الجمعة، 19 مايو 2017

روزواية



قصة رعب بعنوان ... (روزواية – الجزء الأول)
رسالة عاجلة بالبريدالإلكتروني تدعو جميع مهندسي قطاع الصيانة والتركيبات للحضور إلى غرفة الاجتماعات الملحقة بمكتب رئيس القطاع ... أفهم الآن بعد تلك الفترة القصيرة التي قضيتها في هذا العمل أن تلك الاجتماعات تعني أمرا من ثلاث، مهام جديدة سنكلف بها، التقريع بسبب مهام قديمة لم تنجز أو تأخر إنجازها، كارثة أخرى لا يمكن توقعها ... لهذا كنت أول الواصلين إلى غرفة الاجتماعات، واتخذت لنفسي مجلسا قرب باب الغرفة، بعيدا تماما عن المكان الذي سيجلس فيه رئيس القطاع، على أمل ألا يراني، فيسقطني من حساباته في التقريع أو في توزيع المهام الجديدةا!
وصل رئيس القطاع، وألقى بسلام بارد، وهو يحصي الحضور بعينيه، قبل أن تقع علي، فيبتسم ابتسامة خبيثة، وهو يقول:
-          كيف حالك يا مهندس (طارق)؟
قلت بصوت مبحوح:
-          بخير يا سيدي!
ألقى بمجموعة من الملفات الملونة على الطاولة أمامه، وهو يقول:
-          لدي خبر مؤسف.
انتبه الحضور له، فأكمل حديثه قائلا:
-          المهندس (هريدي) أصيب في حادثة سيارة، وهو الآن يرقد في مستشفى الهيئة، ندعو الله له جميعا بالشفاء التام.
أمن الحاضرين على قوله، فأومأ برأسه وهو يلتقط أحد الملفات، ويلقيه إلى أول الجالسين، وهو يردف:
-          ولكن هذا قد يستغرق شهورا، وتعرفون أن المهندس (هريدي) كان مكلفا بعدد كبير من المشاريع.
التقط أول الجالسين الملف، فألقى رئيس القطاع بالملف الثاني للشخص التالي، وهو يقول:
-          لذا سأكلفكم بمتابعة تلك المشاريع بدلا منه، وسأتابع بنفسي ما سيتم إنجازه.
تطايرت الملفات في الغرفة، وسقطت في أحضان الجالسين، فكان من يتلقى أحدها،  ينظر له بحسرة، وهو يحاول إخفاء الكدر والضيق المتسربين إلى ملامح وجهه، كنت أتابع اقتراب الملفات المتطايرة من موقعي بذعر، وعيناي تراقبان تناقص كومة الملفات التي مع رئيس القطاع، أملا في أن تنتهي قبل أن يصيبني أحدها، وبالفعل ألقى الرئيس بآخر ملف في يده، فالتقطه الشخص الذي يجلس قبلي مباشرة، رائع، هذا يعني أنني نفذت بجلدي، أخيرا حظي تغير ... ألقى رئيس القطاع نظرة أخيرة على الحاضرين، وهو يقول:
-          مفهوم؟
فأجابوا جميعا:
-          مفهوم يا (فندم)!
تحرك رئيس القطاع نحو باب الغرفة، وأنا أتنفس الصعداء، ويمنعني الخجل فقط من الصعود على طاولة الاجتماعات وتأدية رقصة النصر في وجه زملائي المحملين بالملفات، فجأة توقف رئيس القطاع، والتفت ناحيتي قائلا:
-          مهندس (طارق).
أجبت بذعر:
-          أجل ياسيدي.
-          ستتولى أنت صيانة (روزواية) هذا العام بدلا من المهندس (هريدي).
-          ولكن ...
قاطعني بغلظة:
-          مفهوم؟
-          مفهوم يا (فندم)!
ثم خرج من الغرفة وأغلق الباب خلفه بقوة، بالطبع لم يسمع فاصل السباب الذي أرسلته في أثره، لأنني لم أجروء على الإفصاح به من الأساس، فكان سبابا تخيليا في عقلي فقط.
***
قال حارس الأمن الشاب المتحمس في أول يوم له في عمله الجديد، لزميله العجوز الذي خبر العمل في هذا المكان لسنوات:
-          ألن نقوم بجولة في القرية يا عم (جاد)، لنتأكد أن كل شئ على ما يرام؟
أجاب عم (جاد)، بلهجة مستنكرة:
-          في الليل! ... لن يحدث هذا أبدا يا صديقي.
-          ولماذا؟.. لقد قمنا بجولة في النهار، والأفضل أن نقوم بأخرى ليلا!
رشف عم (جاد) رشفة طويلة من كوب الشاي الذي في يده، ورفع قدميه ومددهما على الطاولة الخشبية الموجود أمامه، وهو يتأوه بسبب آلام المفاصل التي تزيد وطئتها في الشتاء، قبل أن يحمل وجهه ملامح مترفقة, وهو يخاطب الشاب المتحمس:
-          إسمعني يا (رامي) يا بني، حتى ترتاح معنا في العمل هنا، عليك أن تفهم أننا لا ندخل القرية في الليل إبدا، حتى ولو اشتعلت فيها النيران وأتت عليها بأكملها.
قال (رامي) بعصبية:
-          وماذا نفعل إذا؟
-          نقف هنا على بوابة (روزواية) نمنع الناس من الدخول، إلا من يمتلكون التصاريح، وهم لا يأتون في الشتاء غالبا، وبخاصة في الليل.
قال (رامي) بعناد، وبفظاظة غير مبررة:
-          يبدو أن السن وآلام العظام جعلاك كسولا أيها العجوز ... لا يوجد مشكلة، سأذهب وحدي.
فكر عم (جاد) أن يخبر (رامي) بالسبب الذي يجعله يرفض دخول القرية، ولكن بخبرته الطويلة في صنوف البشر، أدرك أن ذلك الشاب المتحمس لن يصدق ما سيقوله له أبدا، وقد يتهمه بالجنون، وسيقدم بأي حال على دخول القرية، ومعرفة الحقيقة بنفسه، فقال له بصوت هادئ:
-          حسنا، أفعل كما تشاء، ولكن لا تنس أنني نصحتك.
***
توجهت إلى مكتب زميل لي في العمل من أبناء قريتي، يسبقني هنا بأعوام، ويتعامل معي كأخ أكبر، يراعيني وينصحني ويوجهني، منذ اليوم الأول الذي استلمت فيه هذا العمل، سألته بعصبية:
-          ما مشكلة تلك القرية السياحية اللعينة؟، ماذا كان اسمها (رز ... شئ ما)؟
-          (روزواية).
-          أجل، ما مشكلتها، لماذا تثير فزع الجميع بتلك الطريقة؟.. الجميع ما بين متشف ومشفق وساخر من حالي، بعدما علموا بأنني أصبحت مسئولا عن أعمال الصيانة الخاصة بها بدلا من المهندس (هريدي).
أطلق زميلي ضحكة ساخرة، وهو يقول:
-          ستحب هذا العمل كثيرا، وقد يغير حياتك تماما.
قلت بغضب، وأنا أهب لمغادرة المكان:
-          أنت أيضا تسخر مني.
-          أجلس ... لا تغضب، سأخبرك بكل شئ عن قرية (روزواية).
التقط شهيقا طويلا، ثم قال:
-          قرية (روزواية) السياحية، هي عبارة عن مجمع مكون من ثلاثين وحدة  سكنية مجهزة بكل وسائل الإقامة والمعيشة، جميعها من الشاليهات والفيلات، شيدت فوق تلة تطل على شاطئ البحر مباشرة، شيدها الفريق الهندسي للهيئة، في موقع متوسط بين أكبر منطقتين للحفر، الهدف منها هو استضافة من يرغب من أسر العاملين في الصيف، وذلك كخدمة تقدم للعاملين في الآبار ... في الواقع المكان هناك رائع، بموقع (روزواية) المميز، ومساحاتها الخضراء الواسعة، وشاطئها الرائع، وبها أيضا مناطق للألعاب، وملاهي للأطفال، ويتوسطها مجمع خدمي مكتمل الخدمات، أنا شخصيا قضيت فيها أسبوعا مع أسرتي، ولم أندم على ذلك أبدا.
صمت للحظة، ثم أردف:
-          هذا في الصيف طبعا، أما في الشتاء فالأمر مختلف.
-          وماذا يحدث في الشتاء؟
-          في الشتاء تكون القرية مسكونة!
قلت بدهشة واستنكار:
-          مسكونة بماذا؟ هل تقصد الأشباح!
-          قد تكون سمعت عن غرفة مسكونة في فندق، أو عن شقة هجرها أصحابها بعد أن أرعبهم ساكنيها من الأطياف، أو حتى عن بناية كبيرة تمرح فيها الأشباح والأرواح دون رادع، لكن في تلك المرة، أنا أحدثك عن قرية سياحية كاملة تعج بالمصطافين في الصيف، وتعربد فيها الأشباح والعفاريت في الشتاء ... حظك العاثر يا صديقي سيجعلك قاطنها الوحيد من البشر في هذا الشتاء ... ألم أقل لك أنك ستحب هذا العمل كثيرا!
***
كان (رامي) رجل الأمن الشاب، المتحمس، قد بدأ جولته الليلية الأولى في طرقات قرية (روزواية)، كانت الكهرباء مفصولة من غرفة التحكم عن القرية بأكملها في هذا الفصل من العام، ما عدا مركز الحراسة الذي يقيم فيه هو مع عم (جاد)، ولكن القمر كان مضيئا في تلك الليلة، وكانت أشعته الفضية كافية لتنير مباني القرية، وطرقاتها، وتكسبها طابعا رومانسيا خاصا ... كان (رامي) يفكر أنه سيقضي الشتاء مع هذا العجوز الكسول عم (جاد)، الذي يقضي وقته كله على كرسيه الخشبي، ممدا قدميه على الطاولة، ومرتشفا رشفات متلاحقة من كوب الشاي الثقيل الذي لا يفارق يده أبدا ... كان الجو الرومانسي يجعله يفكر أيضا في خطيبته، الذي اقترب ميعاد قرانه بها، وفي شهر العسل، وهل سيقضيه معها في مكان رائع كهذا، أم سيكتفيان بسبب الحالة المادية بأحد المصايف الشعبية.
أنهى (رامي) جولته سريعا، فقد كانت القرية خاوية على عروشها إلا من بعض الحشرات الليلية، وكلب ضال، طارده (رامي) بحجر، فولى هاربا ... كان الجو شديد البرودة في تلك الليلة، يزيد من برودته التأثير النفسي لصوت الرياح المختلط بصوت أمواج البحر وهي ترتطم بالشاطئ بقوة، فجأة سمع (رامي) صوت ضحكات مجلجلة لطفلة تلعب، تصدر من داخل أحد الشاليهات القريبة ... عقد (رامي) حاجبية وهو يقترب من الشاليه بخطوات حذرة، فهو يعلم يقينا أن جميع وحدات القرية غير مسكونة في هذا الوقت من العام.
 دخل (رامي) إلى الحديقة الشاليه، هز رأسه في حيرة وهو ينظر إلى الظلام الذي يخيم عليه، تمتم بحيرة:
-          كيف يعيش شخصا ما في هذا الظلام؟
ارتعد جسده عندما وصل إلى أذنيه صوت ضحكة أخرى، يشعر في باطنه بأن هناك شيئا غير طبيعي بخصوص تلك الضحكة، ولكنه لن يجبن الآن، لذا أسرع نحو باب الشاليه، وفتحه بالمفتاح (الماستر) الذي يحمله في جعبته ... كان الشاليه من طابقين، صالة متسعة في الطابق الأرضي ومطبخ وحمام، وثلاث غرف نوم في الطابق الثاني يفصلهما درج قصير، أضاء (رامي) مصباحه الكهربي، وألقى نظرة سريعة على الطابق الأرضي فلم يجد أثرا لصاحبة تلك الضحكات، كانت أعصابه متوترة، ملتهبة، وهو يسير بخطوات مرتعشة، قلقة، حتى أنه قفز بفزع عندما سمع صوت أقدام يعدو صاحبها في الطابق الثاني!
صعد (رامي) الدرج، وهو يوجه مصباحه يمينا، ويسارا, وقد زادت عصبيته، وبدأت تلك الرعدة تسري في عضلاته المتوترة، فجأة عبر شبح في الظلام أمامه بسرعة كبيرة، متوجها إلى إحدى الغرف، صاح (رامي) بصوت عال:
-          أنت ... ماذا تفعل هنا؟
كان الرد ضحكة طفولية عابثة، صدرت من داخل الغرفة ... اقترب (رامي) من الغرفة بركبتين مرتعشتين، وهو يسدد مصباحه ليضئ المكان، قبل أن يلجها وهو يقول بصوت مبحوح:
-          هل من أحد هنا؟
أخذ (رامي) يحرك المصباح في أرجاء الغرفة بعصبية، مر شعاع الضوء على بقعة سوداء بدت ككومة من الثياب مكومة في ركن الغرفة، ركز (رامي) الشعاع على تلك البقعة، ليكتشف بذعر أنها طفلة صغيرة في ملابس سوداء تجلس على الأرض بجوار الفراش، وقد انكمشت على نفسها، وهي تخفي رأسها بين ركبتيها، وتهتز للأمام والخلف كالبندول ... اقترب (رامي) من الفتاة، وهو يخاطبها، بصوت متوجس:
-          ماذا تفعلين هنا أيتها الصغيرة!؟
لم ترد الطفلة، واستمرت في الاهتزاز بتلك الطريقة الرتيبة، التي أثارت أعصاب (رامي)، فاقترب منها أكثر وأقعى على ركبتيه أمامها، وهو يمد يده ناحيتها، فجأة توقفت الطفلة عن الاهتزاز ورفعت رأسها نحوه بسرعة، فصار وجهها مواجها تماما لوجه (رامي)، الذي انطلقت صرخاته طويلة، مدوية، تشق أجواء الليل، كان وجه الطفلة مرعبا للغاية وهي تحدق فيه بمحجرين فارغين من العينين، ووجه متقرح، يتدلى جلده، ولحمه، فتبرز من أسفله عظام الوجه والفك بأسنانه المهترأة، البالية ... تواصلت صرخات (رامي) للحظات، ثم انقطعت مرة واحدة، وسقط صاحبها مغشيا عليه. 
..(انتهى الجزء الأول – ويليه الجزء الثاني)..

قصة رعب بعنوان ... (روزواية – الجزء الثاني)

ملخص ما سبق ... يكلف المهندس (طارق) بأعمال الصيانة في قرية (روزواية) السياحية، وهو ما يعني أنه سيقضي فيها شطرا من الشتاء الذي تخلو فيه القرية تماما من البشر!.. ويكتشف (طارق) أن هذه القرية  تخفي سرا غامضا، وأن الجميع يتهامسون عن أخبار الأشباح التي تهيمن عليها في ليالي فصل الشتاء ... ومن ناحية أخرى يقوم (رامي) حارس الأمن، الشاب، المتحمس، في أول يوم عمل له بجولة ليلية في القرية، تنتهي به في مواجهة مع شئ ما يبدو كطفلة صغيرة، ولكن بملامح مرعبة، قبيحة، فتنطلق صرخاته المولولة قبل أن يسقط مغشيا عليه ...
.
 وصلت سيارة الهيئة إلى قرية (روزواية)، تقلني وبصحبتي رئيس العمال المعلم (منصور)، الذي يقيم في مدينة تبعد مائة كيلومتر عن القرية ... كنت قد عرضت عليه أن يقيم معي في القرية هو والعمال، لأن هذا سيجعلنا ننتهي من العمل سريعا، فرفض وبشدة وأخبرني أن ظروف حياته لا تسمح له بالمبيت بعيدا عن بيته وأسرته، ولكنه وعدني بالتواجد في القرية بشكل يومي هو والعمال من الساعة السابعة صباحا إلى الخامسة مساء، ما عدا عطلة نهاية الأسبوع ... كانت خطة العمل، تبدء بفحص البنية الأساسية، يليها المرافق العامة، والوحدات السكنية، وبعد ذلك تحديد الأعمال الضرورية الواجب تنفيذها، والموارد اللازمة لذلك ... كنت أتوقع لو سارت الأمور كما ينبغي فستنتهي هذه المهمة السخيفة خلال شهر واحد على الأكثر، هذا ما أتمناه على الأقل!
عند مدخل القرية استقبلنا حارسا أمن، أحدهما مسن، والآخر شاب صغير، يحمل نظرات زائغة، هستيرية، كلاهما يرتدي ملابس عليها شعار القرية والهيئة ... ترجلنا من السيارة، وتوجه (منصور) إلى الحارس المسن، وسلم عليه بحرارة، وهو يعرفني به:
-          أعرفك بعم (جاد)، من أقدم العاملين معنا في الهيئة، وهو هنا في هذا الموقع، مع أول لبنة وضعت قي قرية (روزواية).
سلمت على عم (جاد)، وأنا اقدم نفسي:
-          المهندس (طارق)، سأكون ضيفا عليكم هنا لفترة، من أجل أعمال الصيانة الضرورية.
بدا التوتر على وجه عم (جاد)، وتبادل نظرات قلقلة مع حارس الأمن الشاب، الذي قال وهو يشيح بيده بفظاظة، ودون أن يقوم من مقامه:
-          أنصحك ألا تفعل.
بدا الضيق على وجهي من تلك الطريقة التي أشاح بها حارس الأمن الشاب، فبادرني عم (جاد) قائلا:
-          أعذر (رامي)، فهو شاب طيب، ومتحمس، وقد مر الليلة الفائتة بتجربة مروعة.
قال (منصور) مغيرا دفة الحديث ومحاولا تبديد التوتر الموجود في الأجواء:
-          سيقيم المهندس (طارق) في الوحدة (305 ز)، الرجاء إعادة توصيل التيار الكهربائي والمياة إليها يا عم (جاد).
قال عم (جاد) بسرعة:
-          عشرة دقائق وستكون الوحدة جاهزة بإذن الله.
ثم التفت لي وهو يقول في قلق:
-          هل ستبيت في القرية يا باشمهندس (طارق).
-          أجل.
صمت للحظة، وبدا كأنه يبحث عن كلمات مناسبة، فقاطعت أفكاره، وقد أدركت ما يجول بخاطره:
-          لا تقلق يا عم (جاد)، أعرف ما يشيعون عن القرية، سأكون بخير.
-          رعاك الله يابني.
ثم أشار بسبابته إلى صدره، وإلى حارس الأمن الشاب، وهو يردف:
-          ولو احتجت لإي شئ فكلانا هنا في خدمتك.
***
في ذلك اليوم انتهينا أنا و(منصور) من بعض الأعمال الأولية، واتفقنا على خطة العمل والتي ستبدء مباشرة من اليوم التالي، رحل بعدها (منصور) إلى بيته، وتوجهت أنا إلى الشاليه الذي أنتوي الإقامة فيه أثناء فترة المشروع، فاستقبلني فيه حارس الأمن، الشاب، أتذكر أن اسمه كان (رامي)، كان قد فتح الشاليه، وتأكد من وصول الكهرباء والمياة إليه، وقام متطوعا ببعض أعمال النظافة، توجهت إليه مباشرة وأنا أشكره قائلا:
-          لم يكن هناك داعي لأن تتعب نفسك، كنت سأقوم أنا بذلك.
-          العفو يا باشمهندس.
صمت للحظة، ثم قال بحرج:
-          أصررت أن آتي بنفسي، وطلبت ذلك من عم (جاد)، حتى أعتذر لك عن فظاظتي في الصباح.
-          يقول عم (جاد) أنك مررت بتجربة مروعة بالأمس ... ماذا حدث؟
ارتسم الذعر على وجه (رامي) للحظات، ثم بدأ يحكي لي عن مغامرة الأمس التي واجه فيها تلك الطفلة المرعبة، ذات الوجه المهترأ، والمتحلل، وكيف سقط مغشيا عليه من فرط الرعب، ثم أفاق بعدها بساعة مذعورا، هلعا، وانطلق يعدو إلى مركز الحراسة وكأنما تطارده الشياطين،ليستقبله عم (جاد) هناك ويقوم بتهدئته، قبل أن يخبره بما لم يكن يعرفه عن قرية (روزواية)، ومحاذير العمل فيها، وأهمها ألا يتواجد بها ليلا من الأساس وبخاصة في فصل الشتاء عندما تخلو من البشر.
لم أكن مقتنعا بما حكاه، وشعرت أنه قد عاش لعبة من ألاعيب الظلام والظلال، حيث تنشط مراكز الخيال في العقل، فتجعل الإنسان يتخيل أشياء غير موجودة، ولو كان ذلك الإنسان أعصابه ضعيفة، هشة، فقد ينهار مباشرة، وجدت أنه لا فائدة من الدخول في مناقشة غير مجدية، ومحاولة إقناعه بأن ما رآه كان ضربا من الخيال، فادعيت أنني أصدق كل كلمة قالها، فقال هو متعاطفا:
-          ولكن ماذا ستفعل أنت ياباشمهندس.
-          لا تقلق علي، فأنا أجيد التعامل مع هذه الأشياء.
كانت تلك كذبة بيضاء بغرض إنهاء المناقشة، فأنا لست شجاعا إلى تلك الدرجة، كما أنني لم أر شيئا خوارقيا، أو مرعبا في حياتي، وأعلم يقينا أنني لو رأيت شبح صرصور سأسقط فاقدا للوعي أو للحياة.
أفرغت حقائبي، ووضعت أواني الطعام التي حملتني بها أمي في الثلاجة، ومعها بعض الخبز والأطعمة المعلبة التي اشتريتها في الطريق، وقضيت بعدها بضعة ساعات أتابع التلفاز الذي كان يعمل بصورة جيدة لحسن الحظ، ثم تناولت عشاء مبكرا، وأويت إلى الفراش ... غبت في النوم بعد ثوان قليلة فقط! فقد كنت مرهقا للغاية، يخيل لي وأنا نائم سماع بعض الصرخات، وأصوات أناس يتقاتلون، ويتألمون كأنما يتم شيهم وهم أحياء، فابتسمت في رضا وواصلت نومي، فهذه بالتأكيد أصوات قادمة من عالم الأحلام، ولن تفلح أبدا في إيقاظ جسدي المعطل بسبب الإرهاق.
***
تحدث قائد قارب خفر السواحل لنائبه داخل قمرة القيادة للقارب ذو المحرك التوربيني القوي، أثناء مهمة أخرى لمراقبة وحراسة الشواطئ البحرية، هدفها ضبط المهربين، ومنع من يحاولون اختراق الحدود البحرية سواء بالخروج أو الدخول في تلك المنطقة المقابلة لشاطئ قرية (روزواية):
-          يوم آخر من العمل الغير مجد، لا يوجد مهربين في تلك الناحية الغربية من البحر.
أجاب النائب موافقا:
-          والأسوء أنها دائما في ساعات الليل المتأخرة.
قاطع حديثهما صرخة أحد الجنود، وهو يشير بسبابته نحو الزجاج الأمامي للقمرة، وهو يقول:
-          أنظر، ياسيدي!
نظر القائد إلى حيث يشير الجندي، قبل أن تنطلق منه شهقة قوية، وهو يتمتم:
-          اللعنة، ما هذا!؟
فأمامهم مباشرة، وعلى مسافة تقل عن الميل البحري، كانت تلك المركب الشراعية الضخمة، تطفو على سطح الماء وقد ضمت أشرعتها ...  كان بدن المركب يلمع في ضوء القمر، وبدا خشبها كأنه يشع بضوء فسفوري خاص، قال النائب بصوت متوتر:
-          ما هذه المركب!؟ أنا لم أرى مثلها في حياتي، ولماذا ينعكس ضوء القمر عليها بتلك الطريقة!؟
أجاب القائد:
-          تذكرني تلك المركب، بالصور القديمة من كتب التاريخ  للمراكب التجارية التي كانت تستخدم في القرون الماضية ... عندك حق، أنا أيضا لم أر مثلها في هذا البحر من قبل.
صمت القائد للحظة، وهو يحدق في جهاز الرادار أمامه، قبل أن يدق عليه بقبضته بعصبية وهو يقول:
-          كما أنها لا تظهر على شاشة الرادار.
-          من الممكن أن يكون الجهاز معطل.
اقترب قارب خفر السواحل من المركب الشراعي الذي بدا ساكنا، خاويا، وكأنه لا يحمل حياة فوق سطحه ... أخذ القائد ينادي عبر مكبر الصوت على ربان المركب، ويطالبه بإيضاح سبب وجوده في هذه المياة، وإظهار التصاريح التي تسمح له بذلك، وعندما لم يتلق إجابة، بدأ يصدر التهديدات، ويعلن بأنه في حالة عدم الرد سيضطر لاستخدام القوة، وعندما لم يتلق ردا في تلك المرة أيضا، أصدر القائد تعليماته لجنوده، بالاقتراب من المركب، وإلقاء كلابات التعليق، والسلالم عليه ، والاستعداد لاقتحامه بمجرد تلامس القارب معه.
كان الجميع قلقون، متوترن، يشعرون بأن هناك شيئا غامضا بخصوص هذا المركب، وذلك الصمت الكئيب الذي يهيمن عليه، والضوء الذي يشع من بدنه ... اقترب قارب خفر السواحل بسرعة بطيئة من القارب الشراعي، فاستعد الجميع لأثر الاصطدام الخفيف، ولكن المفاجأة التي صعقت الجميع، أن ذلك الاصطدام لم يحدث، بل أن القارب لم يتوقف، عبر بدن المركب الشراعي كأنه صورة (هولغرافية)، أو كأن تلك المركب مصنوعة من الضباب أو الأثير ... تعالت صرخات الجنود بعد أن شعروا جميعا بتلك القضمة المؤلمة من السقيع تخترق أجسادهم، عندما عبروا بدن المركب الشراعي! أنهار بعضهم على سطح القارب، وهو يشعر بإعياء شديد، وفقد أثنين منهم وعيهم بالفعل، وأخذ الثالث يقيئ ما في جوفه، كان الشعورالذي اكتنفهم جميعا شعورا رهيبا، شعور بالبرد، والكآبة، والغثيان، شعور بالألم والعذاب لا يوجد ما يبرره.
بعدما عبر قارب خفر السواحل، البدن الأثيري للقارب الشراعي، اختفى ذلك الأخير فجأة من فوق سطح الماء، وكأنه لم يكن ... اعتدل النائب من سقطته، وهو يوجه حديثه بإعياء إلى قائده الذي لم يبد أفضل حالا منه:
-          اللعنة ... ماذا كان هذا؟
-          لا أعلم!
-          وماذا سنكتب في التقرير إذا!؟
-          لا شئ، لن نكتب شيئا، لأن أحدا لن يصدق ما حدث.
***
مر اليوم التالي سريعا، حضر (منصور) في الصباح في موعده، ومعه العمال، وانشغلنا بالأعمال طوال اليوم حتى جاءت الساعة الخامسة فرحلوا جميعا ... عندها عدت للشاليه الخاص بي، اغتسلت، وأخذت حمام ماء ساخن، فقد كان التراب والعرق يتخللان جسدي وروحي، تناولت عشاء مبكرا كعادتي، وجلست أشاهد التلفاز، حتى أوشكت على النوم وأنا جالس على الأريكة أمامه، فجأة انطلقت تلك الصرخة المستغيثة،فانتبهت حواسي دفعة واحدة ... كان الصوت قريبا، وبدا كأنه قادم من الشارع المواجه للشاليه مباشرة ... هرعت إلى الخارج فلمحت في ظلام الشارع أمامي، شبحين يكيلان الضربات واللكمات إلى شخص منكفئ على وجهه بينهما ... كانت المسافة التي تفصلهما عني لا تسمح لي بتبين ملامحهما، وبطبعي القروي، لم أفكر كثيرا، تلفت حولي بسرعة والتقطت ذراعا معدنية كانت تستخدم كدعامة للباب، وانطلقت أعدو بسرعة لإنقاذ ذلك المسكين الذي يصرخ متألما، وعندما صرت على بعد خطوات منهما، صحت:
-          اتركاه أيها اللعينين.
تنبها لقدومي، فغرس أحدهما شيئا لامعا في جسد ضحيتهما، شيئا بدا لي كسيف أو كسكين،ثم انطلقا يهربان إلى آخر الشارع، تاركين ذلك المسكين مسجا على الأرض، جثة هامدة ... طاردتهما نحو آخر الشارع، هذان الغبيان لا يعلمان أن الشارع مغلق من الطرف الآخر، ستكون مفاجأة لهما، ولكنني عندما لحقت بهما إلى آخر الشراع كانت المفاجأة من نصيبي أنا، لقد اختفيا تماما، وكأن الأرض انشقت وابتلعتهما ... أخذت أبحث وأنا أتمتم بدهشة:
-          أين ذهبا، لا يوجد مكان هنا يمكن أن يهربا إليه!؟
قررت العودة إلى ذلك المسكين في محاولة لإسعافه، فوجدته قد اختفى بدوره! كيف هذا؟ لقد بدا لي أنه قد مات أو فقد الوعي! وقبل أن أعود إلى الشاليه الخاص بي، انطلقت صرخة أخرى من مسافة قريبة، ولمحت بعض الأشباح يهربون في الظلام، فانطلقت أعدو في أثرهم ... هناك صوت خافت في عقلي الباطن يحاول أن يخبرني على استحياء بأن ما يحدث الآن هو شئ غير طبيعي، ويحاول أن يذكرني بسمعة قرية (روزواية)، ورواية حارس الأمن الشاب، ولكنني أصررت بحماقة على مطاردة تلك الأشباح حتى النهاية ... بعد دقيقة واحدة كنا قد وصلنا قرب شاطئ البحر، وكان الظلام قد ابتلع تلك الأشباح مجددا ... في هذه اللحظة رأيتهم، كانوا يجلسون في حلقة كبيرة حول نار مشتعلة، يتدفأون بها أو يطهون عليها طعاما، كانوا عشرين أو أكثر، لم أتبين ملامحهم بشكل جيد في البداية، ولكنني أدركت أن بينهم رجال، ونساء، وأطفال ... اقتربت منهم بخطوات حذرة، لماذا لا تظهر النار ملامحهم! وكأن وجوههم قدت من الظلام، شئ آخر لفت انتباهي ولكنه لم يكن كافيا ليجعلني أتراجع، وهو ملابسهم التي بدت قديمة الطراز، وكأنهم خرجوا مباشرة من أحد أفلام الأبيض والأسود ... عندما صرت على بعد خطوات قليلة، صحت فيهم:
-          كيف الحال؟.. ما الذي جاء بكم هنا أيها السادة؟
هنا التفت لي أقربهم، والذي كان يغطي رأسه بدثار، فلمحت وجهه! فانطلقت مني شهقة عالية، وأنا أحدق في ذلك الوجه الذي بدا كجمجمة عظمية بمحجرين غائرين ينظران لي بفضول!.. ارتددت إلى الخلف بفزع، فسقطت على ظهري، ثم نهضت بسرعة، وأنا أنظر في وجوه الجميع! كانوا جميعا يحملون وجوها مهترأة، متحللة، بعضها خالي من اللحم، وبعضها يلتصق نذرا يسيرا من اللحم المتعفن بعظام الجمجمة، وهناك من سقط فكه السفلي، أو متعلق بوجه بخلاله بالية من الجلد، كان المنظر مروعا للغاية ... وزاد من رعبي طرا، ذلك الصوت المبحوح، الذي بدا كأنه يخرج من أعماق بئر، الذي خاطبني به أقربهم:
-          ساعدنا.
ثم انطلقت الأصوات من الباقيين، بنبرات مختلفة، ولكنها تحمل نفس الطابع الأجوف، المبحوح، وهي تردد نفس الكلمة:
-          ساعدنا ... ساعدنا!
كان الصوت مزعجا للغاية، مؤلما لخلايا مخي، غطيت أذني بكفي، وانطلقت أعدو كالمجذوب، كنت أسقط، وأتدحرج على الرمال،ثم أنهض مفزعا لمواصلة الهرب، وأنا أشعر برعب هائل يسيطر على كياني ... عندما ابتعدت مسافة كافية، التفت ورائي، فوجدتهم جميعا قد اختفوا، واختفت معهم نارهم.
***
في الصباح التالي لم أكن قد حصلت على أي قسط من الراحة في الليلة السابقة، كنت قد قضيت ليلة نابغية كما يقولون، فقد كنت اتحسب في أي لحظة أن تقتحم علي تلك الأشباح الشاليه، لتفعل بي ما تفعله الأشباح بالحمقى الذين يتجاهلون كل الأشارات والعلامات ويلقون بأنفسهم في الجحيم طواعية ... أخرجت حقيبتي وقررت أن أحزم ثيابي، وأرحل فورا من هذا المكان، دون الانتظار لقضاء أمسية أخرى مروعة في قرية الأشباح اللعينة تلك.
فجأة، رن جرس الهاتف، وأظهرت الشاشة رقما لا أعرفه، ضغطت زر الإجابة، فجأني صوت رجل أشعر أنني أعرف صاحبه من الطرف الآخر، فسألته بحذر:
-          من حضرتك!؟
أجاب المتصل بنبرة عالية واثقة:
-          أنا رئيسك في العمل يا (طارق).
أجل، لقد تذكرت الآن صاحب هذا الصوت، إنه رئيسي في العمل، ذلك اللعين، الذي أبلاني هذا البلاء.
-          أجل ... أجل، كيف حالك ياسيدي؟
-          بخير ... كيف حال العمل عندك؟
صمت للحظة، وأنا أعجز عن الإجابة، فأردف هو بصوت غليظ:
-          هل هناك ما يسوء؟
-          لا ياسيدي العمل على ما يرام ولكن ...
قاطعني بحدة:
-          ولكن ماذا؟
التقطت شهيقا طويلا، ثم ألقيتها في وجهه:
-          تلك القرية ملعونة، وأنا سأعتذر عن هذا العمل؟
أطلق  رئيسي في العمل ضحكة طويلة صاخبة، وبدت قهقهته العالية كصهيل الحصان، ثم دخل في فاصل من السعال وهو يواصل القهقهة، حتى خلت أنه سيقيئ في أذني بعد قليل ... ولكنه توقف مرة واحدة، ثم قال:
-          أنت مهندس شاب يا (طارق)، وفرصة العمل التي في يديك يتمناها آلاف الشباب، فلا تضيعها.
هذا الرجل اللعين، يهددني بطريقة مباشرة،وصريحة، أحب هذا الأسلوب ... حاولت الكلام فقاطعني، وهو يقول:
-          أعلم أن هناك بعض المشاكل عندك، لهذا اخترتك أنت... فأنت شاب شجاع، طموح، وتستطيع مواجهة بعض المشاكل، بدلا من الهرب منها كالآخريين.
وجدت نفسي أجيب بتلقائية:
-          لا تقلق يا سيدي لن أهرب!
لا أعرف من أين جاءت تلك الإجابة، هل هو الكبر؟ هل هو الخوف على الوظيفة؟ أم هي الحماقة؟.. أجاب رئيس القطاع:
-          حسنا.
ثم صمت لحظة، قبل أن يردف:
-          كما أنك لن تكون وحدك في الأيام القادمة، سيكون معك (نمق)!
لم أفهم ما يقصده، فسألته:
-          من؟
فقال متجاهلا سؤالي:
-          حسنا، أفعل ما سيطلب منك، وحاول تسهيل الأمور، ومعك موافقتي ومباركتي لما ستفعله.
-          ماذا؟
مرة أخرى تجاهل السؤال، وهو يلقي بسلام سريع بدا كأنه بصقة في وجهي، ويغلق الهاتف.
وقفت أحدق في نفسي في المرآة بعد تلك المكالمة لدقائق، لماذا أشعر أن ذلك الذي يطل علي من الناحية الأخرى منها يحمل رأسا يشبه رأس الحمار، أنا لم أفهم شيئا مما قاله رئيس القطاع، ومن (نمق) هذا الذي حدثني عنه، هل هو شخص!؟ أم هي شركة للتوريدات سأتعامل معها!؟  أم إنه نوع من أنواع أجهزة الصيانة أو أدواتها!؟
طرقات على باب الشاليه، فتوجهت إليه بسرعة وفتحته، متوقعا أن يكون (منصور) هو الطارق، ولكن خلف الباب طالعتني تلك الفتاة السمراء الحسناء، التي ترتدي ثوبا أبيض، يحمل نقشات صغيرة باللون الأخضر كوريقات الشجر، منفوش الذيل كفساتين الأميرات في قصص (ديزني)، كانت تعقص شعرها فوق رأسها كالتاج، وتتدلى على صدرها سلسلة ذهبية، تحمل حجرا زمرديا اللون، حدقت فيها بدهشة، وتدلى فكي السفلي ببلاهة، فبادرتني هي قائلة بسرعة:
-          أنا (نمق).
..(انتهى الجزء الثاني – ويليه الجزء الثالث)..
 

قصة رعب بعنوان ... (روزواية – الجزء الثالث)
ملخص ما سبق ... لا يصدق المهندس (طارق) كل ما يشاع عن قرية (روزواية) المسكونة بالأشباح، ولا يصدق أيضا رواية حارس الأمن الشاب (رامي) الذي وجد نفسه في مواجهة مع طفلة بملامح مرعبة، قبيحة، ووجه مهترئ، متحلل، بدت عظام جمجمته، تحت لحمه وجلده المتعفنين، ولكن عندما يرى المهندس (طارق) تلك الأشباح بعينيه، يصاب بحالة من الذعر والهستيريا ويقرر الرحيل عن القرية فورا، لولا اتصال رئيسه في العمل الذي نهاه عن ذلك، وطلب منه التعاون مع (نمق)، تلك الفتاة السمراء، الحسناء، التي ترتدي فستان أبيض كالأميرات، وعقد ذهبي ذو حجر زمردي على صدرها، والتي وجدها تدق بابه بعد لحظات وتعرفه بنفسها ...
.
دعوت (نمق) للجلوس على مقاعد (البامبو) المتراصة في حديقة الشاليه حول طاولة من نفس الخامة، وأنا أسألها:
-          لقد اتصل بي رئيس القطاع، وأوصاني بك ... كيف يمكنني مساعدتك!؟
أجابت (نمق) بصوت رقيق، وبابتسامة آثرة:
-          أنا باحثة في شئون الآثار، وأنا هنا في مهمة علمية، ومعي تصريح بذلك.
قلت بدهشة:
-          وهل ستقيمين هنا وحدك!؟
-          أجل ... أنا أطارد موضوع هذا البحث منذ سنوات طويلة، وأخيرا أمسكت بطرف خيط قادني إلى هنا.
عن أي سنوات طويلة تتحدث تلك الحسناء!.. استطيع أن أجزم من ملامحها أن عمرها لا يتجاوز الثلاثين عاما بأي حال، ور غم أنها سمراء، إلا أن جمالها لا يحمل السمت العربي، ورغم أيضا، لغتها العربية الأصيلة، ولهجتها التي لا غبار عليها، سألتها بفضول:
-          هل أنت عربية!؟
-          بالتأكيد!.. ما هذا السؤال!؟.. هل أبدو لك غير ذلك!؟
 شعرت بحرج شديد، فغيرت مجرى الحديث، وأنا أسألها:
-          وماذا عن مهمتك؟.. وعلام تبحثين بالضبط؟
بدت مسحة من الحزن على ملامحها، وهي تجيب:
-          إنها قصة طويلة، هل تحب سماعها؟
كنت انتظر وصول المعلم (منصور) والعمال لبدء أعمال اليوم، ولكنني كنت أشعر برغبة في تمديد الحوار مع تلك الحسناء لفترة أطول، هناك شئ ما فيها يشعرك بالانجذاب، فقلت لها بسرعة:
-          بالطبع، أحب؟
ابتسمت، وأغمضت عينيها للحظة كأنها تستعيد بعض الذكريات من الماضي، فزاد ذلك من جاذبيتها، وحسنها، ثم فتحتهما، وهي تقول، وقد عادت مسحة الحزن إلى وجهها مرة أخرى:
-          أبحث عن قوم كانوا يعيشون أقصى جنوب هذة البلاد منذ عشرة قرون أو يزيد، كانت أرضهم خصبة فكانوا يزرعونها، ولقربهم من ساحل البحر كانوا يعملون أيضا في الصيد، وبعض  أعمال التجارة مع المراكب التجارية التي كانت ترسو على شواطئهم ... كانت حياتهم سعيدة، ورائعة، كانوا راضين بها، ولا يبحثون عن المزيد.
توقفت لحظات، ثم أردفت:
-          ولكن دوام الحال من المحال، فقد مات ملكهم المحبوب، وكان من المفترض أن تحكم بعده أميرتهم الشابة التي يعشقونها جميعا، ولكن الطمع، وهاجس القوة، سيطرا على الوزير الذي كان أيضا قائد الجيوش، فاستولى على الحكم ...  ولأنه لا يستطيع أن يبدء حكمه بقتل تلك الأميرة التي يحبها، ويقدرها الجميع، قرر طردها من البلاد، وطرد كل من يرغب في الذهاب معها، وسمح لهم بأن يحملوا معهم أموالهم، وثرواتهم، وعائلاتهم ... هكذا وجدت الأميرة المسكينة، نفسها على متن ذلك المركب التجاري الشراعي، المتوجه نحو الشمال، وبصحبتها مائتين من الرجال، والنساء، والأطفال، في رحلة نحو أرض مجهولة، ونحو مستقبل غامض، لا يعلمه إلا الله.
في تلك اللحظة، وصل العمال و(منصور)، نادى علي الأخير وهو يلوح بيده:
-          مهندس (طارق)، نحن جاهزون.
ألا يرى هذا الأحمق أنني مشغول مع تلك الحسناء، أين ذهب الذوق من هذا العالم!.. اشرت له بكفي المبسوطة الأصابع، علامة على طلبي بأن يمنحني خمس دقائق، التفت إلى (نمق) وأنا أقول لها معتذرا:
-          هيا أكملي.
قالت بحرج:
-          لا يبدو الوقت مناسبا، سأكمل لك القصة في وقت آخر ... سامحني، يجب أن أذهب الآن.
-          حسنا، ولكن أخبريني أين تقيمين.
-          أقيم في الوحدة (906 ش).
-          رائع، ليست بعيدة من هنا، قد أعرج عليك في المساء، لتكملي لي القصة.
ابتعدت (نمق) في خطوات سريعة، رشيقة ... توجهت أنا إلى (منصور) وأنا أقول بغيظ:
-          هيا بنا.
أشار بدهشة إلى مقاعد (البامبو) التي كنا نجلس عليها أنا و(نمق) منذ ثوان قليلة، وهو يقول:
-          ماذا كان هذا؟
سبقته للخارج، وأنا أقول:
-          إنها مهمة خاصة، أوكلني بها رئيس القطاع.
سمعته يتمتم بصوت خفيض:
-          لا أفهم شيئا.
***
في ذلك المساء عرجت على الشاليه الخاص (بنمق) فوجدته مغلقا، ومظلما، من الواضح أنها تقوم بمهمة مسائية، عدت إلى الشاليه الخاص بي، وقضيت فيه أمسيتي المعتادة، وتوجهت في آخرها للفراش بجسد منهك وعظام محطمة، وقلب منقسم إلى شطرين، شطر منشغل بتلك الحسناء التي ظهرت في حياتي فجأة، والشطر الآخر قلق، متوتر، بسبب تلك المهمة المشئومة في قرية لعينة، مسكونة بالشياطين ... كنت قد غبت في النوم منذ فترة طويلة، ولكنني استيقظت فزعا على ذلك الهاجس الذي يهاجم الإنسان في نومه ويشعره بأنه في خطر، أو أن هناك شيئا ليس على ما يرام ... اعتدلت في فراشي، وتلفت حولي، كانت عيناي ما زالتا زائغتين من أثر النعاس، ولكنني  رأيتهم!.. كانوا ثلاثة من الأطفال ... صبيين، وبينهما فتاة يقفون أمام فراشي يحدقون في بتلك المحاجر الخالية من العيون، والوجوه المتحللة، المتقرحة ... وقبل أن آتي بأي رد فعل، انطلقت صرخاتهم العالية، تحمل ذلك التردد الحاد، الذي يؤلم خلايا مخي ويمزقها، كانت تلك الصرخات تتخللها كلمات بصوت متحشرج، مبحوح، وغير بشري:
-          ساعدنا  ... ساعدنا.
ثم انطلقوا يعدون إلى خارج الغرفة عبر بابها، وجدارها المغلقين ... تمتمت بصوت مرتعش:
-          إنهم أشباح.
كانت تلك ملاحظة ذكية، ولماحة، من تلك الملاحظات التي اشتهر بها ... انطلقت في أثرهم، لم أكن اشعر بنفس الخوف الذي شعرت به بالأمس، كان الفضول، والتوجس هما الغالبين ... كنت قد غادرت الشاليه، باحثا عنهم، فطالعتني تلك الصرخة من الشارع المواجه للشاليه، التفت ناحية مصدر الصوت، فلمحت ثلاثة أشباح، أثنان منهما ينكلان بالثالث ويكيلان له الضربات، وهو مسجا على الأرض بينهما ... اللعنة، لقد رأيت هذا المشهد من قبل، رأيته بالأمس وبحذافيره، أعلم ما سيحدث الآن سيخرج أحد المهاجمين سكين ويغرسه في جسد الضحية، ثم يفران إلى آخر الشارع المغلق ويختفيان ... حدث ما توقعته بالضبط وفر المهاجمين، ولكنني لن أطاردهما كما فعلت بالأمس، سأتوجه لفحص ذلك المسكين الذي يبدو أنه فقد الوعي، أو الحياة ... اقتربت من الضحية بخطوات حذرة، قبل ان أتوقف فجأة عندما رفع رأسه الذي يحمل تلك الملامح المرعبة، القبيحة، التي صارت مألوفة لي الآن، ولا تثير أي فزع في باطني، قبل أن يمد يده، وهو يصرخ مستغيثا بنفس الصوت المبحوح:
-          ساعدنا.
شهقت بفزع، عندما اختفى ذلك الشبح فجأة، ووجدت نفسي أقف وحدي في المكان أحدق ببلاهة إلى العدم ... أعرف ما سأفعله الآن، سأتوجه إلى شاطئ البحر لاستكمال باقي المشهد المعاد من الأمس، سأجد هناك تلك الأشباح المتحلقة حول النار، والتي لا تمل أبدا من طلب المساعدة ... تلك الأشباح روتينية، وتقليدية بحق، لا تعرف معنى التجديد ولا الابتكار، كان عليها إن تعرض علي الليلة مشاهد جديدة، حتى لا يصيبني الملل.
***
وصلت إلى شاطئ البحر، فاكتشفت أنني ظلمت تلك الأشباح بحق، فقد كان المشهد هناك مختلفا للغاية عن الأمس، كان هناك عدد كبير من الأشباح، المئات منهم، وكان هناك أكثر من نار مشتعلة، وعدد كبير من الخيام، وهناك قوارب، محملة بالصناديق، وأطفال يلعبون، ويعدون، ويتناوشون، ونساء يجهزون الطعام، وينظفون الخيام، ورجال يدقون الأوتاد، وينقلون الصناديق من القوارب، كان المكان أشبه بمعسكر مكتمل الأركان، معسكر ملئ بالحركة والنشاط، لولا تلك الوجوه والأجساد المتقرحة، والمهترأة، وتلك الثياب القديمة الطراز، لحسبت أنهم جماعة من البشر، جاؤوا من البحر بتلك القوارب، وأقاموا لهم معسكرا مؤقتا على شاطئه.
وقفت أراقب المكان لدقائق طويلة، لم يتنبه أحد فيهم لوجودي، هكذا قررت العودة للشاليه، ولكن قبل أن أتحرك عائدا، انطلقت صرخات عالية، مذعورة في المكان ... انتبهت بسرعة إلى ما يحدث، فلمحت جماعة من الرجال الملثمين، على صهوة الجياد، قادمون من ناحية الغرب، يغيرون على المكان وهم مدججون بالسيوف، والرماح، والنبال، قبل أن يعملوا تلك الأسلحة في أجساد رجال المعسكر، فيقتلونهم، ويذبحونهم، دون أن يملك هؤلاء المساكين العزل، شيئا يدفعون بهم ذلك الأذى عن أنفسهم ... تحول المكان إلى فوضى عارمة، الكل يحاول الهرب، شظايا النيران تتطاير، وتمسك في نسيج الخيام التي بدأت تشتعل بمن فيها وحولها، الرجال يتساقطون في كل مكان، والدماء تغرق كل شئ، الأطفال والنساء يؤسرون، ويحملون على الجياد ... حدث كل ذلك في ثوان قليلة، لم أعرف ماذا علي أن أفعل؟.. وعندما قررت أن اقترب، اختفى كل شئ مرة واحدة، المعسكر، النار، المهاجمون، لم يتبق في المكان إلا أنا، والشاطئ الخالي، وأمواج البحر الهادرة ... لقد انتهى العرض لهذا اليوم.
***
في اليوم التالي، كنا نعمل وقت الظهيرة في تغيير بعض توصيلات المياة في إحدى الوحدات، عندما لمحت (نمق) تجول في حديقة عامة على مقربة منا، أعتذرت من العمال، وطلبت من (منصور) مراقبة العمل حتى أعود، توجهت سريعا إليها، متجاهلا تمتمات (منصور) المستنكرة التي أرسلها في أثري ... كانت (نمق) منحنية على الأرض، تفحص شيئا ما فيها، لمحتني اقترب، فلوحت بيدها لتحيتي، فبادرتها قائلا:
-          كيف حالك يا آنسة (نمق)؟
-          بخير، كيف حالك أنت ياباشمهندس.
-          بخير ... حاولت المرور عليك بالأمس في الشاليه لأسمع باقي القصة، ولكنني لم أجدك.
حركت يدها بإشارة مبهمة، وهي تقول:
-          عذرا، فقد كنت مشغولة بالأمس، ولم أعد للشاليه إلا متأخرا.
جذب انتباهي ذلك التعليق، فقلت بفضول:
-          وهل لاحظت أشياء غريبة؟
-          لا لم أفعل ... ماذا تقصد؟ أشياء مثل ماذا؟
فكرت أن احكي لها عن الأشباح التي تمرح في القرية ليلا، ولكنني آثرت ألا أخيفها، وأنا أجيب:
-          لا شئ ... كيف حال البحث الذي تقومين به؟
-          رائع ... اقتربت من هدفي كثيرا.
توقفت عن الحديث للحظة، ثم قلت لها بصوت خافت كالهمس، وأنا أرسم على وجهي ابتسامة شنيعة:
-          إذا، هل ستقصين علي باقي القصة الآن؟
أطلقت ضحكة قصيرة، ثم أشارت إلى العمال الذي يعملون على مقربة من موقعنا، وهي تجيب:
-          دائما تطلب سماع القصة في الوقت الغير مناسب ... أعدك أن أمر عليك في المساء وأقصها عليك، وهناك اشياء أخرى سأطلبها منك.
-          هذا اتفاق إذا؟
-          أجل، هو كذلك.
عدت إلى العمال، فاستقبلني (منصور) بنظرات قلقة، قبل ان يسألني:
-          لقد قضيت ليلتين في هذه القرية، ألم تشاهد شيئا غريبا، أو غامضا خلالهما؟
اقتربت منه، وهمست في أذنه:
-          في الواقع لم أشاهد خلالهما، إلا كل ما هو غريب، وغامض.
تمتم متسائلا:
-          أشباح!؟
-          المئات منها.
-          وماذا ستفعل؟
-          لا شئ ... لقد بدأت اعتاد الأمر.
اقترب أحد العاملين يحمل كوبين من الشاي صنعهما على موقد كيروسين بدائي جلبه العمال معهم، وناولهما لنا ... جلسنا أنا و(منصور) على سور الحديقة نرتشف الشاي، ونتدفأ به من برد اليوم، الذي كان أكثر برودة من سابقيه ... قال (منصور) بنفس اللهجة القلقة:
-          أريد أن أحذرك من شئ ياباشمهندس (طارق)، وأرجوك ان تأخذ كلامي بجدية.
ربت على كتفه، وأنا أقول:
-          تفضل يا (منصور)، انا اعتبرك في مقام أخي الأكبر.
-          أريد أن أحذرك من الأشباح، فهي شديدة الخطورة حتى لو لم تبد كذلك، فلا تتعاطف معها أبدا أو تعتادها، فهي تحقد على البشر لأنهم يمتلكون نعمة الحياة، التي فقدتها ... الأشباح تكره البشر، وتحاول إيذائهم، حتى لو بدا للبعض أنها غير ذلك.
ضحكت، وأنا أقول:
-          إذا فقد صرت خبيرا في الأشباح يا (منصور)!؟
قال بضيق، وقد عقد حاجبيه:
-          قلت لك أنك لن تأخذ كلامي بجدية.
-          سامحني يا صديقي.
لانت ملامح وجهه وهو يقول:
-          أنا لا اريد إلا مصلحتك ياباشمهندس، فبيننا عشرة، وأنا أخاف عليك ... كما أنني أتحدث إليك عن خبرة، وتجربة حقيقية.
صمت للحظة، ثم اردف:
-           لقد كان لي خالا يسكن في بيته وحيدا أمام المقابر، وكان الجميع يتحدثون أنه (مخاوي) أرواح أصحاب تلك القبور، وعندما سألته، أجابني أن هذا صحيحا لحد كبير، وأن أصحاب تلك القبور وديعون، وطيبون، بعد أن وجدوا سكينتهم فيها بعيدا عن ظلم الدنيا، ومتاعبها، وآلامها ... فهم ليسوا أشرارا كالبشر الذين يطأون بعضهم بعضا، ويدمرون أنفسهم وغيرهم يوميا في بحثهم الحميم عن المزيد من حطام الدنيا الزائل.
مرة أخرى توقف (منصور) عن الحديث، وقد اكتسى وجهه بملامح حزينة، فحثثته على الاسترسال فقال:
-          حتى جاء ذلك اليوم، الذي طرق فيه خالي بابنا، ففتحت له وكنت في المنزل وحيدا، ومن النظرة الأولى عرفت أنه ليس بخير، فقد كانت عيناه زائغتين، وشعره أشعث، وملابسه ممزقة، متسخة، صرخ في وجهي (بأنهم يطاردونه، ليقتنصوا حياته، وأنهم كانوا يخادعونه طول الوقت) ... ثم أنطلق بعدها يعدو في طرقات القرية، حتى عثروا عليه في الصباح منتحرا، بعد أن شنق نفسه في شجرة أمام المقابر.
..(انتهى الجزء الثالث – ويليه الجزء الرابع والأخير)..


قصة رعب بعنوان ... (روزواية – الجزء الرابع والأخير)
ملخص ما سبق ... أمسيات متشابهة يقضيها المهندس (طارق) في قرية (روزواية)، يطارد فيها أشباحا تشخص أمامه مشاهد قاسية لفرسان ملثمون يغيرون على خيام قوم عزل، ويعملون فيهم القتل، والذبح، وسفك الدماء ... أشباح لا تمل عن طلب مساعدته، دون أن يعلم كيف يمكنه مساعدتها!.. و(نمق) الباحثة الشابه التي تطارد أثر مهاجرين من الجنوب وأميرتهم المحبوبة، نفوا من أرضهم، ووطنهم إلى مكان ومستقبل لا يعلمون ما يخفيه لهم ...
.
الساعة الآن السابعة مساء، طرقات خجولة على باب الشاليه! بالتأكيد هي (نمق) جاءت لتفي بوعدها، وتكمل لي قصة الأميرة التي نفت من أرضها ... فتحت الباب بحذر وأنا أفكر أنه لو كان الذي بالباب شخصا آخر غير  (نمق)، فهو بالتأكيد شبح من تلك الأشباح التي تمرح في القرية ليلا، لهذا علي أن أكون مستعدا للمفاجأة.
-          كيف حالك يا مهندس (طارق)؟
إنها (نمق) لحسن الحظ، بفستانها الأبيض ذو الذيل المنفوش، والنقشات الخضراء التي تبدو كوريقات شجر تناثرت على بياض ثوبها فأكسبته زهاء الطبيعة وروحها، وعقدها الذهبي ذو الحجر الزمردي، وشعرها الذي تعقصه فوق رأسها كالتاج ... أجبتها بسعادة:
-          بخير حال ...
صمت للحظة، ثم أردفت:
-          طالما أنت هنا.
ابتسمت بخفر للحظة، قبل أن يكتسي وجهها بملامح الجدية، وهي تقول:
-          إذا هيا بنا.
-          إلى إين؟
-          سنتمشى قليلا في القرية، وأكمل لك القصة.
-          حسنا.
***
أبحر المركب الشراعي الكبير نحو الشمال وعلى متنه الأميرة الشابة ومائتين من الأنصار، من الرجال والنساء والأطفال والشيوخ ... لقد تبدلت حياة الأميرة بين عشية وضحاها، وتغير مستقبلها الواعد إلى مستقبل غامض يحمل بين دفتيه الكثير من الشكوك، كانت الأميرة شابة، غضة، قليلة الخبرة، لم تخبر شئون الحياة كثيرا، كانت في الماضي تعتمد على أبيها الملك في كل أمورها، فكان هو داعمها، وناصحها الأمين، ومعلمها، الآن بعد ذهابه، وذلك التمرد الذي قام به وزيره، تجد نفسها عاجزة تماما عن التفكير فيما عليها فعله، تنظر إلى هؤلاء القوم الذين قرروا الرحيل معها، فتشعر بالمسئولية التي ينوء بها عاتقها، وبالذنب، آلام الضمير، لكونها سببا فيما آلت إليه أمورهم، ليتهم تركوها ترحل وحيدة، أو حكموا عليها بالموت لتلحق بوالدها ... الآن عليها أن تتجاوز كل تلك الآلام، وتهاجر بقومها إلى أرض جديدة، وتقودهم نحو حياة آمنة، رغدة، تعوضهم عما تركوه خلفهم.
شهر كامل خاض فيه المركب الشراعي البحر تجاه الشمال ... دفعت الأميرة الكثير من الذهب لربان المركب وبحارته حتى يكملوا معها الرحلة حتى النهاية، لم يكن الذهب مشكلة بالنسبة لها، فقد سمح لهم الوزير بالرحيل بأموالهم، وما يبغون من المتاع، والزاد، لقد كان اللعين رحيما بهم رغم كل شئ ... رست المركب إلى البر عدة مرات، فكانت الأميرة ترسل فريقا من الرجال لفحص المكان، وتحديد مدى ملائمته ليكون وطنا جديدا لهم، وكان الفريق يعود خائبا في كل مرة، فأحيانا تكون الأرض مسكونة، أو جبلية لا تصلح للزراعة، أو تعج بالحيوانات الخطرة!.. في الليلة الثلاثين نادى عليها الربان وأخبرها أنهم قريبون من أرض جديدة واعدة، سيرسون بقربها في الغد، أرض بكر، تصلح للزراعة، والمقام ... ولكن العاصفة الغادرة كانت أسبق في تلك الليلة، عاصفة قوية، عنيفة، وأمواج مرتفعة كالجبال تتقاذف المركب الشراعي الضخم كأنه دمية صغيرة، تمزقت الأشرعة، وتحطمت الأعمدة، وابتلع البحر العديد من الرجال، كان المركب يأن وقد أوشك على أن ينشطر إلى شطرين من قوة ضربات الأمواج، ولكن لحسن الحظ انتهت العاصفة فجأة، كما بدأت فجأة.
بعد ساعات أرسل الربان إلى الأميرة ليخبرها، أن المركب قد انتهى تماما، وأن ماء البحر يتسرب إليه من الفجوات والثغرات دون توقف، وأن الهيكل قد صار على وشك الانهيار بعد أن فقد العديد من ألواحه ودعاماته أثناء العاصفة، وأن المركب موشك حتما على الغرق، ولا يوجد أمل في إصلاحه ... المزيد من المعاناة، والتجارب القاسية التي على الأميرة الشابة أن تخوضها مع قومها ... النقطة المضيئة الوحيدة في ذلك الأفق المظلم، الحالك السواد، هي أن البر لم يكن بعيدا من مكان غرق مركبهم، وأنهم يمكنهم مغادرة المركب بقوارب الإنقاذ، ولكن هذا يعني أن رحلتهم قد انتهت تماما، وأنهم عليهم أن يستوطنوا هذه الأرض أيا كان حالها.
هكذا وجدت الأميرة نفسها وقومها ومن بقى من البحارة يطؤون تلك الأرض، ويقيمون بها خيامهم، وينقلون إليها متاعهم وأموالهم من المركب، ويشعلون نيرانهم ويتحلقون حولها، وهم يفكرون ويتسائلون عن شئ واحد، هل سترحب بهم تلك الأرض الجديدة، وتكون لهم وطنا بديلا عن وطنهم الذي فقدوه!؟
***
-          هل تعرف عن أي أرض أتحدث؟
سألتني (نمق)، فأجبتها بسرعة:
-          إنها تلك الأرض، أرض قرية (روزواية).
أومأت (نمق) برأسها، وهي تقول:
-          للأسف، لم يكتب لتلك الأرض أن تكون وطنا لهؤلاء البؤساء، بل صارت مقبرة لتحتضن أجسادهم ورفاتهم.
كان صوت (نمق) قد صار مبحوحا، حزينا، متهدجا ... أرى الدموع تلتمع في عينيها على ضوء القمر، قلت:
-          أعرف ما حدث بعد ذلك، لقد رأيته بعيني هاتين.
نظرت لي (نمق) نظرة حزينة، مكسورة، لم تبد متفاجئة مما قلته، فأردفت:
-          لقد هاجمهم اللصوص.
قاطعتني (نمق) بحدة:
-          بل القتلة، الملاعين ... لقد قتلوا جميع الرجال، ذبحوهم ذبحا، طاردوهم في الطرق والشعاب حتى آخر واحد فيهم، جمعوا جثامينهم، ووضعوها في القوارب، وأشعلوا فيها النيران وأطلقوها إلى البحر.
شعرت بغصة في حلقي، وبرغبة في القئ، ولكنني كتمت مشاعري، وأنا أسألها بلهفة:
-          وماذا عن الأميرة!؟
لم ترد (نمق)، والتزمت الصمت، فاحترمت صمتها ... كنا نسير في طرقات القرية على غير هدى، كانت هي تتقدمني، وكنت اتبعها متحسبا ظهور أشباح المساء في أي لحظة كعادتها في الليالي الأخيرة، ولكن هذا لم يحدث لحسن الحظ، وكأنهم في عطلة الليلة ... التقطت (نمق) شهيقا طويلا، ثم زفرت، وهي تعود للحديث بنفس الصوت الحزين، المنكسر:
-          بعد مقتل جميع الرجال، وإحراق جثامينهم، وسرقة كل الأموال والمتاع، أسروا النساء والأطفال، وحبسوهم في جب تحت الأرض، كانوا اللصوص يستعملونه لتخزين مسروقاتهم في تلك الأرض، كانوا يعدونهم للبيع كسبايا أو عبيد.
-          والأميرة.
-          كانت الأميرة معهم، عندما ألقوا جميعا في الجب، وأغلق عليهم المدخل بصخرة ضخمة ... بذلت الأميرة جهدا خارقا كي تخفف عن الأطفال والنساء، وتكفكف دموعهم، وهي تعدهم بأن هناك من سيأتي لينقذهم، وهي تعلم يقينا أن هذا الوعد كاذب.
كان حزن (نمق) قد وجد طريقه إلى باطني، شعرت بالدموع تترقرق في عيني، وأنا أسألها بصوت متهدج:
-          وماذا حدث بعد ذلك؟
-          كارثة!
فاجأني الرد، فهل هناك كارثة أكبر من كل ما حدث بالفعل!؟  ولكن (نمق) أردفت موضحة:
-          كانت المسروقات قيمة للغاية، ثروة كبيرة من الذهب والفضة تزيغ عيون وقلوب الأطهار، فماذا عن اللصوص؟
-          ماذا عنهم!؟
-          أعماهم الطمع، فتقاتلوا فيما بينهم أثناء عودتهم إلى ديارهم، فقتلوا بعضهم بعضا، ولم ينج منهم إلا رجل واحد، عاد لدياره، وهو مثخن بالجراح، ورقد على فراش المرض لشهور، ومات بعد أن أخبر إبنه الوحيد بمكان الثروة.
صرخت بفزع:
-          وماذا عن الأميرة، والأطفال، والنساء المحبوسين في الجب.
قالت بصوت يحمل سخرية مريرة:
-          لم يخرجوا منه أبدا.
كنا قد وصلنا إلى الحديقة العامة، فاستندت (نمق) إلى صخرة كبيرة، ووقفت إلى جوارها وقد ارتسمت ملامح الحزن، والضيق على وجهي، وأنا أسأل بغباء:
-          هل ماتوا!؟
-          بالطبع.
-          وهل أشباحهم هي التي تهيم في القرية ليلا !؟
لم تجب (نمق)، ووجهت ناظريها إلى القمر، وبدا كأنها تستعيد بعض الذكريات، فسألتها وقد غلبني فضولي:
-          وأين ذلك الجب؟
التفتت لي وابتسمت ابتسامة واهنة، مختلجة، وهي تشير بسبابتها إلى الصخرة التي تستند عليها:
-          تحت تلك الصخرة.
صمتت للحظة، ثم أردفت:
-          أزح الصخرة، وستجدهم تحتها.
***
في صبيحة اليوم التالي، اقتدت العمال، والمعلم (منصور)، إلى الحديقة العامة، وطالبتهم بإزاحة الصخرة، فسألني الأخير بذهول:
-          تلك الصخرة موجودة في هذا المكان قبل إنشاء قرية (روزواية) بسنوات طويلة ...  يقولون أن المهندسين قرروا تشيد الحديقة العامة حولها، وتركها لتكون معلما طبيعيا يدل على بيئة المنطقة.
-          أعلم.
-          لم يفكر أحد في إزالتها يوما.
قلت بنفاذ صبر:
-          أعلم، ولكن هذا أمر من رئيس القطاع، هيا علينا أن نشرع في العمل مباشرة.
قال (منصور)، وقد أسقط في يده:
-          حسنا، ولكننا نحتاج لجلب المزيد من المعدات، وقد يستغرقنا الأمر لساعات لإزاحة تلك الصخرة العتيدة.
-          فلنبدء على الفور إذا.
كنت أفكر فيما حكته لي (نمق) بالأمس، وكيف أنها عثرت على رق مهمل في خزائن المتحف الوطني يحكي قصة الأميرة المنحوسة، رق تناقلته أجيال وأجيال، يحكي القصة على لسان آخر من شهدها، والذي رواها لإبنه قبل موته، الذي نقلها بدوره إلى أبنائه وأحفاده، حيث خطها آخرهم على ذلك الرق، وكيف أن ذلك الموضوع سيطر عليها تماما، فأصبحت مهووسة به إلى حد الجنون ... بحثت (نمق) لسنوات طويلاة عن أثر يدلها على مكان قبر الأميرة وقومها، حتى أوشكت على اليأس، ثم وقعت بين يديها مخطوطة بحرية أثرية، تصف  غرق المركب الشراعي، التجاري، الذي يدعى (قمر) قبالة هذا الساحل، ويحكي جزء من قصة الأميرة التي كان يقلها، كانت هناك علامات ودلائل، وآثار وصفية، قادتها إلى قرية (روزواية)، وهكذا وصلت إلى هنا، استمرت (نمق) في بحثها حتى نجحت في العثور على الصخرة التي تخفي مدخل الجب، الذي دفنت فيه الأميرة ومن تبقى من قومها ... طلبت (نمق) مني أن أزيح الصخرة، وأخرج الرفات والجثامين من تحتها، لكي تدفن بطريقة لائقة، طلب غريب، وخاصة أن تطلبه منك فتاة حسناء في أول موعد بينكما على ضوء القمر!.. لقد أمرني رئيس القطاع بمساعدتها، وأوفر لها كل ما تطلب، وحتى لو لم يأمرني بذلك، كنت سأفعلها، فأنا أشعر أن ذلك سيضع حدا للعنة قرية (روزواية)، تلك هي المساعدة التي كان يطلبها مني الأشباح طيلة الوقت، وأنا الآن استطيع أن اقدمها لهم!..  ذهبت (نمق) بعد أن وعدتني بأن تقابلني غدا في المساء بعد أن أزيح الصخرة، أنا مشتاق لذلك بالفعل، وأشعر أنني بدأت أحس بمشاعر خاصة تجاه تلك الفتاة الحسناء، المناضلة.
حل المساء، وكان العمال قد تمكنوا أخيرا من تحطيم الصخرة، وإزاحة ما تبقى من حطامها، قبل أن تنطلق منهم صيحات الدهشة والذهول عندما ظهرت تلك الفجوة أسفلها ... كانت فجوة ضيقة تتسع بالكاد لدخول وخروج شخص واحد، يبرز من أصلها درج يتجه نحو الأسفل، ألقيت نظرة إلى ظلمة الفجوة، ثم قلت مخاطبا (منصور):
-          أريد مصباح.
قال بصوت مذعور:
-          هل ستنزل؟
-          سننزل معا!
نظر إلى السماء، وقال بذعر أكثر:
-          ولكن موعد رحيلنا قد أزف، لقد حل المساء.
قلت وأنا أتناول المصباح من يده، وأجذبه ناحية الفجوة:
-          دقائق أخرى لن تضر.
نزلت الدرج نحو قاع الفجوة الذي يبعد ثلاثة أمتار فقط عن فوهتها، لحقني (منصور) بأقدام مرتعشة، فقادنا الدرج نحو بهو متسع ... انطلقت صرخة (منصور) عالية مدوية، بعد أن سقط ضوء المصباحين، على العشرات من الجثث المتناثرة في المكان، جثث لنساء، وأطفال لم تتحلل أجسادهم بفعل الأرض الملحية، وإن كانت جلودهم قد تيبست، وجفت تماما، وكلح لونها، وتخشبت أجسادهم، فبدت كالمومياوات الفرعونية، كان المنظر مروعا بحق، يشيب الشعر، ويعجز الأبدان، والأرواح، خاصة عندما تجد جثة أم وقد ماتت مستندة إلى الجدار، وعلى صدرها، وفخذها جثتين لأثنين من أطفالها، ماتا من الجوع، أو الاختناق، وهما يحتضنان أمهما.
بدأ (منصور) يحوقل، ويبسمل، وهو يوجه مصباحه في ذعر إلى الجثث المتكدسة، بيد مرتعشة، حاول الهرب فأمسكت بذراعه، وأنا أقول مهدئا:
-          هذا القبر هو سبب كل الأحداث التي تحدث في قرية (روزواية) ... إنهم أناس أبرياء ماتوا ودفنوا هنا بطريقة بشعة دون أن يرتكبوا ذنبا أو جريمة.
-          كيف عرفت؟
تجاهلت سؤاله، وأنا أقول:
-          لو أخرجنا تلك الجثث، ودفناها دفنا لائقا، قد تنتهي لعنة قرية (روزواية) إلى الأبد و ...
فجأة اختنق الكلام في حلقي، وأنا أحدق بعينين جاحظتين إلى تلك الجثة التي تستند إلى الجدار وتضم إليها العشرات من جثث الأطفال، الذين لاذوا بها في لحظاتهم الأخيرة، تلك الجثة التي ترتدي فستانا أبيض عليها نقشات خضراء بدت كوريقات الشجر، يتدلى من صدرها عقدا ذهبيا به حجرا زمرديا، كانت ملامح وجهها متيبسة، كالحة بفعل التربة الملحية، والزمن، لا يمكن أن تتخيل شكل صاحبتها في حياتها بالنظر إلى تلك الملامح المتغضنة، ولكنني كنت أعرف صاحبتها، فقد كانت معي بالأمس، ووعدت أن تقابلني اليوم، وقد أوفت بوعدها  ... صحت بصوت مبحوح، مختنق:
-          إنها (نمق)!
أجاب (منصور) في حيرة، وهو مازال يلهج بالأدعية:
-          من (نمق) هذه!؟
-          (نمق) باحثة الآثار، التي أوصاني بها رئيس القطاع، لقد رأيتها معي في حديقة منزلي منذ يومين، ورأيتني أيضا أتحدث إليها بالأمس في الحديقة العامة.
أشاح (منصور) بكلتا يديه، وهو يقول بفزع:
-          أنا رأيتك تتحدث مع نفسك في كلا المرتين، وحسبت أنك على وشك أن تصاب بالجنون أو المس، لهذا قصصت عليك قصة خالي الذي كان (يخاوي) الأشباح.
شعرت بالاختناق، وبأن هناك ثقلا يجثم على صدري، اندفعت نحو الدرج، وصعدت بسرعة إلى السطح، لحق بي (منصور)، وهو يصيح بفزع:
-          ماذا يحدث؟ هل أنت بخير يا باشمهندس؟
قلت بغضب، وأنا أخرج هاتفي:
-          هل تقول أنني كنت أتحدث مع شبح طيلة الوقت، شبح لا يراه أحد غيري!
كنت أبحث في جنون عن المكالمة المسجلة على هاتفي، مكالمة رئيس القطاع الذي أوصاني فيه (بنمق) ... شعرت بالغضب عندما لم أجدها، فصحت بيأس:
-          لقد حذفت.
صمت للحظة، ثم استدركت بصوت خافت:
-          أو أنها لم تكن موجودة من الأساس ... لم يكن هناك مكالمة، ولم يتصل بي رئيس القطاع ليجبرني على البقاء، ويوصيني (بنمق) ... لقد كان كل ذلك أوهاما في عقلي.
لم يكن (منصور) يفهم شيئا عما أقوله، ولكنه قال بلهجة متعاطفة، وهو يربت على كتفي:
-          ألم أقل لك أن الأشباح مخادعة يا باشمهندس.
نظرت في وجهه للحظات، ثم ابتسمت بحزن وأنا أشير بسبابتي إلى الفجوة، قائلا:
-          غطوا الفجوة بألواح خشبية، وأنا سأبلغ السلطات حتى يخرجوا تلك الجثث ويدفنوها دفنا لائقا.
صمت لحظة ثم أردفت بلهجة مريرة:
-          جثث القوم الذين هاجروا إلى الشمال وأميرتهم ... الأميرة (نمق) التي وجدت ما كانت تبحث عنه أخيرا!
.. (تمت) ..