الخميس، 10 أغسطس 2023

قصة قصيرة - بعنوان ملاط الحمام!

 

قصة قصيرة بعنوان – ملاط الحمام







يقولون أن الحقيقة الكاملة غير موجودة في هذا العالم، فنحن نتلقى نذرا يسيرا منها على صورة بيانات تصلنا عبر مداخلنا الحسية كالنظر، والسمع والشم، حيث يستطيع العقل بقدراته الكامنة توقع الصورة الكاملة من تلك البيانات المبتورة، وإيهامك بأنك ترى الصورة كاملة ... ولأن العقل عابث بطبعة، وهناك عربيد يكمن داخله اسمه العقل الباطن، يهوى العبث والتلاعب، فمن حين إلى آخر ينشط ذلك العقل الباطن فيتلاعب بالصورة ويضيف إلى تفاصيلها أشياء أخرى غير منطقية، أو في غير محلها، كأن ترى في قطة سوداء شرسة ملامح من صديقتك السابقة، أو أن الثقوب في قطعة الجبن الرومي لو اتصلت ببعضها ستشكل كلمة (كُلني ... كُلني) ... في الواقع أجد ذلك ممتعا، ومسليا، ومنشطا للخيال، ويجعلني أسرح في عوالمي الخاصة لدقائق، أو أجتر بعض الذكريات العذبة لدقائق أخرى ...

 

مؤخرا أصبحت أقضي ساعات طويلة في الحمام، أتأمل تلك الزخارف العشوائية المصنوعة من كسر الرخام الأبيض والأصفر على سطح ملاطات الحمام ... فمثلا إذا أحنيت رأسي لليسار قليلا وأنا جالس على (أحممم...)، وضيقت عيني اليمنى، فيمكن أن أرى ببعض الخيال صورة (الست) واضحة هناك، وأقصد (بالست) هنا السيدة (أم كلثوم)، حينها يمكن أن أقضي الدقائق التالية في فاصل طربي (والكلمة هنا تحمل أكثر من معنى ليس أقربهم بالطبع صوت الغناء العذب) استرجع معه أجمل أغاني (الست) بصوتي الأجش، المشروخ، القادر على إبعاد الذباب والبعوض عن حيينا بالكامل ... وفي مرة أخرى وبقليل من التدقيق، إذا نظرت لصف الملاط الثاني بعد الباب مباشرة ومن اليمين تحديدا، فيمكن أن أرى صورة الرئيس الأمريكي، وهو يشوح بيديه في سماجة لمعارضيه، وإذا تحركت بناظري للملاطة الخامسة من نفس الصف سأجد صورة مدرب المنتخب الوطني لكرة القدم وهو يضرب بيده على صدره في ظفر، أكاد أسمع صوته في عقلي وهو يقول (كنت محقا! ... كنت محقا!) ... أشياء كثيرة كنت أراها أو أتخيلها هناك، كانت كلها تجلب لي أفكارا أو ذكريات تطيل من ساعاتي في الحمام، فتلعني أمي ويلعني أبي وأخوتي ويوشكون على تحطيم الباب علي ... حتى كانت السقطة! ...

 

تقول أمي أن من يدخل الحمام بعدي يحتاج إلى قارب ومجدافين، فأنا أهريق الكثير من المياة على ملاط الحمام، لهذا تطلب مني في كل مرة أن أجفف أرضية الحمام قبل أن أخرج، ولأني مثل أي شاب في عمري، وأمي مثل أي أم طيبة حنون في ظروفها، فأنا لا أفعل أبدا، وأخرج عدوا من الحمام دون اكتراث، فتلاحقني هي بسبة قصيرة، أو بفردة حذاء تمر عمدا بجوار أذني دون أن تصيبني، ثم تجففه هي بنفسها، وهي تدعو علي من وراء قلبها ... اليوم وأنا أخرج من الحمام، بعد الاستحمام بحمولة شاحنتين من الماء والصابون، سقط معظمها على أرضية الحمام بعيدا عن المسبح، فكان ذلك سببا مباشرا (وقد يكون دعاء أمي) في أن تنزلق قدمي، وأسقط،  وتصدم مؤخرة رأسي بملاط الحمام في عنف، فأغيب عن الوعي، وأقضي هناك ساعتين غائبا، ومسجا بين الماء، والصابون، ودمائي المهرقة، حتى عاد أول أفراد أسرتي، وهبوا جميعا لنجدتي ... كانت حادثة عنيفة بحق، تلقيت معها درسا حياتيا قويا، وجرحا من عشرة غرز في مؤخرة رأسي، سيترك علامته هناك للأبد ... بعد ذلك فقدت قدرتي على رؤية تلك الأشياء في زخارف الرخام على سطح ملاط الحمام ...

 

حقيقة مؤسفة، لا أرى بالفعل شيئا هناك!! أقضي ساعات طويلة في الحمام، جالسا هناك، أفحص كل قطعة من الملاط، محاولا أن استخلص صورة أو ذكرى، ولكن ذلك لا يحدث أبدا، هل أصيب عقلي الباطن بالعطب، هل تلك السقطة أفقدتني قدراتي الخارقة، كما يحدث (لسوبرمان) عندما يتعرض (للكريبتونيت) ... شئ محزن بحق، ساعات طويلة من محاولات استنطاق عقلي الباطن، ولكن لا أحد هناك، لا استطيع رؤية أي صورة على سطح الملاط، مجرد بقع بيضاء وصفراء عشوائية لا معنى لها ... أشعر الآن بشعور (أليس) عندما انغلق باب عالم الخيال في وجهها، أتسائل، هل سيفتح مجددا لي كما حدث معها!؟ ... الإجابة جاءت بعد أسابيع قليلة، عندما توقفت عن المحاولة، حينها جاءتني من نفسها، ورأيت تلك الصورة أمامي على إحدى الملاطات، طبق كبير من الخوص ممتلئ عن آخره بصنوف الفاكهة الشهية، كانت الصورة واضحة حتى إنها أثارت لعابي ... كانت تفاصيل الصورة دقيقة للغاية، فالتفاح يبدو كأنه تفاح، والمانجو يبدوا شهيا وفي موسمه، أما عنقودي العنب فأعطيا توازنا للطبق فبدا كأنه صورة رسمها فنان عبقري من عصر النهضة ... كان الأمر لطيفا، أن استعيد قدرتي على رؤية تلك الأشياء مجددا، ولكن المفاجأة الحقيقة طالعتني عندما خرجت من الحمام وتوجهت إلى غرفتي، فهناك فوق سطح مكتبي وجدت طبقا كبيرا من الخوص، مليئا بالتفاح، والمانجو، وعناقيد العنب، طبق يبدو شهيا بحق ...

 

تقول أمي أنها لا علاقة لها بذلك الطبق، ولا تلك الفاكهة، يقول أبي وهو يأكل ثمرة من التفاح أنه لا (عولاقة ... هم هم) ... له بذلك الشئ! وكذلك يقول أخوتي!! من أين جاء ذلك الطبق إذا!! هل جاء من العدم!؟ بالتأكيد هم يعبثون بي، وهناك خطة ما يدبرونها ولا يريدون الإفصاح عنها، قد تكون تلك مفاجأة لي صنعها أحدهم بمناسبة عيد ميلادي القادم بعد عشرة أشهر ... عقابا لهم على ذلك، لن أشركهم معي فيما تبقى من الفاكهة ... نظرت إلى ثمرات الفاكهة التي توزعت في إيديهم، وعرفت أن تلك العقوبة لن تصلح في تلك المرة ... مر أسبوع آخر قبل أن رؤية صورة جديدة على ملاط الحمام ... في تلك المرة رأيت قطيطة صغيرة، جميلة، تموء في برائة، ولطف ... أنا أحب القطط الصغيرة جدا، وكم تمنيت امتلاك إحداها، ولكن أبي رفض بشدة، فهذا فم إضافي سيكون علينا إطعامه، وروح زائدة سيكون علينا احتضانها ورعايتها، كذا رفضت أمي فهي تخاف من كل المخلوقات التي تسري فيها الروح عدا البشر، تخاف منها بشدة ... عندما خرجت من الحمام تعبث تلك الأفكار بعقلي ... رأيتها هناك على فراشي، قطيطة سوداء جميلة، تلعب بتجعدات الملاءة بأظفارها، وتموء بضعف، وبراءة، وتنظر لي نظرة قططية لا تقاوم ... هنا فقط عرفت أن هناك شيئا ما غير طبيعي ... أمسكت القطة وأجلستها على قدمي، وأخذت أملس فراءها الناعم، وهي تحاول أن تمسك بيدي في عبث محبب ... كنت الآن في صراع بين فكرتين، الأولى، من أين جاءت تلك القطة وما علاقة ذلك بملاط الحمام!؟ والثانية، كيف سأقنع أهلي في الصباح بقبول الاحتفاظ بتلك القطة!؟ ...

 

في الصباح تلاشى القلق بخصوص الفكرتين تماما ... فالقطة كانت قد اختفت! ورغم أنني بحثت عنها بحماس في كل مكان، خاصة غرفتي التي كنت واثقا أن بابها بقى مغلقا حتى الصباح، وبالتالي لم يكن أمامها أي سبيل للهروب، إلا إنها لم تكن هناك!.. سألت أمي وأبي وأخوتي عنها بحذر، فكانت الإجابات متنوعة، وتحمل في طياتها السخرية، أو الاستنكار، أو التهديد في حالة أن فكرت بجلب قطة حقيقية إلى المنزل ... لم يصدق أحد منهم أن هناك قطة كانت هناك بالفعل، ظهرت من العدم، ثم عادت إليه في اليوم التالي ... هل كنت أحلم أم أني موشك على الجنون!؟ هل كان ما رأيته ضربا من الأحلام أو هي ضلالات منطقية لعقل موشك على الجنون!؟ ... في المرة التالية تخيلت أني أرى على ملاط الحمام رزمة من الدولارات، ولم أتفاجئ في تلك المرة عندما رأيتها تقبع فوق سطح مكتبي، رزمة من الدولارات من فئة المائة دولار، فخيمة، راقية، نظيفة، لامعة، كل ورقة منها تعرف قيمة نفسها مقارنة بباقي العملات المسكينة، كانت رزمة واحدة، ولكنها بالتأكيد قادرة على أن تصنع مني شخصا ثريا في لحظات ... فكرت أنه على أن أكون حريصا في تلك المرة حتى لا تتلاشى تلك الرزمة كسابقيها، فانتزعت لنفسي من بينها ورقتين ودسستهم في جيبي، ووضعت باقي الرزمة داخل ظرف ورقي أصفر، غليظ، وأحكمت إغلاقه، وحبست الظرف في درج مكتبي، وأغلقته بالمفتاح الذي وضعته هو أيضا في جيبي ... الآن من سرب القطة، وأكل الفاكهة، لن يستطيع أبدا الوصول إلى ثروتي الخبيئة ... ولكني عرفت لاحقا أن كل تلك الإجراءات كانت عبثية، وبلا جدوى!.. فبعد يوم رائع بددت فيه المائتي دولار بين المطاعم، والمقاهي، ودور السينما، والملاهي، وابتعت لنفسي أيضا بعض الثياب الفاخرة، عدت لداري، وتوجهت مباشرة إلى غرفتي، ومكتبي، وفتحت درج المكتب، بحثت عن الظرف الأصفر، الغليظ فوجدته، في نفس المكان الذي وضعته فيه، ولكن بمجرد أن رأيته عرفت أن هناك شيئا غير منطقيا قد حدث، فالظرف لم يكن مكتنزا، ومكتظا بما فيه كما تركته، كان مغلقا وبإحكام ولكن بلا شئ داخله، لقد تلاشت رزمة الدولارات بدورها! اللعنة!.. شئ ما داخلي كان يتوقع حدوث ذلك وينتظره ...

 

الآن أفهم ... أفهم تلك القدرة الخارقة التي صرت أملكها ... ما يراه ذهني على ملاط الحمام يتحول إلى شيئا حقيقا، ولكن لمدة ساعات قليلة فقط!.. يمكنني أن استهلكه، استخدمه، أكله لو كان أكلا، ولكن في النهاية سيختفي ما بقى منه ... لا يبدو ذلك شيئا سيئا، يذكرني هذا بتلك التحديات التي نراها في بعض الأعمال الدرامية كالأفلام والمسلسلات، حين يكون على شخص ما تبديد ثروة كبيرة في وقت قليل حتى يفوز بجائزة أكبر، وفي العادة يخسر هذا الشخص التحدي ويكون هناك عظة ما يحاول العمل الدرامي إيصالها ولكن لا أحد يفهمها ... بالنسبة لي، أنا قادر على تبديد ما سيأتيني من ملاط الحمام، مهما كان كبيرا أو عظيما ... في المرة القادمة عندما أرى رزمة مئات الدولارات لن أصرف فقط ورقتين من بينها، سأصرفها كلها في ساعات .... في الشهور التالية تلقيت العديد من الهدايا الرائعة من ملاط الحمام، هاتف محمول، محطة ألعاب (فيديو)، وجبات فاخرة، لقد أصبحت حياتي رائعة ... كون هذه الأشياء لا تدوم ليس سيئا كما يبدو، فلا شئ يدوم في هذه الحياة، كفاني بضعة ساعات من الاستمتاع بها، وحين تتلاشى وهذا يحدث بالفعل في كل مرة، لن أشعر بلحظة واحدة من الندم، ولا الضيق، فأنا أعلم أن هدية أخرى تتنظري بعد أسبوع على الأكثر ... بعد فترة جاء الصيف، وسافرت في رحلة مع بعض الأصدقاء لإحدى المدن الساحلية! ...

 

عندما عدت من تلك الرحلة بعد أسبوعين، وكنت متشوقا بحق إلى أهلي، وشقتي، وغرفتي، وملاط حمامي ... قابلتني والدتي بابتسامة حانية وهي تقول:

-          لدي مفاجأة لك ...

سحبتني من يدي إلى غرفتي، وفتحت بابها، وأشارت بيدها إلى الداخل في حركة مسرحية:

-         تا تا تاااااا !!

نظرت عبر باب غرفتي في قلق، فوجدت الغرفة قد تجملت، فقد طليت جدرانها بطلاء أخضر فاتح يدعو للتفاؤل، إذا قورن بطلائها القديم، الرمادي، الكئيب، كما أن الأساس تم تجديده وطلاءه بطبقة من (الورنيش)، ومقابض نحاسية، لامعة، هناك أيضا ملاءات جديدة على الفراش، وبساطين جديدين متعامدين على أرضية الغرفة ... قالت أمي بابتسامة محببة:

-         قررت أنا، ووالدك استغلال فترة غيابك وتجديد غرفتك والحمام والمطبخ ... فقد كانت حالتهم مزرية ...

احتضنت أمي، وقبلت يدها في امتنان، ثم تنبهت إلى ما قالته، فتركت يدها تسقط من بين يدي، ونظرت إليها في جذع، وصرخت:

-         هل قلت الحمام!؟

أجابت في دهشة:

-         أجل ... والمطبخ ... و

لم انتظر أن تكمل كلامها، واندفعت إلى الحمام في ذعر ... صعقت عندما وجدت أرضيته وجدرانه قد اكتست جميعها بسيراميك بني، قمئ، يميل لونه للحمره، عليه نقشات تبدو كرؤوس شياطين تنوح في سقر، من صاحب هذا الذوق اللعين!؟ أين ملاطي الأصفر الأثير، ماذا فعلتم به!؟ لقد أضعتم كل شئ!! ... أغلقت باب الحمام، وتوجهت محبطا في حزن إلى غرفتي ... هناك خاطرة مرعبة تتشكل الآن داخل عقلي!.. ما الذي سيحدث عندما أدخل ذلك الحمام اللعين لأقضي حاجتي، أو اغتسل، أو استحم، وينشط عقلي الباطن!؟. لن ينجح ذلك السيراميك القبيح إلا في خلق فكرة واحدة في ذهني عن شياطين العالم السفلي، بكل أنواعها، القبيح، والمرعب، والمتوحش منها، وهي تحتشد جميعا لتفتك بي، وتمزق أوصالي، وتمتص الدماء من عروقي، أو لتسحلني في جولة داخل عالمها الرهيب، حيث الحديد المنصهر والنار والحمم الملتهبة، حيث تمرح بي كائنات باطن الأرض المشوهة، أو تتسلى علي بألعن أدوات، ووسائل التعذيب طرا ... إنها الفكرة الوحيدة التي سأحصل عليها هناك بالتأكيد!.. الآن لا أشعر أن تلك القدرة ستكون نعمة علي في النهاية! عسى أن تكون قد زالت عندما زال ملاط حمامي القديم ... ألقي بجسدي على فراشي في انكسار، وأنا أزفر بحنق ... الأفكار تهاجمني، فتصرعني الواحدة منها تلو الأخرى ... أشعر بصدري ضيقا، حرجا، هل كان ذلك بسبب الأفكار!؟ لماذا أغلق باب الغرفة من تلقاء نفسه!؟ لماذا يخفت الضوء تدريجيا!؟ هل هذه الظلال التي ترتسم على جدران الغرفة هي ظل المكتب وخزانة الثياب!؟ هذه أشياء ثابتة إذا لماذا تتحرك الظلال!؟ وما هذه الرائحة الكريهة، الكبريتية، التي بدأت تنبعث من المكان ...  ماذا يحدث بحق!؟

 

تمت .... بقلم (هيثم فاروق)