قصة رعب قصيرة بعنوان ... (شبح المصعد –
الجزء الأول)
أنا طيار ... هذه هي مهنتي ... أما عن
حالي فأنا إنسان متوسط الحال ... متوسط الحال ماديا، وثقافيا، وحتى مؤهلي فهو
متوسط أيضا، لم يكن لي حظا في الحصول على مؤهل عالي ... ورغم أنني جاوزت منتصف
العقد الثالث من العمر، إلا أنني ما زلت أعيش مع والدي في منزلهما الصغير، في ذلك
الحي الشعبي ... لست متشائما بطبعي، ولكنني لا أحمل أملا حقيقيا في تغيير هذا
الحال في وقت قريب، وبخاصة مع تلك القروش القليلة التي أتكسبها من عملي، والتي لا
تكفي إلا للحفاظ على ماء وجهي أمام والدي، وأنا أتظاهر بالمشاركة في مصاريف
المنزل، وأنا أعلم يقينا أن ما أعطيه لهما لن يغطي حتى نصف ما ينفقانه علي،
ولكنهما كعادة الآباء الشرقيين لا
يصارحانني أبدا بالحقيقة، والحقيقة هي أنني أمثل عبأ كبيرا عليهما، وأنه في هذه
السن كان يجب أن أكفلهما أنا، لا أن يكفلانني هما ... أحيانا تحمل كلماتهما بعض
التلميح الضمني، فعندما تتمنى أمي علي الزواج حتى ترى أبنائي قبل موتها كما تقول،
أو عندما يتنهد أبي في إرهاق، وهو يقول أنه قد بلغ من العمر عتيا، وإنه قد آن له
أن يرتاح، ويغلق تلك الورشة التي أصبحت ترهقه بعملها وعملائها، فلسان حالهما يحمل
دعوة للمضي قدما في حياتي بعيدا عن كاهلهما، الذي أصبح ينوء بحملي، ولكنني أضطر
لتجاهل الدعوة الضمنية في كلامهما، وأنا أدعو لهما بالصحة وطيلة العمر!.. ليس كسلا
مني، ولا تواكلا، ولكن تلك هي ظروف المجتمع الذي أعيش فيه، الذي أصبح كارها، وطاردا
للشباب من جيلي.
-
(ناصر) ... طلبية لشقة (22)، الطابق الثامن، بناية رقم
(66)، شارع البحيرة.
قالها رئيسي في العمل، وهو يناولني أربعة
صناديق من (البيتزا) بالحجم الكبير، وورقة مكتوبة بخط اليد فيها العنوان، وأخرى تحوي
فاتورة مطبوعة تحمل ثمن (البيتزا) ... أنا من هؤلاء الذين يقومون بتوصيل الطعام
السريع إلى المنازل على دراجاتهم البخارية، مهنة من المهن الشائعة بين الشباب الذي
لا يجدون عملا مناسبا هذا اليوم، ويرفضون البقاء عاطلين في منازلهم، أو التسكع على
المقاهي ... وقواعد هذا العمل بسيطة، ولا تحتاج للكثير من الخبرات، فقط عليك أن
تمتلك القدرة، والمهارة، على قيادة تلك الآلة اللعينة، المنفلتة، المسماة دراجة
البخارية، وذلك دون السقوط من عليها ودق عنقك، أو الاصطدام بها في سيارة، أو شاحنة،
أو في أحد أعمدة الإنارة، وأن تحمل في صندوقها الخلفي تلك الأطعمة السريعة التي
أصبحت لعنة العصر، وسبب معظم أمراضه، وأن تصل بها سليمة إلى مريديها بسرعة كبيرة،
أو كما يقال بالعامية (طيارة) ... ألم أقل لكم أن مهنتي (طيار)!
وصلت إلى شارع (البحيرة) بعد نصف ساعة،
رغم أن المسافة لا تستغرق عشرة دقائق سيرا على الأقدام، لكنت فعلتها لولا هذا الحر
القائظ، كان الزحام خانقا، وجميع الطرق شبه مغلقة، يقولون أن هناك مؤتمرا من أجل
شئ ما، وهناك بعض الضيوف من الخارج، جاءوا مشكورين من أجل مناقشة هذ الشئ بشفافية،
وجدية تامة!.. أخذت أتفحص أرقام بنايات شارع (البحيرة) بحثا عن البناية رقم (66)،
حتى بلغت نهاية الشارع مع الرقم (65) ... لا يوجد بناية برقم (66)، ترى هل أخطأ
رئيسي في العمل في نقل العنوان، أخرجت هاتفي معتزما أن أتصل به، وأسأله عن العنوان
الصحيح، وأسمع منه بعض كلمات التأنيب، والتوبيخ التي يعشق توجيهها لي دون ذنبا مني
أو جريرة، وقعت عيناي في تلك اللحظة على تلك البناية الشاهقة، حديثة الإنشاء، التي
تقف وحيدة، منعزلة، بطوابقها التي تتجاوز العشرة طوابق، والتي يفصلها عن نهاية شارع
(البحيرة)، أرض فضاء تمتد لأكثر من مائة متر، من الواضح أن أعمال البناء لم تنتهي
في تلك البناية بشكل كامل، كما بدا لي من تلك الثقالات، والأوناش، التي ما زالت
معلقة على جدارها الشرقي، الذي لم يكتمل طلاؤه كله بعد ... سألت نفسي، أتكون تلك
هي البناية المنشودة !؟
***
-
إنها هي.
تمت بها في ظفر، وأنا أقرأ رقم البناية
المكتوب على لوحة معدنية جوار مدخلها، تلفت حولي بحثا عن بواب البناية، فلم أجده،
مدخل البناية مهمل، وغير نظيف، والتراب يغطي كل شئ، حتى ذلك المقعد الخشبي الذي
يفترض أن يجلس عليه البواب، هذه البناية بلا البواب بالتأكيد!.. علي الآن أن أوصل (البيتزا)
إلى الطابق الثامن، بالتأكيد بناية جديدة كهذه البناية بها مصعد كهربائي، سيكون
شيئا محزنا أن أصعد ثمانية طوابق على قدمي المسكينتين ... تنهدت بارتياح، وشعرت
بالسعادة عندما عثرت عليه في آخر مدخل البناية الفسيح، والمعتم، مصعد كهربائي
حديث، له باب متحرك، فضي، لامع، وأسعدني أكثر أنني عندما ضغطت على زر (نزول)، أضاءت
مصابيح بئر المصعد، وعداداته الرقمية، وبدأ في الهبوط وهو يأن، ويتحشرج، ويزأر، ويهتز
غاضبا كوحش أسطوري استيقظ توا من ثبات عميق ...
وصل المصعد الكهربائي إلى الدور
الأرضي، وانفتحت أبوابه، ووقف ينتظر في صبر من سيركبه، لا أعرف لماذا شعرت بالتوجس
وأنا ألجه، وينغلق الباب خلفي، قبل أن أضغط زر الصعود إلى الطابق الثامن ... كان
المصعد متسعا من الداخل بشكل غير معتاد في البنايات السكنية، وبدا أقرب لمصاعد
المستشفيات، وكان مضاء بأضواء بيضاء خافتة، متقطعة، يصنعها إثنان من مصابيح (الفلورسنت)
المعطوبان كما يبدو، فقد كانا يتوهجان، وينطفآن، بشكل متكرر، وهستيري، مع أصوات الأزيز
التي تنبئ بأن هناك مشكلة في المولد أو المنظم الخاص بهما ... نظرت إلى الخلف فوجدته
هناك يقف في ركن من المصعد، عجوز، ناحل، محني الظهر والكتفين، يرتدي معطف أسود، مغبر،
ينظر إلى الأرض بعينين زائغتين، يحرك جذعه، صعودا، وهبوط، حركة بندولية ... شعرت بالفزع،
أنا لم أنتبه لهذا الرجل عند دخولي إلى المصعد، هل كان يقف هناك من البداية!؟ أم أنه
ظهر فجأة من العدم ....
-
السلام عليكم.
قلتها، وتنحنحت بحرج عندما لم أتلق
إجابة من هذا العجوز الذي بدا كأنه لم يسمعني، أو يشعر بوجودي من الأساس، تحرك
المصعد لأعلى وفي الطابق الرابع توقف المصعد وفتحت أبوابه، انتظرت أن يخرج العجوز،
ولكنه لم يفعل، فاحتجزت الباب مفتوحا، وقلت له منبها:
-
الطابق الرابع، هل ستنزل يا والدي؟
لم يعير كلامي انتباها، واستمر على
حركته البندولية التي بدأت تثير أعصابي، زفرت بضيق وتركت الباب الذي عاد ينغلق من
جديد ... ولكن قبل ثانية واحدة من إنغلاق الباب، أمسكت يد صغيرة بإحدى ضلفتيه،
فارتد الباب وعادت ضلفتيه تبتعدان من جديد، قبل أن تنضم إلينا طفلة صغيرة، ترتدي
فستانا أصفر، وصندل بنفس اللون، وتعقص شعرها في ضفيرتين، وتمضغ قطعة من العلكة باحترافية
... قلت لها بسرعة:
-
هل أنت صاعدة؟
أجابت بكلمة واحدة مقتضبة:
-
هابطة.
وقبل أن ينغلق باب المصعد مجددا، فجاءني
ذلك العجوز، الذي تحرك بخطوات متثاقلة، عرجاء، وهو ينظر إلى موطئ قدميه، وهو
يتجاوزني أنا، والطفلة، ويغادر المصعد، الذي انغلق وراءه، وواصل الصعود إلى أعلى،
مططت شفتي في تعجب، وأنا أسأل الطفلة:
-
هذا العجوز يتصرف بغرابة ... هل تعرفينه؟
قالت بلا مبالاة، وبحروف مضغوطة بفعل مضغ
العلكة:
-
أي عجوز؟
-
هذا الذي خرج الآن من المصعد؟
-
أنا لم أرى أحدا.
كنت سأدخل في جدال مع تلك الطفلة
وأصفها بالكاذبة! فالعجوز مر من ثانية واحدة من تحت أنفي وأنفها، لولا أن وصل
المصعد إلى محطتي في الطابق الثامن، حملت حقيبتي الحرارية التي تحوي بداخلها أربعة
صناديق من (البيتزا) بالحجم الكبير، وتوجهت إلى الشقة رقم (22)، وضغطت الجرس
بسبابتي، فلم أسمع له صوتا، فقررت أن أطرق على الباب، ولكن قبل أن أفعل، فتح الباب،
وظهر خلفه شاب في بدايات العقد الثالث من العمر، يبتسم ابتسامة بسيطة، غير متكلفة،
وتصاعدت من داخل الشقة أصوات موسيقيى، وصيحات بعض الشباب المرحة، وتعليقاتهم
الساخرة، بادرني الشاب قائلا:
-
رائع، جئت في وقتك.
ثم التفت إلى داخل الشقة، ورفع عقيرته:
-
(البيتزا) وصلت ياشباب.
انضم له شابين أخرين حملا صناديق
(البيتزا) إلى الداخل، قبل أن ينقدني الشاب ثمن (البيتزا) فوضعته في جيبي، وأنا
أتساءل مستظرفا:
-
هل تحتفلون؟
-
أجل، هل تحب الانضمام إلينا.
ابتسمت، وأنا أقول:
-
في وقت آخر ...
أجاب الشاب وهو يمد يده لمصافحتي:
-
أنا (أحمد جميل) وهذه شقتي، وهؤلاء أصحابي، ونحن لا
نتوقف عن الاحتفال، وإذا شئت انضممت إلينا في أي وقت، كلنا شباب هنا.
صافحته بحرارة، وأنا أقول:
-
وأنا (ناصر)، شكرا لك على هذه الدعوة الكريمة، بالتأكيد
سأفعل.
تركته ممتنا على تلك البساطة والسعة في
التعامل، ففي العادة أقابل دائما بنظرة استعلاء أو توجس، أو كلاهما، توجهت عائدا
إلى المصعد، وجلبته إلى الطابق الثامن، فصعد وهو يأن، ويزأر بنفس الصوت، قلت لنفسي
أن هذا المصعد الحديث يحتاج إلى بعض التزييت والصيانة، فهذا الصوت غير صحي بالمرة ...
وصل المصعد فدخلته، لأفاجأ مرة أخرى، بذلك العجوز يقف في ركن منه على نفس الحالة
الأولى، يحني ظهره، وكتفيه، لأسفل، ويتحرك نفس الحركة المستفزة، المثيرة للأعصاب،
متى عاد هذا اللعين، لقد غادر منذ دقائق قليلة فقط ... أعطيته ظهري، وتجاهلت
وجوده، وضغطت على زر الدور الأرضي، وعندما وصل المصعد إلى الدور الأرضي غادرته
مسرعا، فقد كنت أشعر أن هناك شئ على غير ما يرام بخصوص هذا العجوز، وهذا ما دفعني
لألتفت خلفي قبل أن ينغلق باب المصعد ورائي، وأنظر داخله، وكما توقعت تماما لم أجد
أثرا للعجوز فيه، لقد اختفى! اختفى تماما!.. أسرعت الخطا إلى خارج البناية بأقدام
مرتعشة، وقفزت على دراجتي البخارية، وانطلقت بها بسرعة كبيرة، وأنا اتمتم بصوت
مرتعد:
-
إنه شبح ... إنه شبح بالتأكيد!
.. (نهاية الجزء الأول – يليه الجزء
الثاني) ..
قصة رعب قصيرة بعنوان ... (شبح المصعد –
الجزء الثاني)
ملخص ما سبق ... (ناصر) شاب متوسط
الحال، يعاني كملايين الشباب مثله، ممن تحاصرهم الظروف المجتمعية الصعبة، يعمل
كعامل توصيل في مطعم (للبيتزا)، يقوده عمله إلى بناية منعزلة في نهاية شارع
(البحيرة)، وفي مصعدها الكهربائي يقابل ذلك العجوز المريب في الشكل والتصرفات،
ولكن ما يصعقه، ويفجر الرعب في باطنه، هو اختفاء ذلك العجوز من داخل المصعد فجأة!..
يغادر (ناصر) البناية مسرعا، وهو يرتعد من الخوف، وقد ترسخ في ذهنه يقينا أن هذا
العجوز هو شبح بالتأكيد ...
.
وصلت إلى محل عملي، وأنا ما زلت أرتجف،
كانت الأفكار تعربد في عقلي عن ذلك العجوز الشبح ... توجهت مباشرة إلى الخزينة
لتوريد ثمن (البيتزا) التي قمت بتوصيلها، أدخلت يدي في جيبي لأكتشف أن هذا اليوم
الرائع مازال يحمل لي المزيد من المفاجآت المروعة!.. فجيبي كان خاليا كقلب الرضيع!..
شعرت بالرعب، وأخذت أفتش في كل جيوبي بهستيرية، أنا متأكد أنني حصلت الثمن من
الشاب الذي أعطيته (البيتزا)، ووضعته في جيبي هذا كعادتي، فأين ذهب!؟ هل يكون قد
سقط مني في الطريق!؟ أو في مدخل البناية أو مصعدها!.. انتصب شعر رأسي، وشعرت
بالغثيان، وبرغبة في الهرب، وأنا ألمح رئيسي في العمل يقترب وهو يفكر في سبب
لتقريعي كعادته، اقترب في خطوات ثقيلة، وهو يركز عيناه على وجهي كقط يحاصر فأرا في
ركن ... قال وكأنه يقرأ ملامح وجهي:
-
هل وردت قيمة الفاتورة؟
قلت كاذبا:
-
سأفعل بعد ثوان.
-
حسنا أفعلها بسرعة، ولا تذهب بعيدا، فهناك طلبيات كثيرة
يتم تجهيزها.
قلت كاذبا مرة أخرى:
-
بالتأكيد ... أين سأذهب!.. ستجدني هنا بالتأكيد، في نفس
المكان.
***
انطلقت بدراجتي البخارية أسابق الريح،
وأنا أتمايل بها يمينا، ويسارا، بمهارة كبيرة متفاديا السيارات، والمارة، وعوائق
الطريق الطبيعية والغير طبيعية ولا منطقية كما هو الحال في شوارع مدينتي!.. كنت
عائدا إلى البناية اللعينة التي قابلت فيها شبحا منذ ساعة، البناية رقم (66) ...
قد يكون الشبح مرعبا، ومخيفا بلا شك، ولكن ضياع ثمن (البيتزا)، واضطراري لتسديده
من راتبي الهزيل هو أمر أكثر رعبا، وترويعا من ألف شبح.
وصلت إلى البناية، عبرت مدخلها المعتم،
المغطى بالأتربة، وأنا أتلفت حولي، وتحت قدمي، كالمجذوب بحثا عن المبلغ الذي ضاع مني
ولكن دون جدوى، لا أعرف لماذا لا يفكر سكان البناية في جلب من ينظف هذا المدخل، ويضع
به بعض المصابيح لإنارته!.. اقتربت بحذر من المصعد الكهربائي، كنت أفكر في صعود
الدرج حتى لا يفاجئني ذلك الشبح مرة أخرى، ولكن ما الجدوى من ذلك! فأنا لم استعمل
الدرج في المرة الأولى، فلو كنت فقط المبلغ داخل البناية فلن يكون على الدرج
بالتأكيد، كما أن ثمانية طوابق ليست بالأمر الهين كما يعلم الجميع ... ساستعمل
المصعد ولن سأكون حذرا هذه المرة، علي أولا التأكد من عدم وجود ذلك الشبح داخل
المصعد قبل دخوله، وعلى أي حال هو لم يكن شبحا سيئا في المرة الأولى، قد يكون من
تلك الأشباح الأليفة التي تألف بصحبة البشر على غرار (كاسبر) الشبح اللطيف.
كان المصعد متوقفا في الدور الأرضي،
فانفتح بابه مباشرة بعدما ضغطت الزر ... مددت رأسي بحذر إلى داخله، ونظرت يمينا،
ويسارا، وفي كل ركن منه، الشئ الجيد أن هذا الشبح العجوز ليس موجودا فيه، أما الشئ
السيئ فهو أن المبلغ الذي ضاع مني ليس موجودا فيه أيضا، حسنا سأصعد إلى الطابق
الثامن عسى أن يكون المال قد سقط مني أمام باب الشقة التي أوصلت لها (البيتزا)،
ماذا كان اسم ذلك الشاب اللطيف الذي دعاني للاحتفال معهم، أظن أن اسمه كان (أحمد)،
أجل (أحمد جميل)!
***
بدأ المصعد الكهربائي في التحرك صاعدا،
وهو يأن بذلك الصوت المتحشرج، كنت أتابع عداد الطوابق بناظري بتوتر ... واحد ...
إثنان ... ثلاثة ... أربعة ... توقف المصعد في الطابق الرابع، وفتحت أبوابه، وظهر
خلفها ذلك العجوز المريب، ذلك الشبح الذي كنت أحاول أن أتفادى مقابلته!.. كان يقف هناك
بتلك الطريق المنحنية التي ينظر فيها إلى موطئ قدميه، وهو يهتز للأمام وللخلف بتلك
الطريقة البندولية، المستفزة، لم يبد أنه منتبا إلى وصول المصعد، وضعت سبابتي على
زر الإغلاق دون أن أضغطه، واستجمعت كل شجاعتي، وأنا أسأله بصوت خائر:
-
هل ستدخل!؟
توقف عن الاهتزاز مرة واحدة، لقد سمعني
تلك المرة بالتأكيد! ثم بدأ يعتدل ببطء، وهو يوجه عينيه إلى عيني مباشرة، شهقت
بفزع، شئ ما أرعبني في نظرته، ووجهه الذي يحمل ابتسامة خبيثة، شيطانية، وتحمل
عينيه نظرة مقتحمة تشعر بها تخترق جسدك، وعقلك، وتثبر روحك وباطنك ... ضغطت زر
الإغلاق بآلية، فانغلقت ضلفتي الباب ببطء مدمر للأعصاب، كنت أشعر بالجزع، وأتوقع
أن يمد العجوز يده ويوقف الباب، ويدخل المصعد، كانت النظرات على وجهه تنبئ بأن هذا
لو حدث فلن ينتهي الأمر على خير، ولكنه لم يحدث لحسن الحظ وانغلق الباب، وعاد
المصعد ليواصل صعوده...
-
اللعنة.
صرخت بها في قلق، بعد أن توقف المصعد
مجددا في الدور الخامس، لأجد نفسي مرة أخرى في مواجهة ذلك الشبح اللعين، وهو ينظر
لي نفس النظرات المرعبة، المتوعدة ... كيف صعد بتلك السرعة!؟ سؤال غبي وغير منطقي،
لم يعد هناك مجالا للشك بأن هذا العجوز هو شبح شرير، والأشباح تستطيع أن تفعل ما
هو أكثر من ذلك ... ضغطت زر الإغلاق عدة مرات حتى أوجعت سبابتي، وأنا أبسمل،
وأحوقل، حتى أغلق الباب ومرة أخرى، وعاد المصعد ليواصل رحلته نحو الطابق الثامن،
ولكن عندما توقف المصعد من جديد في الطابق السادس، وفتح الباب لأجد نفس في مواجهة
نفس الشبح، وهو يحدق في بنظراته الشريرة، أسقط في يدي، وتراجعت إلى الخلف، وتشرنقت
في زاوية المصعد، وأنا أصرخ في رعب هستيري ... فجأة اندفع ذلك الشبح إلى داخل
المصعد، وانقض علي، بسرعة هائلة شبحية يكاد يعجز البصر عن إدراكها، قبل أن يضربني
كصاعقة البرق، فشعرت به يخترق جسدي، قبل أن يتجاوزه إلى حائط المصعد خلفي ويغيب
فيه، كان شعورا رهيبا بحق، شعرت بالسقيع، والبرد يتخلل كل ذرة من كياني، ممتزجا
بالشعور باليأس والإحباط، والكراهية، والغضب الجامح الذي لا يمكن كبحه، وكأن ذرات
ذلك الشبح امتزجت بذراتي في تلك اللحظة فشعرت بما يشعر به، لقد كان ما يشعر به كريها،
ومريعا بحق!.. سقطت على الأرض وأنا أغطي وجهي بكفي، وأنا أواصل الصرخات، ولم أنتبه
إلى أن المصعد قد عاد يواصل طريقه صعودا ...
-
(ناصر) ... ماذا بك!؟
التفت إلى باب المصعد المفتوح فرأيت
ذلك الشاب (أحمد جميل) ومعه بعضا من إصدقائه، قد جلبتهم صرخاتي، فجاءوا ليستطلعون
الأمر، أجبته بكلمات مرتعشة:
-
هناك شبح ... هناك شبح في هذا المصعد!
ساعدني (أحمد)على النهوض وهو يقول:
-
هيا تعال معي إلى الشقة لترتاح، وتهدأ، وتحكي لنا ما حصل
بالتفصيل.
***
-
لقد سمعت أن هذه البناية بنيت فوق مقابر قديمة تم
إزالتها.
قالها أحد الشباب عابثا بعد أن حكيت
لهم عن مغامرتي مع شبح المصعد، فزجره (أحمد)، وهو يوجه حديثه لي:
-
لا تصدقه، أنا صاحب هذه الشقة، ولم أسمع عن شئ كهذا من
قبل.
حدقت في وجهه للحظات، ثم سألته:
-
إذا بماذا تفسر ما حدث لي؟
ربت على كتفي وهو يقول:
-
من الممكن أن تكون أعصابك مرهقة، وما حدث كان ضربا من
ضروب الوهم والخيالات.
كنت أرغب في أن أطلق في وجهه فيضا من
السباب، ولكن ذلك الشاب كان كريما، ومهذبا، معي، ولا يصح أن أقابل صنيعه بهذه
الطريقة، لا يمكن أن يكون ما حدث لي وهما أو خيالا، أنا أثق في ذلك تمام الثقة ...
أومأت برأسي مبديا تفهما مصطنعا، وأنا أسأله:
-
هل يوجد من بين سكان هذه البناية عجوزا بهذه المواصفات.
قال بحسم:
-
لا استطيع أن أجزم فأنا انتقلت إلى هنا حديثا، ولكن إذا
كان موجودا فأنا لم أره بالتأكيد.
صدق على كلامه باقي الشباب، فقال
(أحمد):
-
حسنا، انس ما حدث، وحاول أن تقضي وقتا لطيفا معنا.
قالها وأشار بكلتا يديه:
-
هناك ألعاب الفيديو، وهناك (بولة) كوتشينة قائمة، يمكنك الانضمام
إلى التالية، وهناك (الشطرنج) والطاولة و(الدومينو)، وألعاب أخرى، وستجد أيضا الأكل
والشراب في المطبخ، هيا اعتبر نفسك في بيتك.
بالفعل قضيت ساعتين من اللعب مع ذلك
الشباب المرح، المقبل على الحياة، أنستني هاتين الساعتين هم اليوم ومشاكله،
بالتأكيد رئيسي في العمل يكاد يجن الآن بسبب غيابي، هكذا شكرت الجميع وعزمت على
المغادرة، ففاجئني (أحمد جميل) بإخراج مبلغ من المال، ووهو يناوله لي قائلا:
-
هذا بديلا عن المال الذي فقدته.
-
وما ذنبك أنت ... أنا الذي فقدته.
حاولت التهرب من أخذ المال ولكن دون
حماسه حقيقية، ففكرة أن أدفع هذا المال من جيبي الخاص كانت فكرة مقيتة، وتنفيذها
سيتسبب لي في مشكلة كبيرة هذا الشهر، لهذا عندما أصر (أحمد) على أن يعطيني المال، تلقفته
منه شاكرا، ودسسته في جيبي، فقال لي مودعا بأسلوبه المهذب:
-
مع السلامة هل تريد أن أصطحبك حتى باب البناية، حتى لا
تقابل ذلك الشبح ثانية.
-
شكرا لك يا صديقي ... لا تقلق ساستعمل الدرج.
ابتسم ابتسامة واسعة وهو يقول:
-
وهل سيمنع ذلك الشبح عنك؟
-
أتمنى ذلك.
***
كنت أهبط سلمات الدرج بقفزات سريعة،
طويلة، وأنا أفكر في آخر ما قاله (أحمد)، هل ظهور هذا الشبح مرتبط بالمصعد، وهل
استخدامي للدرج سيجعلني في منأى عن ظهوره، أتمنى ذلك ... تجاوزت الطابق الرابع،
وبدأت في النزول حتى وصلت إلى الطابق الرابع! اللعنة، نظرت إلى رقم الطابق على
الجدار بين الشقق، وأنا أتمتم:
-
هل هناك طابقين بالرقم (4).
هززت رأسي، ومططت شفتي، وتوجهت نزولا
حتى وصلت إلى الطابق الرابع من جديد، صرخت بفزع، وأنا أكلم نفسي:
-
كم طابق رابع في هذة البناية اللعينة!؟
أمسكت بالسياج بيد مرتعشة، نظرت من بئر
السلم وعددت الطوابق حتى الدور الأرضي فوجدتهم أربعة بالفعل!.. نزلت مرة أخرى لأجد
نفسي ما زلت في الطابق الرابع، سأجرب الصعود، انطلقت أعدو صاعدا الدرج، لأجد نفسي
في الطابق الرابع أيضا، لقد علقت، أي لعنة هذه، انتصب شعر رأسي وشعرت بالقشعريرة
الباردة تسري على عمودي القفري وأطرافي، أشعر بالغثيان وبأني موشك على فقدان الوعي
بسبب الإجهاد والرعب ... جاءتني فكرة سأجربها، أخرجت قلما من جيبي، وبنهايته
المعدنية نحت على الجدار علامة (X) غائرة، ثم هبطت الدرج من جديد بركبتين
خائرتين، حتى وصلت إلى الطابق الرابع مرة أخرى، والذي يحوي جداره العلامة (X) التي
وضعتها بنفسي منذ دقيقة، إذا فأنا عالق إلى ما لا نهاية في هذا الطابق، أخذت أطرق
الأبواب، وأنادي من بئر السلم على (أحمد) أو على أي شخص آخر يستطيع سماعي فيأتي
لمساعدتي، ولكن لا حياة لمن تنادي، بعد دقائق من المحاولة، أصبت باليأس، وانهرت
على الأرض، واسندت ظهري على الجدار، يبدو أنني سأقضي ما تبقى من عمري أسيرا في
الطابق الرابع.
-
تن ... تن ... تن.
كان هذا الصفير هو صوت المصعد
الكهربائي، الذي توقف في الطابق الرابع، وفتحت أبوابه، مرحبة، تدعوني للدخول ...
.. (نهاية الجزء الثاني – يليه الجزء
الثالث والأخير) ..
قصة رعب قصيرة بعنوان ... (شبح المصعد –
الجزء الثالث والأخير)
ملخص ما سبق ... يتعرض (ناصر) فتى
التوصيل في مطعم (البيتزا) لتجربة خوارقية أثناء توصيله لإحدى الطلبيات إلى
البناية رقم (66) بشارع (البحيرة)، عندما يظهر له شبح لرجل عجوز، مخيف، داخل مصعد
البناية ... يعود بعدها (ناصر) إلى عمله ليكتشف أنه فقد ثمن الطلبية، وأنه عليه أن
يرجع إلى البناية للبحث عنه هناك ... في هذه المرة يتعرض (ناصر) لموقف رهيب، ومرعب
ينتهي به محتجزا في الطابق الرابع للبناية، لا يملك خيارا إلا بمغادرته عن طريق
المصعد الكهربائي، رغم أنه تعمد استخدام الدرج، حتى لا يفاجئه الشبح داخل المصعد
مجددا ...
.
قبل مئات السنين، حيث كانت تلك الأرض جزء
من صحراء قاحلة، مترامية الأطراف، تلال، ووديان، وكثبان، تكسوها الرمال الصفراء الناعمة التي لا يتخللها
إلا بعض النباتات الشوكية المتفرقة، والتكوينات الصخرية الطبيعية ... يقترب من
المكان فارسان على صهوة جواديهما العربيين الأصيلين، يجرع كبيرهما من قنينة ماء
صغيرة، ثم يدسها في رحل جواده، ويتوجه بالحديث إلى الشاب الصغر سنا:
-
تقول أن هناك مضارب للبدو على مقربة من هنا؟
أجاب الشاب وهو يوجه ناظريه نحو الأفق،
ويشير بسبابته:
-
أجل، سنجدها خلف هذا التل، أمر عليها دائما في أسفاري،
أهلها، أهل كرم، وفضل، سنجد عندهم ما نحتاج من إليه زاد لنا وللخيل.
سارت بهما الخيل لنصف ساعة في الاتجاه
الذي أشار له الشاب، حتى بدت لهما خيام البدو، فقال الشاب مستبشرا:
-
هذه هي.
قبل أن يتوتر صوته وهو يردف:
-
ولكن ما هذا!؟
نظر المسن إلى حيث يشير الشاب، فلمح
مجموعة من النسور، والعقبان، وجوارح الطير تحلق على مسافة قريبة فوق الخيام، فقال
بسرعة:
-
هناك جيفة في المكان، تبغاها تلك الطيور القمامة.
اقتربا أكثر بجواديهما من الخيام، فلمحا
مجموعة من الذئاب تتحلق حول جثة، تنهش لحمها في شهوة، وتنازع الطيور الجارحة
عليها، قال الشاب بصوت مختلج:
-
تلك هي.
قالها ثم لكز جواده بكعبيه، فاندفع وسط
الذئاب التي فرت مبتعدة، قبل أن ينزل عن جواده، ويتفحص الجيفة، وهو يقول لصاحبه:
-
إنه رجل، لقد أكلت الجوارح معظم جسده.
قالها، فلم يتلق إجابة من صاحبه، فنظر
إليه فوجد عيناه تحدقان في ذعر إلى ما وراءه، فالتفت بسرعة لتقع عيناه على ذلك
المشهد الرهيب الذي لن ينساه حتى آخر يوم في عمره، عشرات من الجثث المتناثرة في كل
مكان، تنهشها الجوارح، وحيوانات الصحراء القمامة، شئ مرعب، ورهيب، شئ لا يمكن
تصديقه، النساء ، الرجال، الشباب، العجائز، الأطفال جميعهم لاقى نفس المصير ...
الموت.
-
كيف لقى هؤلاء حتفهم!؟
سألها الشاب للمسن الذي ترجل عن جواده
واقترب لفحص الجثث بدوره.
-
هل قتلوا بيد أعدائهم!؟ هل فعلتها بهم الضواري!؟ هل
تسمموا من طعام أو شراب!؟ هل ...
قاطعه المسن بلهجة حاسمة:
-
الوباء.
انتبه الشاب، فقال له المسن هو يشير
إلى تلك البقع الداكنة، النازفة، التي تغطي جثث الموتى:
-
تلك البقع القبيحة تنبئ بالوباء.
ثم تلفت حوله، وتشمم الهواء وألقى نظرة
على عين الماء، وتفحص مائها، ثم عاد لصاحبه وهو يقول:
-
إنه وباء بلا شك، وهو من ذلك النوع الذي ينتشر مع
الهواء.
-
وكيف عرفت!؟
-
من سرعته، وقوة تأثيره ...
-
وهل هناك خطر علينا.
-
اعتقد أن الخطر قد زال، فكما ترى الجوارح، والحيوانات
القمامة تمرح في الحي، وتأكل الجثث دون أن تتأثر، لقد زال الخطر، ولكن بعد أن قضى
على الجميع.
ساد الصمت المرير للحظات، قبل أن يسأل
الشاب بصوت مبحوح:
-
وماذا سنفعل الآن؟
-
علينا أن نتأكد من أنه لا يوجد أحياء في هذا المكان، وإن
كنت أشك في ذلك.
كان الأمر واضحا، ولكن المسن كان يتمنى
أن يخيب ظنه، فيجدوا حياة وسط كل هذا الموت، ولكن هيهات، لقد مات الجميع، وتناثرت
جثثهم في المكان، وحتى حيواناتهم الداجنة لم تنج من هذا الوباء، ولاقت نفس المصير!
لقد نشط الموت في هذا المكان، وضرب بقوة، فلم يخلف وراءه أحدا ... سأل الشاب
صاحبه، وهما يفترشان الأرض خارج المضارب، وقد تبدلت ملامحهما، وحل عليهما الحزن
والكآبة بسبب ما شاهداه:
-
هل سنرحل الآن!؟
قال المسن، وهو يرسم أشكالا عشوائية على
الرمال بغصن جاف:
-
سندفنهم أولا، ونصلي عليهم.
-
أين سندفنهم!؟
صمت المسن للحظة، ثم قال بصوت حزين:
-
هنا ... في نفس المكان الذي عاشوا فيه حياتهم، سيكون فيه
مماتهم، ومستقرهم الأخير.
***
لم يكن قرارا صعبا، فعندما تسك كل الأبواب
في وجهك، وتجد نفسك عالقا بلا أي أمل في الهروب، ثم يفتح أمامك باب يحمل بعض
الأمل، مختلطا بالشك والريبة، فليس قرارا صعبا بالمرة!.. هكذا وجدت نفسي أسير
كالمنوم مغناطيسيا نحو باب المصعد المفتوح، وكأن ذلك الصفير المتقطع الذي يصدره
يجذبني إليه، كما تجذب النار الفراشات إلى ضيائها قبل أن تحرقها مباشرة!.. ولجت
المصعد الذي كان خاليا لحسن الحظ، وأغلقت بابه خلفي، وضغطت زر الدور الأرضي، فبدأ
المصعد يهبط بذلك الصوت المتحشرج، وذلك الأنين المثير للأعصاب، كنت أتوقع أن يتوقف
المصعد قبل الدور الأرضي لأجد ذلك الشبح يحدق في بتلك النظرات المرعبة، ولكن هذا
لم يحدث أيضا لحسن الحظ، ووصل المصعد إلى لدور الرضي كما يظهر على عداده المضئ
الذي يعرض الحرف الإنجليزي (G)، تنهدت في ارتياح وأنا استعد للخروج، ولكن
المصعد لم يتوقف! ولكنه استمر في الهبوط، قبل أن يعرض عداده الضوئي الرقم سالب
واحد (-1)، صرخت في فزع، وضغطت بسبابتي على زر التوقف، ولكن المصعد استمر في
الهبوط (-2 ... -3 ... -4 ... -5)، ثم تزايدت سرعته وأصبحت الأرقام
تتوالى بسرعة كبيرة لا يمكن قرائتها، كنت أطرق بقبضة يدي بهستيرية على لوحة
التحكم، في محاولة يائسة لإيقاف هذا الجنون، ولكن المصعد استمر في الهبوط بتلك
السرعة الرهيبة، ثم توقف مرة واحدة، وبطريقة مفاجأة، جعلتني أقذف نحو السقف، وارتطم
به بقوة حطمت نصف عظام ظهري، قبل أن أرتد لأسقط على الأرض فيتحطم ما بقى من عظامه!
اعتدلت بسرعة، وجحظت عيناي وأنا أحدق في العداد الذي يعرض الرقم سالب خمسين (-50)،
أصدر المصعد صوت صفير طويل ثم بدأ بابه ينفتح ببطء.
كان جسدي يرتعد بقوة، والعرق البارد
يغطي كل ذرة منه، ألهث بجنون، مازالت عظامي تؤلمني بأثر الارتطام، ولكن كل تلك
المشاعر اختفت تماما خلف ذلك الرعب الهائل الذي اجتاح باطني عندما فتح باب المصعد
إلى آخره، ورأيت ما وراءه، اللعنة، ما هذا المكان!؟ ألن يتوقف هذا الرعب أبدا،
فخلف باب المصعد كان هناك عالم كامل، أرضه ترابية، سوداء، وتلاله من الصخور
المعتمة التي قدت من الظلام، عالم مرعب، مقبض، تحت سماء سوداء، حالكة، خالية من
النجوم ... لا لن أخرج من المصعد أبدا، لا لن أجرب حظي العثر في هذا العالم
المرعب، عدت بسرعة إلى لوحة التحكم، وأخذت أضغط الأزرار في محاولة لإغلاق المصعد،
والصعود مرة أخرى إلى أعلى، ولكن كل محاولاتي باءت بالفشل، فلوحة التحكم لا
تستجيب، والمصعد اللعين مصر على ألا يتزحزح من هذا المكان المروع ... مددت رأسي
إلى خارج المصعد عبر ضلفتيه ونظرت إلى أعلى، فصعقني ما رأيت، وكاد يوقف قلبي عن
النبض، فقد اختفت البناية تماما، وصار المصعد يتدلى عبر سلكه الغليظ، الذي يمتد
لأعلى لمئات الأمتار حتى يختفي في سماء هذا العالم المظلمة كقلب الشيطان ...
هنا لمحت الحركة!.. حركة بسيطة على سطح
التربة، فوق تلك التلة التي تبعد خمسين مترا فقط من المصعد، دققت النظر بقوة، فلاحظت
أن التربة تهتز، وتختلج، قبل أن تنشق فجأة تخرج منها ذراع بشرية، ثم لحقتها ذراع
أخرى، ثم الصدر، والجزع، فباقي الجسد، الذي اعتدل مباشرة، والتفت ناحية المصعد،
وبدأ يتحرك نحوه بخطوات عرجاء، غير متزنة، انتصب شعر رأسي، أو شاب وحال أبيضا
بالكامل، فذلك الشخص الذي يتوجه نحوي لم يكن بشريا، أو كان ولم يعد، لقد كان جثة
متحركة، جثة متعفنة، متتحلة، تظهر عظام جمجمتها خلف نسيج وجهها المهترئ، المتعفن،
وتتدلى إحدى كرتي عينيها خارج وجهها، وهناك شق كبير بين الصدر، والبطن تتدلى منه
الأعضاء الداخلية المتقيحة، كان رد فعلي غريبا، حتى أنني لم أفهم لماذا أفعل ذلك،
أعتقد أنني جننت بعد كل هذا الرعب الذي تعرضت له، لقد أخذت أقهقه قهقات طويلة
هستيرية، وأنا أكرر بصوت عالي كالصراخ:
-
إنه زومبي ... إنه زومبي.
حاولت التماسك، وأنا أعود لضغط أزرار
المصعد بجنون، وأنا أراقب ذلك الزومبي الذي يقترب من المصعد بخطوات بطيئة، ولكن
عازمة، فجأة تحول المكان إلى جحيم مصغر، بدأ سطح الأرض يهتز في مكان قبل أن تنبجس
منه عشرات، بل مئات الجثث المتحركة، جثث لرجال، وأخرى لنساء، وأطفال، جثث في مراحل
تعفن مختلفة، بعضها تحلل تماما وتحول إلى هيكل عظمي يتعلق به بعض النسيج المتحلل،
وأخرى نصف متحللة وغيرها فقدت أجزاء من جسدها، أو انفصلت عنها وتجرجرها خلفها، كانت
تشكلية متنوعة، ولكنها تشترك جميعا في شئ واحد، جميعها قبيح، ومرعب، ويحمل هدفا
واحدا، هو التوجه مباشرة إلى المصعد، للنيل مني ... اللعنة، أخذت أضحك، وأبكي،
وأصرخ، وأسب، وألعن، ذلك المصعد لن يستجيب، وتلك الجثث المتحللة تقترب وتقترب، حتى
صار أولها على بعض خطوتين فقط، إنه يبدو أكثر قبحا، وترويعا من تلك المسافة القريبة،
أسنانة تصطك في نهم، يرفع يمينه، ويمد براجمه المتحللة نحوي، إنه يريد الإطباق
علي، والإمساك بي ...
تكومت في ركن من المصعد وأنا انتظر مصيري
الحتمي، فجأة أصدر المصعد ذلك الرنين، ثم انغلق بابه قبل ثانية واحدة من دخول أول
زومبي إليه، ثم بدأ في الصعود نحو الأعلى ... نظرت في عدم تصديق إلى العداد الذي
يظهر أن المصعد في طريقة نحو السطح من جديد، نهضت ببطء وتوجهت نحو باب المصعد
بأقدام مرتعشة، وأنا أحدق في العداد الذي يشير أن المصعد وصل إلى الدور الأرضي،
وتجاوزه إلى الطابق الأول، والثاني، والثالث والرابع ... ضغطت زر التوقف، فتوقف
المصعد في الطابق الرابع مجددا وفتح بابه، قفزت منه بسرعة إلى الخارج، فكنت كالذي
قفز من المقلاة إلى النار، فأمامي مباشرة كان ذلك العجوز الشبح، يقف معترضا طريقي،
وهو يحدق في بنفس النظرة الشيطانية الشريرة، صرخت فيه بغل:
-
من أنت!؟ ... لماذا تفعل ذلك!؟ ... ماذا تريد مني!؟
***
قبل عشرة سنوات، جلس ذلك العجوز ذو
المعطف الخاكي الأسود في السيارة الأجرة، وهو يتحسس حقيبته الجلدية الممتلئة عن
آخرها بالأموال، رغم حياته المقيتة، المملة، إلا أنه ليس فقيرا على أي حال، فقطعة
الأرض التي يمتلكها في زمام قريته التي ولد فيها، تعطي له ريعا وفيرا يغنيه طول
العام ... هو الآن لا يغادر منزله في المدينة إلا نادرا، لقد بلغ من العمر عتيا،
وماتت زوجته دون أن تترك له من يخلفه، ويحمل اسمه من بعده، ويعينه في مثل هذه
الأيام، أيام الكبر ... لولا حاجته من الطعام والدواء وحطام الدنيا، لما خرج من
منزل أبدا، ولبقى مقيما فيه حتى يأتيه الموت، فصحته لم تعد كما كانت، فالروماتويد
أهلك مفاصله، والرؤية والسمع صارا عسيرين، حتى التنفس نفسه أصبح يحتاج منه للكثير
من الجهد، ولكن عليه سنويا أن يقوم بهذا المشوار الضروري، فيستأجر سيارة يعرف
سائقها منذ سنوات، ويسافر بها إلى قريته ليتسلم ثمن المحصول، ويعود به غانما في
نفس اليوم.
-
كرررر ... كرررر ....
كانت تلك الحشرجات صادرة من السيارة، فالتفت
إلى السائق:
-
هل هناك ما يسوء يا (مدبولي)!؟
أوقف السائق الشاب السيارة على جانب
ذلك الطريق المنعزل، الذي يعود من قرية العجوز إلى المدينة، وهو يقول:
-
لا تقلق يا سيدي، مشكلة بسيطة في السيارة، ثوان وأصلحها
ونعود إلى الطريق.
ترجل السائق من السيارة، ورفع (كبودها)،
واختفى خلفه، وغاب لفترة طويلة، حتى بدأ العجوز يشعر بالقلق فأخذ ينادي عليه ولكنه
لم يتلق إجابه، فوضع حقيبته الجلدية على المقعد، وفتح باب السيارة، وترجل منها
بركبتين خائرتين، وهو يقول:
-
أين أنت يا (مدبولي)، لماذا لا ترد ... أي ي ي ي ي!
انطلقت منه صرخة ألم عالية، عندما
أصابته تلك الضربة القوية في منتصف رأسه فشجته، قبل أن ينقطع صوته وهو يسقط على الأرض
ويغيب تماما عن هذا العالم، ومن خلفه ظهر ذلك السائق الشاب، وهو يقبض بيده على تلك
العتلة الحديدية التي تلوثت بدماء العجوز، وعلى وجهه إمارات من أغواه الشيطان،
وأعمى بصيرته، هو يعرف ذلك العجوز البخيل منذ سنوات، ويصحبه في تلك المشاوير التي
يعود منها محملا بالآلاف المؤلفة من الأموال، فلا يناله منها إلا اللمم، اليوم
سيأخذ المبلغ كله لنفسه، هذا العجوز لا يحتاج تلك الأموال، ولا يحتاج حتى لحياته،
إذا لماذا هو مصر على التمسك بالدنيا ومتاعها بهذا القدر، لماذا لا ينال هو تلك
الأموال بدلا من ذلك العجوز البخيل ، فيصلح بها حياته وحياة أسرته، ألا يحمل ذلك
بعض المنطق!
إتكأ السائق على ركبتيه ليتفحص العجوز
المسجي على الأرض، ويتأكد من موته، ثم اندفع إلى السيارة والتقط الحقيبة الجلدية،
وأخذ يحصي ما بها من المال في شهوة، ثم عاد للعجوز وحمله ووضع جسده في حقيبة
السيارة، هو يعلم ما سيفعله، سيحمل تلك الجثة إلى تلك البناية المنعزلة في نهاية
شارع(البحيرة) التي توقفت فيها أعمال البناء منذ بضع سنين بسبب بعض المشاكل
القانونية، البناية لم تكتمل بعد ومازالت جدرانها على القرميد، سيحمل ذلك العجوز
إليها، ويصعد به إلى طابقها الرابع، كي يكون بعيدة عن الكلاب، والحيوانات
البرية، ولا تصل رائحة جثته إلى الأنوف،
سيضع جثته هناك ويغطيها ببعض بالرمال وقطع القرميد، بالتأكيد سيمر وقت طويل قبل أن
يعثر أحدهم على جثته في ذلك المكان المنعزل الخالي من البشر، كما أن أحدا لن يفتقد
هذا العجوز بالتأكيد ويفكر في البحث عنه.
ما لا يعرفه السائق أن تلك الضربة لم
تقتل العجوز، ولكنها أصابته بالعجز والشلل، فبعد أن نفذ خططته وتركه في المنزل وهو
يظن أنه مات، أفاق العجوز بعدها بساعات، وعندما حاول التحرك وجد نفسه عاجزا عن
النهوض، كانت أطرافه ترتعش، وتهتز دون إرادة منه، لقد أصيب بالشلل، حاول الصراخ، فوجد
نفسه عاجزا حتى عن النطق أيضا ... لقد كان يظن أن حياته مقيتة، ولكن الأيام
الأخيرة التي قضاها على تلك الحالة كانت مريعة، ومروعة، وأكثر مقتا من أي شئ آخر
في هذا العالم، الظلام، الجوع، العطش، البرد، إرتجاء الموت الذي تأخر عليه كثيرا
حتى جاء، كانت الفكرة الأخيرة التي سيطرت على عقله قبل أن يرحل عن العالم، هي أن
الألم والعذاب اللذان عاشهما في أيامه الأخيرة يجب أن يطالا الجميع، وأنه لا أحياء
في ذلك العالم يستحقون الرحمة، الموتى فقط هم من يستحقون الرحمة!
***
-
من أنت حقا !؟
صرخت بها في وجه ذلك العجوز الشبح،
فازداد الخبث، والشر في عينيه اللتان تحدقان في بضراوة، ثم بدأ يتقدم نحوي بخطوات
بطيئة، للمرة الأولى أنتبه إلى ذلك الشج الدامي في منتصف رأسه، شج دامي عميق بأثر
ضربة قاتلة من شئ ثقيل ولا شك ... استمر في التقدم، فبدأت أتراجع للخلف وانا أصيح
فيه:
-
ماذا تريد!؟.. ابتعد عني.
ثم قررت الهرب، فتجاوزته وانطلقت أعدو
هابطا الدرج، قبل أن تنطلق صرخاتي طويلة، مولولة، فقد كانوا ينتظرونني هناك على
سلم الدرج، تلك الجثث المتحركة، المرعبة، الزومبي، العشرات منها، بأجسادها
المهترأة، المتعفنة، وأسنانها التي تصطك في نهم، وشهوة، وهم يمدون إيديهم نحوي،
ويحركون براجمهم في جشع رغبة في الإمساك بي، سقطت على الدرج من هول المفاجأة،
وتدحرجت سلمتين فكدت أسقط بين براثنهم، لولا أن اعتدلت بسرعة، وانطلقت نحو الأعلى،
مررت بالعجوز الشبح من جديد، فلمحت أثر
ابتسامة شيطانية على وجهه العابث، الحانق دائما، ولكنني لم أعره اهتماما، وأنا
أتوجه صاعدا الدرج على أمل الوصول للطابق الخامس ... كان علي أن أتوقع ما سيحدث
تاليا، فقد كانوا هناك أيضا ينتظروني على سلمات الدرج بين الطابقين الرابع والخامس
... صرخت بقوة وأنا أرتد على أدباري، وأتراجع إلى حيث ينتظرني العجوز الذي اتسعت
ابتسامته، وبدت على وجهه الشبحي ملامح الظفر، لقد وقعت في الفخ، إنهم يأتون من
أعلى، ويأتون من أسفل، وفي المنتصف ذلك العجوز الرهيب، لقد حوصرت، لقد انتهيت، لا أمل
لي في النجاة!
أخذت أتراجع وهم يطبقون علي من جميع
الجهات، حتى اصطدم ظهري بالسياج، نظرت نحو الأسفل، إلى بئر السلم من مكاني الذي
يرتفع أربعة طوابق، ثم عدت بناظري إلى تلك الوحوش الشرهة التي اقتربت مني حتى أزكمت
أنفي رائحة أنفاسهم الكريهة، ولحومهم المتعفنة، أغمضت عيني، وكتمت أنفاسي، حتى
شعرت بأول تلك الأصابع وهي تتلمس جسدي، فأطلقت صرخة طويلة، يائسة، وقفزت من فوق
السياج، ليسقط جسدي بسرعة هائلة كالنيزك من ارتفاع أربعة طوابق، لحظات بدت كالدهر،
مر فيها شريط حياتي كاملا في مخيلتي، ثم شعرت بالارتطام، دون أن أشعر بالألم، ثم
أظلم كل شئ!
***
ثم عاد النور مرة واحدة، لأجد نفسي أقف
في مدخل البناية، في ركن منها، وإلى جواري ذلك الشاب المهذب (أحمد جميل) ينظر لي،
ويبتسم مشجعا ... كان هناك عدد كبير من الناس في مدخل البناية، يتحركون كالنحل في
الخلية، معظمهم يرتدون الملابس الشرطية، وبعضهم يتحلقون حول شئ ما مغطى بملاية
بيضاء دامية، هذا المنظر يذكرني بالعديد من المشاهد السينمائية، بالتأكيد تحت هذه
الملاية جثة قتيل، وهؤلاء هم المحققون من الجهات الأمنية، يقومون بحصر الأدلة،
والمعلومات عن تلك الجريمة، نظرت نحو (أحمد) مستفسرا فأوما لي برأسه إيماء مبهمة،
فرددت عليها بالمثل ... اقتربت من الجمع، يدفعني الفضول لمحاولة فهم ما يحدث، لفت
نظري ذلك الرجل الذي يرتدي حلة كاملة، ويغطي عينية بنظارة شمسية، وتبدو على ملامحه
إمارات الصرامة، والجدية، وهو يتحدث إلى ذلك الرجل ذو الملامح القروية في ملابسه
البلدية البسيطة ... أقتربت أكثر حتى أتسمع ما يقولان.
كان الرجل ذو الملابس البلدية، يتحدث
وقد بدا الذعر على وجهه:
-
أجل يا (باشا) أنا بواب البناية، ولكنني لا أتواجد هنا
بصفة دائمة، فالبناية غير مأهولة بالسكان.
عقد الرجل ذو الملامح الصارمة حاجبيه
خلف النظارة الشمسية، والذي بدا واضحا أن ضابط شرطة برتبة عالية، وهو يسأله بحدة:
-
ولماذا هي غير آهلة بالسكان!؟
تردد البواب لثوان، وبدا كالفأر في
المصيدة، حتى أنني شعرت بالشفقة عليه، ثم قال بلهجة بدت غير صادقة:
-
بسبب مشاكل بين الورثة.
قال الضابط بلهجة أكثر حدة، وقد أدرك
بحاسته الأمنية أن البواب يخفي شيئا ما:
-
فقط!؟
فجحظت عينا البواب، واستدرك قائلا:
-
ولأن هذه البناية ملعونة يا سيدي.
أطلق الضابط ضحكة ساخرة متهكمة، وهو
يردد ما قاله البواب.
-
ملعونة!
-
أجل يا سيدي ... تلك البناية استغرق بناؤها عشرة سنوات
كاملة، وسمعت ممن سبقوني، وفروا بجلدهم من هذا العمل، سمعت منهم الأعاجيب عن هذه
البناية، وما يحدث فيها ... يقولون أنهم عثروا أثناء الحفر في موقع البناء على
عظام بشرية، ولكن صاحب البناية استطاع رشوة المهندس، والمقاول للتغاضي عن الأمر،
واستكمال صب الأساسات دون إبلاغ السلطات.
قال الضابط بلهجة متهكمة:
-
هذا هو السبب إذا!
-
ليس فقط ياسيدي ... فلقد مات صاحب البناية بعد شهور
قليلة في موقع البناء بأزمة قلبية، سمعه البعض يتحدث قبل موته مع أشخاص غير
موجودين، وبعدها بسنة عثروا على جثة متحللة في الطابق الرابع، ولم يتعرف أبدا على
صاحبها ... ثم بدأ الخلاف بين الورثة لسنوات طويلة، حتى تصالحوا بعد سنوات طويلة،
ليتم استكمال البناية، وتباع بعض شققها بالفعل.
بدت الدهشة على وجه الضابط، وهو يقول
بلهجة غليظة:
-
ألم تقل ايها المأفون أن البناية غير مسكونة!
استدرك البواب بسرعة، وهو يقول:
-
أجل ياسيدي ... هذه هي الحقيقة بالفعل ... فأول من سكن
هذه البناية كان شاب مهذب أقام في شقة بالطابق الثامن، وكذلك رجل وأمرأة وطفلتهما
الصغيرة أقاموا في شقة بالطابق الخامس.
-
إذا فالبناية مسكونة!؟
-
لا ياسيدي ... لقد مات هذا الشاب المهذب، ومعه مجموعة من
أصدقائه في حادثة مروعة بسبب تسرب الغاز، تذكر تلك الحادثة ياسيدي لقد كانت
العنوان الرئيسي للصحف والبرامج التلفزيونية في تلك الفترة.
-
وماذا عن الزوجين؟
قال البواب بسرعة:
-
هجرا البناية بعد أن سقطت بنتهما المسكينة من الشرفة ولقت
حتفها على الفور ... ألم أقل لك ياسيدي
إنها بناية ملعونة.
صمت الضابط لفترة يفكر فيما قاله
البواب، ثم ساله:
-
وأنت ما عملك هنا بالضبط؟ إذا كانت بالبناية خالية وغير
مسكونة.
-
لقد وظفني الورثة لأهتم بالمكان، وأقابل من يريد شراء
الشقق وأعرضها علي، ولكن بأمانة لا يأت الكثيرون بعد أن ذاعت بين السماسرة سمعة
البناية السيئة ... أما أنا فأعمل بوظيفة أخرى في (محل) صغير في آخر شارع
(البحيرة)، وأمر على المكان من حين لآخر، ولكن لا أخفيك سرا يا سيدي، أنا أخشى
دخول هذه البناية، أخشاه كخشية الموت.
إتكأ الضابط إلى جوار الجثة المغطاة
بالملاءة الدامية، وهو يقول:
-
وماذا عن هذا المسكين!؟
بدت الحيرة على وجه البواب، وهو يقول:
-
لا أعرف ياسيدي ... لقد لمحت الدراجة البخارية متوقفة
أمام البناية، فأسرعت إلى هنا، لأجده على تلك الحالة.
قال الضابط بصوت خافت، محدثا نفسه هذه
المرة:
-
يقول المحققون، أن هذا المسكين جاء إلى البناية، وصعد
مباشرة إلى الطابق الثامن، ووضع بعض علب (البيتزا) داخل إحدى الشقق الخالية، ثم
قفز منتحرا من بئر السلم.
قالها ثم رفع الملاءة عن ذلك الوجه
المغطى بالدماء، وعينيه الخاليتين من الحياة اللتان تحدقان نحو الفراغ، أنا أعرف
تلك الملامح جيدا، أعرفها، وأراها كل يوم وأنا أنظر إلى المرآه، إنها ملامحي أنا،
وهذا الجسد هو جسدي أنا، صرخت بفزع هستيري:
-
إنه أنا!.. هذا أنا!
اقترب مني (أحمد جميل) بسرعة، هو
وأصدقاؤه، وأخذوا يربتون على كتفي، ويحاولون تهدئتي، قال (أحمد) بلهجة مشفقة:
-
لا تقلق ... تعال معنا ... ستعتاد الأمر، ولن تجده مملا بأي
حال.
نظرت له بعيني مغرورقتين بالدموع:
-
هل أنا ميت!؟
لم يجب، ولكنه أمسك بيدي واصطحبني، هو وأصدقاؤه
نحو المصعد ... ألمح الضابط يخرج بطاقة من ملابس الجثة، جثتي أنا، ويقرأ ما بها
بصوت عال:
-
اسمه (ناصر) ... ويعمل كعامل توصيل (طيار)!
قال بالبواب:
-
ولكن ما الذي جاء به إلى هذه البناية الغير مسكونة!؟
هذا البواب الجاهل يقول أن البناية غير
مسكونة، لو رفع الحجاب عن ناظريه لأدرك أنها مسكونة بالفعل، وممتلئة عن آخرها
بالسكان، مسكونة بالأشباح ...
.. (تمت) ..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق