الثلاثاء، 16 مايو 2017

رعب الامتحانات

قصة رعب قصيرة بعنوان ... (رعب الامتحانات!)
صوت رنين مزعج، لحوح، يحاول إيقاظي من النوم ... لا، لن استسلم واستيقظ بتلك السهولة، غطيت رأسي بالوسادة ولكن الصوت ظل يدق على طبلتي أذني بقوة، محاولا الوصول لخلايا عقلي وتنبيهها، ألقيت بالوسادة نحو مصدر الصوت، وطوحت بيدي وكلتا قدمي في ضربات طائشة لم تصب جميعها الهدف ... ذلك المزعج يصر على الصراخ بذلك الصوت الميكانيكي، ويهتز بعنف على السطح الخشبي للكومود فتصدر قوائمه صوتا يشبه خطوات راقص إيقاعي يرتدي في قدميه قبقاب من خشب الجوز القاسي ... أخيرا، فشلت كل محاولاتي في تجاهل ذلك الصوت اللعين، فاستيقظت، ونهضت معتدلا في فراشي بعنف، وأنا أصرخ:
-         أخرس ... أيها المأفون!
أمسكت بذلك المنبه الثقيل، المصنوع من البلاستيك المقوى مع قاعدة معدنية، وألقيته بقوة نحو الأرض ليرتطم بها، ويرتد لأعلى، قبل أن يعود ليستقر على الأرض بفعل الجاذبية، دون أن تتسب له تلك السقطة في خدش واحد! قبل أن يتعالى رنينه بقوة أكثر ودون انقطاع، احتجت لدقائق حتى تمكنت من إيقاف ذلك السمج عن النحيب، واتتني خاطرة بأن أعود إلى النوم مرة أخرى، قبل أن أتذكر الحقيقة المرعبة، فاليوم هو امتحان آخر العام، نظرت لعقارب الساعة بذعر، لقد استغرقتني مغامرة الاستيقاظ تلك فترة طويلة، لقد مرت عشر دقائق بالفعل من وقت الامتحان ... لقد ضعت!
ارتديت نصف ثيابي بسرعة البرق، وأكملت النصف الآخر على الدرج، وارتديت حذائي والجورب في (التوكتوك) الذي أوصلني إلى الطريق العام ... لا لن انتظر الحافلة كالعادة، سأوقف أول سيارة أجرة تمر من هنا، وليكن ما يكون، المهم أن ألحق بالامتحان قبل انقضاء اللجنة، والأهم من ذلك أن يسمح لي الوقت المتبقي من الامتحان بكتابة القليل مما أحمله في ذاكرتي عن مادة (الكيمياء)، ويكون هذا كافيا بمعجزة ما للنجاح ... وصلت للجامعة، فألقيت للسائق بكل ما في جيبي من نقود، دون أن انتظر تعقيبه، انطلقت أعدو كالملسوع نحو مدخل الجامعة، ومنه إلى أروقة الحرم الجامعي الخالي تماما من الطلاب، حتى وصلت إلى كليتي وإلى اللجنة التي سأمتحن فيها ... كنت ألهث بجنون، وأنا أحاول السيطرة على ذلك الألم في صدري ورئتي بسبب الجري والتوتر ... نظرت في ساعة يدي، سحقا، لم يتبق إلا نصف ساعة فقط على نهاية الامتحان ... اقتحمت اللجنة، وسط اعتراض رجل الأمن والمراقب، وجلست على مقعدي بسماجة وطلبت ورقتي الأسئلة والإجابة، فأعطاهما لي المراقب في ازدراء، تنهدت بارتياح، وفتحت ورقة الإجابة وكتبت اسمي ورقم جلوسي بها، ثم انتقلت لقراءة الأسئلة، عجبا، تلك الأسئلة لا تمت بصلة لمادة (الكيمياء) من قريب أو بعيد، نظرت إلى أعلى الورقة، فأصبت بالذعر الشديد، وشعرت بعيني تزوغان، وبأني موشك على أن أقئ ما في جوفي، وأنا أقرأ العنوان (الامتحان النهائي – مادة اللغة العربية)، اللعنة، لقد ذاكرات (الكيمياء) طوال الأسبوع، والآن اكتشف أن امتحان اليوم في (اللغة العربية)، أنا طالب في الصف الثالث بكلية العلوم، لماذا يمتحنني هؤلاء الملاعين في (اللغة العربية)!؟ مرة أخرى ألقيت نظرة زائغة على ساعتي، خمسة وعشرون دقيقة فقط متبقية، على الآن أن اتصرف وبسرعة، لا يوجد وقت لأضيعة في التباكي، سأحاول أن اخترع في سؤال النصوص، وأعجن في سؤال النحو والقراءة، وأريهم ملكاتي الإبداعية اللوزعية في التعبير والبلاغة!.. وقبل أن أسطر سطرا واحدا في ورقة الإجابة، امتدت يد المراقب لتخطف الورقة، وهو يخبرني بغلظة:
-         الوقت انتهى!
أخذت أصرخ بغضب وهستيريا، وألعن المراقب، والامتحان، والكلية، والعاملين بها، والسائرين على الكورنيش المقابل لبوابتها، وتعالى صوت صراخي، أكثر وأكثر، حتى وجدت نفسي استيقظ من النوم دفعة واحدة مع شهقة طويلة، متحشرجة، استغرقني الأمر بضعة لحظات حتى أدركت أن هذا كله كان حلما، بل كابوسا مرعبا، الآن أتذكر أن امتحان آخر العام ليس اليوم، إنما هو الأسبوع القادم، كما أنني لا أدرس (اللغة العربية) في كلية العلوم بالتأكيد!.. ما هذا الكابوس الحقير الذي يضربك تحت الحزام! أين الأشباح، والعفاريت، ومصاصوا الدماء وهذه الأشياء اللطيفة التي تحمل رعبا منطقيا يمكن تحمله، وليس رعبا مدمرا، ساحقا للأعصاب، كرعب الامتحانات الرهيب ... تلفت حولي بعفوية، فلمحت كتبي الدراسية متراصة على المكتب والأرفف بحالتها الأصلية، جديدة، لامعة، نقية، لم تمسسها يد بشر، لقد مر العام سريعا ولم أذاكر حرفا واحدا، ولا أعرف حتى أسماء المواد التي علي استذكارها قبل الامتحان، وهناك أسبوع واحد يفصلني عن الامتحان، وهذا له معنا واحد؛ وهو أنه مازال لدي الكثير من الوقت حتى أقلق بخصوص الامتحانات، لنستمتع ببضعة أيام أخرى ولنفكر في الامتحانات لاحقا.
***
مر الأسبوع سريعا، لا أعرف لماذا تمر الأيام الحلوة بهذه السرعة، اليوم قبض علي والدي وأنا أتسلل إلى خارج المنزل، فسألني عن موعد الامتحان، فأخبرته أنه بعد يومين، متوقعا تفهمه أن يومين فترة طويلة وكافية، ولكنه أخذ يصرخ، ويسب، ويتوعد، ويهددني أنه في حالة تكرار الرسوب كالعام الماضي فأنه سيعدمني بطريقة اللورد فلاد (المخوزق)، لقد أصبح خيال الآباء متطرفا للغاية في هذا الأيام، هذا ما فعله الإعلام ووسائل الميديا بعقولهم ... هكذا وجدت نفسي في غرفتي محاصرا بكتب ومواد دراسية لا يوجد بيني وبينها تآلفا ولا سابق معرفة ... اتصلت بصديقي (علاء) رفيق الكفاح، أدعوه كي يشاركني ويخفف عني هذا العذاب ، وكما توقعت لم يتأخر (علاء) صديقي الجدع في الحضور، وبالفعل شرعنا في المذاكرة على الفور بعد أن تناولنا صندوق كامل من العصائر والمرطبات، ومعه درزينة من الشطائر أعدتها أمي المسكينة التي لم ينقطع أملها في حتى الآن، وتباحثنا في أخبار الحياة، والصرعات، والصراعات، ودوري كرة القدم، والسلة، وكرة الطائرة، والسباحة الإيقاعية للنساء!.. كانت عشر دقائق فقط من المذاكرة كافية لاكتشاف الحقيقة المؤلمة، وهي أننا سنرسب حتما هذا العام، وبأننا لن يمكننا استذكار واحدا على الألف من هذا المنهج المعقد في يومين فقط، سألني (علاء) بأحباط:
-         ماذا سنفعل الآن؟
-         البراشيم.
تغضنت ملامح وجهه وهو يقول ممتعضا:
-         أتعرف من رئيس اللجنة هذا العام؟
-         لا.
-         إنه دكتور (عبد الجواد).
-         وماذا يعني هذا؟
-         في العام الماضي فقط، أوقف الدكتور (عبد الجواد) عشرين طالبا وألغى امتحاناتهم جميعا، وأنهى عامهم الدراسي بمحضر غش لكل واحد فيهم بسبب البراشيم.
فكرت للحظة ثم قلت مشجعا:
-         سنستخدم وسائل جديدة، سماعات (بلوتوث)، هواتف محمولة، (ووكي توكي)، بنادق ليزر فضائية ... المهم أننا سنجد طريقة للغش في النهاية.
أشاح (علاء) بيده وهو يقول:
-         كل هذا لن ينجح مع دكتور (عبد الجواد)، أنه يختار المراقبين بنفسه، ويختارهم من المعقدين أمثاله، ويظل يعدو بين اللجان كالحيوان الضاري، ولا يهدء حتى تسقط الفريسة بين براثنه.
توقف لحظة ثم أردف:
-         الجميع يعرفون أنه لا يمكن الغش في لجان الدكتور (عبد الجواد).
-         أنا عندي الحل، أخبرني به جاري الفاشل، جربه بنفسه العام الفائت ونجح بتقدير.
***
همس (علاء) في أذني، وهو ينظر إلى ذلك الرجل الذي يجلس أمامنا في حلة فخمة، وشعره مصفف بعناية، يرتدي نظارة أنيقة وحذاء ماركة عالمية:
-         لقد تغير الدجالون كثيرا.
-         صه.
أخرسته قبل أن يسمع الرجل ما يقوله، ويطردنا من مكتبه ... كانت تلك هي خطتي لعبور الامتحانات الصعبة، فمنذ فترة أخبرني جار لي يدرس في كلية أخرى عن ذلك الرجل الذي يستطيع أن يقرن بك شيطانا، اسمه الهامس، يستطيع أن يهمس في أذنك بإجابات أي أسئلة تخطر على بالك، حتى أسئلة الامتحانات الصعبة ... سألنا الرجل:
-         هل تدركان حقا ما تطلبانه؟
أجبت بسرعة:
-         أجل.
وأجاب (علاء):
-         لا.
نهض الرجل من خلف مكتبه الأنيق، والتقط بعض حبات البخور، وألقاها في مبخرة مشتعلة في ركن من الغرفة، فانبعث منها دخانا له رائحة عطرية، طيبة، قبل أن يقول:
-         الموضوع به مخاطرة ... فهل أنتما مستعدان لذلك؟
أجبت بسرعة:
-         أجل.
وأجاب (علاء):
-         لا.
اقترب الرجل مني وحدق في عيني بنظرات اخترقت باطني، وهو يقول:
-         إذا أنت ستفعلها وحدك.
كان الموضوع مخيفا، وهذا الرجل يمتلك حضورا قويا، طاغيا، ولكنني فكرت في فلاد (المخوزق)، وتهديد أبي لي، وفي جاري الذي أخبرني بأن الموضوع نجح معه وحصل بالفعل على تقدير امتياز بعد سنوات الرسوب الطويلة، فأجبته بصوت متلجلج:
-         سأفعل.
أخذ الرجل يسير في الغرفة جيئة وذهابا، وهو عاقد كفيه خلف ظهره، ثم سألني فجأة:
-         هل تعلم من أين جائت كلمة (عبقري)؟
-         لا.
-         الكلمة مشتقة من وادي (عبقر)، وهو واد سحيق (بنجد)، يقال أن الجان والشياطين يجتمعون فيه ...  البعض يعتقد أن العبقرية والإلهام الذي يتمتع بهما بعض البشر، ليست إلا همسات الشياطين في آذانهم.
شعرت بتوتر (علاء) بجانبي بعد أن أتى ذكر الجان والشياطين في الحديث، وسرعان ما وجدته ينهض معتذرا بالذهاب لدورة المياة، وهو يلكزني في ذراعي قبل أن يذهب، أعرف أنه لن يعود أبدا هذا النذل!.. لم يهتم الرجل بذهاب (علاء) فقد كان مركزا معي، وهو يستطرد بلهجة مسرحية:
-         لا يوجد عقل أذكى من عقل ولا ذاكرة أقوى من ذاكرة، الفارق الوحيد في أن هناك عقول تستقبل تلك الهمسات، وتحتمل وجود أصحابها، وهناك عقول تعجز عن ذلك.
أومأت برأسي مدعيا الفهم، فابتسم الرجل ابتسامة شيطانية، وهو يكمل حديثه:
-         أنا استطعت أن أجد في أمهات كتب السحر الطريقة التي تقرن الشيطان الهامس بالعقول، أنا استطيع صناعة العباقرة والمفكرين.
تنحنحت بحرج وأنا اقول:
-         أنا لا أريد أن أصبح مفكرا ولا عبقريا، كل ما أريده هو تجاوز امتحان نهاية العام بنجاح حتى لا يقتلني أبي.
-         وهذا أيضا استطيع فعله.
توقف الرجل للحظة، ثم قال بصوت (أوبرالي) مجسم:
-         ولكن هناك شرطا واحدا.
-         ما هو!؟
اتسعت عيناه، وتبدلت ملامحه وظهر عليها آثار الجنون، وهو يقول بحدة:
-         عندما تنتهي مهمة الشيطان الهامس، عليك أن تأتي هنا دون تأخير كي أنزعه من عقلك، وإلا ...
شعرت برعدة في جسدي، وأنا أسأله:
-         وإلا ماذا!؟
-         وإلا سيطيب له البقاء داخل عقلك، ولن يمكنك انتزاعه منه أبدا.
قلت بصوت مرتعد:
-         وماذا سيحدث بعدها؟
-         لن يحتمل عقلك بقاءه كثيرا، وإما ستجن أو ستنتحر.
حدق في عيني طويلا، ثم أردف:
-         ألا تقرأ في كتب التاريخ، لقد كانت تلك هي نهاية معظم العباقرة والملهمين.
***
في الليلة التالية، ليلة الامتحان، وبعد بضعة محاولات يائسة للاستذكار، تخللها فاصل من السخرية قام به (علاء) في حقي، لانخداعي بذلك الساحر النصاب الذي أفرغ جيوبي مما كان فيها ... أخيرا تمددت على فراشي، كنت استرجع تلك الطقوس المرعبة التي أخضعني لها ذلك الساحر، وكان (علاء) قد غاب في النوم على الأريكة المقابلة، كنت أسأل نفسي، ترى هل خدعني ذلك الساحر بحق؟ أم أن طريقته تلك ستنجح:
-         أجل ستنجح.
قالها (علاء) بصوت غليظ، بارد، لا يشبه صوته أبدا، فناديت عليه:
-         ماذا تقول؟
لم يرد علي، فاعتدلت في فراشي لأراه نائما يشخر كالبعير، فتساءلت، هل يتكلم (علاء) وهو نائم، فجاءني ذلك الصوت البارد، الغليظ من جديد:
-         ليس هو ... هذا أنا.
انتفضت عن الفراش كأن صاعقة كهربية أصابتني:
-         من أنت!؟
-         أنا قرينك الهامس.
كانت الصدمة قوية بحق، إذا فقد نجحت طريقة الساحر، وها هو الشيطان الهامس يهمس في أذني، أشعر الآن بالرعب الشديد، مختلطا بالكثير من الندم، وكأني أقدمت على هذا الأمر وأنا أتمنى ألا ينجح، تهاويت على الفراش، وأنا أفكر، أنني أحمق لإقدامي على هذا الفعل المتهور، فجائتني إجابة الهامس:
-         بالفعل، هذه حماقة منك.
أدركت الآن، أن أي فكرة أو تساؤل يخطران على عقلي، فسيجيب عنهما الهامس مباشرة داخل عقلي:
-         أجل هذا هو ما أفعله.
-         اللعنة ... ألا يمكنك أن تصمت قليلا.
-         لا.
حاولت أن أسيطر على عقلي وامتنع عن التفكير في أي شئ، ولكن رغما عني كانت الأفكار تتوارد إلى عقلي، وكان هذا الهامس اللعين يهمس في أذني برأيه في كل فكرة تصل إليه ... تمددت على الفراش محاولا النوم، ولكن ذلك كان بالطبع ضربا من المستحيلات، مع وجود ذلك القرين الهامس داخل جمجمتي ...
***
أيقظت (علاء) في الصباح للذهاب إلى الامتحان، فطلب مني أن أتركه ينام قليلا، وأن أوقظه بعدما أعود من الامتحان، فركلته في مؤخرته ركله جعلته يستيقظ، ويرتدي ثيابه في أقل من دقيقة ... أشعر بالصداع، ذلك الهامس يتحدث دون انقطاع داخل عقلي من الأمس، ولا أعرف لماذا أسموه الهامس، فصوته ليس خافتا ولا منخفضا، بل أنه يتعالى مع الوقت:
-         يسموني الهامس لأنني أتكلم من داخل عقلك.
صحت بصوت عالي، بطريقة أفزعت (علاء):
-         ألا يمكن أن تخفض صوتك قليلا، أكاد أجن.
أجاب الشيطان الهامس:
-         لا.
وأجاب (علاء) المذعور بسبب صياحي:
-         ولكنني لم أتحدث من الأساس!
وصلنا إلى لجنة الامتحان فاستقبلنا الدكتور (عبد الجواد) على بابها بابتسامته الثعبانية المقيتة، فابتسمت له بدوري، ولسان حالي يقول (سأغش رغما عنك، لن تستطيع منعي أبدا!).
-         بالفعل لن يستطيع!
كان هذا هو صوت الشيطان الهامس الذي تحولت همساته الآن إلى صياح داخل عقلي ... بدأ الامتحان، وبالفعل نجحت الفكرة فقد كان لدى ذلك الشيطان إجابة تامة عن كل سؤال، أنهيت ورقة الإجابة حتى آخر صفحة فيها، وطلبت ورقة إضافية، وسط ذهول زملائي، من تلك العبقرية التي حلت علي فجأة ... عندما انتهيت من الإجابة، وسلمت ورقتي الإجابة للمراقب، اندفعت إلى خارج اللجنة فقد كنت اشعر بصداع هائل في رأسي، كان صوت الشيطان عاليا وغير محتملا، وكأنه يتحدث في مكبر صوت مثبت داخل ثنايا عقلي، أشعر أن مخي سينفجر بعد لحظات إذا استمر صوته في التعالي بتلك الطريقة.
قررت التوجه مباشرة إلى مكتب ذلك الساحر، كان الاتفاق أن أزوره في المساء، ولكنني لن استطع التحمل حتى المساء، سيكون عليه طبقا لاتفاقنا أن يخرج ذلك الشيطان من رأسي، حتى موعد الامتحان المقبل بعد أسبوع ... عندما وصلت، كان المكتب مغلقا، أخذت أرن الجرس، وأطرق الباب بقوة دون أن يفتح الباب:
-         هو ليس هنا.
تجاهلت تعليق الهامس، وواصلت دق الباب بباطن قبضتي موشكا على تحطيمه، فجأة ظهر ذلك البواب القروي، الأسمر، الناحل وهو يقول بنظرة حزينة:
-         (البيه) ليس هنا!
توجهت إليه مستجديا، وأنا أسأله:
-         ومتى سيرجع؟
-         لن يرجع؟
-         إذا، أين يمكنني أن أجده ... أرجوك؟
-         في القبر ... لقد مات (البيه) بالأمس بسبب أزمة قلبية.
جاءني صوت ذلك الشيطان من داخل عقلي متشفيا:
-         ألم أقل لك.
كانت المفاجأة رهيبة، والصدمة كافية لجعلي أسقط مغشيا علي، ماذا سأفعل الآن؟ توجهت إلى خارج البناية بأقدام مرتعشة، تلاحقني تعليقات الهامس، مختلطة بصوت البواب وهو يقول:
-         لقد كانت صحته جيدة، سبحان الله لكل إنسان ساعة.
***
مرت ثلاثة أيام، ساءت فيها حالتي كثيرا، أنا الآن مقيد إلى فراشي بحبال غليظة وهناك كمامة على فمي، بعد أن صارت صرخاتي الهستيرية، المولولة لا تتوقف أبدا، كنت أحاول بتلك الصرخات إخماد صوت ذلك الشيطان الذي يزلزل أركان عقلي ... كدت أخنق صديقي (علاء) عندما حاول الإطمئنان على حالي، ودمرت غرفتي، وحطمت ما بها من الأثاث، وألقيت الركام من النافذة، الأسوء، عندما فقدت السيطرة على نفسي تماما، وأنا التقط سكينا حادا منتويا أن أوقف هذا العذاب بأن أذبح نفسي بالسكين، لولا تعلق أمي وأبي بذراعي وتدخل الجيران، وذلك الطبيب الذي أعطاني حقنة مخدرة ... قاموا بعدها بتقييدي إلى الفراش كالذبيحة، ونصح الطبيب أبي بنقلي إلى مستشفى الأمراض العقلية، حيث يمكن هناك متابعتي، ومنعي من إيذاء نفسي أو الآخريين... أشعر أن جهازي العصبي والنفسي احترقا تماما، وصرت على بعد خطوة من الهاوية، كل ذلك بسبب الامتحان اللعين، هذا الشيطان المريد لا يريد أن يتوقف عن الصياح في عقلي ولو للحظة واحدة، لو خلوا عن ذراعي لثانية واحدة لحطمت رأسي، وداخله ذلك الشيطان اللعين.
صرخت فيه في يأس:
-         ألا يوجد وسيلة للتخلص منك أيها اللعين!؟
-         بالطبع يوجد.
تجمدت من الذهول لثوان، ثم سألته بعصبية:
-         ولماذا لم تخبرني من قبل؟
-         لأنك لم تسأل!
-         وما هي تلك الطريقة!؟
-         بضعة كلمات ستنطق بها، عندها يصبح باب عقلك مفتوحا.
-         ما هي تلك الكلمات!؟
أملاني الشيطان الكلمات، فنطقت بها، فساد الصمت داخل عقلي مباشرة ... انتظرت عدة دقائق مترقبا أن يبدء ذلك اللعين في الحديث مجددا، ولكن هذا لم يحدث، تمتمت بحذر:
-         أيها الهامس هل أنت هنا؟
لم أتلق ردا، فصرخت بفرح ونشوة، وأنا أقول:
-         أخيرا، لقد تحررت!.
فجأة قاطع تلك الفرحة صوت ذلك الشيطان وهو يقول:
-         عذرا فاتني سؤالك الأخير ... لقد ذهبت في مهمة وعدت منها سريعا، عفوا ماذا كنت تقول؟
أخذت أصرخ بهستيرية، وأنا أقول:
-         ولكنني نطقت الكلمات.
-         أجل لقد فعلت، وهذا فتح باب عقلك.
-         إذا لماذا أنت لا زلت فيه!؟
-         لآن باب الخروج، يصلح أيضا للدخول ... أفكر أن أبقى هنا لفترة أخرى، فالمكان جيد.
صرخت بجنون، وأنا أسب وألعن ذلك الشيطان، فجائني صوت صخب هائل من داخل عقلي، وكأن هناك سوقا قد نصب فيه، تخلل ذلك الصخب صوت الشيطان وهو يقول:
-         لقد شعرت بالوحدة فذهبت لأجلب زوجاتي، وأبنائي ... وجميعهم هنا معي الآن ... هيا رحب بهم!
***
كتبت آخر سطر في ورقة الإجابة، ثم تراجعت إلى الخلف، لقد إمتلأت الورقة عن آخرها، ناديت على المراقب، فجاء ومعه رئيس اللجنة في بزاتهم البيضاء، سألني الأخير، وهو ينظر بذهول إلى كل تلك الإجابات المكتملة والبارعة التي ملأت بها ورقتي، وقال:
-         هل كتبت كل هذا وحدك؟
أجبت بسرعة:
-         أجل، أقسم لك، ودون ان أغش كلمة واحدة!
هز رأسه في عدم اقتناع وهو يقول:
-         وماذا عن الشيطان الهامس!؟ ألم يمل عليك الإجابات كالعادة؟
صحت بغضب:
-         لا ... لقد رحل اللعين منذ فترة، هذه الإجابات من بنات عقلي فقط.
-         حسنا، أنا اصدقك.
أشار رئيس اللجنة، إلى المراقب، الذي اقترب مني، وفتح فمي ودس فيه كبسولتين من الدواء، ثم ناولني كوب ماء من البلاستك، فجرعت ما فيه ... اقترب رئيس اللجنة والتقط أقلام الشمع التي كنت أكتب بها إجاباتي، وهو يقول:
-         لقد تحسنت حالتك كثيرا، في المرة القادمة قد أسمح لك بورق وأقلام حقيقية.
ثم أشار إلى جدارن الغرفة التي أمتلأت عن آخرها بكلمات خطت بأقلام الشمع، وهو يقول:
-         فالجدران لم يعد بها مكانا للمزيد من الإجابات.
ساعدني الممرض على التمدد في فراشي!.. لا أفهم هل هو الممرض أم المراقب؟.. وهذا الرجل الذي معه هل هو الطبيب أم رئيس اللجنة؟ لقد اختل عقلي تماما وأصبحت أخلط الأمور مؤخرا، الشئ الإيجابي الوحيد هو أنه منذ بدأ عقلي يخلط الأمور بتلك الطريقة، صمت هذا الهامس أخيرا، وأشعر يقينا أنه رحل عنه إلى الأبد ... وضعت رأسي على الوسادة، وأغمضت عيني، وسمعت الطبيب وهو يغادر الغرفة قائلا:
-         حاول أن ترتاح الآن، ولا توتر أعصابك بالتفكير في الامتحانات، فرعب الامتحانات قد ولى أخيرا يا صديقي!  
.. (تمت) ..


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق