينفصلان مجددا، للحظة أشعر أنني أتوجه إلى الباب الأيمن، ثم أجد أنني متوجها إلى الباب الأيسر، ما هذا العبث! أي دوار هذا الذي يعبث بي وبكياني، الصور متداخلة ومتذبذبة، الأصوات مجسمة، مكررة، متداخلة، ما هذا أنني أعيد نفسي وأكرر كلمة متداخلة، في الواقع أنها الكلمة المناسبة لما أشعر به، حتى خطوات قدمي على الأرض أشعر أنها مختلفة، لا استطيع وصف الاختلاف بكلمات دقيقة، وكأن قدمي تلمس الأرض فبل أن تخطو الخطوة، أو العكس لا أعرف وصفا لما أشعر به، حتى عندما أتكلم أسمع صوتي مكررا وكأنني أردد الجملة مرتين ... هناك عبث مجنون يعتمل داخلي في تلك اللحظات ...

بإرادة حديدة لا أعرف من أين أتيت بها، توجهت إلى الضوء حتى صرت خارج الغرفة ... كان صديقي يقف أمامي متهللا، صورته تهتز وترقص وتغير مكانها لليمين مرة ثم لليسار مرة كأنها تعرض في تلفاز معطل من الخمسينات ... قلت بحروف مرتعشة:

-         ما هذا الذي أشعر به أيها الحقير!؟ ماذا فعلت بي؟

ابتسم في ظفر وهو يلوح بكلتا يديا مشيرا إلى مكانين متجاورين في الغرفة:

-         بل قل ماذا فعلت بكما.

توجهت بناظري إلى المكان الذي يشير إليه فوجدت نفسي تنظر لي في دهشة متوجسة، صرخت بفزع:

-         يا إلهي، ماهذا؟

فخرجت الكلمات مني ومن نسختي التي تقف أمامي وتنظر لي بنفس الفزع ... فقال لي صديق بصوت حاول أن يجعله مطمئنا، ومهونا مما يحدث:

-         هذا أنت وتلك هي نسختك الشبحية، لقد نجحت في فصلك إلى إثنين، تخيل للحظات سيكون هناك أثنين منك تحكمها إرادة واحدة! ... وما تشعر به الآن هو أن مخك يسيطر على كلا النسختين ، ويحاول أن يصدر أوامره إلى جوارحك، ويتلق الإشارات منها في كلتا النسختين، ومخك لا زال غير مدربا على التعامل مع هذا الوضع ...

أطلقت سبة، فضحك وهو يواصل كلامه:

-         لا تقلق، دقائق قليلة وستلتحم كلتا نسختيك وتعود شخصا واحد.

أطلقت سبة جديدة، وتوجهت إليه متوعدا، فتحرك كلانا أنا ونسختي الشبحية نحوه، فأشار بيده يدعوني للهدوء، أو يدعو كلينا للهدوء وهو يقول:

-         لا داعي للعصبيةـ أنا أعتذر للطريقة التي أجبرتك بها على هذه التجربة، لم يكن سهلا علي أن أجد مادة بشرية لتجاربي.

صرخت وأنا أبصق في وحهه:

-         بل تقصد فأر تجارب أيها المخبول.

قال بصوت حاول أن يحعله مغريا:

-         هذا الفأر سيحصل على عشرة ملايين من الدولارات بعد أن يساعدني في تجاربي، ما رأيك؟

صرخت بسرعة ودون تفكير:

-         هل تتصور أنني سأقبل أن أمر بتلك المشاعر مجددا، حتى لو كان الثمن عشرة ملايين من ال ... ال ...

أرتج علي مجددا، واختفت الحدة من صوتي وأنا أتمتم:

-         دولارات ... هل قلت دولارات!؟

ابتسم وهو يقول:

-         أجل، وشهرة عالمية عندما نعرض نتائج تجربتنا أنا وأنت أمام العالمممم ...

قالها عندما شعرت بتلك النبضة الكهربائية العنيفة تنفجر داخل عقلي، فسقطت على ركبتي وأنا أصرخ في دهشة أكثر منها ألما، أغمضت عيني لثوان، ثم فتحتهما محدقا فيما حولي، كانت نسختي الشبحية قد اختفت، واستعادت حواسي صفاءها الأصلي ... وأسمع الآن صوت صاحبي يقول فرحا:

-         ها قد عاد كل شئ إلى أصله، وعدت شخصا واحدا من جديد ... هل ترى لا شئ كارثي، إنها مجرد (شكة) دبوس! ... ماذا قلت الآن في عرضي!؟

***

يسألني البعض هل كان ذلك قرار صعبا، ما هذا السؤال الساذج!! ... إنه يخيرني ما بين آلام رهيبة، ورعب مجنون لا يمكن وصفهما بكلمات بسيطة بشرية، أضف إلى ذلك كل هذا العبث بالعقل والحواس الذي يصل بك إلى حافة الجنون، بل ويتخطاها بكثير ولا يعود من هناك أبدا، كل هذا في كفة ميزان، وفي الناحية الأخرى عشرة ملايين من الدولارات، ما هذا السؤال الساذج سأختار العشرة ملايين بالتأكيد! هذا هو القرار المنطقي بالطبع لشخص في ظروفي المادية والحياتية، أموال كثيرة لا يمكن عدها، لا أعرف كم يساوي الدولار بالعملة المحلية اليوم، بالتأكيد رقم كبير والمؤكد أنه سيكون أكثر غدا! وقد يتبع ذلك أيضا شهرة عالمية، ونجاح مضمون، ومعرفة، وتواجد في منتديات الصفوة وما سوف يصنعه كل ذلك بي وبحياتي الخاوية اليوم من أي دافع للاستمرار، ووحدتي الرهيبة، الخانقة التي تجثم على صدري كالجاثوم ... هذا بالتأكيد ليس قرار صعبا بأي حال! ... لم يضع صاحبي الفرصة عندما أخبرته بأنني موافق على عرضه السخي، وطلب مني مباشرة أن أعود للغرفة من أجل تجربة جديدة ... كم أكره هذا اللعين المتحمس ...

لا أعرف كم مضى علي من الوقت في تلك التجارب المجنونة، أيام، أسابيع، شهور، لا أدري فقد بدت لي كالدهر عندما أحاول تذكرها الآن ... أصبحت أقيم في قصر صديقي العالم المجنون إقامة كاملة، لم يبخل علي بأي شئ أطلبه، طعام، ثياب، غرفة نوم وثيرة بحمام منفصل وبثلاجة خاصة ممتلئة بالأطايب كما في الفنادق الفاخرة، وفي المقابل كان علي أن ألج تلك الغرفة اللعينة ثلاث مرات يوميا على الأقل، كان يسميها غرفة النسخ الشبحية، في كل مرة كان يجرب شيئا جديدا ... أما عن تقبل جسدي وعقلي لتلك التجارب، فالحق يقال أن الجسد البشري هو أعجوبة في حد ذاتها، والطريقة التي يستطيع بها أن يتكيف مع المتغيرات والتي تبدو في بعض الأحيان متغيرات خارقة ومستحيلة، هي طريقة مذهلة ... في البداية كانت الآلام لا تطاق وتلك الصاعقة التي تطاردني في الغرفة المغلقة كانت مفزعة بحق، ولكن في كل مرة كنت أخوض فيها تلك التجربة كانت الآلام تقل، والفزع يصبع اعتياد، حتى أنني أصبحت أقابل تلك الصاعقة بصدري صارخا في نشوة بدلا من أن أشرع في الفرار منها ... أشعر أحيانا أنني قد أصبحت مدمنا لتلك الآلام، بل أنني صرت أحث صديقي في بعض المرات عندما تتأخر التجربة لانشغالة ببعض البحوث والحسابات الرياضية المعقدة، فأطالبه بالإسراع في التجربة فكان يتمتم بابتسامة متهكمة:

-         حالا أيها المدمن ...

كانت التجارب في البداية تركز على قدرة عقلي في السيطرة على حواسي وجوارحي التي تضاعفت في جسدين، كان الموضوع صعبا للغاية كنت أرى بأربعة عيون وأسمع بأربعة آذان، وأتحسس الأشياء بعشرين أصبع، اللعنة هذا شئ مستحيل ... يقول صاحبي مواسيا:

-         لا تقلق ستعتاد الأمر ... أنت لا تعرف قدرة العقل على التغير واعتياد ومواكبة الأمور ...

يصمت للحظة ثم يقول مستدلا من عالم الحيوانات:

-         كيف يكون الفيل قادرا على التحكم في أطرافه الأربعة ببراعة تامة ومعهم طرفين إضافيين كالخرطوم، والذيل، ويستطيع التحكم فيهما بنفس البراعة، وكيف تظن أن الأخطبوط يتحكم في أرجله الثمان، وكيف ترى بعض الحشرات بألف عين ... كيف؟

أتمتم في عدم فهم:

-         فيل، أخطبوط ... ما علاقة ذلك بالعبث العقلي الذي يخالجني الآن والصور المتداخلة التي أراها، وتلك الضوضاء والأصوات الممتزجة التي تمزق طبلتا أذني، أنا لا أفهم ما ترمي إليه؟

-         أقول أن العقل البشري الذي يتفوق بالتأكيد على كل تلك الكائنات قادر على أن يتحكم في مائة عضو وجارحة ... هو فقط يحتاج إلى الوقت حتى يعتاد الأمر، ويغير من طبيعته لتتعامل مع المدخلات الجديدة ....

يقولها في ثقة ويشير إلى نسختي الشبحية:

-         هيا أرفع يدك اليمنى ...

فترفع نسختي الأصلية يدها اليمنى، وتحدق فيه كلتا النسختين ببلاهة وعجز، فيزفر في ضيق وهو يقول مواسيا نفسه (لا أنا):

-         لا تقلق، أيام وستعتاد الأمر كأنك قد ولدت به ...

في الحقيقة كان صاحبي اللعين محقا كالعادة، فمع استمرار التجارب، أصبحت استطيع أن أميز المدخلات البصرية، والسمعية، بل ويستطيع عقلي التحكم في كلا الجسدين، فيحرك يد النسخة الشبحية عندما يطلب منه ذلك، ويبتسم بفم النسخة الأصلية إذا طلب منه ذلك، والأغرب أنني أصبحت أتحكم فيهما في نفس الوقت وكأن كل تلك الجوارح من جسد واحد، بالظبط كالشخص الذي يعبث بأصابع يده اليمنى في هاتفه، ويهرش أذنه بيده اليسرى، وهو يسير بكلتا قدميه، الفرق الوحيد أن كل شئ مضاعف الآن...

الموضوع لم يكن سهلا، وتطور تلك القدرات كان بطيئا وتدريجيا، ومجهدا، فبعد كل تجربة وعودة إلى وضع الجسد الواحد، كنت أشعر بصداع رهيب يمزق خلايا عقلي التي لا تفهم ما يفعل بها ولكنها تحاول أن تتوافق معه ...

المرحلة الثانية من التجارب كانت عن قدرة كلا النسختين على العمل معا بأمرة عقل واحد، كأن يحملان شيئا معا، أو ينقلان قطعة من الأثاث الثقيل، أو حتى يطاردان دجاجة في مكان ضيق محاولان أن يمسكا بها بروح الفريق الواحد، لقد كان صديقي غريب الأطوار يمتلك روح الدعابة في النهاية، ويبدوا أنه يشاهد التلفاز وأفلام (روكي) مثل باقي البشر ...

أنتهت المرحلة الثانية بنجاح، لا أعرف كيف وصلت إلى تلك المرحلة وتلك القدرات الهائلة، أستطيع أن أقولها الآن أنا بطل خارق بعقل مطور، يتحكم في جسدين ببراعة هائلة كأنهما جسدا واحدا، أقول ذلك لصديقي فيخبرني:

-         بالفعل أصبح عقلك متطورا، ولكنك مازلت غبيا جاهلا كما عهدتك دائما.

أطلق في وجهه سبة منتقاة، ثم نعود لنواصل التجارب التي لا تنتهي ... يجرح بسكين حاد إبهام الجسد الشبحي، فأصرخ في ألم يخرج من فم كلا النسختين، ثم يغير قطعا من ثيابه، أو يجعله يمسك شيئا ما في يده أو يضعه في جيبه، وينتظر لحظة الالتحام، ثم يرى الجرح والثياب والشئ الذي كنت ممسكا به قد انتقل إلى الجسد الأصلي بدوره ... فيقول في رضا:

-         المحصلة بعد الالتحام هي مجموع كلتا خبرات ومتغيرات كل نسخة على حدى ... هذا الشئ ممكن أن يخرج منه الكثير بالفعل ...

المرحلة الثالثة من التجارب، كانت بتغيير مدخلات التجربة في محاولة لإطالة فترة الانفصال، في الواقع لم ينجح صديقي في زيادة المدة عن خمس دقائق فقط، وفي كل مرة كان الجسدين الشبحي والأصلي يعودان للالتحام مجددا، وكما قال صديقي لا شئ في هذا الكون يستطيع أن يمنع ذلك ... حاول صديقي إبعاد الجسدين مئات الأمتار، أو حبس أحدها في حجرة مدعمة بقفل فولاذي، أو في غرفة تحت الأرض، وغيرها من المحاولات التي كانت تنتهي بعودة النسخة الشبحية للالتحام بالنسخة الأصلية عندما يحين الموعد لذلك، يقول صديقي، وعيناه تلتمعان كأي عالم مجنون يحترم نفسه:

-         عندما أمتلك الطاقة الكافية، والآلات الضرورية ساستطيع أن أطيل ذلك الانفصال لأعوام، عندها يمكنني أن أصنع المعجزات ...

تجارب، بعدها تجارب، وتجارب أخرى، ولكن الحق يقال أن ما يصنعه صديقي اللعين هو شئ خارق بالفعل، والأمور تتطور للأحسن يوما بعد يوم، هذا ما كنت أحسبه حتى جاء ذلك اليوم الذي تغير فيه كل شئ ... في تلك الفترة كان صديقي يجرب شيئا جديدا، كان يطيل فترة الانفصال لأقصى قدر متاح، ثم يمسك بيد نسختي الشبحية وينطلقا معا في سرعة حتى سيارته الرابضة خارج القصر، فأركبها معه، فينطلق بها مبتعدا لأقصى قدر تسمح بها سرعة سيارته القوية، وبعد دقائق خمسه يكون قد ابتعد عدة كيلومترات، فتختفي نسختي الشبحية، وتعود إلى أصلها الذي يجلس منتظرا في القبو في ملل ... الغريب أن عقلي كان يسيطر على كلتا النسختين، نسخة متحمسة تعدو وتركب سيارة وتنطلق في قوة، ونسخة متململة تجلس دون فعل أي شئ في القبو، مشاعر متناقضة ولكني أصبحت معتادا عليها الآن ... ماذا حدث بعد ذلك! .. ومن أين جائت تلك الشاحنة المسرعة التي اعترضت طريق سيارة صاحبي فأصطدم بها وجها في وجه بسرعة تجاوزت المائة كيلومتر في كلتا السيارتين، سرعة جعلت الشاحنة تعتلي السيارة الأخرى وتسحقها براكبيها المسكينين، صديقي ونسختي الشبحية، فينتهي أمر كليهما في لحظات ...

لو كنت تسمعني الآن كنت سأقص عليك واصفا ما شعرت به في تلك اللحظات الرهيبة، ولكن هذا لن يحدث أبدا، وأنت تعرف السبب؟ أو ستعرفه بعد لحظات، ولكني سأقصه عليك على كل حال ... مع اللحظة الأولى شعرت برعب هائل يجتاح كياني، يصلني عبر نسختي الشبحية، وعندما سحقت السيارة تحت الشاحنة شعرت بآلام رهيبة، آلام مجنونة تتخلل كل ذرة من جسدي، شعرت بكل عظمة تتحطم، وبكل نسيج عضلي يتمزق، آلام فاقت تلك التي مررت بها  في لحظاتي الأولى في غرفة النسخ الشبحية، وكأنه أصبح مقدرا لي أنه كلما وصلت إلى غاية الألم والعذاب ونهايته، أن يحل علي ألم وعذاب يزيد عن سابقه ويتفوق عليه بألف مرة ... كان طبيعيا مع ذلك الألم أن أفقد وعي أو حياتي، ولكن هذا لم يحدث أبدا، فقد واصلت تلك المشاعر الرهيبة التدفق من نسختي الشبحية، ألم، رعب، عجز، يأس، الحواس تتلاشى وأسعر بضيق في كل شئ، أرى صورة ضبابية عبر عيني نسختي الشبحية الغارقة في الدماء، بعض الناس يهرعون من كل صوب، ويخرجون جسد نسختي الشبحية، وجسد صديقي المهترئين من السيارة ... الصورة تزداد ضبابية، والأصوات تتلاشى ... ولكني أتلقى كلمات أخيرة عبر ما تبقى من أذني نسختي الشبحية:

-         هل هناك أحياء !؟

صوت مبحوح، مذعور  يجيبه:

-         بتلك الحالة!! لقد تمزقا تماما، كلاهما مات بالطبع.

تختفي الرؤية وتغيب الأصوات، ويتلاشى الدفق الحسي القادم عبر نسختي الشبحية، ويتبقى فقط الألم، والعجز، واليأس، والاختناق ... أنظر عبر عيني نسختي الأصلية إلى الجدار، فأرى الساعة التي تعرض العد التنازلي ... بعد 10 ثوان من الآن ستعود نسختي الشبحية لتلتحم بجسدي، بالتأكيد سيكون ذلك كارثيا، بالتأكيد ما أشعر به الآن سيكون نذرا هينا مما هو قادم ... خمس ثوان ... أربع ... سيكون ذلك قاتلا ... أين صاحبي المجنون ليخبرني بما سيحدث، هو أيضا قد مات ... ثانيتين، ثانية واحدة ... اللعنة .... أه ه ه ه ه ه ه.

***

انتهى المشيعون من مواراة جسد صديقي إلى مسواه الأخير، أسمعهم يتحدثون عن عمره الذي أفناه في العلم، والثروة الهائلة التي خلفها دون وريث من الدرجة الأولى، وأبحاثه التي تركها في أوراق مشفره في قبو قصره، لم يفهم أحد منها شئ ... أسمعهم أيضا يتكلمون عن الحادثة المروعة التي راح ضحيتها، ويتهامسون عن الشخص الآخر الذي تمزق معه في الحادثة، ويقسم بعض المخابيل الذين كانوا هناك أن ذلك الشخص قد اختفى فجأة، وتلاشى من بين أيديهم كأن لم يكن هناك قط! بالتأكيد هذا يحدث، فالصدمة كانت مروعة بحق، فجعلتهم يتوهمون أشياء غير حقيقية ... أراهم وأسمعهم يتحدثون في رضا عن أنفسهم لأنهم بخير الآن وهذا المسكين راقد تحت التراب بعد أن فقد كل شئ أضاع عليه حياته ... أصرخ فيهم، وألعنهم، وأضربهم بكلتا يداي وأركلهم بقدمي، فلا يسمعني أحدهم، ولا تصل إليهم ضرباتي أبدا، ولا ينتبه أيهم إلى أني هنا بينهم، أسمعهم، وأراهم، وأرى حمقهم وغرورهم بحياتهم الطبيعية التي يحيونها ... الحقيقة أن هذا الواقع المروع كان نتيجة التجربة الأخيرة والمعلومة التي كشفت عنها والتي كانت ستبهر صديقي المسكين إذا عرفها ... بالتأكيد لم يكن ليتوقع أبدا تلك النتيجة ... فبعدما عادت نسختي الشبحية لتلتحم بجسدي الأصلي، عادت بعدما تعرضت لتجربة قاسية أذهبت عنها الحياة، ودمرت جسدها تماما، عادت لتلتحم بنسختها الأصلية، وتجلب معها كل تلك الآلالم، وذلك العذاب، بل اصاحبه معها الموت نفسه ... حقا كان الألم رهيبا، وهذه جملة تحولت إلى (كلاشيه) أصبحت أكرره كثيرا في الشهور الأخير، ولكن هذه المرة فاق الألم كل ما سبق، بل أظن أنه فاق الكون نفسه، طوله، وعرضه، وأبدية تمدده، فاق قوة الانفجار الأعظم، وقوة السحق في قلب الثقوب السوداء، فاق كل ذلك وأكثر ... لكنه كأي ألم آخر كان رهيبا ثم زال وحل محله الظلام، الظلام الذي أحسبه دام دهورا ... الآن أرى الضوء مجددا، أنا أقف في قبو القصر في نفس المكان بالضبط، ولكن أرى أمامي جسدي ملقى على الأرض، ملقى وهو محطم تماما، تبرز العظام، والضلوع إلى خارجه، ممزقة جلده، ومحوله المكان إلى بركة من الدماء ... أعرف إن ذلك هو جسدي، ذلك الرأس المحطم وتلك الجمجمة التي شقها جرح كبير غائر فبرز منه مادة المخ كل هذا لي، حتى ذلك الوجه الشائب، البائس هو وجهي الميت بالتأكيد ...

ألقيت بنفسي بسرعة على الجسد المسجي محاولا أن أنهضه، ولكن مرت يدي عبره كأنه صورة هولجرامية، حاولت مجددا فكانت نفس النتيجة ... أتوقف للحظة، وأفكر فيما يحدث، هل هذه نسخة شبحية أخرى ... لا أعلم يقينا أن الالتحام قد حدث وهذا الجسد هو جسدي، إذا لماذا أنا هنا أقف بعيدا عنه ... توجهت إلى مرآة كان صاحبي قد وضعها في ركن من المكان ... اللعنة، ما هذا!؟ هل هذه المرأة معطلة، أنا لا أرى نفسي فيها، أمس سطحها بأصابعي فتعبر يدي خلالها كما حدث مع جسدي منذ لحظات ... أسحب يدي في فزع، وأتوجه إلى كل الأشياء والأجهزة المتناثرة في المعمل، أحاول أن أمسك بإي منها فلا استطيع، ما هذا الهراء!؟ ماذا يحدث لي!؟... لم تطل حيرتي كثيرا، فبعد قليل فتح باب القبو، ودخل بعض الناس يتفحصون المكان في ذهول، بعضهم يرتدي ملابس شرطية ... حسنا يمكن لهؤلاء أن يساعدوني على أن أفهم ما حدث لي، توجهت إلى أكبرهم رتبة، عرفت ذلك من النجوم الثلاثة على كتفه، وقفت أمامه وقلت له:

-         سيدي أنا لا أعرف ... ما ..

توقفت عن الكلام، عندما سار ببساطة عبر جسدي كأنني هواء أو ظل أو ... أو شبح، إنه لا يراني، بل كلهم لا يروني، ... أندفعت بينهم، أكلمهم، وأصرخ فيهم، وأحاول أن أجذبهم أو أدفعهم، لكن دون جدوى، إنهم لا ينتبهون لوجودي، لو أمكن اعتبار ماصرت عليه الآن هو وجود من الأساس ... كانوا الآن يقفون حول جثتي، يتبادلون النظرات، والكلمات الحائرة ... أقترب منهم، وأقف بينهم، وأتمتم وأنا أعرف أنهم لا يسمعون ما أقول:

-         لقد نجح صديقي المجنون أخيرا ... نجح في أن يصنع مني شبحا في النهاية ...

مضى وقت طويل منذ ذلك اليوم، وأنا مازلت أسير الأرض كشبح بين الناس دون أن يدركوا وجودي ... أتساءل الآن هل كل الأشباح في الكون صنعت بنفس الطريقة أو لنفس الأسباب ... لن استطيع أبدا أن أجيب عن هذا السؤال، فأنا لم أرى شبحا غيري، ولن أرى واحدا منها أبدا حتى نهاية تلك التجربة اللعينة، والتي يبدو أنها ستمتد إلى الأبد ....

 

تمت ... بقلم هيثم فاروق