الثلاثاء، 2 مايو 2017

قرية الذئاب


قصة رعب بعنوان ... (قرية الذئاب – الجزء الأول)
طلب مني سائق الحافلة (الميني باص) النزول بعد وصولنا إلى نهاية الخط ... كنت أنا الراكب الأخير في الحافلة التي كانت مكتظة عن آخرها بالركاب طوال الطريق، ولكنهم جميعا نزلوا في محطات سابقة ولم يتبق إلا أنا والسائق عند نهاية الخط ... نظرت من النافذة إلى محطة البنزين والاستراحة القائمتين في تلك المنطقة الصحراوية المنعزلة، قبل أن أسأل السائق في دهشة:
-          هل هذه هي قرية (كوم الأبيض)!؟
فأطلق ضحكة ساخرة، وهو يقول متهكما:
-          هذه هي آخر أرض البشر.
ثم أردف بجدية:
-          عليك أن تنزل هنا، وتبحث عن وسيلة تقلك إلى هناك ... فالطريق جبلي وعر ولا يصلح لسير السيارات.
توقف للحظة ثم أضاف:
-          كما أن أهل قرية (كوم الأبيض) لا يرحبون بالغرباء.
لا أعرف لماذا اعتراني ذلك الخوف المبهم بعد أن ترجلت من الحافلة، ورحل بها السائق مثيرا عاصفة كبيرة من الغبار خلفه، أتساءل في حيرة وأنا لا أجد أثرا لأي إنسان حولي، ترى هل سيسعفني الحظ وأجد وسيلة تقلني إلى وجهتي!؟ أم سأضطر للمبيت هنا في هذا المكان المجهول!؟
-          السلام عليكم ... كيف يمكنني مساعدتك يابني؟
انتبهت إلى ذلك العجوز الذي يجلس على كرسي خشبي تحت مظلة حائلة من القماش أمام الاستراحة العتيقة، المتهالكة، التي يبدو أنها شيدت منذ دهر، وفعل بها الزمن فعلته، فلم يبق بها ما يدل على حالها، سوى هاتين الكلمتين المكتوبتين على لوحة معلقة فوقها بخط يد سئ (استراحة المحطة) ... جرجرت حقيبة سفري، وتوجهت إلى ذلك الرجل، الذي نهض من كرسيه واقترب مني بخطوات عرجاء وهو يكرر سؤاله:
-          كيف يمكنني مساعدتك؟
أجبته بصوت قلق:
-          أنا الطبيب الجديد المكلف بالعمل في الوحدة الصحية بقرية (كوم الأبيض) ...  وأبحث عن وسيلة لتقلني إلى هناك.
نظر الرجل إلى السماء، والشمس التي جاوزت كبدها وبدأت في التوجه نحو المغيب، قبل أن يقول:
-          هل يعلمون في القرية موعد وصولك؟
-          للأسف لا ... كان المفترض أن أبدء العمل من الأسبوع السابق، ولكن هناك ظروف حالت دون ذلك.
فكر الرجل لبرهة، ثم أشار بيده ناحية الاستراحة، وهو يحمل الحقيبة عني، ويقدمني إليها، وهو يقول مرحبا:
-          ما زال هناك وقت ... تعال معي، لتستريح داخل الاستراحة، وسأحضر لك كوبا من الشاي، وسأتصل بالقرية حتى يرسلوا من يقلك.
لم أفهم ما يقصده العجوز الأعرج النشيط، بقوله؛ مازال هناك وقت! ولكنني سرت خلفه، محاولا اللحاق به ... كانت الاستراحة من الداخل أسوء من الخارج، طاولتين من البلاستيك يحيط بهم عدة مقاعد من نفس الخامة، واجهه زجاجية متسخة خلفها بعض علب البسكويت والمناديل صنعت قبل أيام الملك، غلاية وبعض الأكواب المتسخة ... أسرع الرجل بتشغيل مروحة السقف التي هدرت بصوت عال، كأنها توشك أن تهجم علينا، قبل أن يدعوني للجلوس، وهو يخرج هاتف محمول عتيق، ويتجه إلى ركن من المكان، ويتصل بالقرية ... كان الرجل يتحدث بانفعال، لم أسمع ما يقوله بالضبط، ولكن يبدو أن محدثه لم يكن متفهما، واحتاج هو لجهد كبير لإقناعه ... دقائق وأنهى المكالمة، وعاد إلي وقد اتسعت سريرته، وهو يقول:
-          نصف ساعة وسيصل أحدهم ليقلك، لا تقلق الأمور على ما يرام.
ثم أردف وهو يشير بسبابته إلى صدره:
-          أنا عمك (عفيفي)، عجوز المحطة، أو كما يسميها أهل المنطقة آخر الأرض ... ما اسمك أنت يابني؟
-          أنا (فادي) طبيب شاب، ولا أملك واسطة، وهكذا وجدت نفسي مكلفا بالعمل على مسافة خمسمائة ميل بعيدا عن أهلي وقريتي.
أطلق الرجل ضحكة لطيفة أبرزت فكه الخالي تقريبا من الأسنان، وهو يضع حبات الشاي والسكر في الكوب ويصب عليه الماء من الغلاية، ويناوله لي، وهو يقول:
-          أنت ما زلت شابا يافعا ... يمكنك أن تتحمل القليل من (المرمطة) في هذا العمر، عندما ستكبر ستتحول هذا الأيام إلى ذكريات، وخبرات جميلة تحكيها لأولادك.
رشفت رشفة من كوب الشاي بحذر، فأعجبني مذاقه، فشكرت الرجل بإيماءة من رأسي ... لقد استطاع ذلك العجوز الطيب أن يزيح الحواجز بيني وبينه في لحظات، فوجدت نفسي أتبادل معه حديثا وديا دون تكليف في شتى الموضوعات المختلفة، وأعجبني أن هذا الرجل كان ذكيا، لماحا، ويحمل خبرة السنين ... بعد نصف ساعة بالضبط، قاطع حديثنا ذلك الصوت القادم من خارج الاستراحة:
-          عم (عفيفي) ... عم (عفيفي).
خرجنا بسرعة، لنرى ذلك ذلك الرجل الضخم الغليظ الملامح في الملابس البلدية، يجلس على حمار أبيض عملاق، ويجر خلف حمارا آخر رمادي اللون، أصغر من صاحبه ... التفت لي عم (عفيفي)، وهو يقول:
-          هذا هو (عبد الباسط) ...سيقلك إلى القرية.
قلت بدهشة:
-          على الحمار.
ابتسم وهو يقول:
-          أجل ... ألم أقل لك أنك ستعيش هنا ذكريات وخبرات جديدة، تحكي عنها لأولادك في الكبر
***
كان الطريق إلى الجبل، جبليا، وعرا، وصاعدا بزاوية حادة ... حمل (عبد الباسط) حقيبتي أمامه على حماره العملاق، وساعدني على امتطاء الحمار الآخر الذي كان يجره بعقال في يده ... في الطريق كانت تقابلنا بعض الصخور والعقبات فكان (عبد الباسط) يدفع الحمير أو يحملها حملا من فوق تلك العقبات، ثم يساعدني على العبور حتى نستطيع استكمال الطريق ... كنت أعرف أن هذه المنطقة بيئتها جبلية، وعرة، هذا ما أخبرني به (جوجل) على خريطته، ولكنني كنت أظنه يمازحني، أو يحاول السخرية من حظي العاثر، وبؤس وساطتي ... حاولت تبادل أطراف الحديث مع (عبد الباسط)، ولكن ردوده كانت مقتضبة، قصيرة، لا تشجع على الاستمرار في الحديث ... كان متوترا، ولاحظت أنه يتابع بعينيه قرص شمس الذي اقترب من المغيب في قلق حقيقي.
بعد قليل بدأ الطريق يتوجه نزولا، وظهرت القرية الرابضة في بطن الجبل، بمنازلها القديمة والمصنوعة في معظمها من الصخور الجبلية، والطوب (اللبني)، في ناحية الشرق منها مساحات كبيرة مزروعة، تنتهي بغابة من الأشجار العملاقة، أما من باقي الجهات فيحيط بها الجبل و تلاله الصخرية إحاطة السوار بالمعصم، لفت انتباهي ذلك البناء ذو الواجهة المحفورة في صدر الجبل، كانت الواجهة عبارة عن عمودين كبيرين بينهما سقف على شكل نصف دائرة، اسفله باب خشبي ضخم، بدا لي البناء كمعبد أو دير مشقوق شقا في صخور الجبل، يذكرني بمدخل مدينة (البتراء) الأردنية الأثرية، الشهيرة ، وإن كان هذا البناء أصغر بكثير، أشرت نحوه بسبابتي، وأنا أسأل (عبد الباسط):
-          ما هذا؟
-          الشونة.
لم أفهم ما يقصده، ومن الطريقة العصبية التي رد بها لم أحاول أن أسأله أكثر ... كان الطريق قد صار ممهدا، حث (عبد الباسط) الحمير على إسراع الخطا، حتى صرنا في قلب القرية، التي لاحظت أنها خالية تماما من البشر في هذا الوقت، أطلق (عبد الباسط) صيحة آمرة:
-          هسسسسس.
فتوقفت الحمير أمام الوحدة الصحية، التي أحبطني مرآها للغاية، بمبناها الصغير، العتيق، ذو الطابق الواحد، الذي بدا مهملا ويفتقر كثيرا إلى النظافة من الخارج ... توجه (عبد الباسط) بالحديث لي لأول مرة في هذا اليوم قائلا
-          هذه هي الوحدة الصحية، وفيها السكن الخاص بك.
 قادني (عبد الباسط) وهو يحمل حقيبة سفري إلى الوحدة، بعد أن فتح بابها بمفتاح غليظ، فأصدر الباب صريرا عاليا، مزعجا، وهو يدفعه، من الواضح أن هذا المكان لم يفتح منذ فترة طويلة، كما هو واضح أيضا من جوه المكتوم في الداخل ... أضاء (عبد الباسط) المصباح فوجدت نفسي في صالة ضيقة بها بعض المقاعد الموزعة عشوائيا، أشار بيده وهو يتحدث بكلمات سريعة متعجلة، موضحا لي طبيعة المكان، قائلا:
-          هذه هي صالة استقبال المرضى، وهذا هو المطبخ، وهذا الحمام، وهناك حمام آخر مرفق بغرفة نومك.
أشار إلى الباب الأبيض المعلق فوقه لوحة مكتوب عليها (غرفة الكشف)، وهو يقول بفطنة وذكاء:
-          وهذه هي غرفة الكشف.
أشار نحو الباب الأخضر في نهاية الرواق وقال بصوت خشن، وبلهجة فظة:
-          هذه هي غرفة نومك ... لا تغادرها أبدا بعد غروب الشمس.
قلت مستظرفا محاولا كسر الجليد بيني وبينه:
-          ماذا سيحدث لو فعلت، هل لديكم جان وعفاريت يمرحون ليلا في قريتكم؟
-          لا.
-          إذا هي النداهة؟
-          لا.
-          مطاريد الجبل؟
-          لا.
-          ماذا إذا؟
قال بلهجة غامضة، مرعبة، بعثت القشعريرة في روعي:
-          إنها الذئاب ... فالقرية لنا في الصباح ولهم في المساء، ومن يخالف هذا القانون، لا يعيش ليحكي عن ذلك.
***
غادر (عبد الباسط) المكان بسرعة، مع وعد بأن يقابلني في الصباح ويصحبني لمقابلة العمدة، وكبراء القرية ... قمت بجولة سريعة في المكان، لاحظت أن كل الأبواب والنوافذ مدعمة بأطر من الحديد الصلب، كما أن المكان يحتاج للتنظيف، فالتراب يغطي كل شئ، وغرفة الكشف تفتقر إلى الكثير من الأدوات والمواد الضرورية ... توجهت لغرفة نومي، أزحت ما استطعت من الغبار من على الفراش، فرشت ملاءتي فوق ما تبقى منه، وتمددت عليه متوقعا أن يأتيني النوم سريعا فقد كنت مسحوقا من فرط الإرهاق.
بعد ساعات من محاولات النوم الفاشلة، وصل إلى مسامعي العواء الأول، كان قادما من مسافة كبيرة، لم يكن كأصوات العواء التي اعتدنا سماعها في التلفاز والراديو، أو حتى من بعض الكلاب التي تستظرف وتحاول الإدعاء بإنها ذئاب ... كان عواء طويل، غليظ، بدا لي كصوت حشرجة، لم أكن لأفترض أنه صوت ذئب لولا تلك النهاية الممطوطة المعتادة في عواء الذئاب، أول ما خطر ببالي أنه شخص ذو حنجرة خشنة يحاول تقليد صوت ذئب، ولكنه لا ينجح كثيرا.
تكرر العواء بعد ذلك كثيرا من أماكن متعددة، بعضها قريب للغاية من الوحدة الصحية، وكأن العشرات من الذئاب ذات الحنجرة المتحشرجة تمرح في شوارع القرية ... انتصب شعر رأسي، وشعرت بالقشعريرة الباردة تسري فوق أطرافي، وعلى عمودي الفقري، عندما سمعت صوت زمجرة! قريبا جدا من نافذة غرفة نومي، وعلى ضوء القمر لمحت خيال يتحرك قرب النافذة، ثم بدأت أصوات المخالب تخمش في خصاصها، وفي جدار الوحدة الصحية ... من الواضح أن هناك ذئب وراء تلك النافذة اجتذبته تلك الرائحة الجديدة التي تصدر الليلة من داخل الوحدة الصحية، رائحة طبيب شاب، مكلف، عاثر الحظ، لحمه شهي يصلح كوجبة للعشاء.
اعتدلت في فراشي بسرعة، ونظرت نحو النافذة، تنهدت بارتياح عندما وجدت تلك الأطر المصنوعة من الصلب التي تدعم النافذة، لن يستطيع ذلك الذئب اختراقها، أنا في أمان في الداخل، لقد كان (عبد الباسط) صادقا ... فجأة علا ذلك العواء من خارج النافذة، كان مرعبا للغاية، وخصوصا عندما يكون بهذا القرب، ثوان وامتلأ المكان بمجموعة أخرى من الذئاب أخذت تخمش في نوافذ، وأبواب الوحدة الصحية وجدرانها، وهي تتقاتل، وتزمجر، وتطلق عواءاتها المرعبة من حين لآخر ... ليلة أولى رائعة أقضيها هنا في هذه القرية اللعينة ... بحثت في الوحدة، حتى عثرت على عتلة حديدية تستخدم في رفع الفراش الطبي الوحيد بها، وهي تصلح أيضا كسلاح بائس، جلبتها إلى غرفة نومي، ووضعتها بجواري على الفراش الذي جلست فيه منتبها، متوجسا، منتظرا ما ستسفر عنه حفلة الذئاب المنعقدة في هذه اللحظة خارج نافذتي.
  قبل ساعتين من الفجر، رحلت الذئاب واختفت أصواتها تماما، فكرت هل سيكون من الأفضل أن أنال الآن قسطا من النوم بعد كل تلك الأحداث؟ أم علي أن أظل متيقظا حتى الصباح، حتى أفهم بالضبط طبيعة الخطر الذي أنا مقدم عليه؟.. فجأة، قاطعت تلك الأفكار دقات قوية على باب الوحدة الصحية، فزعت من فراشي، وأسرعت نحو الباب وأنا أصيح بصوت مبحوح:
-          من؟
تكررت الدقات بقوة، بدت كأنها دقات بيد بشرية، ملهوفة، لا تملك أي قدر من الصبر ... كررت سؤالي دون أن أتلقى إجابة ... وضعت أذني على الباب وأرهفت السمع، فلم يصل إليهما شيئا، جال بخاطري أن الطارق قد يكون مريضا وحالته خطرة، علم بوجود طبيب بالوحدة، ترددت كثيرا ولكن غلبتني ضوابطي المهنية ففتحت قفل الباب بمفتاحة الغليظ، وأدرت المزلاج، وفتحت الباب فتحه ضيقة، ونظرت منها وأنا أسأل:
-          من هناك؟
لا يوجد أي شخص في الخارج، تشجعت أكثر وفتحت الباب كله، وألقيت النظر يمينا ويسارا بحثا عن الطارق ... خطوت إلى الخارج عدة خطوات، ودرت حول الوحدة الصحية دون أن أنجح في العثور على هذا الطارق اللعين، عدت إلى داخل الوحدة واغلقت بابها ... الآن يجب أن أنام ولو حتى لساعات قليلة، لو لم أفعل ذلك سينهار جسدي حتما، بعد عناء السفر ومغامرة امتطاء الحمير، وحفلة الذئاب ... عزمت التوجه إلى غرفة نومي، ولكني انتبهت إلى أن باب غرفة الكشف مفتوحا، رغم أنني متأكد من أنه كان مغلقا طيلة الوقت ... فجأة وصل إلى مسامعي صوت حركة خافت يصدر من داخل الغرفة ... اقتربت بقدمين مرتعشتين من الغرفة، مددت رأسي، نظرت إلى داخلها وأنا اقول بصوت مرتعد، مختلج، يخرج من فمي الجاف من الرعب بصعوبة شديدة:
-          هل من أحد هنا!؟
..(انتهى الجزء الأول – ويليه الجزء الثاني)..





قصة رعب بعنوان ... (قرية الذئاب – الجزء الثاني)
ملخص ما سبق ... يكلف (فادي) الطبيب الشاب بالعمل في وحدة صحية بقرية جبلية منعزلة، وفي أول يوم له هناك يتلقى تحذيرا بضرورة البقاء داخل الوحدة  بعد مغيب الشمس، حتى لا يتعرض لهجوم الذئاب التي تمرح في القرية بأريحية ليلا ... وهو ما يختبره (فادي) بنفسه في الليلة نفسها عندما يصل إلى مسامعه العواء المرعب لتلك الذئاب من مكان قريب من الوحدة الصحية، ويزداد الأمر طرا، عندما يخمش أحدها بأظافره أبواب الوحدة ونوافذها وجدرانها الخارجية، محاولا اقتحامها، وكاد ينجح لولا تحصين تلك الأبواب والنوافذ بأطر حديدية ... وقبل أن تنتهي تلك الليلة بساعتين، يتعرض (فادي) لمفاجأة مرعبة أخرى عندما يكتشف أنه ليس وحيدا داخل الوحدة الصحية ...
.
باب غرفة الكشف مفتوح، وهناك أصوات خافتة تنبعث من الداخل ... اقتربت من الغرفة بخطوات مرتعدة، متوجسة، مددت رأسي عبر الباب المفتوح لألقي نظرة إلى داخلها، فرأيته!.. رأيت ذلك الشبح الذي يجلس في ظلام الغرفة على الفراش الطبي، ويحدق في بعينين لا ترمشان ... تحسست بأصابع مرتعشةالجدار بحثا عن مفتاح الإضاءة، أين هذا المفتاح اللعين عندما تحتاجه!؟. حسنا لقد عثرت عليه ... ضغطت المفتاح بعصبية، فأضيئت الغرفة، ووجدت نفسي أصرخ في جزع:
-          أنت ... ماذا تفعلين هنا!؟
لم تجب علي تلك الشابة السمراء، ذات الثغر الرقيق والعينين العسليتين، الآسرتين، في عبائتها السوداء وغطاء رأسها الذي يحمل اللون، ولكنها مدت ساعدها الأيمن لتريني ذلك الجرح الدامي فيه، فقلت بعصبية وأنا اقترب منها، بعد أن تبينت طبيعة هذا الجرح:
-          هل هذه عضة!؟
أومأت برأسها، فسألتها مجددا:
-          هل كان ذئبا !؟
أجابت للمرة الأولى في هذه الليلة بصوت خرج رقيقا، عذبا، يحمل لكنة ريفية محببة:
-          أجل، هل يمكنك مساعدتي يا (دكتور)!؟
كانت آثار الأنياب واضحة وجروحها غائرة، دامية، ويبدو أن هناك قطعة من اللحم صغيرة قد التقمها الذئب بالفعل من هذا الساعد الرقيق ... نظرت للفتاة بدهشة، وأنا أقول متسائلا:
-          هل تشعرين بالألم؟
-          لا... لا أشعر بشئ.
تلفت حولي بجزع، المكان غير مجهز، ولا يوجد أدوات ولا عقاقير مناسبة للتعامل مع هذا الوضع، قلت محاولا بث الطمأنينة في تلك الشابة الحسناء:
-          ارتاحي على الفراش قليلا، وأنا سأجلب بعض الأدوات الطبية من غرفتي.
لحسن الحظ كنت أحمل حقيبة طبية بها بعض المباضع، والخيوط، والأبر الطبية، ومجموعة كبيرة من الأدوية والأمصال الضرورية ... عدت بسرعة إلى تلك الشابة، الحسناء، فلمحت نظرات الجزع والألم على وجهها، وبادرتني قائلة:
-          الآن أشعر بألم شديد.
أعطيتها بعض الأدوية المسكنة من تلك المتاحة لدي، وبدأت أخيط جرحها، لست جراحا بارعا ولكنني استطيع القيام بالمهمة ... لم تكن الأدوية المسكنة كافية، وكانت الفتاة تتألم، ولكنها كانت تكتم ذلك الألم بشجاعة وهي تعض على ضروسها، ولكن الألم والأرهاق كانا باديين على عينيها المذعورتين، وقطرات العرق البارد التي بدأت تغزو وجهها، انتهيت من مهمتي وغطيت الجرح بالشاش وأحكمته، وأعطيتها قدرا آخر من الداوء المسكن، ومضاد حيويا وميكروبيا، وطلبت منها أن ترتاح قليلا، فسألتني بصوت قلق سؤالا عجيبا:
-          هل سيزول الأثر من جسدي أم سيبقى؟
لم أفهم ما تقصده، ولكنني أجبتها:
-          ليس لدي هنا مصل (الكلب)، سيكون عليك بأي حال أن تمري علي غدا لأتابع حالتك وحالة الجرح، ونرى ما يمكن فعله.
قبل أن ابتسم في وجهها مشفقا، وأنا أقول بلهجة متعاطفة:
-          حاولي أن تحصلي على قسطا من الراحة،الآن.
تركتها لترتاح على الفراش في غرفة الكشف، وتمكنت أنا من النوم في غرفتي بضعة ساعات أخيرا في تلك الليلة المرعبة، المشحونة، وعندما استيقظت وبحثت عنها وجدتها قد غادرت المكان، غادرت دون حتى أن تخبرني باسمها!
***
في الصباح حسبت أن الجبل أطبق على القرية، أو أن هناك زلزلال قوي يوشك أن يسوي الأرض بها، قبل أن اكتشف أن هذا هو (عبد الباسط) العملاق الكتوم يطرق باب الوحدة الصحية بكفه الضخم، بعد أن جاء ليصحبني لمقابلة عمدة القرية كما اتفقنا بالأمس ... كان عمدة القرية رجلا قصيرا، سمينا، له هيبة، وتأثير، تراهما في ملامحه، وفي عيون الآخرين ... رحب بي العمدة ترحيبا حارا، شعرت أنه مبالغا فيه، ثم سألني عن يومي الأول، وضحك كثيرا عندما أخبرته عن ليلتي مع الذئاب، وهو يقول ببساطة:
-          ستعتاد هذا الوضع ... لا تقلق.
ثم سألني عما تحتاجه الوحدة الصحية، فأخبرته أنها تحتاج للكثير من النظافة من الخارج والداخل، ولبعض الأدوية والمعدات حتى يصل التموين من وزارة الصحة، فطلب مني أن أكتب له كل ما أحتاجه في ورقة، وسيرسل هو شخصا إلى المركز ليجلب المطلوب، أما عن الوحدة فجاري تنظيفها ودهانها في تلك اللحظات وسيتنهي العمل بها بعد ساعات ... سألته عن الطبيب الذي كان موجود قبلي، فاختلج وجهه للحظة، وبدا أنه لم يكن مستعدا لهذا السؤال، وهو يجيب إجابة مبهمة:
-          لقد رحل.
  أصطحبني العمدة في عربته التي يجرها حصان أسود قوي، وقمنا بجولة قصيرة في القرية، سألته عن ذلك المبنى ذو الأعمدة، المحفور في الجبل، فقادني إلى داخله وهو يشرح لي:
-          لا أحد يعرف من الذي بنى هذا المبنى وشقه في الجبل ولا متى حدث ذلك! ولكنه موجود هنا حتى قبل وجود القرية نفسها، هكذا أخبرنا الأجداد.
توقعت أن أجد المكان من الداخل متسعا، فسيحا، ولكنه كان محبطا للغاية، عبارة عن بهو ضيق بمساحة ثلاثون مترا مربعا فقط، له سقف مرتفع، تنتشر به أجولة الغلال وأكوام القش وبعض الأدوات الزراعية، أوضح لي العمدة، عندما رأى الدهشة في عيني، قائلا:
-          نستخدمه كشونة لتخزين الغلال.
بعد ذلك صحبني العمدة أيضا لمقابلة كبراء القرية، وجميعهم أناس طيبون على فطرتهم، رحبوا بي ترحيبا حارا، ووعدوني جميعا بأن يكونوا في عوني إذا احتجت أي شئ، وتلقيت منهم الكثير من دعوات الغذاء، كانت أولها طبعا من العمدة شخصيا ... جلسنا على مائدة الغذاء في بيت العمدة، وبدأ أهل البيت في جلب أطايب الطعام القروي ذو الرائحة المغرية، والطعم الشهي، وصفها أمامنا على الطاولة، قال لي العمدة:
-          عذرا على أنك لم تستطع البدء مباشرة في العمل بالوحدة، فكما لاحظت كان الوضع معطلا لفترة طويلة.
أجبته عازما على أن أحكي له عن زائرة الفجر:
-          في الواقع لقد بدأت العمل بالفعل من الأمس ... و
قاطع كلامي طبق (البامية) الذي سقط أمامي على الطاولة، وتناثرت منه قطع (البامية) وقطرات الصلصة على وجهي وثيابي، صرخ العمدة موبخا تلك الفتاة التي أسقطت الطبق، فنظرت لها رغم أنني كنت أغض بصري طيلة الوقت، ولا أنظر لمن يضعون الطعام على المائدة، المفاجأة، أنها كانت هي تلك الفتاة، الشابة، الحسناء، التي زارتني بالأمس، عرفتها من عينيها العسليتين، رغم أنها كانت تصك وجهها بالوشاح، وعرفتها أيضا من رباط الشاش على ساعدها ... كان العمدة ما زال يواصل صراخه، وقد نهض ليجلب من ينظف المكان، رحلت الفتاة بسرعة بعد أن همست في أذني:
-          لا تخبر أحدا.
عاد العمدة ومعه خادمة عجوز تحمل إناء به ماء وقطعة من الصابون ومنشفة، وضعته أمامي لاغتسل، وتوجهت هي لتنظيف المائدة من آثار حادثة (البامية)، قال العمدة معتذرا:
-          أعذر ابنتي (بدور)، فهي حمقاء تماما.
اغتسلت بسرعة، وأنا أوضح له أن ماحدث كان أمرا عارضا، ولم يضايقني البتة، ثم عدنا لاستكمال الغذاء الشهي، طلب مني العمدة أن أكمل ما كنت أقوله، فغيرت مجرى الحديث قائلا:
-          كنت أريد ممرضة أو ممرض معي في الوحدة من أجل استقبال المرضى ومساعدتي في بعض الأعمال، سأقوم بتدريبها بنفسي.
نهش العمدة قطعة كبيرة من فخذ البطة الذي كان يمسكه في يمينه، ولاكها في نهم وهو يقول:
-          (عبد الباسط) ... سيكون معك، دربه كما تشاء.
***
أعادني (عبد الباسط) للوحدة الصحية، وهناك رأيت الدليل على قوة، وتأثير عمدة القرية، فالوحدة كان قد تم طلاؤها من الخارج والداخل وتم تنظيف الأرض حولها وتمهيدها، وإضافة بعض الأرائك لاستقبال المرضى في الخارج، أما من الداخل فكان المكان نظيفا، لامعا، مرتبا، وعابقا برائحة المطهرات، تمتمت بذهول:
-          عمل رائع.
أشار (عبد الباسط) إلى صندوق كرتوني ضخم في ركن من المكان، وهو يقول:
-          هذه بعض الكراكيب، والأدوات الصدئة، والمحطمة ... الرجاء فحصها والتأكد من إمكانية التخلص منها، وسأعود غدا لأفعل ذلك.
-          هل ستذهب الآن؟
-          أجل.
صمت للحظة ثم أردف:
-          قد أتأخر غدا قليلا لجلب الطلبات التي أردتها.
-          حسنا.
توجه (عبد الباسط) إلى الباب، ولم ينس قبل أن يرحل، أن يذكرني بتحذيره الأثير:
-          لا تخرج من الوحدة بعد المغيب، أنت تعرف الآن ما يحدث.
-          أعرف.
ذهب (عبد الباسط)، فقمت بسرعة بفحص صندوق الكراكيب، كلها أشياء بلا قيمة يمكن التخلص منها، ثم لفت نظري تلك الأداة المصنوعة من الصلب، كانت بحجم كرة القدم، ومكونة من سلسلة وعدة تروس، ولسان منزلق، وطرف حاد مسنن كالسكين، ترى ما هذا الشئ!؟ ... ثم برقت الإجابة في عقلي مرة واحدة، إنه فخ لصيد الحيوانات البرية، يمكنك أن تحرك هذا الجزء العلوي، وتثبته بالسلسلة، وإذا داس الحيوان على هذا اللسان المنزلق، فسوف:
-          كرااااااااااك.
كان ذلك هو صوت الفخ بعد أن أغلق بقوة، اللعنة، لولا أن سحبت يدي في آخر لحظة لقطعها ... الآن تراودني فكرة بأن أجهز هذا الفخ وأضعه خارج نافذتي، في محاولة لإرهاب تلك الذئاب الملعونة، هل فعل ذلك الطبيب السابق؟.. هل هو الذي جلب هذا الفخ؟.. وهل نجح في ذلك؟.. أسئلة لن أعرف الإجابة عليها ابدا.
***
 طرقات على باب الوحدة الصحية قبل دقائق من مغيب الشمس، فتحت الباب، فوجدتها هي، دخلت بسرعة وهي تتلفت خلفها خوفا من أن يكون هناك من رآها، قلت لها:
-          كيف حالك؟
ثم ابتسمت وأنا أضيف:
-          يا (بدور).
نظرت لي بدهشة وهي تجيب:
-          هل عرفت اسمي!؟
-          أخبرني به أباك؟
نظرت في وجهي للحظة، ثم توجهت إلى غرفة الكشف ومدت لي ساعدها المغطى برباط الشاش بطريقة عملية، أخذت أحل الرباط، وأنا اقول ساخرا:
-          كانت (البامية) شهية جدا.
ضحكت في خفر، وهو تقول:
-          أنا آسفة.
صرخت في ذعر، بعد أن حللت الرباط كله:
-          اللعنة.
-          ماذا ... هل هناك ما يسوء؟
-          الجرح.
نظرت الفتاة إلى ساعدها في خوف، فقلت موضحا:
-          الجرح اختفى تماما، لا يوجد أي أثر له، حتى الخيط الجراحي سقط خارجا.
نظرت إليها، فلمحت الذعر يكسو وجهها الذي تحول إلى اللون الأزرق، جحظت عيناها، وهي تقول بصوت مرتعش:
-          إذا هو يحدث.
نهضت بسرعة، وانطلقت تعدو باكية إلى خارج الوحدة الصحية، شعرت بالذهول للحظات ثم انطلقت خلفها، أنادي عليها، أطالبها بالتمهل ... لمحتها تختفي خلف غابة من الأشجار المتشابكة على بعد مائة متر في الناحية المقابلة للوحدة الصحية، فتوجهت خلفها مباشرة، ولكنني كنت قد فقدت أثرها، أخذت أبحث عنها داخل تلك الغابة لدقائق، ولكن الليل كان قد حل وألقى بظلامه على كل ربوع القرية، هنا سمعت العواء المتحشرج المرعب.
***
سمعت العواء المتحشرج، المرعب، والكارثة أنني سمعته على مسافة أمتار قليلة من موقعي، استدرت على عقبي، وانطلقت أعدو إلى الوحدة الصحية، مئات الأمتار تفصلني عنها ... أشعر بأصوات زمجرة قريبة، وبدبيب أقدام على مسافة ليست بعيدة عن موقعي، إنها تطاردني، حثيثة في أثري، ألقى الرعب دفقا هائلا من الطاقة في عروقي، فصرت أعدو بسرعة هائلة، تكاد قدماي لا تلمسان الأرض، الوحدة تقترب بسرعة، ودبيب الأقدام يقترب أيضا من خلفي، يصحبه أصوات زمجرة جشعة، لقد وضعت نفسي بغبائي في وضع الفريسة بعد يوم واحد من تواجدي في هذه القرية اللعينة، أشعر أن مطاردي على مسافة أقل من عشرة أمتار من الأمساك بي، وباب الوحدة الصحية يبعد خطوات قليلة فقط، ثلاث قفزات طويلة وأصبحت داخل الوحدة الصحية، ومددت يدي بسرعة لأغلق الباب خلفي، وفي اللحظة التي أغلقت فيها الباب لمحت مطاردي، لمحته لثانية واحدة وهو يحاول الوصول إلي قبل إغلاق الباب، صرخت بقوة وأنا أغلق الباب وأحكم أقفاله بإسقاط المزلاج في مجراه:
-          اللعنة ... ما هذا الشئ!؟ ... هل كان ذلك ذئبا بحق!؟
في اللحظة التي لمحته فيها ، أدركت أنه ضخم كالدب، له رأس كبير وفك عملاق وأنياب طويلة، بارزة، كان يعدو على أربع بقائمتين أماميتين أطول من الخلفيتين، وله حدبة عملاقة في ظهره، لقد كان قبيحا، ومخيفا، وبدا متوحشا للغاية ... لست خبيرا (بيولجيا)، ولكنني لم أر ذئبا بهذا الشكل من قبل، هل هي فصيلة نادرة تعيش في تلك المنطقة المنعزلة، لم يرها العالم من قبل!؟
***
في تلك الليلة تكررت حفلة الذئاب كالليلة السابقة تماما، لم استطع النوم بالطبع، أشعر برعب أكبر الليلة، خاصة أن كل صوت أسمعه من خارج غرفتي، أصبح يتشكل في خيالي مرتبطا بتلك الصورة المرعبة لذلك الذئب العملاق الذي طاردني قبل ساعات، الصوت مرعبا بحق، ولكن اتحاد الصوت مع الصورة يصنعان معا رعبا هائلا ... فجأة انطلق صوت قوي:
-          كراااااااك.
تلا ذلك صوت عواء طويل متألم، ضممت قبضتي في ظفر وأنا أقول بصوت عال:
-          ها ... لقد تحولت الفريسة إلى صياد ... لقد وقعت في يدي أيها اللعين.
كنت قد نصبت الفخ الحديدي خارج نافذتي، وها هو الفخ قد أمسك بفريسة من تلك الذئاب الجشعة، علي الآن أن أتحمل ذلك العواء المتألم حتى الصباح، حينها سأقبض على هذا الذئب وأسلمه للعمدة، وأشجع أهل القرية على مواجهة تلك الذئاب وعدم الاستسلام لها بهذه الطريقة.
***
في الصباح، لم أكن قد نمت بعد، وكانت أصوات الذئاب قد توقفت منذ فترة طويلة، وحتى نحيب ذلك الذئب المتألم توقف أيضا، فتحت باب الوحدة الصحية فأضاءت شمس الصباح مدخلها، ومست وجهي نسمة الصباح الباردة، اللطيفة، خطوت إلى خارج الوحدة الصحية، ودرت حولها إلى ذلك المكان الذي نصبت فيه الفخ خارج نافذتي، كنت أسير بخطوات متوجسة، حذرة، خوفا من أن يكون واحد من تلك الذئاب قد بقى في المكان ، ولكنني تنهدت بارتياح عندما لم أجد أيا منها، لقد رحلت جميعها، حتى الفخ نفسه كان خاليا من صيده، من الواضح أن الذئب الذي كان يطبق عليه بالأمس نجح في الهرب منه بوسيلة ما، اقتربت من الفخ لأتفحصه، هنا انتصب شعر رأسي، وشعرت بتدفق الدماء إليها بقوة، حتى أن عيني زاغتا للحظات، لم يكن الفخ خاليا تماما، لقد نجحت أسنان الفخ في اقتطاع جزء من جسد الضحية ... أصبعين ... أصبعين بشريين!!
..(انتهى الجزء الثاني – ويليه الجزء الثالث)..

قصة رعب بعنوان ... (قرية الذئاب – الجزء الثالث)

ملخص ما سبق ... تتواصل مغامرة (فادي) الطبيب الشاب في قرية (كوم الأبيض) الغامضة، والمنعزلة، يتعرف على (بدور) بنت العمدة، الفتاة السمراء، الحسناء، التي تتعرض لعضة قاسية في ساعدها من ذئب شرس، ولكن (فادي) يصعق في الليلة التالية عندما يكتشف أن الآثار المروعة لتلك العضة قد زالت تماما وكأنها لم تكن!.. يفكر (فادي) في نصب فخ لتلك الذئاب التي تحاصر الوحدة الصحية في كل ليلة باستخدام مصيدة ذات حد قاطع من الصلب تستخدم لصيد الحيوانات البرية، وتكون المفاجأة الرهيبة في صباح اليوم التالي عندما يعثر في المصيدة على أصبعين!.. أصبعين بشريين!

.
انتابني ذعر رهيب عندما عثرت على الأصبعين البشريين في الفخ، لم أكن قد نمت لثانية واحدة في الليلة السابقة، أضف إلى ذلك تلك المفاجأة الصباحية المروعة، عندها يمكنك أن تتخيل ما يجول بعقل طبيب شاب، مثلي، وجد نفسه في منطقة منعزله تبعد مئات الأميال عن موطنه، يتعرض لضغوط عصبية من ذئاب تحاصره في كل ليلة تبغى الوصول إليه وافتراسه، وظواهر غير طبيعية ووقائع لا يمكن تصديقها، وأخيرا يتسبب بحماقته في قطع أصبعيين بشريين بالتأكيد لرجل من أهل القرية، لن يكون راضيا بحال عما أصابه وسيحاول الثأر ... يمكنني أن أخبرك بنفسي ... كنت أفكر في تلك اللحظة في الهرب من تلك القرية اللعينة، والعودة إلى بيتي وقريتي، ونسيان ذكريات الليلتين الفائتتين، من يصدق أن هذا كله حدث في ليلتين فقط!
عدت لداخل الوحدة الصحية، كنت أفكر في الخطوة التالية التي علي اتخاذها ... اعتدت طوال حياتي أن أكون إنسانا مسئولا، ورغم أن الهرب يبدو خيارا مغريا، إلا أنني سأبقى وأواجه، وأتحمل مسئولية تصرفاتي، أجل سأتوجه الآن إلى بيت العمدة وأعترف له بما حصل بشجاعة ... فجأة، قاطع أفكاري صهيل حصان، وصوت عجلات عربة تجرها الخيل تتوقف أمام الوحدة الصحية، أعرف شخصا واحدا في هذه القرية يمتلك عربة كتلك، إنه العمدة.
-          السلام عليكم ... كيف الحال يا (دكتور).
قالها العمدة وهو يدلف من باب الوحدة الصحية، ومن خلفه أثنين من الخفراء يحملان بنادق عتيقة، من مخلفات الحرب العالمية ... قلت بصوت مبحوح:
-          وعليكم السلام ... خير مجيئك ياسيدي، لو لم تفعل لجئتك بنفسي.
نظر في وجهي باستغراب، وهو يقول:
-          ما بك!؟.. تبدو كأنك لم تنم بالأمس، أو كأنك تحمل هموم الدنيا على ظهرك.
-          كلاهما.
دعوته إلى الداخل، ثم بدأت أحكي له عما حدث، دون أن أغفل أي تفاصيل، حتى انتهيت بالأصبعين البشريين الذي عثرت عليهما هذا الصباح ... استمع لي بوجه لا يحمل أي انفعالات، وعندما انتهيت قال بلهجة جادة:
-          أين تلك الأصابع المقطوعة!؟
-          ما زالت في الفخ.
نهض من مقعده، وتوجه ناحية الباب، وهو يقول:
-          إذا أصحبني لأراها.
تقدمت العمدة والخفيرين إلى خارج الوحدة، قدتهم إلى المكان الذي نصبت فيه الفخ، وأشرت إليه قائلا:
-          هذا هو؟
توجه العمدة إلى الفخ، وأقعى على ركبتيه يتفحصه، قبل أن يقول:
-          لا يوجد أي أصابع بشرية هنا.
انتابتني دهشة كبيرة، وأنا اقترب من الفخ بدوري، في نفس اللحظة التي أخرج فيها العمدة شيئا منه وهو يشير لي به قائلا:
-          إنهما مخلبي ذئب.
نظرت إلى ذلك الشئ الأغبر اللون الذي يرفعه العمدة، والذي تخثرت بعض قطرات من الدماء على شعيرات فرائه الرمادية، كانا بالفعل جزئين صغيرين من مخلبي ذئب أو كلب، اقتطعتهما شفرة الفخ الحادة ... عجزت عن الكلام للحظات، فقال العمدة بلهجة مشفقة:
-          هل هذا ما عثرت عليه داخل الفخ؟
-          لا ... أقسم لك، لقد كانا أصبعين بشرين، أنا طبيب ولا أخطئ في هذه الأمور.
ألقى العمدة المخلبين إلى أحد الخفراء، وطلب من الثاني أن يحمل الفخ، وهو يقول آمرا:
-          تخلصا من هذه الأشياء.
ثم عاد لي بلهجة متعاطفة وهو يصحبني إلى داخل الوحدة، مربتا على كتفي:
-          من الواضح أنك أرهقت نفسك كثيرا في الأيام الماضية ... هذه الأشياء تحدث، عليك أن ترتاح وتنال قسطا مناسبا من النوم، حتى تستعيد صفاء ذهنك.
لم استطع أن أرد هذه المرة أيضا، ولكنني أومات برأسي، وأنا أسير معه مستسلما، وهو يردف قائلا:
-          نصيحة أخيرة يابني، لا تتعرض لتلك الذئاب، فأهل القرية يتطيرون من ذلك، فهم يعتبرون قتلها يجلب النحس، كن حذرا، والتزم غرفتك في الأوقات التي تخرج فيها الذئاب، وهي بدورها ستعتاد وجودك، ولن تترصدك أو تهاجمك، هكذا نفعل جميعا.
***
قضيت النهار بطوله أحاول إقناع نفسي بأنني لم أر تلك الأصابع البشرية في الفخ، وإنها كانت مجرد تهيؤات بسبب التوتر والإرهاق لعدم النوم، كان الأمر صعبا للغاية، وفي النهاية قررت أن أتناسى ماحدث واعتبره مجرد واقعة غير قابلة للتفسير، وهي أشياء أصبحت تتكرر كثيرا في الأيام الأخيرة ... من حسن الحظ لم تظهر الذئاب في تلك الليلة، ولا في الليالي التالية لها، حتى أن ثلاثة أسابيع مضت دون أن أسمع عواء ذئبا واحدا، سألت (عبد الباسط) عن ذلك، فكانت إجابته مقتضبة كالعادة:
-          الذئاب لا تخرج في كل ليلة.
كان العمل بالوحدة الصحية هادئا للغاية، بل ومثيرا للملل ... ورغم أن (عبد الباسط) جلب الأدوية والأدوات المطلوبة في الميعاد، وكذا وزارة الصحة أرسلت تموينها الشهري بعد ذلك بأيام، وصارت الوحدة جاهزة مائة في المائة للقيام بدورها، إلا أن هناك شيئا واحدا ناقص ... المرضى!.. كان (عبد الباسط) يمر علي في الصباح الباكر فيفتح أبواب الوحدة وينظفها، ويوقظني من النوم، وننتظر أنا وهو أن يظهر المرضى، فلا يظهرون حتى المساء، عندها يغلق (عبد الباسط) الوحدة، ويرحل دون أن ينسى أن يحذرني من الخروج ليلا كعادته ... أحصيت المرضى الذين زاروا الوحدة بعد ثلاثة أسابيع من العمل، فلم يتجاوزوا أصابع اليد الواحدة، سألت (عبد الباسط) عن ذلك فأجاب ببساطة:
-          أهل القرية لا يمرضون إلا قليلا.
أنا شخصيا لاحظت أن المستوى الصحي لأهل قرية (كوم الأبيض) مرتفع للغاية، فنموذج (عبد الباسط) العملاق، صحيح البدن، فائق العافية، هو النموذج المتكرر بين رجال القرية، بل وبين نساءها أيضا، يمكنك أن تلاحظ ذلك بسهولة إذا سرت لدقائق في شوارع القرية وتأملت أهلها ... قد يكون ذلك التفسير مريح أكثر لكبريائي المهني، من التفسير الآخر بأن أهل القرية، لا يثقون في هذا الشاب النحيل، الفاشل، وفي كونه طبيبا قادرا على معالجتهم من الأمراض.
-          المولد.
قالها (عبد الباسط) ذلك الصباح، فأجبته بدهشة:
-          أي مولد؟
-          مولد (أبو الأبيض) ... أهل القرية كلهم سيذهبون إلى المولد، وستكون هناك أشياء رائعة.
لست غريبا على الموالد، فقد كنت أعشقها في صغري، وأتحمس لها، وأسافر للقرى المجاورة لحضورها، الألعاب، المأكولات، والمشروبات، والحلوى، المداحين، وجلسات الذكر، وتجمعات الشباب المتحمس الباحث عن التسلية، إنها الكرنفالات على الطريقة البلدية ... تذكرت شيئا فسألته بدهشة:
-          وهل سيخرج أهل القرية ليلا من أجل المولد؟
فأجاب باستنكار شديد:
-          ومن تحدث عن الخروج ليلا!؟
-          الموالد تكون كذلك في العادة!
-          مولد (أبو الأبيض) ينطلق مع الفجر ويتوقف قبل غروب الشمس.
***
يحكون عن (أبو الأبيض) أنه كان شابا، شجاعا، متحمسا من قرى الجنوب، وبسبب حماسته تلك وجد نفسه في مشاجرة مع أحد الحمقى ممن يظنون أنفسهم فوق البشر لما لهم من ثروة، وسطوة، وعائلة، وهذا يسمح لهم بإهانة الآخريين والتحقير من شأنهم ... ينتهي هذا الشجار بمقتل هذا الأحمق، وفرار (أبو الأبيض) وفي رقبته ثأر ودماء، ومطاردا بطغمة من الأشرار ممن يطمعون بمكافأة كبيرة من أهل القتيل ... يستمر (أبو الأبيض) لسنوات طويلة هاربا، وفي كل مرة يظن أنه قد أصبح بعيدا عن براثن من بطالبون برأسه، ولكنه يفاجئ بهم قد وصلوا إلى مكانه، فيعاود الهرب من جديد، وهكذا حتى وصل إلى تلك المنطقة البكر، المنعزلة، التي تحيطها الجبال من كل جانب، وهناك وجد ذلك البناء الغريب المشقوق في صدر الجبل، فأقام فيه يترقب وصول مطارديه، لا يعرف ماذا سيفعل، ولا إلى أين سيتوجه بعد ذلك، ولكن مطارديه لم يصلوا في تلك الليلة، ووصل بدلا منهم قطيع من الذئاب الضخمة، لم يعجبها هذا القادم الجديد الذي انتهك أرضها، وقررت أن تعاقبه على هذا الفعل بافتراسه.
يحكون أيضا عن الجسارة التي واجه بها (ابو الأبيض) قطيعا من الذئاب الضخمة وحده، وكيف تحداه قائدها في معركة حياة أو موت، استطاع ذلك الذئب الذي يقارب حجمه حجم الدب الأسود وتفوق مخالبه وأنيابه مثيلاتها لدى الأسد أن يجرح (ابو الأبيض) جراحا خطيرة، ولكن هذا الأخير استخدم ذكاءه، وقوته في أن يفاجئ ذلك الذئب ويغرز جذعا مدببا في صدره، فيرديه.
يحكون أن (أبو الأبيض) قد صار زعيما لقطيع الذئاب في تلك الليلة بعد ان قتل كبيرها، فأصبحت تطيعه وتأتمر بأوامره، وعندما وصل مطارديه من البشر في ليلة تالية، استطاع أن يقضي عليهم، ويفنيهم جميعا، بمساعدة جيشه من الذئاب، بعد ذلك أقام (أبو الأبيض) آمنا في تلك الأرض، وتزوج وأنجب ومن نسله ونسل أبنائه نشأت تلك القرية في نفس المكان، قرية (كوم الأبيض).
يحكون أنه كان خارق القوى، يتحدث بلغة الذئاب، ويقفز لعشرات الأمتار، ويعدو بسرعة الفهد، ، ويستطيع أن يصرع عشرة من الرجال وحده، وأنه كان قائدا عادلا، وتجاوزت ذريته المئات في حياته، يحكون، ويحكون، ويحكون، ولكن من سيصدق كل تلك الحكايات ... بالتأكيد ليس انا.
***
ساعات قضيتها في مولد (أبو الأبيض) في محاولة للتغلب على الرتابة والملل اللذان اكتست بهما حياتي في الأيام الأخيرة، جربت بعض المأكولات والحلوى، واستمتعت بإنشاد المنشدين والمداحين، وتابعت بعض ألعاب الحواة الساذجة والمسلية، أكثر ما كان يسعدني هو ملاحظة النشوة والسرور على وجوه الجميع وبخاصة الأطفال من أهل القرية، لقد نجح ذلك بالفعل في تغيير مزاجي العكر، بخاصة وأنا استعيد بعض الأجواء والذكريات التي كنت أعيشهما في قريتي وبين أهلي، ذكريات عذبة من أيام الطفولة، الفارق أن هذا المولد كان صباحيا، كما أنه يحمل طابعا خاصا وتيمة مميزة، لم أرها من قبل، يمكنك أن تلتمسها في أقنعة الذئاب التي يرتديها الأطفال، والحكايات التي تروى عن الذئاب، وتماثيل الذئاب المصنوعة من السكر والحلوى، وحكايات (أبو الأبيض) زعيم الذئاب، البطل المغوار الذي أنشأ هذه القرية، والتي ذكرتني قصته بقصة (موكلي) ذلك الطفل الهندي الذي ربته الذئاب في صغره، وصار زعيما لها في الكبر، لم يكن عمدة القرية صادقا تماما معي، عندما أخبرني أن أهل القرية يتطيرون من إيذاء الذئاب أو التعرض لها، الموضوع أكبر من ذلك بكثير، فكما أرى الآن، فإن أهل القرية يعشقون الذئاب ويوقرونها ويعتبرونها مكونا أساسيا في حياتهم اليومية.
في آخر اليوم، وقبل غروب الشمس بساعة، بدأ المكان يخلو تدريجيا من رواده، ووجدت نفسي بدوري أغادر المكان عائدا إلى وحدتي الصحية، التي أقضي فيها ليلتي وحيدا ... عندما وصلت إلى الوحدة وفتحت باباها وجدت مفاجأة جديدة تنتظرني، ورقة مررها أحدهم من تحت عتبة الباب، ورقة تحتوي على رسالة مكتوبة بخط يد سئ، يحوي العديد من الأخطاء الإملائية البسيطة، ولكنه كان صالحا للقراءة، والمعنى واضح ومفهوم للغاية:
** إذا كنت ترغب في إجابات عن كل الأسئلة التي تحيرك ... ستجدها الليلة في (الشونة) عند منتصف الليل**
طبقت الرسالة، وجلست أفكر فيما جاء فيها، وما يجب علي فعله، يتصارع بداخلي كيانان، الفضول والخوف ... الأول يدعوني للذهاب وإطفاء ظمأي للمعرفة، والثاني يخبرني أن تلك الرسالة فخ بين، وأن خروجي في الليل سيجعل مني دون شك طبقا رئيسيا على مائدة العشاء للذئاب في هذه الليلة ... أنا لست متهورا بطبعي، ولكنني كنت أعرف أن فضولي سيكسب المعركة في النهاية، أنا لا استطيع أن أعيش في هذه القرية، وكل تلك الشكوك تعربد في باطني، يجب أن أعرف الحقيقة، مهما كان الثمن.
***
كانت طرقات القرية وحاراتها خالية تماما من الناس في تلك الساعة المتأخرة من الليل، البيوت كلها مغلقة الأبواب والنوافذ، وأنوارها مطفأة، أسير بخطوات متوجسة، قلقة، أتساءل هل كان خياري بالذهاب إلى الشونة في هذا الوقت خيارا صائبا، ولكنني لا أملك التراجع الآن، كنت متوترا، عصبيا، توشك أعصابي على الاحتراق، كان أي صوتا خافتا لطائر ليلي أو لصرصور حقل كافيا لأن يجعلني أقفز بفزع أمتار في الهواء، كنت أتحسب بين لحظة وأخرى أن يصل إلى مسامعي ذلك العواء المرعب من مكان قريب، أو أجد نفسي في مواجهة ذئبا ضخما يسد علي الطريق، وهو يزمجر تلك الزمجرة المتوعدة، ولكن هذا لم يحدث لحسن الحظ.
وصلت إلى الشونة، فلم أجد بها أو حولها ما يريب، هل تكون تلك الرسالة، دعابة سمجة من أحد الظرفاء، أثق أن أهل قرية (كوم الأبيض) جادون بطبعهم، ولا اعتقد أن بينهم من قد يفكر في إعداد مقلب كهذا!.. كان باب الشونة مفتوحا، كأنه يدعوني للدخول، فدخلت بحذر ... الشونة كما رأيتها آخر مرة، أجولة الغلال، وأكوام القش، وبعض الأدوات الزراعية الملقاة دون تنظيم في أرجاء المكان، لا يمكن أن يكون هذا المكان مسرحا لأي أحداث مثيرة أو يحوي بين جدرانه إجابات عن ألغاز وأسئلة غامضة ... شعرت بخيبة أمل كبيرة وقررت أن أغادر المكان على الفور، ولكن فجأة وصل إلى مسامعي صوت بعض الرجال قادمون من أول الطريق متوجهين إلى الشونة، شعرت بالخوف، يجب أن أختفي بسرعة وفي أي مكان، لن استطيع أن أبرر لهم وجودي هنا، سيحسبونني لصا بالتأكيد، ولن يقتنع أيهم بأني طبيب الوحدة الصحية، الذي ألقت به المصادفة أو الدعابة السمجة إلى هذا المكان، وبخاصة أن معظم أهل القرية لم يروني في الفترة القصيرة التي قضيتها هنا ... قفزت بسرعة لأختفي خلف مجموعة من أجولة الغلال، في نفس اللحظة التي دخل فيها الرجال إلى الشونة، كانوا أربعة من الشباب، توجه أحدهم مباشرة إلى حائط قريب من مكاني، فاندسست أكثر بين الأجولة، ثم جذب ذلك الشاب ذراع معدني ناتئ يخرج من الجدار، فانشق الجدار  كاشفا عن دهليز طويل محفور في الجبل يمتد لمسافة كبيرة، دخل الشباب إلى ذلك الدهليز، قبل أن ينغلق وراءهم من جديد.
خرجت من مخبئي، وأخذت أنفض ثيابي وشعري من الغبار والقش اللذان التصقا بهما ... أشعر الآن أنني وجدت ما كنت أبحث عنه، الآن أمسك بطرف الخيط الذي سيقودني لسبر كل هذا الغموض ... في المرة الأولى التي جئت فيها لهذا المكان، شعرت بإحباط شديد عندما فوجئت أن ذلك المدخل العظيم يؤدي فقط إلى مخزن غلال فقير، الآن اكتشف أن هناك سرا مخفيا وراء جدرانه، سرا يجب ملاحقته والكشف عنه. انتظرت لدقيقة أخرى، ثم جذبت الذراع الحديدي فانشق الجدار مجددا، دخلت بسرعة إلى الدهليز الذي كان مضاء بمشاعل معلقة على الجدران، سرت في الدهليز خطوات قليلة، قبل أن يلتئم الجدار من تلقاء نفسه، فتمتمت بجزع:
-          يالحماقتي، لقد التأم الجدار دون أن أعرف طريقة فتحة من هذا الجانب!
هذا يعني أنه علي أن أكمل الطريق حتى النهاية، سرت في الدهليز عدة خطوات قبل أن ينحني بزاوية قائمة في ممر جانبي تجاه اليمين، خطوات أخرى ثم عاد ينحني يسارا وقد صار أضيق، وأكثر رطوبة، والهواء فيه أقل نقاء ووفرة، أصبحت بالفعل أبذل جهدا للتنفس ... امتد الدهليز لمسافة طويلة دون أي خيارات، كانت المسارات كلها إجبارية، وكان علي أن استمر في السير إلى الأمام، الآن أسمع صرخات وأصوات عواء مرعبة تأتي من نهاية الدهليز، الصوت يبدو خافتا من هنا، ولكنه يتعالى أكثر كلما تقدمت في طريقي  ... بعد عدة ممرات جانبية ملتوية كالثعابين، وجدت نفسي أمام مدخل بهو متسع، الآن أسمع الأصوات عالية، وواضحة، هناك أناس يصيحون في جشع وحماس، وهناك ذلك الوعواء المرعب، الأجش، المتحشرج، عواء أكثر رعبا وقبحا، من كل ما سمعته من ذئاب الأسابيع الماضية.
اقتربت أكثر من مدخل البهو، أقدامي تعجز عن حملي من الرعب والتوتر اللذان يملآن باطني، وأيضا من نقص الأوكسجين وصعوبة التنفس في هذا المكان ... ممدت رأسي ونظرت إلى داخل البهو الصخري، الدائري المحفور في قلب الجبل، بحذر، فصعقني ما رأيته هناك، ففي داخل البهو كان هناك نفرا من أهل القرية بينهم العمدة، وبينهم (عبد الباسط)، وغيرهما يتحلقون جميعا حول قفص ضخم، قوي، قبضانه مدعمه بألواح من الصلب القاسي، وبداخل القفص يوجد ذلك المخلوق الرهيب الذي كان يطلق أصوات العواء المريعة، أتسائل هل هذا المخلوق  ذئب أم إنسان، أم أنه هجين من كليهما، لم أر في حياتي شيئا بهذه الأوصاف المرعبة، جسد بشري، عضلي ضخم، يربو على المترين طولا، يغطي صدره، وعانته، وأعلى فخذيه، فراء كثيف، أبيض كالثلج، له شعر أبيض طويل ينسدل على ظهره وكتفيه، ملامح وجهه وعينيه بشرية إلى حد كبير، وإن كانت تحمل قسوة وتحوش حيوانيين، أما أنفه وفكه ذو الأنياب الحادة فكانا بارزين خارج وجهه كالذئاب، حادة، أما أذناه فكانت طويلتين، ومدببتين، ومنتصبتين على جانبي رأسه.   
في البداية لم أفهم ما يفعلونه بالضبط، ولكنني شعرت بالقشعريرة ، والذعر الحيواني يسري في باطني عندما فهمت، كانوا يختارون شابا من بين عددا من الشبان يقف في صف قصير، كانوا ينادون باسمه، ويحمسونه، ويشجعونه، ويدفعونه دفعا تجاه القفص، حتى يقترب الشاب منه، ومن الخوف الذي يرتسم على وجهه، يمكن أن تجزم أنه يمر بتجربة مريعة، يمر بها للمرة الأولى في حياته، ولكنه مضطر لآن يفعلها ... يقترب الشاب من القفص مدفوعا بالتشجيع، وبرغبته في إثبات جرأته أمام الحضور، يكشف عن ساعده الأيمن، ثم يمد ذراعه  إلى داخل القفص، يقترب الوحش من الشاب بخطوات ثقيلة، بطيئة، يسير فيها على أربع أحيانا أو يعتدل ويسير على قدمين، وقد صوب عينيه إلى عيني الشاب بنظرات حادة، مرعبة، جشعة، ثم يقبض الوحش على ساعد الشاب بقوة، ويغرس فيه أنيابه في عضة هائلة تفصل اللحم عنه، يصرخ الشاب في ألم ورعب، فيخلي الوحش عنه، لتتدفق الدماء من جرح الشاب، ومن فم الوحش، الذي يلوك اللحم باستمتاع، قبل أن يرفع رأسه لأعلى وهو يطلق عقيرته بذلك العواء المرعب، الأجش ...  يتراجع الشاب بعيدا عن القفص، وهو يحمل ذراعه المجروح، ويرفعه بعنت ليشير  بأثر العضة فيه إلى الحضور الذين تتعالى صيحاتهم بحماس ونشوة، قبل أن يتوجهوا إلى الشاب الثاني ليسوقوه إلى مواجهة الوحش كصاحبه.
كان المنظر مرعبا بحق، منظر ذلك الوحش الرهيب، الشبيه بالبشر وهو يلوك اللحم البشري، ومنظر تلك الدماء وهي تسيل من فمه، ومن جرح ضحيته، ومنظر الحضور وشهوتهم لما يحدث، واستعذابهم لجروح الشباب ودماءهم التي تسيل، ولكن أكثر ما أرعبني بحق، كان نظرة الفخر والظفر التي ارتسمت على وجوه الشباب بعد أن نهش الوحش سواعدهم ... هذا يكفي، لا أريد أن أرى المزيد من تلك المشاهد المروعة، الشاب الثالث يتقدم الآن لمواجهة الوحش، لن انتظر لأرى ما سيحدث، علي الآن أن أعود أدراجي قبل أن يشعر أحد بوجودي ... فجأة، قبضت تلك الأصابع القوية على كتفي، أصابع ذلك المتسلل الذي اقترب من خلفي دون أن انتبه له، ونجح في الإمساك بي!
..(انتهى الجزء الثالث – ويليه الجزء الرابع والأخير)..


قصة رعب بعنوان ... (قرية الذئاب – الجزء الثالث)

ملخص ما سبق ... تتواصل مغامرة (فادي) الطبيب الشاب في قرية (كوم الأبيض) الغامضة، والمنعزلة، يتعرف على (بدور) بنت العمدة، الفتاة السمراء، الحسناء، التي تتعرض لعضة قاسية في ساعدها من ذئب شرس، ولكن (فادي) يصعق في الليلة التالية عندما يكتشف أن الآثار المروعة لتلك العضة قد زالت تماما وكأنها لم تكن!.. يفكر (فادي) في نصب فخ لتلك الذئاب التي تحاصر الوحدة الصحية في كل ليلة باستخدام مصيدة ذات حد قاطع من الصلب تستخدم لصيد الحيوانات البرية، وتكون المفاجأة الرهيبة في صباح اليوم التالي عندما يعثر في المصيدة على أصبعين!.. أصبعين بشريين!
.
انتابني ذعر رهيب عندما عثرت على الأصبعين البشريين في الفخ، لم أكن قد نمت لثانية واحدة في الليلة السابقة، أضف إلى ذلك تلك المفاجأة الصباحية المروعة، عندها يمكنك أن تتخيل ما يجول بعقل طبيب شاب، مثلي، وجد نفسه في منطقة منعزله تبعد مئات الأميال عن موطنه، يتعرض لضغوط عصبية من ذئاب تحاصره في كل ليلة تبغى الوصول إليه وافتراسه، وظواهر غير طبيعية ووقائع لا يمكن تصديقها، وأخيرا يتسبب بحماقته في قطع أصبعيين بشريين بالتأكيد لرجل من أهل القرية، لن يكون راضيا بحال عما أصابه وسيحاول الثأر ... يمكنني أن أخبرك بنفسي ... كنت أفكر في تلك اللحظة في الهرب من تلك القرية اللعينة، والعودة إلى بيتي وقريتي، ونسيان ذكريات الليلتين الفائتتين، من يصدق أن هذا كله حدث في ليلتين فقط!
عدت لداخل الوحدة الصحية، كنت أفكر في الخطوة التالية التي علي اتخاذها ... اعتدت طوال حياتي أن أكون إنسانا مسئولا، ورغم أن الهرب يبدو خيارا مغريا، إلا أنني سأبقى وأواجه، وأتحمل مسئولية تصرفاتي، أجل سأتوجه الآن إلى بيت العمدة وأعترف له بما حصل بشجاعة ... فجأة، قاطع أفكاري صهيل حصان، وصوت عجلات عربة تجرها الخيل تتوقف أمام الوحدة الصحية، أعرف شخصا واحدا في هذه القرية يمتلك عربة كتلك، إنه العمدة.
-          السلام عليكم ... كيف الحال يا (دكتور).
قالها العمدة وهو يدلف من باب الوحدة الصحية، ومن خلفه أثنين من الخفراء يحملان بنادق عتيقة، من مخلفات الحرب العالمية ... قلت بصوت مبحوح:
-          وعليكم السلام ... خير مجيئك ياسيدي، لو لم تفعل لجئتك بنفسي.
نظر في وجهي باستغراب، وهو يقول:
-          ما بك!؟.. تبدو كأنك لم تنم بالأمس، أو كأنك تحمل هموم الدنيا على ظهرك.
-          كلاهما.
دعوته إلى الداخل، ثم بدأت أحكي له عما حدث، دون أن أغفل أي تفاصيل، حتى انتهيت بالأصبعين البشريين الذي عثرت عليهما هذا الصباح ... استمع لي بوجه لا يحمل أي انفعالات، وعندما انتهيت قال بلهجة جادة:
-          أين تلك الأصابع المقطوعة!؟
-          ما زالت في الفخ.
نهض من مقعده، وتوجه ناحية الباب، وهو يقول:
-          إذا أصحبني لأراها.
تقدمت العمدة والخفيرين إلى خارج الوحدة، قدتهم إلى المكان الذي نصبت فيه الفخ، وأشرت إليه قائلا:
-          هذا هو؟
توجه العمدة إلى الفخ، وأقعى على ركبتيه يتفحصه، قبل أن يقول:
-          لا يوجد أي أصابع بشرية هنا.
انتابتني دهشة كبيرة، وأنا اقترب من الفخ بدوري، في نفس اللحظة التي أخرج فيها العمدة شيئا منه وهو يشير لي به قائلا:
-          إنهما مخلبي ذئب.
نظرت إلى ذلك الشئ الأغبر اللون الذي يرفعه العمدة، والذي تخثرت بعض قطرات من الدماء على شعيرات فرائه الرمادية، كانا بالفعل جزئين صغيرين من مخلبي ذئب أو كلب، اقتطعتهما شفرة الفخ الحادة ... عجزت عن الكلام للحظات، فقال العمدة بلهجة مشفقة:
-          هل هذا ما عثرت عليه داخل الفخ؟
-          لا ... أقسم لك، لقد كانا أصبعين بشرين، أنا طبيب ولا أخطئ في هذه الأمور.
ألقى العمدة المخلبين إلى أحد الخفراء، وطلب من الثاني أن يحمل الفخ، وهو يقول آمرا:
-          تخلصا من هذه الأشياء.
ثم عاد لي بلهجة متعاطفة وهو يصحبني إلى داخل الوحدة، مربتا على كتفي:
-          من الواضح أنك أرهقت نفسك كثيرا في الأيام الماضية ... هذه الأشياء تحدث، عليك أن ترتاح وتنال قسطا مناسبا من النوم، حتى تستعيد صفاء ذهنك.
لم استطع أن أرد هذه المرة أيضا، ولكنني أومات برأسي، وأنا أسير معه مستسلما، وهو يردف قائلا:
-          نصيحة أخيرة يابني، لا تتعرض لتلك الذئاب، فأهل القرية يتطيرون من ذلك، فهم يعتبرون قتلها يجلب النحس، كن حذرا، والتزم غرفتك في الأوقات التي تخرج فيها الذئاب، وهي بدورها ستعتاد وجودك، ولن تترصدك أو تهاجمك، هكذا نفعل جميعا.
***
قضيت النهار بطوله أحاول إقناع نفسي بأنني لم أر تلك الأصابع البشرية في الفخ، وإنها كانت مجرد تهيؤات بسبب التوتر والإرهاق لعدم النوم، كان الأمر صعبا للغاية، وفي النهاية قررت أن أتناسى ماحدث واعتبره مجرد واقعة غير قابلة للتفسير، وهي أشياء أصبحت تتكرر كثيرا في الأيام الأخيرة ... من حسن الحظ لم تظهر الذئاب في تلك الليلة، ولا في الليالي التالية لها، حتى أن ثلاثة أسابيع مضت دون أن أسمع عواء ذئبا واحدا، سألت (عبد الباسط) عن ذلك، فكانت إجابته مقتضبة كالعادة:
-          الذئاب لا تخرج في كل ليلة.
كان العمل بالوحدة الصحية هادئا للغاية، بل ومثيرا للملل ... ورغم أن (عبد الباسط) جلب الأدوية والأدوات المطلوبة في الميعاد، وكذا وزارة الصحة أرسلت تموينها الشهري بعد ذلك بأيام، وصارت الوحدة جاهزة مائة في المائة للقيام بدورها، إلا أن هناك شيئا واحدا ناقص ... المرضى!.. كان (عبد الباسط) يمر علي في الصباح الباكر فيفتح أبواب الوحدة وينظفها، ويوقظني من النوم، وننتظر أنا وهو أن يظهر المرضى، فلا يظهرون حتى المساء، عندها يغلق (عبد الباسط) الوحدة، ويرحل دون أن ينسى أن يحذرني من الخروج ليلا كعادته ... أحصيت المرضى الذين زاروا الوحدة بعد ثلاثة أسابيع من العمل، فلم يتجاوزوا أصابع اليد الواحدة، سألت (عبد الباسط) عن ذلك فأجاب ببساطة:
-          أهل القرية لا يمرضون إلا قليلا.
أنا شخصيا لاحظت أن المستوى الصحي لأهل قرية (كوم الأبيض) مرتفع للغاية، فنموذج (عبد الباسط) العملاق، صحيح البدن، فائق العافية، هو النموذج المتكرر بين رجال القرية، بل وبين نساءها أيضا، يمكنك أن تلاحظ ذلك بسهولة إذا سرت لدقائق في شوارع القرية وتأملت أهلها ... قد يكون ذلك التفسير مريح أكثر لكبريائي المهني، من التفسير الآخر بأن أهل القرية، لا يثقون في هذا الشاب النحيل، الفاشل، وفي كونه طبيبا قادرا على معالجتهم من الأمراض.
-          المولد.
قالها (عبد الباسط) ذلك الصباح، فأجبته بدهشة:
-          أي مولد؟
-          مولد (أبو الأبيض) ... أهل القرية كلهم سيذهبون إلى المولد، وستكون هناك أشياء رائعة.
لست غريبا على الموالد، فقد كنت أعشقها في صغري، وأتحمس لها، وأسافر للقرى المجاورة لحضورها، الألعاب، المأكولات، والمشروبات، والحلوى، المداحين، وجلسات الذكر، وتجمعات الشباب المتحمس الباحث عن التسلية، إنها الكرنفالات على الطريقة البلدية ... تذكرت شيئا فسألته بدهشة:
-          وهل سيخرج أهل القرية ليلا من أجل المولد؟
فأجاب باستنكار شديد:
-          ومن تحدث عن الخروج ليلا!؟
-          الموالد تكون كذلك في العادة!
-          مولد (أبو الأبيض) ينطلق مع الفجر ويتوقف قبل غروب الشمس.
***
يحكون عن (أبو الأبيض) أنه كان شابا، شجاعا، متحمسا من قرى الجنوب، وبسبب حماسته تلك وجد نفسه في مشاجرة مع أحد الحمقى ممن يظنون أنفسهم فوق البشر لما لهم من ثروة، وسطوة، وعائلة، وهذا يسمح لهم بإهانة الآخريين والتحقير من شأنهم ... ينتهي هذا الشجار بمقتل هذا الأحمق، وفرار (أبو الأبيض) وفي رقبته ثأر ودماء، ومطاردا بطغمة من الأشرار ممن يطمعون بمكافأة كبيرة من أهل القتيل ... يستمر (أبو الأبيض) لسنوات طويلة هاربا، وفي كل مرة يظن أنه قد أصبح بعيدا عن براثن من بطالبون برأسه، ولكنه يفاجئ بهم قد وصلوا إلى مكانه، فيعاود الهرب من جديد، وهكذا حتى وصل إلى تلك المنطقة البكر، المنعزلة، التي تحيطها الجبال من كل جانب، وهناك وجد ذلك البناء الغريب المشقوق في صدر الجبل، فأقام فيه يترقب وصول مطارديه، لا يعرف ماذا سيفعل، ولا إلى أين سيتوجه بعد ذلك، ولكن مطارديه لم يصلوا في تلك الليلة، ووصل بدلا منهم قطيع من الذئاب الضخمة، لم يعجبها هذا القادم الجديد الذي انتهك أرضها، وقررت أن تعاقبه على هذا الفعل بافتراسه.
يحكون أيضا عن الجسارة التي واجه بها (ابو الأبيض) قطيعا من الذئاب الضخمة وحده، وكيف تحداه قائدها في معركة حياة أو موت، استطاع ذلك الذئب الذي يقارب حجمه حجم الدب الأسود وتفوق مخالبه وأنيابه مثيلاتها لدى الأسد أن يجرح (ابو الأبيض) جراحا خطيرة، ولكن هذا الأخير استخدم ذكاءه، وقوته في أن يفاجئ ذلك الذئب ويغرز جذعا مدببا في صدره، فيرديه.
يحكون أن (أبو الأبيض) قد صار زعيما لقطيع الذئاب في تلك الليلة بعد ان قتل كبيرها، فأصبحت تطيعه وتأتمر بأوامره، وعندما وصل مطارديه من البشر في ليلة تالية، استطاع أن يقضي عليهم، ويفنيهم جميعا، بمساعدة جيشه من الذئاب، بعد ذلك أقام (أبو الأبيض) آمنا في تلك الأرض، وتزوج وأنجب ومن نسله ونسل أبنائه نشأت تلك القرية في نفس المكان، قرية (كوم الأبيض).
يحكون أنه كان خارق القوى، يتحدث بلغة الذئاب، ويقفز لعشرات الأمتار، ويعدو بسرعة الفهد، ، ويستطيع أن يصرع عشرة من الرجال وحده، وأنه كان قائدا عادلا، وتجاوزت ذريته المئات في حياته، يحكون، ويحكون، ويحكون، ولكن من سيصدق كل تلك الحكايات ... بالتأكيد ليس انا.
***
ساعات قضيتها في مولد (أبو الأبيض) في محاولة للتغلب على الرتابة والملل اللذان اكتست بهما حياتي في الأيام الأخيرة، جربت بعض المأكولات والحلوى، واستمتعت بإنشاد المنشدين والمداحين، وتابعت بعض ألعاب الحواة الساذجة والمسلية، أكثر ما كان يسعدني هو ملاحظة النشوة والسرور على وجوه الجميع وبخاصة الأطفال من أهل القرية، لقد نجح ذلك بالفعل في تغيير مزاجي العكر، بخاصة وأنا استعيد بعض الأجواء والذكريات التي كنت أعيشهما في قريتي وبين أهلي، ذكريات عذبة من أيام الطفولة، الفارق أن هذا المولد كان صباحيا، كما أنه يحمل طابعا خاصا وتيمة مميزة، لم أرها من قبل، يمكنك أن تلتمسها في أقنعة الذئاب التي يرتديها الأطفال، والحكايات التي تروى عن الذئاب، وتماثيل الذئاب المصنوعة من السكر والحلوى، وحكايات (أبو الأبيض) زعيم الذئاب، البطل المغوار الذي أنشأ هذه القرية، والتي ذكرتني قصته بقصة (موكلي) ذلك الطفل الهندي الذي ربته الذئاب في صغره، وصار زعيما لها في الكبر، لم يكن عمدة القرية صادقا تماما معي، عندما أخبرني أن أهل القرية يتطيرون من إيذاء الذئاب أو التعرض لها، الموضوع أكبر من ذلك بكثير، فكما أرى الآن، فإن أهل القرية يعشقون الذئاب ويوقرونها ويعتبرونها مكونا أساسيا في حياتهم اليومية.
في آخر اليوم، وقبل غروب الشمس بساعة، بدأ المكان يخلو تدريجيا من رواده، ووجدت نفسي بدوري أغادر المكان عائدا إلى وحدتي الصحية، التي أقضي فيها ليلتي وحيدا ... عندما وصلت إلى الوحدة وفتحت باباها وجدت مفاجأة جديدة تنتظرني، ورقة مررها أحدهم من تحت عتبة الباب، ورقة تحتوي على رسالة مكتوبة بخط يد سئ، يحوي العديد من الأخطاء الإملائية البسيطة، ولكنه كان صالحا للقراءة، والمعنى واضح ومفهوم للغاية:
** إذا كنت ترغب في إجابات عن كل الأسئلة التي تحيرك ... ستجدها الليلة في (الشونة) عند منتصف الليل**
طبقت الرسالة، وجلست أفكر فيما جاء فيها، وما يجب علي فعله، يتصارع بداخلي كيانان، الفضول والخوف ... الأول يدعوني للذهاب وإطفاء ظمأي للمعرفة، والثاني يخبرني أن تلك الرسالة فخ بين، وأن خروجي في الليل سيجعل مني دون شك طبقا رئيسيا على مائدة العشاء للذئاب في هذه الليلة ... أنا لست متهورا بطبعي، ولكنني كنت أعرف أن فضولي سيكسب المعركة في النهاية، أنا لا استطيع أن أعيش في هذه القرية، وكل تلك الشكوك تعربد في باطني، يجب أن أعرف الحقيقة، مهما كان الثمن.
***
كانت طرقات القرية وحاراتها خالية تماما من الناس في تلك الساعة المتأخرة من الليل، البيوت كلها مغلقة الأبواب والنوافذ، وأنوارها مطفأة، أسير بخطوات متوجسة، قلقة، أتساءل هل كان خياري بالذهاب إلى الشونة في هذا الوقت خيارا صائبا، ولكنني لا أملك التراجع الآن، كنت متوترا، عصبيا، توشك أعصابي على الاحتراق، كان أي صوتا خافتا لطائر ليلي أو لصرصور حقل كافيا لأن يجعلني أقفز بفزع أمتار في الهواء، كنت أتحسب بين لحظة وأخرى أن يصل إلى مسامعي ذلك العواء المرعب من مكان قريب، أو أجد نفسي في مواجهة ذئبا ضخما يسد علي الطريق، وهو يزمجر تلك الزمجرة المتوعدة، ولكن هذا لم يحدث لحسن الحظ.
وصلت إلى الشونة، فلم أجد بها أو حولها ما يريب، هل تكون تلك الرسالة، دعابة سمجة من أحد الظرفاء، أثق أن أهل قرية (كوم الأبيض) جادون بطبعهم، ولا اعتقد أن بينهم من قد يفكر في إعداد مقلب كهذا!.. كان باب الشونة مفتوحا، كأنه يدعوني للدخول، فدخلت بحذر ... الشونة كما رأيتها آخر مرة، أجولة الغلال، وأكوام القش، وبعض الأدوات الزراعية الملقاة دون تنظيم في أرجاء المكان، لا يمكن أن يكون هذا المكان مسرحا لأي أحداث مثيرة أو يحوي بين جدرانه إجابات عن ألغاز وأسئلة غامضة ... شعرت بخيبة أمل كبيرة وقررت أن أغادر المكان على الفور، ولكن فجأة وصل إلى مسامعي صوت بعض الرجال قادمون من أول الطريق متوجهين إلى الشونة، شعرت بالخوف، يجب أن أختفي بسرعة وفي أي مكان، لن استطيع أن أبرر لهم وجودي هنا، سيحسبونني لصا بالتأكيد، ولن يقتنع أيهم بأني طبيب الوحدة الصحية، الذي ألقت به المصادفة أو الدعابة السمجة إلى هذا المكان، وبخاصة أن معظم أهل القرية لم يروني في الفترة القصيرة التي قضيتها هنا ... قفزت بسرعة لأختفي خلف مجموعة من أجولة الغلال، في نفس اللحظة التي دخل فيها الرجال إلى الشونة، كانوا أربعة من الشباب، توجه أحدهم مباشرة إلى حائط قريب من مكاني، فاندسست أكثر بين الأجولة، ثم جذب ذلك الشاب ذراع معدني ناتئ يخرج من الجدار، فانشق الجدار  كاشفا عن دهليز طويل محفور في الجبل يمتد لمسافة كبيرة، دخل الشباب إلى ذلك الدهليز، قبل أن ينغلق وراءهم من جديد.
خرجت من مخبئي، وأخذت أنفض ثيابي وشعري من الغبار والقش اللذان التصقا بهما ... أشعر الآن أنني وجدت ما كنت أبحث عنه، الآن أمسك بطرف الخيط الذي سيقودني لسبر كل هذا الغموض ... في المرة الأولى التي جئت فيها لهذا المكان، شعرت بإحباط شديد عندما فوجئت أن ذلك المدخل العظيم يؤدي فقط إلى مخزن غلال فقير، الآن اكتشف أن هناك سرا مخفيا وراء جدرانه، سرا يجب ملاحقته والكشف عنه. انتظرت لدقيقة أخرى، ثم جذبت الذراع الحديدي فانشق الجدار مجددا، دخلت بسرعة إلى الدهليز الذي كان مضاء بمشاعل معلقة على الجدران، سرت في الدهليز خطوات قليلة، قبل أن يلتئم الجدار من تلقاء نفسه، فتمتمت بجزع:
-          يالحماقتي، لقد التأم الجدار دون أن أعرف طريقة فتحة من هذا الجانب!
هذا يعني أنه علي أن أكمل الطريق حتى النهاية، سرت في الدهليز عدة خطوات قبل أن ينحني بزاوية قائمة في ممر جانبي تجاه اليمين، خطوات أخرى ثم عاد ينحني يسارا وقد صار أضيق، وأكثر رطوبة، والهواء فيه أقل نقاء ووفرة، أصبحت بالفعل أبذل جهدا للتنفس ... امتد الدهليز لمسافة طويلة دون أي خيارات، كانت المسارات كلها إجبارية، وكان علي أن استمر في السير إلى الأمام، الآن أسمع صرخات وأصوات عواء مرعبة تأتي من نهاية الدهليز، الصوت يبدو خافتا من هنا، ولكنه يتعالى أكثر كلما تقدمت في طريقي  ... بعد عدة ممرات جانبية ملتوية كالثعابين، وجدت نفسي أمام مدخل بهو متسع، الآن أسمع الأصوات عالية، وواضحة، هناك أناس يصيحون في جشع وحماس، وهناك ذلك الوعواء المرعب، الأجش، المتحشرج، عواء أكثر رعبا وقبحا، من كل ما سمعته من ذئاب الأسابيع الماضية.
اقتربت أكثر من مدخل البهو، أقدامي تعجز عن حملي من الرعب والتوتر اللذان يملآن باطني، وأيضا من نقص الأوكسجين وصعوبة التنفس في هذا المكان ... ممدت رأسي ونظرت إلى داخل البهو الصخري، الدائري المحفور في قلب الجبل، بحذر، فصعقني ما رأيته هناك، ففي داخل البهو كان هناك نفرا من أهل القرية بينهم العمدة، وبينهم (عبد الباسط)، وغيرهما يتحلقون جميعا حول قفص ضخم، قوي، قبضانه مدعمه بألواح من الصلب القاسي، وبداخل القفص يوجد ذلك المخلوق الرهيب الذي كان يطلق أصوات العواء المريعة، أتسائل هل هذا المخلوق  ذئب أم إنسان، أم أنه هجين من كليهما، لم أر في حياتي شيئا بهذه الأوصاف المرعبة، جسد بشري، عضلي ضخم، يربو على المترين طولا، يغطي صدره، وعانته، وأعلى فخذيه، فراء كثيف، أبيض كالثلج، له شعر أبيض طويل ينسدل على ظهره وكتفيه، ملامح وجهه وعينيه بشرية إلى حد كبير، وإن كانت تحمل قسوة وتحوش حيوانيين، أما أنفه وفكه ذو الأنياب الحادة فكانا بارزين خارج وجهه كالذئاب، حادة، أما أذناه فكانت طويلتين، ومدببتين، ومنتصبتين على جانبي رأسه.   
في البداية لم أفهم ما يفعلونه بالضبط، ولكنني شعرت بالقشعريرة ، والذعر الحيواني يسري في باطني عندما فهمت، كانوا يختارون شابا من بين عددا من الشبان يقف في صف قصير، كانوا ينادون باسمه، ويحمسونه، ويشجعونه، ويدفعونه دفعا تجاه القفص، حتى يقترب الشاب منه، ومن الخوف الذي يرتسم على وجهه، يمكن أن تجزم أنه يمر بتجربة مريعة، يمر بها للمرة الأولى في حياته، ولكنه مضطر لآن يفعلها ... يقترب الشاب من القفص مدفوعا بالتشجيع، وبرغبته في إثبات جرأته أمام الحضور، يكشف عن ساعده الأيمن، ثم يمد ذراعه  إلى داخل القفص، يقترب الوحش من الشاب بخطوات ثقيلة، بطيئة، يسير فيها على أربع أحيانا أو يعتدل ويسير على قدمين، وقد صوب عينيه إلى عيني الشاب بنظرات حادة، مرعبة، جشعة، ثم يقبض الوحش على ساعد الشاب بقوة، ويغرس فيه أنيابه في عضة هائلة تفصل اللحم عنه، يصرخ الشاب في ألم ورعب، فيخلي الوحش عنه، لتتدفق الدماء من جرح الشاب، ومن فم الوحش، الذي يلوك اللحم باستمتاع، قبل أن يرفع رأسه لأعلى وهو يطلق عقيرته بذلك العواء المرعب، الأجش ...  يتراجع الشاب بعيدا عن القفص، وهو يحمل ذراعه المجروح، ويرفعه بعنت ليشير  بأثر العضة فيه إلى الحضور الذين تتعالى صيحاتهم بحماس ونشوة، قبل أن يتوجهوا إلى الشاب الثاني ليسوقوه إلى مواجهة الوحش كصاحبه.
كان المنظر مرعبا بحق، منظر ذلك الوحش الرهيب، الشبيه بالبشر وهو يلوك اللحم البشري، ومنظر تلك الدماء وهي تسيل من فمه، ومن جرح ضحيته، ومنظر الحضور وشهوتهم لما يحدث، واستعذابهم لجروح الشباب ودماءهم التي تسيل، ولكن أكثر ما أرعبني بحق، كان نظرة الفخر والظفر التي ارتسمت على وجوه الشباب بعد أن نهش الوحش سواعدهم ... هذا يكفي، لا أريد أن أرى المزيد من تلك المشاهد المروعة، الشاب الثالث يتقدم الآن لمواجهة الوحش، لن انتظر لأرى ما سيحدث، علي الآن أن أعود أدراجي قبل أن يشعر أحد بوجودي ... فجأة، قبضت تلك الأصابع القوية على كتفي، أصابع ذلك المتسلل الذي اقترب من خلفي دون أن انتبه له، ونجح في الإمساك بي!
..(انتهى الجزء الثالث – ويليه الجزء الرابع والأخير)..

قصة رعب بعنوان ... (قرية الذئاب – الجزء الرابع والأخير)
ملخص ما سبق ... رسالة غامضة تدعو (فادي) للذهاب إلى الشونة بعد منتصف الليل لكشف سر هذا الغموض الذي يهيمن على كل شئ في قرية (كوم الأبيض) ... فيدفعه فضوله للذهاب إلى هناك رغم المخاطرة الكبيرة، قبل أن يكتشف باب سري في أحد جدران الشونة، يقوده ذلك الباب إلى دهليز طويل، ممتد في قلب الجبل، ينتهي ببهو متسع تقام فيه طقوس مروعة، طقوس يقوم فيها وحش ضخم، ذو فراء أبيض اللون، هو خليط بين الإنسان والذئب بنهش سواعد بعض الشباب بطريقة وحشية، الغريب أن هؤلاء الشباب تعلو وجوههم إمارات الفخر، والظفر، رغم تلك الجروح المرعبة التي خلفتها الطقوس في أجسادهم، وذلك وسط تشجيع هستيري من الحضور المتحمس ... وقبل أن يقرر (فادي) الاكتفاء بما رأى، وسمع، والابتعاد عن هذا المكان المرعب، تقبض يد قوية على كتفه من الخلف ...
.
تلفت خلفي في جزع، وكادت الصرخة تنطلق من فمي، لولا تلك اليد التي كتمت الصرخة فيه، وتلك النظرة المحذرة التي رمقتني بها (بدور) وهي تدعوني للحاق بها ... سارت (بدور) بخطوات سريعة نحو مدخل الدهليز، فتبعتها حتى وصلنا إليه، فجذبت ذراعا حديدية مخفية في الجدار، فانشق الجدار مجددا ... خرجت (بدور) من الدهليز، ولحقت بها، وأنا أقول:
-          لقد أرعبتني يا (بدور)، يداك قويتان لا تنبئ بهما ملامحك الرقيقة.
ابتسمت (بدور) في خفر لثانية واحدة، قبل أن تزول تلك الابتسامة، ويحل محلها ملامح جادة على وجهها، وهي تشير لي كي نبتعد سريعا عن هذا المكان ... سألتها بفضول، وأنا ألهث للحاق بها:
-          هل أنت صاحبة الرسالة!؟
أومأت برأسها، فسألتها مجددا:
-          ولماذا لم تخبريني ذلك بنفسك؟
توقفت عن السير، والتفتت لي وهي تقول بجدية:
-          حتى لا يروني معك، إنهم يشكون الآن أنك صرت تعرف الحقيقة، ولا أريدهم أن يعرفوا أنني من أخبرك بها.
عادت (بدور) مرة أخرى للسير بنفس تلك الخطوات السريعة، الرشيقة، التي أجاهد كي استطيع مجاراتها، سألتها بفضول:
-          ما تلك الطقوس الغريبة؟
-          ألم تفهم بعد؟
-          أفهم ماذا؟
التفتت لي، وهي ترمقني بتلك النظرة المتفحصة، لتعرف ردة فعلي تجاه ما ستقوله:
-          ألم تفهم أنه لا يوجد أي ذئاب في قريتنا؟
قلت بحيرة:
-          كيف ذلك لقد رأيت أحدها بعيني؟
كنت أراجع الأحداث الأخيرة في عقلي في تلك اللحظة، فصرخت بفزع، وقد أدركت ما ترمي إليه:
-          هل تقصدين أن هذه الذئاب هم ...
لم أجد التعبير المناسب، فأكملت هي قائلة:
-          بشر متحولون ... جميعهم أصبحوا كذلك، بعدما عضهم (أبو الأبيض).
ارتسم الذهول على ملامحي، وأنا أقول
-          هل هذا الوحش هو (أبو الأبيض) نفسه، سمعت حكايته في المولد!؟
-          هم يطلقون عليه هذا الاسم، وتقام تلك الطقوس في شهر المولد الخاص به.
كنا قد اقتربنا من الوحدة الصحية، وكنت قد أصبت بالحيرة والارتباك تماما، فسألتها مجددا:
-          منذ متى وهذا الوحش هنا!؟
-          البعض يقولون مائة سنة، والبعض الآخر يقول أنه هو (أبو الأبيض) نفسه الذي يتحاكى الجميع بحكاياته، وهناك من يقول أنها هبة يحملها ذئب واحد في القطيع.
تمتمت بصوت وجل:
-          الذئب (الألفا) ... الزعيم.
لم تعلق على تصريحي الأخير، فسألتها:
-          وهل هو من أهل القرية!؟
-          لا أحد يعرف من هو ... لا أحد.
أوصلتني إلى الوحدة الصحية، ففتحت الباب ودعوتها للدخول، فرفضت، وهي تقول:
-          أهرب ... لا تنتظر يوما آخر ... لقد حاولوا إخافتك في البداية لترحل من تلقاء نفسك، الآن هم يشكون في معرفتك للحقيقة، ولن يسمحوا لك بالرحيل أبدا وأنت تعرفها ... أهرب قبل أن تضيع الفرصة.
 نظرت في عينيها، وأنا أقول بصوت خافت:
-          هل تأتين معي؟
ابتسمت ابتسامة مريرة، وهي تقول:
-          لا استطيع، من يولد في هذه القرية، يبقى فيها، ولا يتركها حتى آخر يوم في عمره.
قلت بعناد:
-          إذا سأبقى.
-          لا يمكنك ان تفعل هذا، إنه انتحار.
صمتت للحظة، ثم أردفت بصوت حزين:
-          كما أنني صرت مثلهم، هل نسيت!؟ ... لقد كنت أرفض وبشدة ذلك التحول ولكن والدي أجبرني عليه، فشعرت بالفزع وهربت في تلك الليلة، ووجدت نفسي أمام باب الوحدة الصحية ... لم أكن أرغب في ذلك ولكن شفاء جرحي بتلك الطريقة دليل على أن التحول قد بدء بالفعل.
كنت أشعر بشئ ما تجاه تلك الفتاة الجنوبية، الحسناء، الثائرة، لقد اقتحمت عالمي في لحظة واحدة، والآن أصبحت جزء أساسيا منه، فقلت لها محاولا إقناعها:
-          تعال معي، وسنجد علاجا لذلك.
-          لا يوجد علاج ... أنا لا ألوم أبي على ما فعله، فهو فعله بي كي يشفيني من مرض كاد يودي بحياتي، الآن أنا أشعر بالصحة والعافية، قد لا يكون الأمر بهذا السوء.
صمتت للحظة، ثم أردفت بصوت متهدج:
-          أرجوك أرحل، فأنا لا أريد أن يحيق بك أي مكروه، لا أريد ذلك أبدا.
أخذت أفكر للحظات ثم زفرت في يأس، وأنا أقول:
-          حسنا ... ولكن عديني أن تعيدي التفكير الليلة فيما طلبته منك، ولو غيرت رأيك فسأنتظرك هنا بعد الفجر لنرحل معا.
ارتسمت على وجهها ملامح الارتياح، وهو تقول بابتسامة هادئة:
-          أعدك ... ولكن عدني أنت أيضا أن ترحل وحدك إذا لم آتي، ولا تنتظر دقيقة واحدة.
-          أعدك.
كانت قد بدأت تسير مبتعدة بالفعل، فسألتها بصوت عال، قبل أن تذهب:
-          هل أهل القرية جميعهم من المتحولين!؟
فالتفتت لي قائلة:
-          لا ... تقام تلك الطقوس لمن يرغب من الشباب بعد بلوغ العشرين عاما، أحيانا تنجح ويتحول الشاب إلى ذئب يجوب أرجاء القرية في الليالي القمرية الثلاثة، وأحيانا لا تنجح فيعيش بشريا حتى آخر عمره، والبعض يمرض بسبب تلك العضات وقد يموت ولا يشفى من أثرها.
سألتها مجددا، وكنت أرغب في أن أجعلها تبقى معي بعض الوقت:
-          وما فائدة ذلك التحول !؟
-          القوة الهائلة، والشفاء من الأمراض ... يقول من جرب هذا الشعور أن شعور رائع لا يمكن وصفه، شعور بالقوة والتحرر.
-          وهل يسقط ضحايا بسبب ذلك؟
ابتسمت بحزن وهي تقول:
-          عندما يتحول المرء إلى ذئب يفقد بشريته تماما ويمسي حيوانا مفترسا، الجميع يأخذ الحذر، ولكن الحوادث تحدث أحيانا.
***
نمت ساعتين من التوتر والعذاب، من تلك الساعات النابغية التي يفرشن فيها العائدات هراسا يعلو الفراش ويقشب،  وصحوت قبل الفجر بدقائق، فأعددت حقيبة صغيرة مما يمكن حمله، بالتأكيد لن يكون متاحا لي أن أهرب بحقيبة سفري كلها، كنت أفكر في التراجع عن الهرب، لو لم تأتي (بدور) فسيكون جبنا مني أن أتركها، وأهرب بعد أن شعرت بذلك الرابط الذي يجمعني بها، ولكن ماذا لو لم أرحل!؟ هل استطيع أن أعيش في مجتمع من الذئاب المفترسة، بالتأكيد لا مكان لي هنا، هل أتقدم لخطبتها وأتزوجها، وأنا أعلم أنها ستتحول إلى ذئبة تعدو في البراري في الليالي القمرية، وهل سيقبل بي أهلها ويقيمون الولائم والأفراح، أم أكون أنا وليمتهم التي يفترسونها، ويتلذذون بلحمها بين أنيابهم وبراثنهم ... أكاد أجن!
بعد الفجر بنصف ساعة، سمعت تلك الطرقات على الباب، رقص قلبي طربا، لقد وافقت (بدور) على الرحيل معي إذا، التقطت حقيبتي، وأسرعت بنشوة ناحية الباب وفتحته، فوجدت بابا آخر خلفه! لا لم يكن بابا آخر! إنه (عبد الباسط)! ما الذي جاء به الآن يا ترى!؟ لم يمهلني (عبد الباسط) لأفكر وهو يلقي نظرة على الحقيبة التي في يدي وهو يقول بصوته الجهوري:
-          العمدة يريدك؟
-          الآن.
-          لنؤجلها للصباح.
-          لا ... الآن.
من الواضح ان هناك كارثة على وشك الحدوث، وها هو (عبد الباسط) يأتيني بالبشارة، سألته بحذر:
-          وماذا يريد العمدة!؟
-          لا أعرف.
وصلت إلى منزل العمدة الذي استقبلني تلك المرة استقبالا فاترا أكد توقعاتي، وطلب مني الجلوس، وجلس هو على المقعد المقابل، وخلفه نصف دستة من الخفر، سألني العمدة وعلى وجهه ابتسامة كريهة:
-          كيف الحال؟
-          رائع ... الحال أروع من الروعة.
اتسعت ابتسامته، قبل أن يسألني بحدة:
-          أين ساعتك؟
تحسست رسغي الأيسر بآلية، لم تكن الساعة فيه، يبدو أنني فقدتها في مكان ما، لم ينتظر العمدة إجابتي وهو يردف:
-          لا تقلق لقد عثرنا عليها.
ثم التفت إلى أحد الخفراء خلفه، وهو يأمره:
-          أعطيها له يا (مخيمر).
اقترب مني (مخيمر) وهو ينظر لي نظرة كراهية غير مبررة، وناول الساعة لي بغلظة بيد مغطاة برباط من الشاش، فأضاف العمدة:
-          أعذر (مخيمر) فهو ليس في مزاج جيد ... وبخاصة بعد تعرضه لحادثة مؤسفة من أسابيع فقد فيها أصبعين من أصابعه.
تدلى فكي السفلي في رعب، وأنا أوجه ناظري بين يد (مخيمر) المربوطة بالشاش، وعينيه اللتان تحدقان في بكراهية ... حاولت الحديث فخرج صوتي ضعيف خائرا، أنا نفسي لم افهم ما حاولت قوله ... نهض العمدة واقترب مني، وقد تبدلت ملامحه بملامح غليظة، مقيتة، وهو يسأل بلهجة حادة:
-          ألن تسأل أين وجدنا ساعتك؟
مرة أخرى لم ينتظر ردي وهو يردف:
-          لقد وجدناها هناك في كهف (أبو الأبيض) عندما كنت تتلصص علينا.
كنت عاجزا عن الكلام أو حتى عن الأتيان بأي رد فعل، كنت أشعر برعب شديد، أعرف الآن شعور الفأر في المصيدة ... أشار العمدة إلى خفرائه العمالقة ومعهم (عبد الباسط) فهجموا علي جميعا، وحملوني كدمية صغيرة، حاولت المقاومة، وأصابه بعضهم ببعض الركلات واللكمات القوية، لست متأكدا إذا كان أحدا منهم قد شعر بها من الأساس، في النهاية وجدت نفسي محبوسا في زنزانة بالقبو أسفل منزل العمدة، زنزانة من غرفة واحدة بدون نوافذ، لها باب واحد مدعوم بقضبان من الحديد الصلب.
***
عدد من الليالي لا أكاد أحصيها قضيتها في تلك الزنزانة، دون أن أرى أحدا سوى (عبد الباسط) الذي كان يجلب لي الطعام ... في كل مرة كنت استجديه أن يساعدني، وأذكره بذكرياتنا سويا، ثلاثة أسابيع معا في الوحدة الصحية وجها في وجه في غياب المرضى، ولكنه كان ملتزما للصمت كعادته، يضع الطعام وآنية الماء أمام الباب وينصرف ... حاولت الهرب بفتح الباب عنوة، أو بالعبث في قفله، أو حتى بحفر نفق في الأرض أو فجوة في الجدران، ولكنها كانت جميعا محاولات بائسة، وغير مجدية.
في ذلك اليوم، كانت الساعة الثالثة عصرا، عرفت الوقت من ساعتي اللعينة التي فضحتني، سمعت صوت خطوات على درج القبو، فنظرت من بين القضبان لأعرف القادم، فرأيتها تهبط الدرجة، فصحت بفرحة:
-          (بدور).
أومأت برأسها مشجعة، شعرت بسعادة شديدة لرؤيتها، ثبطها ظهور (عبد الباسط) من خلفها ... اقتربت (بدور) من باب الزنزانة وأولجت مفتاحا في قفله الضخم وفتحته، اندفعت إلى خارج الزنزانة وأمسكت بيدها، وأنا أقول:
-          الحمد لله أنك بخير ... لقد كنت قلقا عليك.
-          وأنت أيضا ... لماذا لم تهرب كما طلبت منك.
تذكرت وجود (عبد الباسط) فتراجعت خطوة في قلق، فقالت (بدور)  مشجعة:
-          لا تقلق (عبد الباسط) معنا، وهو يرى أنك إنسان طيب لا تستحق المصير الذي يعد لك.
التفت إلى (عبد الباسط)، ثم صافحته، واحتضنه وأنا أقول له شاكرا:
-          شكرا لك ياصاحبي.
لم يبد على (عبد الباسط) انفعالا كعادته، ولكنني شعرت أنه مسرور، هذا العملاق القاسي الملامح يحمل داخله قلبا رقيقا ... قاطعت (بدور) تلك الفكرة وهي تقول:
-          هيا بسرعة ليس لدينا الكثير من الوقت، المنزل خال، والجماعة في الشونة، وفرصتك الآن للهرب.
-          هل ستأتين معي.
-          قلت لك لا استطيع.
-          إذا سأعود لك يوما.
أطرقت برأسها إلى الأرض وهي تقول:
-          سأنتظرك.
خرجنا من المنزل، كان (عبد الباسط) قد جلب حقيبتي من الوحدة الصحية، ووضعها على ظهر الحمار، وساعدني على ركوبه، قبل أن يهمس في أذني:
-          أربط الحمار في محطة عم (عفيفي)، ولا تتركها تعود ليلا وحدها.
قالت (بدور) موضحة:
-          الليلة هي أولى الليالي القمرية، والناس تربط بهائمها داخل الحظائر حتى لا تتعرض للافتراس ...
كانت لحظات الوداع قصيرة، كنت حريصا على أن أهمس لها بتلك الكلمة في أذنها:
-          شكرا لك ... أحبك!
وكانت هي حريصة على أن تهمس في أذني:
-          كن حذرا.
ناولتني في يدي خنجرا حادا، دسسته في ثيابي، قبل أن تردف:
-          خذ هذا معك، أتمنى ألا تحتاج لاستخدامه!
***
انطلقت بالحمار في طرقات القرية الخالية، حتى وصلت إلى آخرها، وإلى بداية الطريق الهابط نحو سهل الجبل، كنت أحث الحمار على الأسراع، فساعات قليلة ويحل المساء وتبدء حفلة الذئاب، بعد عشرة دقائق وصلت إلى مفترق الطرق، أمامي طريقين واحدا لليسار وآخر لليمين، حاولت التذكر من إيهما جاء بي (عبد الباسط) إلى القرية، ولكن كلاهما بدا لي متشابها، فاخترت أن أسلك الطريق الأيمن ... كان الطريق وعرا وملئ بالصخور والعقبات، ولم يكن معي (عبد الباسط) ليحملني أنا والحمير من فوقها، ولكن الرعب الذي كنت أشعر به مع كل دقيقة تمضي كان كافيا لآن يبعث في عروقي طاقة وحماس يجعلاني قادر على تخطى أي عقبة ... مرت ساعة ولم تكن نهاية الطريق قد ظهرت، نظرت إلى الشمس التي كانت متعجلة للرحيل في هذا اليوم أكثر من العادة، فتمتمت بتوتر:
-          اللعنة ... لماذا لا ينتهي هذا الطريق اللعين!؟
لكزت الحمار في بطنه بكعب حذائي، فانطلق يعدو في الطريق الذي أوجهه إليه، بعد نصف ساعة أخرى انتهى الطريق، ووجدت نفسي عند مفترق الطرق أمام القرية، اللعنة، لقد كنت أسير في دوائر، لقد عدت من حيث بدأت، والكارثة أن الشمس قد غابت تماما، وبدأ القمر يعتلي صفحة السماء.
في هذه المرة اتخذت الطريق الأيسر، ومن معالمه أدركت أنني في الطريق الصحيح، كان الأمر ليكون رائعا لولا صوت العواء الأول الذي انطلق من مسافة غير بعيدة.
***
كان العواء الثاني أعلى من الأول وبدا قريبا من مكاني، انتصب الشعر على معرفة الحمار، وارتفع ذيله وجحظت عيناه، وتعالى صوت أنفاسه، وتسارعت خطواته أكثر وأكثر، من الواضح أنه يشعر بخطر شديد، وأن هناك ضواري في أثره، لم أكن أفضل حالا من الحمار، كنت أتلفت خلفي في ذعر، أحث الحمار على الإسراع بصرخات هستيرية ... لم نكن قد قطعنا نصف الطريق  عندما ظهرت جماعة الذئاب على مسافة خمسائة متر من موقعنا، عشرة من الذئاب تعدو بسرعة هائلة في محاولة للحاق بالفريستين اللتين أوقعهما حظهما العاثر في طريقها هذه الليلة.
كان الحمار مهتاجا، ولم يكن يحتاج إلى أي مساعدة مني، فقد كان يعدو بأقصى سرعة، كان يعدو من أجل حياته هو لا حياة راكبه، ولكن المسافة كانت تضيق شيئا فشيئا، كانت سرعات الذئاب متفاوتة، وكان أحدها قد صار قريبا منا جدا سابقا لأصحابه، وبقفزة واحدة على الحمار استطاع إسقاطه على الأرض، وربض فوقه بجسده الضخم، تدحرجت أنا لمسافة أمتار بعد السقوط ولكنني نهضت مسرعا، فكرت في مساعدة الحمار، ولكن وصول ثلاثة ذئاب أخرى وهجومهم على الحمار بشراسة، وشروعهم في تمزيق لحمه وسط صرخاته المستغيثة، جعلني استدير على عقبي وانطلق أعدو مبتعدا عن المكان، كانت الذئاب تتوافد إلى جسد الحمار وتتكالب عليه، وكنت أنا ابتعد بسرعتي البشرية المحدودة، كنت اتلفت خلفي في جزع، فلمحت واحد من تلك الذئاب ينفصل عن المجموعة وينطلق في أثري ... كنت الآن أعدو على حافة جبلية ضيقة تحتها منحدر جبلي، يرتفع ثلاثون مترا عن القاع، وكان ذلك الذئب يطاردني بإصرار ... كنت موقن أنني مدرك بعد لحظات ، ولا أملك أي فرصة للهرب، ولا أعرف مكان يمكن أن ألتجئ إليه الآن، ثوان وشعرت بتلك الضربة الهائلة كأن قطار صدمني من الخلف، فسقطت على الأرض فوقي ذلك الذئب يحاول غرز مخالبه وأنيابه في جسدي، أخذت أدفع رأسه العملاق بيأس بعيدا عن جسدي، تذكرت الخنجر الذي أعطته لي (بدور) فانتزعته من داخل ثيابي، وغرسته في كتف الوحش قبل ثانية واحدة من نجاحه في نهش رقبتي ... أطلق الذئب صرخه متألمة وسقط من فوقي فنهضت بسرعة، لأجد ذئبين آخرين يحاصراني وهما يطلقان زمجرات متوحشة، تقدما مني فتراجعت للخلف برعب، فجأة شعرت بأنه لا أرض تحت أقدامي، حاولت التمسك بأي شئ فلم استطع، وسقطت من فوق المنحدر.
***
سقطت من فوق الحافة نحو صخور القاع بسرعة كبيرة بفعل عجلة السقوط الحر، جرى شريط ذكريات حياتي أمام عيني في تلك اللحظة، إنها النهاية إذا، سؤال وجودي سيطر على عقلي في لحظة النهاية، هل السقوط محطما من فوق حافة جبل أفضل من الانتهاء في بطون الذئاب وأحشائهم، سؤال غريب في وقت يقترب فيه وجودي ذاته من الانتهاء، أغمضت عيني، وانتظرت الارتطام، ولكنه لم يحدث!.. شعرت بدلا من ذلك بالصدمة الأولى التي هدأت من سرعة سقوطي، وبعدها صدمة ثانية، وثالثة، قبل أن يتوقف جسدي معلقا على بعد مترين من القاع وقد اشتبك قميصي، في فرع شجرة ضخم، نظرت حولي في ذهول محاولا أن أعرف سر نجاتي من تلك السقطة المميتة، فعرفت أن السبب كان هو تلك الشجرة العملاقة التي تمتد فروعها متسلقة الحافة لجبلية لعشرات الأمتار، والتي خفف ارتطامي بها من سرعة سقوطي، وأخيرا التقطتني هي كالأم التي تلتقط صغيرها قبل تعثره.
خلعت قميصي فسقطت على الأرض بقوة، قبلت جذع الشجرة الضخم في امتنان، واسترحت إليه لثوان قليلة، بعدها انطلقت مبتعدا، ما زلت أسمع أصوات الذئاب من فوق الحافة، يبدو أنها تأتي على ماتبقى من جسد الحمار المسكين ... لقد ابتعدت الآن عن الطريق الأصلي، ولكنني استطيع أن أسير بموازاة الحافة،  قد يعيدني هذا إلى الطريق، الشئ الرائع أنه كلما ابتعدت، كان أصوات الذئاب تخفت وتبتعد، إذا أنا في الطريق الصحيح.
بعد ساعتين من السير بجسد منهك، مليئ بالجروح والكدمات، رأيت تلك الأضواء من بعيد، دفع ذلك في دفقا من الحماس، فانطلقت أعدو كالمجنون ناحية الأضواء، وعندما اقتربت صرخت بابتهاج، فقد كانت تلك هي محطة (بنزين) عم (عفيفي)، لقد نجوت، أخذت أنادي على عم (عفيفي) الذي خرج من داخل الاستراحة مدهوشا من ذلك الذي ينادي باسمه في نياط الليل، ولكنه عندما رآني تذكرني، واندفع نحوي بخطواته العرجاء، وهو يقول بلهفة:
-          دكتور (فادي) ... ما بك، تبدو في حالة سيئة؟
كدت أسقط فتلقاني ذلك العجوز الطيب وأجلسني على الأرض، كن أتمتم بكلمات مرتعدة، هستيرية:
-          القرية ... الذئاب ... (بدور).
-          إهدء يابني.
دخل بسرعة إلى الاستراحة وجلب زجاجة ماء وأخذ يسقيني منها حتى هدأت ... كنت أشعر بالتعب والإرهاق، أوشك على السقوط في إغماء، ولكنني قررت أن أخبر عم (عفيفي) بما حدث:
-          القرية بها سر رهيب.
-          أعرف.
-          هل كنت تعرف حقا؟
-          بالتأكيد ... فأنا من سكان القرية.
نظرت نحوه في دهشة وانا أردد:
-          من سكان القرية!
اعتدل عم (عفيفي) وابتعد عني بخطوات طبيعية غير عرجاء، قبل أن يقول بصوت متحشرج مرعب:
-          أجل أنا منهم.
الرعب لا يريد أن ينتهي أبدا في هذه الليلة، فأمامي وعلى مسافة أمتار قليلة، بدء جسد عم (عفيفي) العجوز، الطيب، الأعرج، يستطيل ويتضخم ويكتسب كتلة عضلية هائلة، قبل أن يمزق هو ثيابه بأصابعه المخلبية ليبدو تحتها ذلك الفراء الأبيض كالثلج، قبل أن يستطيل أنفه وفكه وتبرز أنيابه الحادة، الطويلة، اللامعه، وهو يرفع رأسه ليناجي القمر المكتمل بعواء طويل، خشن، مرعب.
كنت ضعيفا، عاجز عن النهوض تماما، وجدت نفسي أتمتم بكلمة واحدة:
-          (أبو الأبيض).
أقعى عم (عفيفي) الذي تحول إلى زعيم تلك الذئاب (أبو الأبيض) على يديه، وإخذ يقترب مني على أربع وهو يزمجر زمجرة مرعبة ... استجمعت آخر ذرات متبقية من إرادتي حتى أنهض والتقط حجرا ضخما من الأرض، وصرخت مهددا ذلك الوحش:
-          سأقاتل حتى النهاية أيها اللعين، لن أكون فريسة سائغة لك.
فجأة ظهر قطيع الذئاب من العدم، وتقدموا خلف (أبو الأبيض)، وأحاطو بي من كل جانب، في حلقة دائرية كنت محاصرا في منتصفها، حاول أحد الذئاب التقدم ناحيتي، فأصدر (أبو الأبيض) زمجرة متوعدة، فتراجع الذئب في خوف واحترام، تقدم (أبو الأبيض) مني وحده، فألقيت الحجر على رأسه فأصابه، ولكنه لم يبد متأثرا بتلك الأصابة، مددت يدي لالتقط حجرا آخر في نفس اللحظة التي قفز فيها علي ذلك الوحش الرهيب، فاغرا فمه ومشرعا أنيابه كالسيوف.
***
كتبت آخر سطر في مذكراتي ووضعت القلم وأغلقت المذكرات، اقتربت مني زوجتي ووضعت كوبا من الشاي أمامي، فالتقطت يدها وقبلتها في امتنان، فقبلت هي رأسي في حب وحنان، تحسست بطنها المنتفخ الذي ينبئ بمولود صغير قادم للوجود بعد أيام قليلة، قالت لي زوجتي بدلال:
-          هل تعرف أي ليلة هذه؟
ابتسمت وأنا أقول:
-          بالطبع يا (بدور) يا حبيبتي، إنها أول ليلة قمرية في هذا الشهر.
ابتعدت نحو الشباك وفتحته، كانت الشمس موشكة على المغيب، فقالت لي (بدور):
-          هل ستذهب الليلة يا (فادي)؟
ابتسمت وأنا أخلع قميصي، قائلا:
-          أجل ... قليل من الجري والعواء في هذه الليلة لن يضر أحدا.
.. (تمت) ..
 
 
 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق