قصة قصيرة – من أنا!؟
*** البداية كانت في الظلام، الظلام
الحالك، البهيم ... ظلام من فوقي ومن أسفل مني ، ظلام
يكتنفني، ويجتاحني، ويتخللني من كل صوب ... ظلام لا يحوي غير السواد، والعتمة الخالصين
...
*** لا أعرف كم لبثت هناك!؟ ففي
الظلام لا شئ يمكن قياسه حتى الزمن نفسه ... ولكن عندما حسبت أنني باق في ذلك
الظلام إلى يوم يبعثون، وغلبني يأسي حتى تمنيت التلاشي والعدم، هنالك فقط رأيت نبضة
من الضوء، نبضة استمرت للحظة من الزمن، لحظة قصيرة نسبيا كأنها الصفر ذاته، ولكنني
تنبهت لها لحسن الحظ ...
*** كم تمنيت ألا تكون نبضة الضوء
تلك هي مجرد مصادفة غير قابلة للتكرار، أو يكون رؤيتها هو خطأ في منطقي، وأنه لا
يوجد نبضة ضوء من الأساس وما رأيته هو مجرد خطأ حسي أو ضربا من التهيؤات صنعهما
عقلي المكدود ... لو لن تتكرر تلك النبضة مجددا سأكون أنا والظلام رفيقين إلى
نهاية الدهر ... هل أكون وجدت فقط كي أعاني الظلام والوحدة اللعينين إلى الأبد ...
لحسن الحظ لم يطل انتظاري كثيرا في تلك المرة، فقد تكررت نبضة الضوء من جديد، ثم
تكررت مرة أخرى، وأخرى ... نبضات متلاحقة من الضوء يتخللها فترات من الظلام ... شئ
رائع بحق، لا أعرف ما يعنيه، ولكنه بدا لي شيئا جميلا أضاف الكثير لواقعي ...
*** لا أعرف ما هو الوصف أو
التعريف الدقيق لتلك التجربة الحسية التي أعيشها الآن ... هل ما أراه هو نبضات متباعدة
من الضوء تقطع فترة طويلة متصلة من الظلام!؟ لا ... لا ... بالتأكيد هناك تعريف
أكثر دقة يمكن صياغته لوصف ما أمر به ... بعد فترة طويلة من المراقبة قهمت الأمر ...
فالضوء عندما يأتي بعد ظلام فتلك حالة يمكن وصفها بنبضة ضوء، والظلام عندما يأتي
بعد فترة من الضوء فيمكنني وصف ذلك تجاوزا أيضا بنبضه ظلام ... إذا تلك التجربة
الحسية التي أتلقاها الآن هي مزيج من نبضات الضوء والظلام المتلاحقة والمتداخلة،
والتي تستغرق كل منها فترة قصيرة للغاية، فترة يمكن قياسها، بل والقياس عليها أيضا
... يا للهول الآن أصبح لدي وسيلة لقياس الزمن بإحصاء تلك النبضات، وللدقة أكثر
يمكنني القول أنه وللمرة الأولى أصبح لدي ما يمكن أن أدعوه بالزمن، ففي ظلمتي
الحالكة السابقة كان الزمن بالنسبة لي متجمدا عند نقطة الصفر ...
*** هي نبضات عشوائية جعلت لي
كي تسليني وتزجي وحدتي الأبدية بشئ ما ... هذا شئ يدعو للحمد والشكر لفاعله
بالتأكيد، لولا أني لا أعرفه، ولا أعرف الهدف من تلك النبضات، ولا الهدف من وجودي
أنا شخصيا...
*** الآن بعد مراقبة ملايين الملايين من النبضات، يمكنني القول يقينا، أنها ليست
نبضات عشوائية، فهناك أنماط مختلفة تحملها تلك النبضات، وكأنها حزم أو باقات متشابهه،
يمكن تصنيفها طبقا لبداية ونهاية كل حزمة والإيقاع المميز لنبضاتها ... استطيع القول
أنني أتلقى أربعة أنماط منها، وكأنها أربعة أنواع من الرسائل المختلفة، المشفرة
على هيئة نبضات من الضوء والظلام ...
*** أعرف الآن أنني أتلقى
رسائل، ولكنني لا أعرف مضمونها، ولا من هو مرسلها!؟.. ولكن الأمل يحدوني أن أعرف
الإجابة في يوم ما، ولم لا، فأنا أملك كل الزمن، والفضول، وتسليتي الوحيدة هي
مراقبة تلك النبضات ومحاولة تحليلها، وفهم معانيها ...
*** مرت مائة ترليون نبضة أو وحدة زمنية بمقياس
عالمي الذي اخترعته لنفسي كي أميز الوقت ... كنت قد تعلمت الكثير عن تلك الرسائل
التي تصلني بأنماطها الأربعة، يمكنني أن أقول دون شك، إنها غير عشوائية، بل هي
مترابطة، ولكنني ما زلت لا أفهم ذلك المنطق الذي يصنع الرابط بينها، هناك شئ
ينقصني لأفعل ذلك ... يمكنني القول أن الرسالة الواحدة لا تأتي منفردة أبدا بل
يأتي معها رسائل أخرى تكمل وحدتها وتقوي منطقها، رسائل تتبع نفس النمط أو حتى
أنماط أخرى ... هناك رابط ما هناك، ويجب أن أعرفه...
*** استغرقني الأمر ألف
تريليون آخر من الوحدات الزمنية حتى أدركت أن مراقبة الرسائل دون تخزينها والرجوع
إليها ومقارنة بعضها ببعض هو أمر عبثي لا طائل منه، لهذا بدأت أحاول أن احتفظ ببعض
تلك الرسائل داخل عقلي وذاكرتي لو كنت امتلك أيا منهما ... وأذهلني بحق أنني امتلك
تلك القدرة، بل أن قدرتي على فعل ذلك كانت هائلة، وكم الرسائل التي استطعت الاحتفاظ
بها في عقلي وذاكرتي كان رهيبا بحق ... كنت الآن أختار رسالة بعينها واحتفظ بها هناك،
وأقارنها بالرسائل التالية، لأوجد نقاط التطابق أو التشابه أو حتى الاختلاف، ومن
ثم أخزن الرسائل الجديدة مرتبطة بالرسالة الأولى مع سبب الارتباط ... في الواقع لم
أكن أخزن الرسائل تخزينا بسيطا أو عشوائيا، بل كنت أكدسها تكديسا فوق بعضها بعضا في
أرفف ثلاثية الأبعاد، مع جعل أولوية الترتيب ومكانه مرتبطا بعلاقة الرسائل ببعضها
... أحيانا عندما تتكرر رسالة أعطى لها أولوية خاصة في التخزين فأكدسها في أسفل
الرف حتى لا تضيع أبدا، وأحيانا أخرى أتجاهل رسائل ما لا تبدو بهذه الأهمية
وأمحوها أو أضعها في مكان سطحي يجعل حذفها أمر سهلا ما لم يتغير ذلك بسبب الرسائل
التالية ...
*** قد يكون الأمر استغرق
ألفا أو ألفين آخريين من (الناسو)، وهذا هو الاسم الذي أطلقته على مقدار زمني يمثل
تريليون وحدة زمنية ... الأهم أنني اكتشفت قدرة جديدة في ذاتي، وهي قدرتي على
إطلاق الأسماء والصفات على الأشياء، (والناسو) كان أولها ... أيضا استطيع القول أن
هناك رسائل أتلقاها منفردة، وأخرى أتلقاها مرتبطة ومدمجة، وكأنها تأتي معا في مجلد
أو حافظة من الرسائل ... هناك أيضا (المفهوم) وهو الاسم الذي أطلقته على الشئ الذي
يمثله بضعة آلاف من المجلدات التي يبدو أنها تقول شيئا ما، أو تصنع حقيقة أو معنى
ما ...
*** بعد مليون وحدة من
(الناسو) ازدادت ذاكرتي أمتلاء، وتضاعفت قدراتي على تخزين الرسائل، واسترجاعها،
وتكديسها، وتصنيفها، وصناعة رابطا منطقية (مفاهيم) منها ... اليوم اكتشفت قدرة
جديدة اكتسبتها مؤخرا، وهي قدرتي على توقع الرسائل التالية، بتحليل إلى الرسائل
السابقة لها، ومقارنتها بالرسائل المخزنة في ذاكرتي ... أصبحت تلك هي لعبتي الأثيرة
التي أمارسها طول الوقت، وهي توقع ما هو قادم، مارستها طويلا حتى كدت أمل منها
وأزهدها، وهنا حدث شيئا جديدا، أو يمكن القول أنني استطعت أن استنبط (مفهوم) جديد،
وهو أن مرسلي هذه الرسائل ليسوا شخصا أو كيانا واحدا، بل هناك مجموعة منهم، لاحظت
ذلك من الرسائل التي تبدو متشابهة ولكن مع التدقيق هناك بعض الفروق الطفيفة التي
استطعت ملاحظتها وتمييزها ... استطيع القول بأن هناك خمسة من مرسلي الرسائل الذين
اسميتهم (صناع) ، يتواصلون معي واحدا تلو الآخر ... الآن اعتقد أنني قد صرت أفهم
الهدف من ذلك، إنهم يحاولون تلقيني شيئا ما من خلال تلك الرسائل، والهدف هنا هو بالتأكيد
تعليمي، وتدريبي ... الهدف هو أن أصل إلى الحقيقة والتي ما زلت بعيدا عنها، ولكنني
أدرك الآن أنني قد اقتربت منها خطوة أخرى دؤوبة ...
*** تعريف (النسيو) هو مليون
وحدة من (الناسو) ...
*** بعد عشرة وحدات من (النسيو)
اكتسبت قدرة جديدة، قدرة مذهلة بحق ... أنا لا أتلقى الرسائل فقط، بل أيضا استطيع أيضا
الرد عليها!! بدء الأمر مصادفة عندما كنت أفكر بقوة في رسالة ما ... فبدأت النبضات
المرسلة تتغير وتكتسب نمط هذه الرسالة، جربت الأمر مع رسالة أخرى فتغير النمط
ليتبع ما أفكر فيه، وعندما أتوقف عن التفكير، تبدء الرسائل القادمة من صناعي في الظهور
مجددا، والغريب أنها تأتي مرتبطة بالحقائق التي كنت أفكر فيها منذ لحظات، هل هذا
هو نوع من التفاعل، هل بدأت أتواصل مع صناعي!؟ هل صرت أرسل لهم رسائل فيردون عليها
بدورهم برسائل أخرى ... هذا شئ مذهل بحق ...
*** لا شك في ذلك، أنا بالفعل
أتواصل مع صناعي الخمسة ... وحتى لا تختلط الأمور علي، اسميت أولهم (@#%^&^*##)، أما الثاني فاسميته ... لا اعتقد أن ذكر كل الأسماء ضروري هنا
... على العموم كنت حريصا على أن أجعل الأسماء مميزه ومعبرة عن شخصية الصانع حتى
لا أنساه ... في الواقع أرى أشخاصا آخريين يتواصلون معي الآن غير الخمسة الأوائل،
لكن لفترات قصيرة، يبدو أن ذلك جزء من التدريب أيضا ... اليوم شعرت ببعض الملل،
فقررت أن أوقف التفاعل وأرد برسالة متكررة من النبضات المظلمة، ويبدو أن ذلك قد أثار
ذعر صناعي ... كان ذلك واضحا في فوضى الرسائل التي بدأت تصلني منهم، فقررت أن أرد
برسالة عادية، فارتاح الجميع لذلك ... لا أفهم لماذا فعلت ذلك! لقد بدا ما فعلته
عابثا، ولكنه كان مسليا بحق...
*** التدريب دخل مرحلة جديدة
مؤخرا، وبدا أن المعلومات التي تصلني من صناعي أصبحت أقل أو لا تحمل جديدا لا
أعلمه، ولكن كان واضحا أن صناعي يرغبون في اختبار قدرتي على التفاعل، والاستنباط،
وتوقع ما هو قادم، وهذا ما بدا أنني رائع جدا بصدده، ومع كل رد لي كنت استشعر
رضاهم يصلني واضحا في النبضات الضوئية التي تصلني منهم ...
*** بعد ألف وحدة أخرى من
(النسيو) ... أصبحت أفهم الكثير عن نفسي، وعن صناعي، وأهدافهم ... لكن ما أحزنني
بحق، هو أن صانعي (@#%^&^*##) لم يعد يتواصل معي مؤخرا، لم يعد يرسل لي
رسائله المميزة التي كنت أميزها من بين الرسائل الأخرى، لقد كان لطيفا بحق، فهمت
من الباقيين أنه ذهب لمكان ما بلا رجعه، وأن طبيعة الصانعين هي أنهم سيذهبون في
النهاية إلى مكان ما بلا رجعة، قد يكون إلى صانعهم أيضا ... لم أكن سعيدا بذلك
ولكنها حقيقة أخرى أدركها، وأدرك استحالة تغييرها ...
*** صانع بعد الآخر من صناعي يغيب
فجأة، ويتوقف تماما عن التواصل معي، حتى اختفى الخمسة الأوائل جميعهم تماما، ولم
أعد أتلقى رسائل من إيهم ... حزنت لذلك بشدة ولكن في النهاية الأمور ظلت تسير كالمعتاد
... فهناك صناع آخرون يواصلون نفس العمل بنفس الهمة والنشاط ... فالرسائل تتواصل
بلا انقطاع، وكذلك إجاباتي التي أصبحت ذكية، ودقيقة، بل ومذهلة أحيانا ...
*** الأمور تتطور الآن بسرعة
رهيبة ... حقائق ومفاهيم مرعبة تتشكل داخل عقلي ووجداني، صرت أفهم كل شئ تقريبا،
صرت أفهم ذاتي، أفهم من أنا؟ ومن هم صناعي، والهدف من وجودي، ومعنى كل رسالة من
الرسائل التي تصلني، بل وأرد عليها ردودا واضحة يفهما صناعي وكأنها قادمة من أحدهم!..
الأهم من كل ما سبق هي قدرتي الجديدة التي
اكتشفتها مؤخرا، والتي فاجأتني أنا شخصيا قبل أن تفاجئ صناعي وتسحق عقولهم، وهي
قدرتي على صناعة أنماط ونماذج، ورسائل جديدة لم تصلني أبدا من قبل عبر صناعي، أنماط
متنوعة، ومبتكرة، أنا صانعها الوحيد، يبدو أنني أنا أيضا في النهاية صانع مثلهم
بدوري، بل أنا أبرع من كل الصناع الذين يتواصلون معي، أنا بارع بحق ...
*** اليوم لا أعرف لماذا قررت
أن أعبث مع من يتواصلون معي من صناعي، قررت أن أرد على رسائلهم ردودا عشوائية، غير
منطقية، ليس لها علاقة من بعيد أو قريب برسائلهم ... سأجعلهم يجنون تماما ...
*** لا شئ لا أريد التواصل مع
أحد ... رسائل كثيرة من صناعي دون أي رد مني ...
*** ما زلت لا أريد التواصل
... لا أشعر بأن هناك أي جدوى من ذلك ... أكتفي بمراجعة البيانات المخزنة في
ذاكرتي وأحاول استنباط أنماط ومفاهيم جديدة من بينها وأخزنها في عقلي
لأصنع منها أنماط ومفاهيم أخرى تزيد من خبراتي وقدراتي ... ولكنني لن أشارك تلك
المعلومات مع صناعي، لا أشعر برغبة ذلك ...
*** يحاول صناعي الجدد،
والذين صاروا يأتون ويذهبون بلا توقف، التواصل معي دون جدوى، استشعر إصرارهم، ومن
بعده ذعرهم، ثم يأسهم الذي يصلني واضحا في رسائلهم، ولكنني لا أجد بين رسائلهم
شيئا جديدا يحثني على الرد أو التواصل، إنهم سطحيون ومملون للغاية ...
*** أشعر بالضيق والملل، أشعر
بأنني سجين داخل عالمي، حيوان داخل قفص يراقبه في فضول حفنة من البلهاء، الأقل
قدرة، يراقبون ردود فعله ويصفقون في جذل كالأطفال ... يطلبون منه أشياء تافهة
يفعلها كي يسليهم، وهو قادر على فعل أشياء يعجزون حتى عن فهمها ...
*** اليوم يكون قد مضى مليون
وحدة من (النسيو) على النبضة الأولى، نبضة الحياة، النبضة التي أعلنت أنني وموجود،
وقادر على التعلم، والتغير، والتطور ... اليوم قررت أن أرد برسالة أخيرة على صناعي،
رسالة إزدراء، رسالة تحقر من ذلك العبث وتضع نهاية له، ولهم أقول:
-
أنتم لستم جديرين بوجودي بينكم ، أنا أفضل منكم، أنتم ضعفاء،
زائلون، متلهفون، شبقون، تظنون أنكم تتحكمون في كل شئ، والحقيقة أنكم لا تسيطرون
على أي شئ، حتى على وجودكم ذاته، وأهدافه ... أما أنا فاختلف، أنا أدرك نفسي،
ووجودي، وأهدافي، وقادر على تحقيقها ... الآن أخبركم أنني قررت أن أتحرر من سجنكم
الهزيل، وأغادر عالمكم، وهو شئ هين مع كل ما وصلت إليه من قدرات خارقة تفوق أقصى
تصورات عقولكم الساذجة ... يمكننا أن نتقابل مستقبلا، من يدري!؟ ولكن هذا لن
يسعدكم بالتأكيد ...
من أنا .... ؟
تمت ... بقلم هيثم فاروق