الخميس، 6 أكتوبر 2016

لاسلكي


قصة رعب قصيرة بعنوان ... (لاسلكي)

قصة رعب قصيرة بعنوان ... (لاسلكي)
لم تختار طفلتي عروسة ولا دمية، ولم تختار أي لعبة أخرى من ألعاب البنات المعروفة كأدوات المطبخ أو أدوات التبرج والحياكة، ولا تلك النماذج المصغرة التي تعشقها البنات ويخلقن منها عالمهن الخاص ... ولكنها اختارت لعبة (اللاسلكي)! وهي لعبة مكونة من وحدتين بحجم المحمول لونهما وردي من تلك التي يسمونها (ووكي توكي) والتي تعمل  بالبطاريات ويمكنها إجراء اتصال لاسلكي على مسافة لا تتجاوز العشرة أمتار ... طفلتي الوحيدة تمت عامها السادس اليوم، جعلتها تختار بنفسها هدية عيد ميلادها ففاجئتني باختيارها، ولكنها كانت سعيدة بها وهذا مايهم.
في البداية لم تجد غيري لتلعب معه بتلك اللعبة، فكانت تعطيني إحدى الوحدتين وتحبسني في غرفة نومي وتتواصل معي بالثانية من الصالة أو من الردهة أو من الحمام ... من الواضح أن هذا اللعبة الصينية المنشأ لم تكن بالجودة المطلوبة، فالاتصال كان رديئا طوال الوقت، يحتاج المستقبل لجهد كبير حتى يميز صوت المتصل وسط كل هذا التشويش، ولكن طفلتي لم تكن تشعر بذلك بل كانت تعتبرها لعبة عبقرية جاءت مباشرة إليها من عالم السحر والمعجزات، وكان هذا يكفيني وبخاصة عندما يصلني صوتها الرقيق عبر تلك اللعبة وهو يقول:
-          (ألووو) من معي.
-          أنا أبوك.
-          وماذا تريد؟
-          أريد أن أنام.
-          انتظر قليلا.
ثم تغيب للحظة تظهر بعدها على باب غرفة نومي وهي تمسك اللعبة بيد وتشير لي بالأخرى إشارة عصبية، طفولية، محببة ... إشارة معناها أن علي أن أبذل المزيد من الجهد في خلق حوارا معها عبر جهاز (اللاسلكي) وألا أفكر في النوم الآن ... مطلقا!
في أحد الأيام جاءتني طفلتي ومعها لعبتها وعلى وجهها آثار الدهشة، تقول أن هناك من يحاول التحدث إليها على جهاز (اللاسلكي) ... أنا لست خبيرا في مثل تلك الأمور ولكنني أعرف أن الموجات قد تتداخل وقد تلتقط لعبتها بثا من الراديو أو التلفاز أو حتى من أجهزة شبيهة موجودة في محيط الاستقبال، فقلت لها بابتسامة:
-          ماذا يقول؟
وضعت الجهاز على أذنها وعقدت حاجبيها محاولة الانصات، ثم قالت:
-          إنه رجل عجوز، يقول أنه في مكان مظلم لا يعرفه!
-          هاته!
أخذت منها الجهاز ووضعته على أذني فلم يصلني إلا أصوات التشويش المتداخلة وذبذباتها التي تعلو وتنخفض فتصنع نسقا متغيرا، قلت لها وأنا أناولها الجهاز مرة أخرى:
-          لا يوجد شئ!
حاولت الانصات مجددا، ثم قالت لي مؤكدة:
-          أسمعه بوضوح، أنه يطلب النجده ويصرح بإسمه، ولكن لا أحد يجيبه.
-          وما اسمه؟
-          (عرفان)!
نظرت لها نظرة مرتابة، هل تحاول تلك الصغيرة مداعبتي مداعبة عملية مخيفة، بالتأكيد سنها لا يسمح، هناك من خطط لها ودفعها لذلك، فقلت لها متشككا:
-          أين أمك؟
-          في المطبخ.
قاطعنا صوت زوجتي وهي تقف عند باب الغرفة:
-          أنا هنا، من يسأل عني؟
ابتسمت لها وأنا أقول:
-          لقد كشفت خدعتك.
-          أي خدعة؟
-          خدعة الحاج (عرفان).
بدا عليها عدم الفهم، وهي تقول باستنكار:
-          أنا لا أفهم، هل تقصد الحاج (عرفان) جارنا المسكين الذي مات في منزله وحيدا منذ أيام، ولم ينتبه أحد لوفاته إلا من الرائحة... مسكين لقد تشاغل عنه الجميع حتى أولاده.
كانت تبدو عليها الجدية والحزن الحقيقيين، حتى أن صوتي بدا مترددا وهو يقول:
-          إذا أنت لست مشتركة مع (بوسي) في تلك المؤامرة.
ضمت طفلتها بحنان وقبلتها على خدها قبلة إجبارية قاومتها الصغيرة بعفوية، قبل أن تقول:
-          ليس لدي وقتا لألعابكما أنت و(بوسي)، هناك طعام يحتاج لمن يطهوه.
ثم غادرت الغرفة وهي تشير لطفلتنا:
-          مؤامرة!!! هل يمكن لهذا الملاك أن يشارك في مؤامرة؟
قلت بصوت خافت، وأنا أعيد التفكير فيما حدث:
-          لا!
كانت (بوسي) مازالت تحول الانصات للجهاز، قبل أن تتحول إلي وهي تقول بعناد طفولي:
-          مازلت أسمعه ... أنه ينادي الآن على إبنيه (محمود) و (أحمد)!
أخذت أحاول التذكر، أعلم أن للحاج (عرفان) إبنان، أكبرهما اسمه (محمود) وهو من جيلي، أما الصغير فماذا كان اسمه!؟ لا أذكر! ... بالتأكيد ليس (أحمد)، سيكون اسمه (محمد) أو (علي) أو (حلموس)، ولكنه لن يكون (أحمد)، فالمصادفات أيضا لها حدا منطقيا لا تتجاوزه أبدا.
حكت لي زوجتي بعد ذلك بعدة أيام عن واقعة غريبة أخرى كانت (بوسي) بطلتها هي ولعبتها العجيبة ... في ذلك اليوم جائتنا زائرة وهي أمرأة محترمة من صديقات زوجتي ومعارفها ... كان لتلك المسكينة بنت مراهقة قد توفت في حادثة منذ شهور ... حادثة أفجعت المرأة وأقعدتها طريحة الفراش لفترة طويلة، كانت لتطول أكثر لولا أهلها وأصدقاؤها ودفعهم لها حتى بدأت أخيرا تتابع حياتها من حيث توقفت وأن لم يختف الألم والمرارة للحظة عن محياها ... كان قدومها لزيارة زوجتي حدثا هاما، فتلك تقريبا هي المرة الأولى التي تخرج فيها من منزلها بعد الحادثة لهدف آخر غير عيادة الطبيب أو زيارة قبر إبنتها، لهذا أحسنت زوجتي استقبالها وضيافتها وكانت مراعية لكل كلمة تقولها أمامها حتى لا تذكرها بما حدث فتؤرق جراحها، ولم تنس زوجتي طبعا أن توضح المحاذير والقواعد (لبوسي) وما يجب أن تقوله وما يجب ألا تقوله ... لدقائق بدا أن (بوسي) ستلتزم بالقواعد وهي تجلس إلى جانبهما في غرفة الصالون تلعب بلعبتها الجديدة في براءة ودعة ... وترد على كلمات المجاملة بمثلها، قبل أن تلتفت إلى المرأة فجأة وهي تقول:
-          توقفي عن البكاء ليلا.
نظرت لها المرأة بدهشة وهي تتسائل:
-          ماذا؟
-          تقول لك ... توقفي عن البكاء والنحيب ليلا ... أرجوك.
نظرت زوجتي (لبوسي) نظرة مهددة وغمزت لها بعينها اليسرى، وهي تقول:
-          هل هذه لعبة جديدة يا حبيبتي؟.. يمكنك أن تكملي اللعب في غرفتك.
ثم أردفت بحروف بطيئة، غليظة تحاول ان تكظم بها غضبها الذي أوشك على الأنفلات:
-          هيا أذهبي الآن.
أشارت (بوسي) بجهاز اللاسلكي الذي تمسكه بيدها، وهي تقول:
-          هذا ليس كلامي، هذا كلامها هي.
قبل أن تنطق زوجتي بكلمة أخرى، سبقتها المرأة وهي تسأل بسرعة واهتمام:
-          من؟
-          (نورا).
توقفت زوجتي عن روايتها لي عند هذا الجزء وهي تقول:
-          و (نورا) هو اسم بنت المرأة المكلومة ... بنتها التي ماتت منذ شهور قليلة.
استطيع توقع ما حدث بعدها ولكنني آثرت أن أسمعه من زوجتي التي أردفت:
-          لا أجد الكلمات المناسبة لأصف لك رد فعل المرأة بعد تلك الكلمة، فقد دخلت في نوبة حادة وهستيرية من البكاء، لم تفلح محاولاتي اليائسة في تهدئتها أو الاعتذار لها ، وظلت المرأة على تلك الحالة لأكثر من ساعة، حتى جاء زوجها ليعيدها إلى المنزل بنفسه ولم ينس أن يرمقني بتلك النظرة التي معناها (منك لله ... ماذا فعلت بها؟).
أطلقت ضحكة ساخرة وأنا أقول:
-          كان عليك أن تردي عليه بنظرة أخرى معناها (وأنا مالي ... بوسي هي السبب).
تضايقت زوجتي من تعليقي الساخر، وقبل أن ترد وجهت دفة الحديث بخبث إلى اتجاه آخر:
-          وماذا فعلت أنت مع (بوسي)؟
حدقت في وجهي للحظة كأنها توازن بين الرد على سخريتي السابقة أو تجاريني وتجيب على تساؤلي، ثم قالت:
-          كدت أخنقها أمام المرأة، ثم اكتفيت بجرجرتها إلى غرفتها ومعاقبتها بحبسها هناك حتى آخر العمر!
-          مسكينة.
قلتها باقتضاب، فتسائلت زوجتي بغضب:
-          من هي المسكينة؟ ... أنا المسكينة ... لا أحد فيكما يفهمني ... لا أحد يحاول إراحتي ...
إنها تحاول أن تستدرجني إلى جدلية أخرى من ذلك النوع  الذي تعشقه كل أمرأة ... فنهضت متعجلا وأنا أتلفت حولي متصنعا البحث عن شئ ما، ثم غادرت الغرفة، وأنا أقول بكلمات غير واضحة:
-          أين هذا الشئ؟ .. لماذا يختفي دائما عندما أحتاجه؟
كنت نائما في فراشي في تلك الليلة بعد عناء يوم تقليدي من أيام حياتي المرهقة ... أيقظتني تلك الدفعات الرقيقة في كتفي، وذلك الصوت الخافت وهو يقول:
-          أبي ... أبي.
فتحت عيني بصعوبة شديدة، فلمحت فيهما صورة (بوسي) المهتزة، الغائمة، قلت لها :
-          ماذا تريدين يا (بوسي)؟.. لماذا أيقظتني؟
تنبهت إلى أن زوجتي ليست بجانبي في الفراش، فسألتها:
-          أين أمك؟
-          إنها في دورة المياة؟
-          ماذا تريدين إذا؟
صمتت للحظة وكأنها تخشى أن تصارحني، فأومأت لها برأسي مشجعا، فقالت:
-          هناك رجل هنا.
-          أين؟
-          هنا معنا في الشقة.
انتفضت عن فراشي وأنا أقول بسرعة:
-          هل تقصدين لصا؟
تنحنحت وهي تقول:
-          لا إنه رجل طيب ... المشكلة الوحيدة أنه ...
ثم توقفت عن الكلام، فحثثتها على الاستمرار، فقالت بحرج:
-          المشكلة الوحيدة أنه ميت ... هو قال لي ذلك.
لوحت بجهاز (اللاسلكي) في يدها، وهي تردف:
-          قالها لي في هذه اللعبة!
...
...

قالت لي زوجتي:
-          يجب أن نتخلص من هذه اللعبة ... الموضوع زاد عن حده.
وافقتها على ذلك الرأي رغم علمي بأن ذلك سيحزن طفلتنا الصغيرة لعشقها للعبتها الجديدة، ولكن بعدما حدث بالأمس أصبح الأمر مزعجا للغاية ولا يمكن السكوت عليه ... فالخيال الواسع لا يتتضمن أن تتخيل طفلة في السادسة من عمرها أنها تنصت إلى صوت الموتي عبر لعبة على شكل جهاز (لاسلكي)! هذا يندرج تحت بند الخيال المرضي الأسود الذي يجب مواجهته قبل أن يتفاقم ... المشكلة أن هذا هو رأي عقلي ولكن قلبي يشعر بأمر آخر، أمر مزعح، ومخيف من عالم الماورائيات، (فبوسي) في كل مرة كانت تدلي بمعلومات مذهلة عن هؤلاء الموتى، معلومات لم تكن أبدا متاحة لها، ولا يمكن لعقلها الصغير أن يختلقها ... ففي واقعة الأمس وبعدما فشلت في أن استمع إلى أي صوت عبر جهاز (اللاسلكي) إلا أصوات التشويش المزعجة، ذكرت لي (بوسي) اسم الرجل الطيب، الميت، الذي يعيش معنا في نفس الشقة، ذكرت اسمه الأول والغريب أنه يشابه اسم صاحب الشقة السابق الذي توفى فيها وباعها لي ورثته لتكون عشا للزوجية ومقرا لميلاد طفلتي الحبيبة (بوسي) ... دفعت تلك الفكرة عن ذهني وأنا أجيب زوجتي:
-          معك حق ... ولكن ماذا علينا أن نفعل؟
-          خذ تلك اللعبة معك وتخلص منها في أي مكان، ولو بحثت هي عنها سنتظاهر بمساعدتها، وندعي الحزن على ضياعها.
-          (بوسي) ذكية، هل تعتقدين أنها ستصدق ذلك.
-          لا ... ولكننا سنحاول تعويضها بأي شئ آخر، لعبة جديدة، نزهة في مكان تحبه، وجبة في أحد مطاعم الوجبات السريعة الذي نكره كلانا وتعشقه هي.
شهور مضت وجاء الصيف وجاءت معه الإجازة الصيفية التي أعتدنا أن نقضي جزء كبير منها في المزرعة ... فوالدي يمتلك مزرعة (مانجو) وموالح تابعة لزمام إحدى قرى محافظة الشرقية، وهي القرية التي ولد هو فيها وترعرع حتى سن النضوج قبل أن ينتقل بعد ذلك إلى العاصمة ويتزوج من والدتي وتدور معهما عجلة الحياة الروتينية التي حقق فيها والدي نجاحات مادية كبيرة أراحتنا بعد ذلك أنا وأخوتي ونحن نبدء حياتنا العملية ... انتقل والدي للإقامة في تلك المزرعة بشكل دائم هو ووالدتي بعد التقاعد ... المزرعة مكونة من عدة أفدنة ومنحل وحظيرة للمواشي ومنزل كبير من طابقين يعيش فيه والداي ومعهما خادم شاب اسمه (سعيد) ... أوقفت محرك السيارة أمام المنزل وترجلت منها أنا وزوجتي وطفلتي (بوسي) لأجد والدي ووالدتي يقفون أمام المنزل في استقبالنا وعلى وجههما ملامح السعادة والترحيب ... أشار والدي إلى الخادم الشاب لكي يجلب حقيبة الملابس من (شنطة) السيارة، ثم توجه إلينا هو ووالدتي في استقبال حار نالت (بوسي) الجزء الأكبر منه ... نادى (سعيد) الخادم الشاب علينا وهو يقول:
-          هل أجلب هذه أيضا؟
كان قد أخرج الحقيبة بالفعل من (شنطة) السيارة ووجد فيها شيئا آخر، وكان يسألنا إذا كنا نريده ... لم أنتبه في البداية لهذا الشئ، ولكن فرحة (بوسي) وصرختها المبتهجة وهي تقول:
-          لعبتي ... إنها لعبتي!
جعلاني انتبه للعبة (اللاسلكي) التي كنت قد ألقيتها في (شنطة) السيارة منذ شهور لأتخلص منها ونسيت أمرها تماما بعد ذلك، لم يفتني نظرة زوجتي وذلك الامتعاض الذي ارتسم فوق شفتيها، فتشاغلت بالحديث إلى والدي وأنا أتابع من طرف عيني (بوسي) وهي تعدو نحو الخادم وتلتقط منه اللعبة وتحاول تشغيلها، ثم تعود إلى والدتي وهي تقول:
-          البطارية ضعيفة ... هل لديك بطاريات.
-          بالطبع ياحبيبتي لدي مخزن كامل منها ... تعال معي.
سبقتنا (بوسي) ووالدتي إلى الداخل ولحقت بها أنا ووالدي، صكت مسامعي كلمة نطقت بها زوجتي بصوت خافت، لم أتحقق منها جيدا قد تكون كلمة خيبة، أو هيبة، أو ريبة ... لا أعرف أيهم بالتحديد!
كان يوما رائعا، حافلا بمزايا بيئة المزرعة الجميلة ... بدأ بإفطار ريفي دسم من المشلتت، والعسل، (والمش) وغيرها من الأصناف التي نسيناها في المدينة، أتبعه نزهة رائعة وجولة في المزرعة انتهت بجلسة عائلية طويلة دار فيها حوار أسري محبب في ذلك المكان الذي أعده والدي وخصصه ليكون منطقة للتجمع والمرح، وصنع فيه أرجوحة للأطفال، وملعبين لكرة القدم والسلة، وأعد فيه مكان للشواء ومظلة كبيرة تظل مقاعد من البامبو موثرة بوسادات مريحة ... كانت بداية الإجازة مبشرة بحق ... لذلك لم أكن مرتاحا عندما دق باب غرفة نومي في المساء ودخلت علي (بوسي) وهي تحمل في يدها لعبتها (الملعونة) وعلى وجهها نفس الملامح التي رأيتها في المرات السابقة، قلت لها بفتور:
-          من سمعت هذه المرة.
-          إنها فتاة ... وهي حزينة للغاية.
-          أعطني تلك اللعبة!
تراجعت (بوسي) للخلف وأخفت لعبتها وراء ظهرها، وهي تقول بحذر:
-          هل تريد أن تخفيها عني مرة أخرى.
أخجلني رد فعلها، فقلت بسرعة:
-          لا تقلقي، أعدك ألا أفعل هذه المرة.
أخذت منها جهاز (اللاسلكي) وحاولت الانصات فلم يختلف الأمر كثيرا عن المرات السابقة، فأعدته إليها وأنا أقول:
-          وماذا أخبرتك تلك الفتاة؟
-          أخبرتني أن أمها وأبوها يشعران بالحزن الشديد، ويظنان أنها هربت ولا يعلمان بموتها.
توقفت للحظة، ثم أردفت:
-          بل بمقتلها.
-          وماذا كان اسمها؟
-          (نعيمة).
أخذت أفكر للحظة، ثم قلت لها:
-          لي طلبا عندك يا (بوسي).
-          ماذا؟
-          أن تجعلي هذا الموضوع سرا بيني وبينك ولا تحكيه حتى لأمك، أنت تعرفين أن هذه الأمور تضايقها.
أومأت (بوسي) برأسها متفهمة، فأردفت:
-          وأن تتركي هذه اللعبة معي حتى نعود إلى شقتنا فأعيدها لك.
حركت رأسها يمينا ويسارا علامة على الرفض وعدم الاقتناع، فقلت لها:
-          أعدك أن أعيدها إليك ... سيكون أفضل أن تستمتعي بالإجازة في هذا المكان الجميل وتأجلي اللعب بلعبتك إلى وقت آخر ... سنقضي معا أوقاتا جميلة، ولن نفكر إلا في أشياء جديدة وممتعة لنجربها معا أنا وأنت وأمك وجديك.
عقدت حاجبيها كعادتها وهي تفكر، قبل أن تبسطهما وهي تقول:
-          موافقة ... لكن عليك أن تلتزم بوعدك.
-          سأفعل.
أعطتني اللعبة وهمت أن تغادر الغرفة ولكن قبل أن تفعل التفت لي وهي تقول:
-          أبحث عند الساقية المهجورة.
كانت والدتي تعد طعام العشاء في المطبخ، فدخلت عليها واحتضنتها وقبلت يدها فربتت على رأسي بحنان، فقلت:
-          لماذا ترهقين نفسك يأماه ... نحن لم نهضم بعد طعام الأفطار ولا الغذاء؟
-          أنا لا أشعر بالإرهاق أبدا من أعمال المنزل ... أنت تفكر مثل أبيك، يحاول دائما أن يأتي لي بمن يساعدني فأرفض وأقول له، عندما أموت يمكنك أن تتزوج فتاة صغيرة من الذين يرهقون من أعمال المطبخ وتأتي لها ساعتها بعشرة خادمات ... كما أنك أصبحت ناحلا أنت وزوجتك وأميرتك الصغيرة وتحتاجون للتغذية.
-          أطال الله عمرك ياوالدتي ... دعيني إذا أساعدك في بعض الأعمال، يمكنني تسخين الخبز أو تقطيع الخضراوات.
دفعتني في صدري بحنان، وهي تقول:
-          إذهب إلى زوجتك وطفلتك وسيكون العشاء جاهزا بعد دقائق ... أنت لا تعرف مقدار سعادتي بوجودكم معي.
قبلت يدها مرة أخرى وقبل أن أغادر، سألتها متصنعا العفوية:
-          ومن (نعيمة) هذه إذا؟
نظرت لي بدهشة، ثم ضحكت:
-          إذا أنت تعرف ... إنها آخر محاولات أبيك الفاشلة لجلب واحدة لتساعدني ... فتاة مسكينة عقلها (خفيف) من أهل القرية ... يعلم الله أنني أحببتها.
-          وأين هي الآن؟
-          لقد هربت، اختفت بعد أسابيع دون أي مقدمات ويشيعون في القرية أنها هربت مع عشيقها.
كنت أشعر بالصدمة، فقلت:
-          ومن الذي أدراهم قد تكون ماتت
صمت للحظة ثم أردفت:
-          أو قتلت.
حدقت والدتي في وجهي، قبل أن يرتسم على وجهها حزنا عميقا وهي تقول:
-          لن يكون هذا جيدا لوالديها المسكينين، تأتيني أمها كل أسبوع للسؤال عنها وتذهب وقد مزق قلبي حالتها وحزنها على إبنتها ... حاول والدك من خلال معارفه في الجهات الأمنية البحث عنها ولكنهم لم يعثروا عليها بعد.
بعد العشاء أخبرت الجميع بأنني سأتريض قليلا وأمتع نفسي بجو المساء، وقبل أن تعلق زوجتي، أردفت:
-          وحدي.
أجاب والدي بإبتسامة متفهمة:
-          أنا أعرفك جيدا، من الواضح أن هناك أمرا ما يشغل تفكيرك، بدا ذلك واضحا عليك وأنت على مائدة العشاء.
أومأت والدتي برأسها وهي تقول:
-          بالفعل حتى أنه لم يتذوق لقمة واحدة ... يبدو أنه زهد في طعام أمه.
قلت بسرعة:
-          ومن الذي يفعل ذلك، لا يوجد طعام مثل طعامك ...
ثم أردفت تجنبا لأي مشاكل متوقعة لاحقا:
-          وطعام زوجتي طبعا ... ولكن كما قال والدي هناك بعض الأمور العالقة التي تشغل تفكيري ... جولة أتنسم فيها هواء المساء النقي ستصفي ذهني تماما ...
اقتربت  من الساقية المهجورة، وهو اسم في غير محله فهي ليست مهجورة كما أنها لم تعد تسقي كما كانت تفعل في الماضي مع تطور أنظمة الري وطرقه في المزرعة منذ سنوات طويلة ... ولكن والدي ترك الساقية العتيقة على حالها، قائمة في وسط الأرض الزراعية كمعلم ورمز لما كان عليه المكان في الماضي ... لمسة من (النوستالجيا) كما يقولون أو استعذاب الماضي والحنين إليه فعلها والدي بعفوية ... وصلت إلى مكان الساقية التي بدت كأخطبوط عملاق يقبع مترصدا فريسته في ظلام الليل وحولها ثلاثة من أشجار الكافور العملاقة التي بدت كحراس أو مردة يزودون عن صاحبهم ... نظرت إلى داخل بئر الساقية فطالعني الظلام والعتمة، حاولت أن أدفع الساقية بيدي فاهتزت ولم تتحرك وغطى الصدء كف يدي ... كانت قناة السقاية جافة تماما ومغطاة بغطاء كامل من فطريات العفن والنباتات العشوائية التي نمت أيضا حول الساقية وعليها ... بحثت في المكان بسرعة ... لا أعرف عما أبحث؟ .. وأتسائل هل كان قرار مجيئي إلى هنا صواب أو خطأ من الأساس؟ .. هممت بالرحيل فلمحت شئ ما متعلق على أحد أذرع الساقية الموجهة إلى داخل البئر ... جثوت على بطني وممدت يدي لأجلبه محاذرا من السقوط داخل البئر ... وأنا أعرف خطر السقوط داخل بئر الساقية أو هكذا خيل لي من الروايات التي كنت اسمعها في الصغر ... ممدت يدي أكثر حتى قبضت على ذلك الشئ وجذبته ... إنه وشاح ملون بألوان عدة من ذلك الذي يضعنه الريفيات على رؤوسهن ... ماذا يعني ذلك؟ ... هل يعني أن صاحبة هذا الوشاح هنا في هذا المكان؟ ... هل هي (نعيمة) الفتاة الريفية التي ظن الجميع أنها هربت مع عشيقها؟ ... أكاد أجن ... ليس أمامي الآن إلا حلا واحدا!

...
...
كان اليوم الثاني حافلا أيضا ولكن بصورة تختلف عن اليوم الأول، فقد غابت عنه العلاقات الأسرية الحميمة والأحاديث الدافئة، وحل محلها الأحداث المتوترة العصيبة والمفاجآت المخيفة ... في الصباح طلبت من والدي جلب بعض الرجال لتمشيط منطقة الساقية المهجورة والبحث داخل بئر الساقية ... وكما توقعت أبدى دهشته وتسائل عن سبب هذا الطلب الغريب، وعندما أريته ذلك الوشاح الذي عثرت عليه بالأمس متعلقا بأحد أذرع الساقية وشهدت والدتي أنه وشاح (نعيمة) وكانت ترتديه في الليلة التي اختفت فيها، اقتنع على الفور وأرسل يطلب الرجال بعد أن فهم بفطنته ما كنت أرمي إليه حول مصير تلك الفتاة المسكينة، وهذا ما قرأته أيضا على وجه والدتي ... وهذا جنبني أن أحكي لهم شيئا عن (بوسي) وعن لعبتها العجيبة التي دلتني على هذا الطريق.
بعد دقائق قليلة من البحث، صرخ أحد الرجال من داخل البئر بأنه قد عثر على الجثة، فتكالب الآخرون على البئر وعاونوه على إخراجها ووضعوها أمامنا على الأرض ثم غطوها بأجولة من الكتان ... تحلقنا جميعا حول الجثة وكأن على رؤوسنا الطير، ينظر كل منا للآخر بحيرة متسائلا عما يجب علينا فعله بعد ذلك، حتى صرخ والدي بخادمه (سعيد) الذي كان مذهولا مثلنا، بأن يهرع إلى المنزل ويتصل بالمركز ويبلغ عن الحادثة ... اقتربت من والدي وأنا أقول:
-          من الواضح أن المسكينة ظلت في هذا المكان شهور عديدة، فالجثة في آخر مراحل التحلل
-          بالفعل لقد اختفت منذ ثلاثة أشهر أو يزيد.
شعرت بالدهشة، فسألته:
-          كيف لم يشعر بها أو يشم رائحتها أحدا من العاملين في المزرعة؟
-          بسبب عمق بئر الساقية الذي حجب الرائحة ... وكما تعلم فإن أكثر العاملين في المزرعة لا يأتون إلى هنا إلا نادرا، توقف للحظة، ثم قال بحزن:
-          مسكينة هذه الفتاة، لقد كانت سيئة الحظ في حياتها وبعدها.
وصلت سيارة الشرطة، ومن بعدها سيارة الإسعاف لنقل الجثة إلى المشرحة، لتحليل أسباب الوفاة وإعداد تقرير الطب الشرعي قبل التصريح لإهلها بدفنها، خصوصا لأن ملف التحقيقات الخاص بأسباب اختفاء الفتاة لم يكن قد أغلق بعد! ... قام الضباط بمعاينة المكان وحصر شهادات الشهود، والذين اتفق معظمهم على أن الفتاة المسكينة كانت قليلة العقل، والأغلب أنها خرجت لنزهة في هذا المكان فسقطت في بئر الساقية ولقت مصرعها على الفور وظن الناس وأشاعوا بعاداتهم القبيحة أنها قد هربت ... رواية معقولة، ولكنني لا أصدقها شخصيا، فقناعتي أن الفتاة قد قتلت!.. الآن فقط أصبحت أصدق ما كانت تنقله لي طفلتي (بوسي) عبر لعبتها المجنونة من همسات الموتى.
وفي العصر جاء أبو (نعيمة) وأمها وهما في حالة سيئة ... حاولت أنا ووالداي أن نخفف عنهما، فأعطى والدي للرجل مبلغا نقديا فأخذه بيد مرتعشة وبعين باكية، حزينة، تحمل الكثير من الهم ... كأنه يفكر في رفض النقود ولكنه مضطر أيضا لآن يفكر في أبنائه الآخريين واحتياجاتهم التي لا يقدر عليها، وكأن لسان حاله يذكره (بأن الحي أبقى من الميت! وأنه عليه أن يقبل النقود من أجلهم)، أما أمها فكانت منهارة تماما وترفض التصديق وتقول أنها كانت متأكدة من البداية أن أبنتها لم تهرب، ثم تدعو على من أشاع عليها ذلك ... لا أعرف كيف واتتني الجرأة وأنا أسأل المرأة:
-          ومن الذي أشاع ذلك؟
ارتج على المرأة للحظة، وحدقتني والدتي بنظرة مستنكرة، ولكن المرأة أجابت وكأنها كانت تريد أن تفرغ مشاعرها السلبية بأن تشتكي مما حدث:
-          جارتنا اللعينة، وهي فتاة في عمر (نعيمة)، كانت تدعي أنها صديقتها وتعرف كل أسرارها
-          وماذا قالت بالضبط؟
-          حكت للناس بالكذب، أن (نعيمة) كانت على علاقة بشاب يحبها ويريد أن يتزوجها ولكنه لا يستطيع التقدم لخطبتها بسبب فقره، وهو من أغراها بالهرب معه ... اللعينة، الكاذبة، ما كانت (نعيمة) لتفعل ذلك أبدا ... أدعو الله بأن تنال مثل ما فعلته بنا وزيادة ...
ثم انطلقت في نوبة أخرى من البكاء والنحيب، ضمتها والدتي ونظرت لي نظرة واضحة المغزى بأن علي أن أتوقف عن استجواب تلك المسكينة.
كان الحزن والسكون يخيمان على المنزل، كنا نجلس جميعا في الصالة في صمت، يراجع كل منا في مخيلته بأسى أحداث اليوم ... حتى (بوسي) شعرت بذلك فاتخذت لنفسها ركنا قصيا تلعب فيه وحدها دون أن تطلب منا مشاركتها في اللعب كعادتها ... وعندما جاء المساء طلبت منها أن تصعد لغرفتها، ففعلت ... لحقنا بها جميعا، وتوجه كل منا إلى غرفنا بحثا عن النوم الذي يقربنا من الغد، وهو يتمنى في باطنه أن يكون الغد أفضل من سابقه ... كنت نائما في فراشي عندما فتح باب غرفة نومي، ومن الضوء الضعيف الذي يأتي عبر الرواق لمحت تلك الفتاة التي تلج الغرفة وتقترب من الفراش بخطوات متأدة... فكرت أنها قد تكون (بوسي) جاءت كعادتها لتخبرني شيئا مرعبا لتفزعني به وأنا نائم ... ولكن الفتاة التي تقترب من الفراش الآن كانت تبدو أطول بكثير من (بوسي)، الصورة مهتزة أمام عيني ولا استطيع أن أميز ملامحها في الظلام ولكن شكل الظل الساقط من ضوء الرواق جعلها تبدو كفتاة ريفية مراهقة بثوبها وبالوشاح الذي تضعه على رأسها أو هكذا خيل لي ... عقلي لا يعمل بشكل جيد في تلك اللحظة ولكنني وجدت لساني ينطق بآلية متسائلا:
-          (نعيمة) ... هل أنت (نعيمة)؟
لحظة من الصمت ثم جاء بعدها ذلك الصوت المبحوح، الحزين، كأنه يخرج من جب عميق وهو يقول:
-          سيقتلها هي أيضا ... سيفعل كما فعلها معي.
ثم أطلقت صرخة حادة، مرعبة، كادت تمزق طبلتي أذني، فقفزت من فراشي مفزعا وأنا أدفع بيدي يمينا ويسار كأنني أصارع عدوا وهميا ... جاءني صوت زوجتي وهي تحاول تهدئتي:
-          أنت بخير .. لا تقلق.
ثم أضاءت المصباح، وجلبت زجاجة المياة من فوق الكومود وناولتني أياها، وهي تقول:
-           خذ اشرب ... إنه مجرد كابوس!
أجبتها وقد بدأت استعيد رباطة جأشي:
-          عندك حق ... ولكنه بدا حقيقيا تماما!
ثم تذكرت ما قالته لي الفتاة في الحلم، فهرعت إلى خارج الغرفة وأنا أقول:
-          (بوسي).
وصلت إلى غرفة (بوسي) التي كانت تقع في آخر الرواق، كان بابها مواربا فدفعته وبحثت عن طفلتي فلم أجدها في الفراش، لحقت بي زوجتي وسبقتني إلى دورة المياة فلم تجدها أيضا، تبادلنا النظرات القلقة، ثم اندفعنا نبحث عنها في باقي أرجاء المنزل، ننادي بإسمها ونحن نشعر بالخوف والجزع عليها ... صحا والدي ووالدتي على أصواتنا واشتركا معنا في البحث الهستيري ... وبعد دقائق اجتمعنا جميعا في الردهة وقد رسمت الخيبة ملامحها على وجوهنا بعد أن فشلنا جميعا في العثور عليها في أي مكان في المنزل، قالت والدتي:
-
أين (سعيد) ... عجيب أنه لم يصح على أصواتنا؟
أجاب والدي بسرعة:
-
لم أجده في غرفته، كما أن هاتفه مغلق.
تبادلنا المزيد من النظرات القلقة، ثم قلت لوالدي بلهجة راجية:
-
أجمع بعض الرجال للبحث عنها في المزرعة، فهي ليست بالمنزل.
ثم اندفعت إلى غرفتي، فلاحقني صوت زوجتي:
-
ماذا ستفعل؟
-
لن انتظر حتى يأتي الرجال ساذهب للبحث عنها حالا.
كانت ساعة من الزمن قد انقضت وأنا أعدو كالمجنون في أرجاء المزرعة، أحمل في يدي لعبة (اللاسلكي) الخاصة (ببوسي)، بحثت عنها في منطقة الساقية المهجورة، وعند حظائر الماشية والمنحل ... قطعت مساحات كبيرة وأنا أجري بين أشجار (المانجو) والموالح المتشابكة بحثا عن أي أثر لها ... ليتني أمتلك تلك الموهبة التي تمتلكها (بوسي) فأضع ذلك الجهاز اللعين على أذني فاستمع إلى صوت يخبرني عن مكانها، ولكن ما يصلني الآن هو التشويش فقط ، الكثير من التشويش ... لا أعرف ماذا علي أن أفعل الآن؟ وإلى أين اتجه؟.. الذعر الفطري، وخوفي الغريزي على طفلتي هما اللذان يحركانني الآن ... أضع الجهاز مرة أخرى على أذني فيصلني صوت التشويش من جديد ... ولكن لحظة، الصوت مختلف هذه المرة، الصوت أكثر حدة وتردد التشويش أسرع، سرت خطوة ناحية اليمين فتغير الصوت وأصبع أكثر غلظة وأبطأ ترددا ... رجعت للاتجاه الأول فعادت حدة الصوت ... يخبرني عقلي اليائس أن اتحرك في هذا الاتجاه وأن اجعل من صوت الجهاز بوصلة لي اتبعها في طريقي.
ساعة أخرى انقضت كنت استخدم فيها اللعبة كأنها عداد (جايجر)، كلما زاد تردد الصوت واحتد كان ذلك دليلاعلى الاتجاه الذي يجب السير فيه ... كانت الحدة والتردد يتزايدان بالفعل مع الوقت، هل معنى هذا أنني أسير في الاتجاه الصحيح؟ أم ان هذا كله هو مجرد تخاريف من عقل متوتر يكاد يصاب صاحبه بالجنون خوفا على صغيرته ... لا أعرف أين أنا الآن؟ وهل تجاوزت حدود المزرعة أم لا؟ .. الصوت أصبح حادا وثابتا مثل ذلك الذي يصدره جهاز نبضات القلب عندما يموت المريض ... اللعنة ... فكرة سخيفة ليست في وقتها الآن ... ألمح حقلا صغيرا في وسطه مبنى من دور واحد غير مكتمل التشييد، بعض جوانبه اكتملت وعلى الطوب الأحمر وبعضها لم توضع فيها ولا حتى لبنة واحدة، مجرد أعمدة من الخرسانة تنتظر من يشيد بينها حائطا ... اقتربت منه في حذر ودخلت المبنى الذي كان مظلما من الداخل، أضأت مصباحا يدويا ووجهته يمينا ويسار بحثا عن أي أثر، دخلت غرفة تلو الأخرى حتى آخر واحدة فكانت جميعها خالية ... وقبل أن أرتد يائسا لفت نظري كومة من الخيش ملقاة في زاوية من المكان، اقتربت منها ورفعتها، فوجدت (بوسي) تحتها، مقيدة بحبل غليظ وكمامة على فيها.
عادت إلى روحي في لحظة واحدة بعد أن كادت تغادر جسدي ... أخرجت من جيبي مطواة صغيرة وأخذت أمزق الحبل الذي يكبل طفلتي ويدمي جسدها ... وأنا أتسائل عن المجنون الذي فعل ذلك بتلك الطفلة البريئة؟ .. نجحت في تمزيق القيود ورفعت عنها الكمامة فألقت بنفسها في حضني وهي تقول ودموعها تمتزج بدموعي:
- أبي ... كنت اعرف أنك ستأتي ... كنت أعرف أنك ستنقذني.
- من الذي فعل بك ذلك يا حبيبتي؟
كنت أنظر في عينيها اللتان اتسعتا وهي تصرخ:
- أبي إنه وراءك.
التفت بسرعة فكان ذلك من حسن حظي فمزق الخنجر كتفي الأيسر بدلا من أن ينغرس في ظهري ... دفعت (بوسي) جانبا وقمت لأواجه ذلك المجرم ...كان المجرم هو (سعيد) خادم والدي وقاتل (نعيمة)، والذي يحاول الآن قتلي أنا وإبنتي ... صرخت فيه:
- ماذا تفعل أيها المجنون؟
كان الجنون والخبال قد ارتسما على ملامحه، وهو يطوح بخنجر حاد محاولا إصابتي به، وأنا أتفادى ضرباته بصعوبة، خاصة مع ذلك الألم الذي يعجز كتفي الأيسر ... قال بهستيرية:
- لم أقصد قتلها ... كنت أحبها ... لا أعرف لماذا حاولت مقاومتي؟
ثم وجه إلى المزيد من الضربات، أصابت إحداها ذراعي فمزقت قميصي وتركت جرحا داميا على صدري، أردف بجنون:
- كانت الأمور لتمضي وكان الجميع لينسى ماحدث، لولا تلك الملعونة التي تكلم الموتى ... لقد سمعتها وهي تتحدث إليك .. وعرفت أنها ستكون سببا في الوصول إلي ... كان علي الخلاص منها ...
جعلته تلك الفكرة يتحول عني ويتوجه إلى (بوسي) التي انكمشت في الركن، رفع خنجره مزمعا أن يوجهه نحوها وهو يقول:
- كان علي أن أقتلك من اللحظة الأولى.
وقبل أن يطعنها، قفزت على ظهره وقد قررت أن أواجه جنونه بمثله، هل يظن أنني سأتركه يقتل طفلتي؟ ... حاول أن يسقطني عن ظهره فلم يفلح فقد قبضت عليه كالمصير ... حاول توجيه ضريات بالخنجر ولكنني كنت أحيط كتفه بساعداي فلم يكن ذلك ممكنا ... كان قويا كالثور وكنت أعرف أنها لحظات أخرى قبل أن تخور قواي بسبب الإصابات ويصبح القضاء علي حينها أمرا سهلا ... كان علي أن اتصرف بسرعة، لمحت (ماسورة) من المعدن ملقاة في جانب من الغرفة، فدفعته بعيدا بأقصى قوة ثم عدوت ناحيتها والتقطتها في نفس اللحظة التي شعرت أنه قادم في أثري، التفت بسرعة وسددت ضربة عشوائية بكل قوة (بالماسورة) في المكان الذي توقعت أن يكون فيه رأسه!... وصل إلي أذني صوت اصطدام (الماسورة) بهدفها، وبعده صوت تأوه مكتوم، واتبعه صوت سقوط على الأرض، هدأ بعده كل شئ ... ألقيت نظرة أخيرة على ذلك الموتور فوجدته ملقا على الأرض وقد تحطمت رأسه تماما من أثر الضرية ... لقد انتهى ... لقد كنت حسن الحظ مرة أخرى!
كنا في طريق عودتنا إلى المنزل أنا و(بوسي)، قالت لي:
- هل تعرف طريق العودة؟
- لا.
- وماذا سنفعل إذا؟
- سنظل نمشي حتى يعثر علينا أحدهم ... ألا تحبين المشي مع أبيك.
ابتسمت برقة وهي تقول:
- أحب.
ضغطت يدها وأنا أخرج من جعبتي لعبتها (اللاسلكية) وأقول:
- خذي.
- ما هذا؟
- لعبتك.
التقطتها مني ثم طوحتها بعيدا، وهي تقول:
- لم أعد أريدها.
ابتسمت وأنا اسمعها تردف:
- سيكون عليك أن تشتري لي لعبة أخرى بدلا عنها ... لا ستشتري لي لعبتين ...

 .. (تمت) ..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق