السبت، 4 نوفمبر 2017

القرية (الجزء الأول)




قصة رعب بعنوان ... (القرية – الجزء الأول)
كنت أقود سيارة العمل في منتصف (اللامكان) تماما، إذا كان هناك مصطلح لغوي في اللغة العربية بهذا المبنى، متوجها إلى مكان يدعى (كفر الممسوس)، اسم غريب لمكان قصي لا يظهر على خريطة (جوجل)، وبالتالي فهو مجهول تماما بمقاييس هذا العصر، والأدهى أن الطريق إليه شاق، ووعر، ومرعب أيضا ... وصف لي أحدهم الطريق بكلمات بسيطة للغاية، عليك أن تسير في الدرب الغير ممهد لعدة أميال، حتى يستحيل السير فيه بالسيارة، عندها توجه لليسار مباشرة نحو قلب الصحراء متبعا طريق القوافل، ستتبينه من آثار أقدام الإبل عليه، سيقودك هذا الطريق بعد ساعة أو اثنتين إلى صخرة عملاقة تشبه الأنف، عندها توجه يمينا موليا ظهرك إلى طريق القوافل لعدة أميال أخرى، في النهاية ستجد بئر ماء صغيرة، وفي دبرها قرية (كفر الممسوس)، ولكن ما الذي يذهب بك إلى تلك الأرض القاصية، المنعزلة!؟ سؤال ألحقه بذلك الوصف الذي جعل معدتي تتقلص من التوتر، فأجبته ببساطة:
-          إنه العمل، ذلك العمل اللعين في شركة توصيل الطرود، الذي يجبرك على الذهاب صاغرا إلى الجحيم، وأنت تحمل في يمينك طردا، وتسلمه للشيطان شخصيا، وعلى وجهك ابتسامة مداهنة، ورياء.
لم يكن عملي بهذا السوء، ففي معظم الأحيان تكون أماكن توصيل الطرود قريبة، وداخل حدود مدينتي، كان تعليقي يحمل الكثير من المبالغة، ما لم أكن أعرفه حين نطقت به، أن ما سأتعرض له لاحقا، سيجعل هذا التعليق واقعيا، وبعيدا تماما عن أي مبالغة.
لم أكن يوما ممن يجيدون تقدير الوقت، فهذا يحتاج إلى قدر من الذكاء لا أمتلكه بحال، فها هي الشمس تتوجه إلى الغروب، والظلام بدأ يرخي سدوله على الكون فيضفي كتلة، وهيبة على تلك الكثبان الرملية فيجعلها أشبه بوحوش خيالية تجثم في صبر تنتظر الانقضاض على الضحية الغافلة:
-          سحقا ... أين تلك القرية اللعينة؟... لا أرى أي أثر لها.
لقد اتبعت الوصف بدقة، أو هكذا أحسب، أيكون هذا  الرجل الذي وصف لي الطريق كعادة أبناء وطني أفتى بغير علم فألقى بي إلى تلك المجاهل في قلب الصحراء؟ أم أكون أغفلت شيئا من وصفه فقدت نفسي بنفسي إلى الضياع؟ لا أظن أنني قادر على العودة وبخاصة أن الظلام الحالك سيسود في تلك الليلة قليلة القمر لسوء الحظ، يا لحماقتي وتهوري:
-          احذر!!
صرخت بها بحدة بعد أن ظهر ذلك الشبح الأسود فجأة أمام سيارتي، أدرت المقود بسرعة، فانحرفت السيارة بقوة ناحية اليمين، ولكن ذلك لم يكن كافيا، فقد ارتطمت السيارة بذلك الشبح الأسود وألقته جانبا، واندفعت السيارة بسرعة تجاه أحد الكثبان الرملية، كنت أصرخ في جزع بعد أن فقدت السيطرة عليها تماما، قبل أن تصطدم به بقوة وترتطم رأسي بالمقود ... توقفت السيارة أخيرة بعد أن غابت مقدمتها داخل ذلك الجدار الرملي ... غامت المرئيات أمام ناظري، أشعر بدوار شديد، ولكن قبل أن أغيب عن الوعي تماما، لمحت ذلك الشبح الأسود وهو يقترب من السيارة بخطوات متأدة، وينظر لي من خلال زجاجها الأمامي المهشم ... قبل أن يختفي كل شئ وأغيب في الظلام.
***
-          أين أنا!؟ ما الذي حدث!؟
قلتها بصوت ضعيف متأوه، وقد بدأ الوعي يعود إلى تدريجيا، وإن مازالت الذاكرة معتمة تماما، فجاءني الرد بصوت خشن، غليظ، وبلكنة بدوية لم اعتدها من قبل:
-          أنت هنا في داري.
اعتدلت بسرعة لأجد نفسي في ذلك الفراش في تلك الغرفة المؤثثة بأثاث أنيق، ولكنه عتيق يغلب عليه الطابع البلدي، يجلس في مواجهتي على أحد المقاعد الوثيرة رجل مسن تبدو عليه إمارات القوة والوقار، بادرني قائلا:
-          لا تجزع ... أنت بخير، عثر عليك بعض شباب القرية هذا الصباح وجاؤوا بك إلى داري.
لم أجد فيما قاله إجابات كافية على تساؤلاتي، فأعدتها عليه:
-          أين أنا!؟ ما الذي حدث!؟
ابتسم المسن في ترفق، وأجاب بصوته الغليظ:
-          لقد تعرضت بالأمس إلى حادثة، ولكن لا تقلق لا يحمل جسدك أي إصابات شديدة، فقط بعض الرضوض والخدوش.
توقف للحظة ثم أردف:
-          وأنت هنا في داري ... أنا الشيخ (حسان) عمدة قرية (كفر الممسوس).
قلت بسرعة وقد عادت إلي ذاكرتي مرة واجدة:
-          الشيخ (حسان) ... أجل لقد كنت أحمل إليك طردا خاصا.
ابتسم الرجل، وحول بصره تجاه ركن الغرفة، فأتبعته ببصري، فلمحت ذلك الصندوق الورقي الذي يحوي داخله الطرد الذي كنت أحمله لهذا المكان، ولذلك الشخص تحديدا، كان بجواره حقيبتي الشخصية وبعض الحاجيات كانت موجودة في سيارتي، فقلت بلهفة:
-          وسيارتي كيف حالها؟
ثم تذكرت شيئا آخر فقلت بهلع:
-          وهذا الشبح الذي صدمته، هل كان إنسان أم حيوان.
أجابني الشيخ (حسان):
-          أنت لم تصدم شيئا غير تلك التلة الرملية، قد تكون تخيلت ذلك بأثر الظلام!
لم أقتنع بما قاله، فذاكرتي تحمل بعض الرؤى الباهتة عن ذلك الشبح أثناء الحادثة وبعدها، رؤى مختلطة، ضبابية تثير التوتر، ولا تبعث الراحة بالنفس، لم يترك الشيخ (حسان) الفرصة لي لاستطرد في تلك الخاطرة وهو يقول وقد اتسعت ابتسامته:
-          كما أن سيارتك بخير، بها عطل بسيط، وهي الآن بين يدي ميكانيكي القرية (شرقاوي).
-          وهل هو قادر على إضلاح ذلك العطل؟
نهض من مقعده وتوجه ناحيتي وربت على كتفي وهو يقول:
-          (شرقاوي) قادر على إصلاح أي شئ من الجرار الزراعي وحتى المكوك الفضائي.
توجه إلى ركن الغرفة وحمل الطرد الخاص به، ثم تحرك بخطوات ثقيلة ناحية باب الغرفة، لأول مرة انتبه إلى جسده الضخم وقامته العملاقة ... سألته بسرعة:
-          وهل سينتهي منها اليوم؟
التفت لي بنفس الابتسامة المترفقة، وهو يجيب:
-          سيحتاج الأمر إلى يومين، ستقضيهم بيننا معززا، مكرما.
صمت للحظة ثم أردف:
-          أما الآن فسأتركك لترتاح قليلا حتى يجهز الطعام والشراب ... فنحن أهل كرم وضيافة وأنت ضيفنا الآن.
***
بعد ساعة أرسل لي الشيخ (حسان) واحدا من الخدم ليقودني إلى المضيفة الملحقة بدار العمدة والتي أمتلأت عن آخرها بالكثير من أهل القرية الذين جاؤوا للترحيب بي، وهبوا لمصافحتي في بشاشة، وود عندما أقبلت عليهم ... بدت الدهشة على وجهي فأوضح لي الشيخ (حسان) أن قريتهم المتطرفة والبعيدة عن أي قرية أخرى لا تشهد قدوم الكثير من الضيوف، وأن قدومي إليهم واضطراري للإقامة بينهم ليوم أو يومين هو حدث جدير بالذكر، فسألته بخجل:
-          ألا يوجد وسيلة استطيع الرحيل بها، وأعود بعد أن تتنهي أعمال الإصلاح في السيارة.
لمحت الضيق على وجهه لثانية واحدة ولكنه أخفاه بسرعة خلف تلك الابتسامة التي لا تفارق وجهه إلا لمما، وهو يقول:
-          للأسف لا يوجد.
ثم أضاف وهو يقودني نحو المائدة المنتصبة في منتصف المكان والتي اكتظت عن آخرها بأطايب الطعام:
-          هيا إلى الطعام قبل أن يبرد، وبعدما تنتهي يمكننا أن نكمل حديثنا أثناء شرب الشاي.
كانوا قوما ودوين، ولطفاء بحق، كما أنهم أهل كرم أيضا، ظهر ذلك واضحا في الطعام الذي اكتظت به المائدة، والذي كلما فرغ أحد صحونه، أقبلت بسرعة واحدة من النساء المتشحات في ثيابهن الملونة فلا تبدين إلا أعينهن المكحلة، فترفع الصحن بسرعة وتضع مكانه صحنا آخر ممتلئ.
بعد الطعام جلسنا نتبادل أطراف الحديث، هؤلاء القوم فيهم شيئا نختلفا يأثر القلب بسرعة ويرفع الكلفة، ويجعلك تشعر أنك تجلس بين أهلك وقومك، كما أن الحضور كانوا جمعا من الكبار والصغار بلا تفرقة،  يستطيع أيا منهم التكلم بأريحية حين يشاء، أناس لا يحملون أي عقد، نأوا بأنفسهم عن عادات هذا العصر السلبية وأي عصر آخر، حديثهم لطيف وبسيط، وسرعان ما صرت أحفظ معظم أسماؤهم، وصرنا نتبادل الدعابات كأننا نعرف بعضنا البعض منذ دهر ... فجأة دخل ذلك الطفل القبيح إلى المكان ... كان الطفل يحمل ملامحا خشنة، وسمات غير متناسقة، له عينا عوراء، مبهتة، وحدبة بارزة تعلو ظهره ... سار بخطوات عرجاء متوجها إلى مقعد خشبي في ركن من المكان فجلس عليه وهو يحدق في بعينه الوحيدة بنظرات قاسية تخترق الروح، وتعبث بالباطن ... وفي لحظة واحدة تبدلت أحوال الحضور، وكست وجوههم ملامح القلق، والتوتر، بل والرعب أيضا كما بدا لي، واختلجت كلماتهم الودودة، المرحة، فأصبحت مقتضبة، مرتعشة، كانت عيونهم تتابع من طرف خفي ذلك الطفل القبيح ... فكرت أن أسأل الشيخ (حسان) عنه، ولكنني شعرت أن هذا يخلوا تماما من اللياقة والتهذيب ...قام لي هذا الأخير وأمسك بساعدي ليصحبني إلى خارج المكان، وهو يقول بلهجة حاول أن يجعلها ودودة ولكنها خرجت مرتعدة:
-          لن نطيل عليك اليوم ونرهقك أكثر من ذلك، سأصحبك إلى غرفتك لترتاح، فالحادثة التي تعرضت لها لم تكن هينة.
أومأت برأسي موافقا إياه، وأنا أتبعه إلى خارج المكان بعد أن سلمت على الحضور وشكرتهم على كرمهم ولطفهم، وعيناي لا تفارقان هذا الطفل القبيح الذي تجمد في مكانه وهو يتبعني بعينه الوحيدة، كعين الصقر حتى خرجت من المكان.
***
  قضيت بقية اليوم في غرفتي، جلب لي الخدم طعام العشاء والفاكهة، وكثير من أقداح الشاي والقهوة، ومر علي الشيخ (حسان) قبل النوم ليطمأن على حالي، ويسأل إذا كان لي أي طلب، فشكرته بشده على حفاوته، وكرمه ...أخبرني أنه سيصحبني في الصباح في جولة بالقرية، ثم ذهب، وتركني لأنام ... حاولت النوم ولكنني لم أفلح في أن أنال أي نصيبا منه، كنت أشعر بالأرق، وكانت أحداث اليوم السابق ومشاهده، تعبث في مخيلتي كلما حاولت النوم ... أخرجت رواية من حقيبتي، وتمددت على فراشي وأنا أفتح الرواية على تلك الصفحة المنثنية التي توقفت عندها آخر مرة، أنا أعشق قراءة الروايات البوليسية وأحملها معي دائما وأقرأ نذرا منها كلما تيسر لي ذلك، وبالذات أثناء انتظار مهام العمل، فطبيعة عملي تسمح بذلك ... فجأة سمعت صوت دقات خافتة، خجلة، على باب الغرفة، فنهضت لأفتح فلم أجد أحدا ... عدت إلى فراشي، ولكن قبل أن أصل إليه عادت الدقات الخافتة مرة أخرى، فتوجهت للباب مجددا وفتحته فلم أجد أحدا أيضا في تلك المرة، تمتمت بضيق وتوتر:
-          ما هذا العبث.
ثم التفت عائدا لأجده هناك، يجلس على فراشي ويحرك قدميه حركة طفولية عابثة، وهو يوجه لي نفس النظرات الحارقة بعينه الواحدة، وملامحه القبيحة الغير متسقة، تشكلت على وجهه ابتسامة مرعبة، زادت من قبحه، ابتسامة ذئب حاصر فريسته  ...
.. (نهاية الجزء الأول – يليه الجزء الثاني) ..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق