قصة رعب بعنوان ... (القرية – الجزء
الثالث)
ملخص ما سبق ... شاب يعمل في توصيل الطرود
يجد نفسا محتجزا في قرية منعزلة وسط الصحراء بسبب حادثة غامضة ... قبل أن يتعرض لوقائع
ظهور مريبة لطفل أعور، قبيح، يقوده في آخرها إلى نفق سري أسفل شجرة ضخمة، قديمة،
يقدر عمرها بمئات أو بآلاف السنين، لا أحد يعلم، فقد كانت هناك في هذا المكان قبل
الجميع ... يرفض الشاب دخول النفق، ويحاول الهرب، ليجد ذلك الطفل أمامه من جديد
يسد عليه الطريق مهددا ...
...
.. (أحداث جرت في نهايات القرن السادس
عشر) ..
كنا مائة أو يزيد من الرجال، والنساء، والأطفال
معظمنا يحمل تلك اللعنة الرهيبة، وبعضنا معاف، ولكنه أبى إلا أن يرحل مع من أصابته
اللعنة من أهله وأقاربه ... أوشكت المؤن على النفاذ، سقط بعضنا في الأيام السابقة
صريعا بسبب تلك اللعنة، فدفناه في رمال الصحراء دون أي علامة على قبره، وأكملنا
المسير بغير هدى أو دليل، كنا فقط نحاول أن نهرب، ونبتعد عن مصير مرعب إلى مصير أخر
أكثر رعبا.
عندما أصاب ذلك المرض اللعين مدينتنا، ورأيت
تلك البقعة السوداء الخبيثة ذات الرأس الدملي، على جسد أول مريض، لم استطع أنا
طبيب الوالي الشهير أن أتعرف على هذا المرض، ولم أجد أي إشارة له في كتب الطب
العتيقة، وبسرعة انتشرت تلك البقع في جسد المريض، ولم تستجب لأي من العقاقير الكثيرة
التي أعطيتها إياه، وصببتها في فمه صبا، حتى غطت جسده كله، ولك أن تتخيل الرعب
الذي شعرت به وأنا أرى رؤوس تلك البقع السواداء وهي تنفجر، وتنبجس منها الدماء بغزارة
حتى لفظ المريض آخر أنفاسه بعد أسابيع قليلة من ظهور أول بقعة في جسده، الرعب
الحقيقي الذي أثار القشعريرة في جسدي، وانتصب له شعر رأسي وساعدي، هو عندما ظهرت
نفس الأعراض على مريض ثاني وثالث، وانتشرت اللعنة وصارت وباء.
في البداية حاولنا العلاج والمقاومة، ولكن
ذلك لم يخفف من حدة ذلك الطاعون الأسود، الذي بدأ ينتشر كالنار في الهشيم، اختفى
الناس داخل منازلهم في محاولة لتجنب التعرض لمسببات هذا المرض، وهرب البعض إلى
خارج المدينة، حتى منع الوالي ذلك وأمر بإعدام كل من يحاول الهرب، ولكن كل ذلك لم
يقلل انتشار المرض الذي أصبح جاثما على الأجساد والعقول، هنا قرر الوالي في لحظة
جنون، حرق كل من يصاب بهذا المرض ، فكانت الجنود تمر بالمنازل بصحبة الأطباء، تفحص
أجساد البشر فمن ظهر عليه العلامات، جروه إلى ساحة المدينة، ونصبوا فيها محرقة
تلقى فيها أجساد المرضى وهم أحياء.
رفضت المشاركة في تلك المهزلة، وحاولت
إقناع الوالي بما لي عنده من حظوة، بإيقاف تلك المحرقة، ولكن الرعب والهستيريا الذان
كان يشعر بهما، جعلا كل محاولاتي غير مجدية ... لا أعرف متى حدث ذلك!؟ متى ظهرت
أول بقعة سوداء خبيثة على خن فخذي، قد يكون ذلك قد حدث بعد ثلاثة شهور من ظهور
اللعنة للمرة الأولى، هكذا وجدت نفسي في قفص خشبي بصحبة عشرة من المرضى، نساق كالبعير
إلى المحرقة ... ولكن قبل أن نلقى في النار، علم الوالي بالأمر، وقد كان يحبني،
ويقدر لي ما كنت أفعله من أجله في الماضي، فجاء أمره متجاوزا بالسماح اليوم لمن
يرغب من المرضى أو من أهاليهم بترك المدينة، على أن يفعلوا ذلك اليوم، فالبقاء للغد
يعني أن الخيار الوحيد الذي سيكون متاحا لهم هو الحرق، الحرق فقط.
هكذا سرنا في قافلة طويلة إلى خارج
المدينة، يتبعنا الجنود حتى يتأكدوا أننا لن نسير في اتجاه أي مدينة مأهولة،
جاعلين أمامنا الخيار الوحيد هو قلب الصحراء، ولهيب نهارها، وظلمة ليلها ... بعد
يومين عاد الجنود، واستكملنا نحن المسير لأيام عدة، حتى أوشك الماء، والطعام على
النفاذ، وتيقنا من شئ واحد فقط، هو أننا ضللنا الطريق تماما في وسط تلك الصحراء
مترامية الأطراف، ونحن نحمل ذلك الطاعون اللعين الذي يلتهم أجسادنا، لا نملك في
جعبتنا أي أمل في النجاة ... حينها علا ذلك الصوت المتحشرج، من وسط الجموع المنهكة
الخائرة:
-
واحة ... أرى واحة خضراء على مسافة قريبة من موقعنا.
***
-
ماذا تريد مني أيها الخبيث!؟
صرختها في وجه ذلك الطفل القبيح الذي
يسد الطريق في وجهي، فرفع يده ببطء، وهو يبسط سبابته مشيرا إلى ذلك النفق، وكأنه
يدعوني إلى دخوله، فقلت بحزم:
-
لا لن أفعل ... توقف عن العبث وإلا
سأشكوك للشيخ (حسان).
انقلبت عينه الوحيدة، وتبدل بياضها
وسوادها، بلجة من الجمر الأحمر الملتهب، صرخت في فزع وارتددت خطوة إلى الخلف، وأنا
ألهج بهلع:
-
ما أنت أيها اللعين!؟ ... أنت لست
بشريا!
تعليق ذكي بحق، وكأن كل ما حدث قبل
ذلك لم يكن كافيا لعقلي الساذج ليدرك أن هذا الطفل الأعور، القبيح، ليس من هذا
العالم، ولا ينتمي لأي من مخلوقاته المعروفه ... حاولت التماسك وأنا ابتعد في نصف
دائرة محاولا تجاوز ذلك الشئ، وعائدا إلى الدار ... وما أن ابتعدت وصار في ظهري،
حتى أسرعت الخطا، قبل أن تتحول تلك الخطا إلى عدو سريع، ملهوف، محاولا أن اتجاهل
مخاوفي، حتى لا تعجزني قبل أن أصل إلى بر الأمان ... صرخت بفزع وانحرفت لليسار بعد
أن ظهر الطفل مجددا إلى يميني، ولكني واصلت العدو، وواصل هو الظهور عدة مرات بنفس
هيئته المقيتة، المهددة، ولكنني تجاهلته حتى وصلت إلى باب الدار، فدفعته بقوة،
وقفزت إلى الداخل لأصطدم بذلك الشخص، فنسقط معا، ونتدحرج على الأرض، وأنا أطلق
صرخات طويلة مولولة كصفارات القطار ...
***
.. (أحداث أخرى جرت في نهايات القرن
السادس عشر) ..
لم تكن تلك نجاة بالمعنى الحرفي،
ولكنها مجرد تأجيل لضربات الخطر القاطعة، الحاسمة ... واحة في منتصف الصحراء بها
عين ماء، وخضرة، ونخيل، شئ يبدو رائعا، وقد يهدئ من آلامنا، وجوعنا، وعطشنا، ويرطب
جلودنا التي احترقت لساعات أو لأيام قليلة، ولكنها لن توقف هذا المرض اللعين الذي
يستشري في أجسادنا، والذي سيفتك بنا حتى أخر فرد فينا، بعد أسابيع قليلة على أفضل
تقدير ... أقمنا مخيما بجوار عين الماء، بالقرب من تلك الشجرة الوارفة التي تتدلى
فروعها وتلامس الأرض كإمرأة جميلة يتدلى شعرها الناعم الطويل حتى أطرافها:
-
هيا نلعب عند (أم الشعور).
نطق بها طفل صغير لزميله، ليتبعه
متوجهين للعب عند تلك الشجرة الوارفة، متجاهلين تلك البقع الدملية القبيحة التي
تغطي جسديهما، أطفال! ما أروع فطرتهم البسيطة التي تدفعهم للعب وسط كل هذا الموت،
واليأس، والمرض ... لقد أسماها بفطرته (أم الشعور)، إذا هذا هو أسمها ... ولكن ما
نوعها! أنا خبير في النباتات لطبيعة عملي، ولكنني لم أرى في حياتي مثيلا لها... التقطت
ثمرة جافة من ثمراتها البنية، العنبية، الجافة، وتذوقتها على طرف لساني، قبل أن أبصقها
مستبشعا، فقد كانت ثمرتها كريهة المزاق للغاية، كريهة أكثر من أي شئ آخر تذوقته في
حياتي.
تجولت بين الخيام محاولا بعث
الطمأنينة في الرفاق، لقد عينوني قائدا بغير إرادة مني، إنهم مرضى فمن أفضل لهم من
طبيب قائد، ولكنني قائد، وطبيب عاجز تماما على أن يداوي مرضاه، عاجز حتى على أن
يداوي جسده الذي استشرى فيه المرض وأصبحت البقع الدملية، السوداء، القبيحة، تغطي
نصف جسده ... قالت لي أمرأة برجاء:
-
هل هناك أمل يا سيدي (الطبيب).
فأجبتها كاذبا:
-
بالطبع ... هناك أمل دائما.
الوضع أسوء من ذي قبل، هذا أمر لا شك
فيه، فالأصحاء بيننا أصابهم المرض أيضا، من الواضح أن هذا المرض اللعين يصر على أن
يواصل إسقاط المزيد من الضحايا، ولن يشبع حتى يأتي على أخرنا ... عدت إلى خيمتي في
المساء واستلقيت على فرشتي محاولا الحصول على قدر من النوم، هنا انتبهت إلى تلك
الحركة بجانبي، فالتفت، لأرى ذلك الشخص المتشح في رداء أسود يغطي جسده، ورأسه، يقف
في منتصف الخيمة وهو يراقبني في صمت، قلت بفزع:
-
من أنت!؟ وماذا تفعل هنا!؟
أجابني بصوت رغوي، عميق، كأنه يخرج من
أعماق البئر:
-
أنا من سكان هذا المكان.
قلت متعجبا:
-
وهل لهذا المكان سكان!؟ لم نر أحدا
منهم قبل الآن، أين هم!؟
أشار بإصبعه ناحية الأرض، ولم يرد بشئ
آخر ... فهمت ما يقصده فارتعدت في فزع، واعتدلت محاولا الهرب، فأشار لي بكف يده، مطالبا
أياي الهدوء، فبدت أصابعة طويلة، سوداء، فحمية، لها أظافر بارزة في نهايتها، أثارت
فزعي أكثر ... قال لي:
-
اهدء ... جئت أحمل إليك الشفاء مما بك
وبقومك.
انتصبت معتدلا وتقدمت ناحية باب
الخيمة، فلم يستوقفني، ولكن قبل ان أصل إلى بابها، توقفت، والتفت إليه:
-
هل لديك علاج لهذا المرض اللعين بحق!؟
-
أجل.
قالها ببساطة، ثم سار ناحية جدار
الخيمة، وهو يستطرد:
-
كل من ثمار الشجرة، واشرب من ماء العين،
وستشف من مرضك، واوصي قومك بأن يفعلو مثلك.
قالها، وتجاوز نسيج الخيمة كأنه شبح
... بالتأكيد هو شبح أو ما هو أسوء ... وما الذي يضير في ذلك، سآخذ بنصيحته، عسى
أن يكون فيما قاله الشفاء ... توقفت لحظة أفكر فيما حدث، ثم قلت مخاطبا نفسي:
-
ولكن ما الثمن!؟... بالتأكيد سيكون هناك
ثمن!؟
***
-
توقف يابني ... لا تخف إنه أنا؟
توقفت عن الصراخ وأنا انظر إلى الشخص
الذي اصطدمت به، قبل أن انتبه إنه الشيخ (حسان)، لقد ميزت صوته الخشن، الغليظ،
ولكنته البدوية المميزة، فأمسكت بكتفه، وأنا أصيح:
-
ذلك الطفل القبيح ... إنه شيطان،
يحاول استدراجي إلى تحت الأرض.
لم يعلق الشيخ (حسان) على ما قلته،
وهو يعتدل، ويساعدني على النهوض، ولم يبد على وجهه أي أثر لتلك الكلمات ...
اصطحبني إلى قاعة الجلوس، وأنا أواصل كلماتي المعترضة، الخائفة:
-
إنه يطاردني، ويحاول النيل مني.
تكلم الشيح (حسان) بصوت هادئ:
-
أجلس يابني ... لقد صار الوقت مناسبا
لتعرف الحقيقة ... كل الحقيقة.
.. (نهاية الجزء الثالث – يليه الجزء
الرابع) ..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق