قصة رعب قصيرة بعنوان
... (عروسة البحر)
شعر بالأرق في تلك الليلة، فغادر غرفته بعد أن ألقى نظره على شريكه فيها، وحسده على راحة باله التي جعلته ينام ملء عينيه ويصدر عنه ذلك الغطيط الذي يذكرك بصوت المنشار الكهربائي وهو يشطر جذع عريض من خشب الزان ... قرر الخروج إلى سطح المنصة ليتنسم هواء الليل العليل، ويناجي القمر ويبثه شجونه، أو يجتر بعض الذكريات العذبة من الماضي ... فالوجود على متن تلك المنصة البحرية يبدل طباع المرء ويجعله أكثر رومانسية ويوقظ في باطنه ملكات التأمل ونزغات الفكر والفلسفة ...
وقف مستندا إلى ذلك السور المعدني الذي يحيط بالمنصة ويسمونه (هاندريل) ... أخذ ينظر إلى انعكاس القمر الفضي على سطح البحر الذي تلون بلون الليل فبدا ساكنا كأنه صفحة سواداء لا يشوبها إلا بعض فقاعات الهواء التي تنفسها بعض الأسماك أو المخلوقات البحرية فتجعل السطح يتوتر للحظة في بقعة دوامية صغيرة سرعان ما تستقر ويعود سطح البحر إلى سكونه ... فجأة تنبه إلى تلك الحركة الخافتة خلفه، فالتفت بسرعة ،فلمح شبحا يختفي عند الزاوية، دفعه الفضول إلى التحرك مسرعا في أثره، وعندما وصل إلى الزاوية، لمح الشبح يجري متسربلا بظلام الليل ويختفي وراء ضلع آخر من أضلاع المربع الذي يكون تلك المنشأة في الطرف الشمالي للمنصة البحرية والتي تضم غرف التحكم وبعض المكاتب الإدارية إضافة إلى المطبخ ودورات المياة ... زاد من سرعته فتناقصت المسافة بينه وبين ملاحقه، الذي غير استراتيجية هروبه فابتعد نحو منطقة البئروجاوزها حتى وصل إلى مرفأ القوارب، ونزل الدرج المعدني بسرعةـ، ثم بدأ يتحرك بخطوات حثيثه فوق الرصيف حتى وصل إلى الحافة فتوقف عندها تماما ... كان لا يزال في أثر ذلك الشبح، يدفعه الفضول وشئ آخر غامض مرتبط بهيئة ذلك الشبح وطريقة عدوه ... نزل وراءه الدرج المعدني ولاحقه على الرصيف حتى حاصره عند الحافة، فالتفت له الشبح ... وعلى أشعة الضوء الساقط من القمر الفضي تبين ملامح ذلك الشبح، فألجمته المفاجأة، فأمامه كانت تقف إمرأة على درجة هائلة من الجمال، تدثر جسدها بشعرها الذهبي الناعم الذي يمتد حتى ما دون ركبتيها، وقبل أن ينطق بكلمة واحدة، ترنحت المرأة ثم سقطت من فوق الحافة لتغوص في ماء البحر ... اندفع في جزع وانحنى على الحافة وهو يبحث عن تلك المرأة التي غابت تماما في قلب البحر ... لفت نظره انعكاس لشئ ما يتحرك تحت السطح، فقرب رأسه أكثر ليدقق النظر، قبل أن ينشق سطح البحر عن ذلك الكائن الذي انقض عليه وقبض على كتفيه بكفين مخلبتين وسحبه إلى داخل الماء ... توتر السطح للحظات ثم عاد إلى السكون، وهدأ كل شئ!
***
استيقظ (سامح) من نومه بنشاط على غير عادته، نهض عن فراشه وسار إلى المطبخ بخطوات آلية ليضغط زر الغلاية الأحمر، وتوجه بعدها إلى الحمام ليغتسل ...نظر إلى وجهه في مرآة الحمام، ابتسم لهذا التناقض الغريب، ففي أيام العمل يستيقظ وكل ذرة في جسده تشكو من الألم، تدعوه كل جوارحه للعودة إلى النوم والتظاهر بأنه لا عمل ينتظره اليوم ... أما في أول أيام العطلة ها هو يستيقظ نشطا، مرتاحا، ممتلئ بالحماس والطاقة لفعل مئات الأشياء ...
خرج إلى الشرفة، وملأ صدره بهواء الصباح البكر في ذلك المكان الذي لم يطله تلوث الفقراء والعامة بعد ... فقد كان المكان حكرا على أبناء الطبقة الراقية، الراقية جدا ... ورغم كونه ينتمي إلى الفئة الأولى إلا أنه الآن يقضي عطلته هنا، في شاليه من فئة النجوم العشرة، في ذلك المجمع المسور، الذي يضم مجموعة من الشاليهات والفيلات المتفرقة بشكل يبدو عشوائيا وإن كان يحمل نمطا فنيا خاصا، تم تشيدها على تله نباتية خضراء تذكرك بسهول أوروبا، وتطل جميعها على ساحل البحر الأحمر ... مستوى من الرفاهية والرقي ماحسب يوما أنه موجود في هذا العالم، لولا صديقه الذي تعرف عليه مؤخرا واكتشف أنه ابنا لأحد كبار المسئولين، والذي عرض عليه أن يقضي عطلته في الشاليه الخاص بأسرته، فقبل بعد أن تظاهر بالتردد والإعراض، في الوقت الذي كان باطنه يشتعل من الفرحة ... لوحة فنية خاصة تصنعها زرقة البحر والسماء بألونهما المتدرجة، مع خضرة اليابسة، واللون الأصفر لرمال الشاطئ ... هو يرى كل ذلك بعين وروح فنان هاوي يعشق الرسم ويتخذ منه وسيله تعرج به دائما بعيدا عن عمله الممل الرتيب.
جلس في الشرفة يتناول إفطاره وفي يده كوب من الشاي الثقيل، وهي طريقته المعتادة لبدء يومه.
- (هاي).
كان ذلك هو صوت فتاة شابة خرجت من الشاليه المجاور وهي ترتدي ثوبا وحذاء رياضيين وتنطلق نحوالشاطئ لممارسة رياضة الجري، أشارت له بيدها وهي تمر أمام الشاليه الخاص به، فأشار لها بدوره وهو يقلد تحيتها، قائلا:
- (هاي)!
شعر بسخافته وهو ينطق بتلك الكلمة بصوته الخشن، المتحشرج، خاصة بعد أن جاءت بعد كلمتها التي اتصفت بالنعومة والرقة، فابتسم وهو يتحدث إلى نفسه بصوت مسموع بعد أن غابت الفتاة:
- إذا كنت في المريخ فعليك أن تفعل مثل المريخيين.
كان يظن أنه سيكون وحده في هذا المجمع في ذلك الوقت من الشتاء، وهو ما أخبره به بالفعل رجلا الأمن المرتابين على مدخل المجمع ... ففي هذا الجو البارد يزهد أصحاب هذا المكان فيه ويتخذون من مشاتي الجنوب الدافئة ملجأ لهم ... ورغم أن تلك الفتاة الشابة تبدو في بدايات العقد الثالث من عمرها، وهذا يجعلها تصغره بعشرة سنوات، إلا أن وجود أناس آخرين في هذا المكان يكسبه روح وحيوية يفتقدهما رغم فخامته، وهذا سيجعل عطلته أفضل بالتأكيد.
أنهى إفطاره، وحمل لوحاته وألوانه وتوجه إلى الشاطئ ... اختار بقعة مميزة ثم ثبت حامل اللوحات ليكون مواجها لمنظر طبيعي يعرض صف من أشجار النخيل ومن خلفها يمتد الشاطئ الرملي حتى يعانق ماء البحر والسماء ... مرت عليه ساعتين وقد اندمج في عمله حتى غاب فيه تماما، كان يحرك فرشاته بحرفيه على النسيج رغم كونه هاوي، حتى بدأت تتشكل الخطوط الأولية للوحة.
- رائع ... أنت فنان إذا؟
كان ذلك هو صوت نفس الفتاة التي بادلها (الهاي) في الصباح، كانت تقف وراء ظهره تنظر إلى لوحته من فوق كتفه في فضول ... أعادته تلك الملاحظة إلى عالم الواقع، فالتفت إليها وحدق فيها بدهشة ... كان أول ما لاحظه هو أنها ترتدي ثوب سباحة قصير وقد تبلل جسدها وشعرها بماء البحر، وهذا بعث في جسده قشعريرة، فالجو كان بارد للغاية حتى أنه أرتدي (بول أوفر) ثقيل فوق القميص حتى يتقي من لسعة البرد ... قال لها بلهجة مستنكرة:
- هل كنت تسبحين في هذا الجو؟
أشار بيده إلى البحر الذي كان موجه هائجا، مرتفعا، يضرب الشاطئ بقوة فيصدر عنه صوت عال، منذر، قادر على إخافة أشجع السباحين ... أجابته ببساطة:
- البحر رائع ... هيا، تعال معي سنستمتع كثيرا.
تحركت ناحية البحر، وأشارته له بيدها بحماس ليلحق بها، فأجاب بسرعة:
- في هذا البرد !؟
- الماء دافئ ... هيا لا تكن كسولا.
أشاح لها بكلتا يديه، وهو يقول بلهجة معتذرة:
- عذرا، لست مستعدا هذه المرة ، ربما في المرة القادمة.
ثم عاد إلى لوحته وتشاغل بها لثانيتين، وعندما لم يتلق رد من الفتاة، تحول إليها فوجدها قد اختفت تماما ... شعر بدهشة شديدة، لقد اقتربت منه في البداية دون أن يشعر بها، وها هي تختفي في ثانية دون أن يدري أين ذهبت ... هل تكون عادت إلى البحر؟ ... أخذ يبحث داخل البحر فلم يلمح لها أثرا فيه ... قال مخاطبا نفسه بصوت منخفض:
- عجيب أمر هذه الفتاة!
***
رن جرس الهاتف بإلحاح في منزل الدكتور (محمد السيد) عالم الأحياء البحرية، فأطلق سبة قصيرة في حق هذا اللعين الذي يتصل في هذا الوقت المبكر من يوم عطلته الأسبوعية، ثم تقلب في فراشه وتصنع أنه لا يسمع ذلك الجرس، على أمل أن ييأس المتصل أو أن تنهض زوجته الدكتورة (سلمى) عالمه الآثار التي كانت تنام بجانبه في الفراش وتخاطرها الفكرة نفسها في هذه اللحظة ... توقف الرنين للحظات ثم عاد مرة أخرى أكثر إلحاحا، من الواضح أن المتصل لن ييأس!.. تنهدت الدكتورة (سلمى) وقالت بصوت متثائب:
- (محمد) ... الهاتف ... أعرف إنك مستيقظ!
- لا أنا نائم!
- هيا ... قد يكون أمرا هاما.
- كيف عرفت أنني مستيقظ؟
- أنا زوجتك وأعرف كل حيلك.
نهض الدكتور (محمد) وهو يترنح من أثر النوم، ويتمتم بكلمات غير مفهومة ... غاب في الخارج لدقائق، ثم عاد يجري منفعلا وهو يصرخ بحماس ونشوة:
- إنه يحدث الآن ... لقد بدأت دورتها االخمسينية!
فزعت الدكتورة (سلمى) من صراخ زوجها وانفعاله، حاولت أن تستجمع شتات ذهنها لتفهم ما يقوله فلم تستطع، فسألته:
- من كان المتصل؟
- إنه الشيخ (عرفان)!
- من الشيخ (عرفان)؟
- الشيخ (عرفان) من قرية الصيادين.
تنبهت حواسها مرة واحدة وهي تقول:
- هل تقصد؟
- أجل ... إنه يحدث الآن ... وهناك بالفعل حوادث اختفاء.
نهضت من فراشها وقد انتقلت حماسته وانفعاله لها وهي تقول:
- إذا علينا أن نتحرك بسرعة وإلا ضاعت مننا الفرصة.
***
دارت الطائرة المروحية حول المنصة البحرية مرتين ثم حطت في منتصف تلك الدائرة السوداء الموجودة على سطحها، خرج منها رجل ذو جسد رياضي يرتدي حلة رمادية أنيقة، تحرك في خطوات واثقة، رغم هواء المروحيات القوي الذي كان يدفعه للأمام ويطيح بشعره وثيابه وضجيجها الذي يكاد يمزق طبلتي أذنه ... تقدم منه مستقبله الوقور الذي يرتدي (أفرول) أزرق اللون، مد يده ليصافحه، وهو يقوله:
- المقدم (علي ناصر) ... مفتش مباحث.
- المهندس (عبدالله عبدالقادر) مدير المحطة.
أشار له المهندس (عبدالله) بيمناه بطريقه مرحبة وأن لم تخل من القليل من العصبية، واصطحبه إلى غرفة مكتبه، وأجلسه على مقعد وثير وجلس هو على المقعد الذي يقابله في إشارة مرحبه أخرى بعيدا عن مكتبه الخشبي الأنيق وطاوله الاجتماعات المعدنية الصغيرة التي اكتظت بالخرائط واللوحات ... وقال:
- ماذا أطلب لك؟ شاي ... قهوة؟
قال المفتش (علي) بلهجة عملية:
- لا شئ ... سيكون أفضل أن نبدء التحقيقات فورا.
أومأ المهندس (عبدالله) برأسه متفهما، وهو يقول:
- معك حق ... فاختفاء ثلاثة من العاملين على منصة لاستخراج البترول في وسط البحر في أسبوع واحد ... ليست شيئا هينا.
- بالضبط.
صمت للحظة، ثم قال بلهجة حزينة:
- اعتقد أنهم يفكرون في إيقاف العمليات لحين التأكد من عدم وجود خطر على باقي أفراد الفريق، ولكنهم يرجئون اتخاذ القرار لحين انتهاء التحقيقات.
وقف المفتش (علي) وتحرك ناحية النافذة الدائرية، وأخذ ينظر عبر زجاجها إلى البحر الممتد أمامه إلى مالا نهاية، قبل أن يقول:
- لهذا أريد أن استفيد من كل ثانية ... أريد مقابلة زملاء المفقودين والمقربين منهم، أريد مقابلة كل من شاهد شيئا أو يملك دليل ... أريد ذلك فورا.
ساعات طويلة قضاها المفتش (علي) بحضور المهندس (عبدالله) في التحقيق مع أفراد الفريق وحصر أقوالهم، وكانت النتيجة مخيبة للأمال، فالمعلومات التي حصل عليها منهم لم تزد كثيرا عما أخبره به رئيسه، وهو يطلب منه التوجه إلى تلك المنصة للتحقيق في الأمر ... قال المفتش (علي) وهو ينظر إلى المهندس(عبدالله)، رغم أنه كان يخاطب نفسه في تلك اللحظات:
- يمكننا أن نلخص الأحداث كما يلي ... أول حادثة اختفاء كانت لأحد المهندسين، وحدثت منذ أسبوع تقريبا، أما الثانية والثالثة فكانت لعاملي صيانة، بفارق يومين بين كل حادثة والتي تليها ... لا يوجد أي آثار، لا يوجد شبهة لعمل إجرامي فجميعهم كانوا محبوبين بين رفقائهم ولا يوجد خلاف بينهم وبين آخرين ... معلومة واحدة جديدة أضافها أحد أفراد فريق العمل، الذي تصادف وجوده على سطح المنصة في الليلة التي اختفى فيها العامل الثالث، هي أنه سمع صرخة من ناحية مرفأ القوارب وصوت سقوط في الماء وعندما ذهب ليستطلع الأمر لم يجد مايريب، حتى عرف في اليوم التالي باختفاء زميله ...
زفر المفتش (علي) بضيق، وقال موجها حديثه إلى المهندس (عبدالله) في هذه المرة بالفعل:
- هل هناك المزيد من الشهود؟
- هناك واحد أخير ... ولكن ...
- ولكن ماذا؟
صمت للحظة ثم قال:
- ولكنه على شئ من الخبال ... لا يحمل أحد منا رواياته على محمل الجد ... بل نعتبرها حواديت وقصص، نسخر منها ونزجي بها الوقت.
- وما هو عمله؟
- إنه كبير الطهاة لدينا هنا، وهو شخص محبوب ومجيد لعمله ... كما أنه من أهل هذه المنطقة، فقريته هي أقرب قرية ساحلية من موقعنا هذا ...
- حسنا، اجعله يدخل.
تحرك المهندس (عبدالله) نحو باب الغرفة وفتحه وأشار بيده للواقف في الخارج بالدخول ... دخل الغرفة رجل مسن يحمل ملامح مريحة وشعرا بلون القطن، يرتدي ملابس الطهاة ويسير بخطوات بها عرجة خفيفة ... عندما وقع بصره على المفتش بادره قائلا:
- أنا أعرف ماذا حدث لهم.
ابتسم المفتش (علي) وهو يتذكر وصف المهندس (عبدالله) لهذا الرجل بالخبال، قبل أن يقول:
- وماذا حدث؟
- خطفتهم عروسة البحر ... مساكين ... لقد أغوتهم اللعينة، ثم أغرقتهم في ماء البحر عندما حاولوا اللحاق بها.
.. (انتهى الجزء الأول ويليه الجزء الثاني) ..
قصة رعب قصيرة بعنوان ... (عروسة البحر – الجزء الثاني)
أشار له المفتش (علي) بالجلوس، ثم سأله:
- دعني أعرف اسمك وعملك أولا.
- الشيف (عيد بكر)، كبير الطهاة.
- وهل لديك دليل على ما تقول؟
توقف الرجل وهو ينقل ناظريه بين المفتش (علي) والمهندس (عبدالله)، قبل أن يقول بصوت هادئ:
- يابني، أنا من سكان قرية الصيادين وهي تبعد خمسة أميال فقط عن موقعنا هذا، وأهل القرية جميعهم يعرفون من هي عروسة البحر.
سأله المفتش (علي) ببساطة:
- من هي؟
حدق الرجل فيه وجهه للحظة، ثم قال:
- لا أعرف متى بدأت تلك القصة، ربما من مئات السنين وربما أكثر من ذلك، ربما بدأت من عصر الفراعنة، ولكنها قصة حكاها لنا الأجداد الذين شهد بعضهم على أحداثها، وننقلها بدورنا إلى أحفادنا، وهكذا في دورة لا تنتهي.
توقف الرجل للحظة ليلتقط أنفاسه، فحثه المهندس (عبدالله) على الاسترسال بحركة عصبية من يده، فشعر الرجل بتوتر، فطمئنة المفتش (علي):
- لا يوجد مشكلة، يمكنك أن تأخذ كل الوقت الذي تحتاجه.
- عروسة البحر هي مخلوق يعيش في أعمق أعماق البحر، حيث لا يمكن للبشر أو لأي شئ صنعه البشر أن يصل ... المشكلة هي أنها تصعد للسطح مرة واحدة فقط كل خمسين عام، تقوم فيها بالصيد لمدة أسبوعين، ما بين اكتمال القمر في السماء وحتى اختفاءه ...
- وماذا تصطاد؟
أجاب الرجل بانفعال شديد:
- الرجال.
ثم أردف بنفس العصبية:
- إنها تصطاد الرجال وبخاصة الشباب ... فهي تظهر لهم على الشاطئ في صورة أمرأة فاتنة، فتغويهم وتدعوهم للنزول معها إلى الماء، عندها تتحول إلى حقيقتها كوحش مرعب متعطش للدماء، فتسحبهم معها إلى تحت الماء وتغرقهم.
قال المهندس (عبدالله) في عدم اقتناع:
- وماذا ستفعل بهم بعد ذلك؟
- لا أحد يعلم ... في الواقع لم يعد أحد منهم أبدا ليحكي ما حدث ... قد يعثرون فقط على بعض ثيابه أو متعلقاته، أما صاحبهما فلا يعثرون عليه أبدا، ولا على جثته.
سأله المفتش (علي):
- وهل شهدت على بعض تلك الأحداث بنفسك؟
- أجل ... كنت حينها مراهقا شابا عندما منعني والدي من الذهاب للبحر وطالبني بالبقاء في المنزل لأسبوعين ... وسمعته يتحدث لأمي عن اختفاء أحد الصيادين، وعن أنهم سمعوا صوتها يأتي من داخل البحر.
- وهل حاولتم مطاردتها؟
- لا ... علمنا الأجداد أن نبقى في بيوتنا حتى يختفي القمر في السماء، فلا نخرج منها بعد الغروب ولا نقترب من الشاطئ حتى تنتهي الأزمة وتعود اللعينة من حيث جاءت.
توقف للحظة كأنه يتذكر شيئا، ثم قال:
- البعض كان يدعي أنها قادرة على الخروج من البحر والابتعاد عنه لمسافات طويلة والسير بين الناس في القرى والأسواق، فكان الرجال يرونها كإمرأة فاتنة، أما النساء فكانت لديهن مناعة، كن يرونها قبيحة كأنثى القرد ... ولكن لا يوجد ما يؤكد ذلك!
انتهى الرجل من روايته، فتوقف عن الحديث وهو يلهث من فرط الانفعال، ويترقب رد فعل المفتش (علي) على روايته ... نهض المفتش من مقعده وأخذ يسير في الغرفة مفكرا، قبل أن يسأل الرجل:
- وما الذي يجعلك تظن أنها عادت الآن؟
أجاب الرجل بسرعة، كأنه كان ينتظر هذا السؤال:
- لقد سمعتها ... سمعت صوتها أكثر من مرة هنا على المنصة في الليالي الفائتة!
***
كان (سامح) يجلس على الأريكة ممددا قدميه على الطاولة أمامه، وهو يتابع بعض البرامج المملة على التلفاز في انتظار أن يسخن طعام العشاء الذي وضعه على الموقد، أخذ يضغط أزرار (الريموت) في ملل ليتنقل بين القنوات دون أن يجد ما يجذب انتباهه ... فجأة وصل إلى مسامعه صوت يأتي من ناحية الحديقة، صوت خطوات خافتة، كأن صاحبها يحاول التسلل إلى المكان ... نهض (سامح) وتحرك بحذر حتى وصل إلى باب الشاليه ووقف خلفه ينصت للحظات، كان الصوت قد توقف تماما، فتح الباب مرة واحدة فلم يجد أحدا، بحث في الشرفة وجال بنظره في الحديقة للحظات ثم قرر العودة إلى الشاليه، وطأت قدمه بقعة كبيرة من الماء كانت تغرق ملاط الشرفة، فتنبه إلى أنه لم يكن يرتدي في قدميه إلا الجورب الذي ابتل تماما، قفز بعيدا عن بقعة الماء وهو يتمتم:
- اللعنة ... من أين جاء هذا الماء؟
خلع الجورب وألقاه في حوض الغسيل وتوجه إلى المطبخ ليتأكد أن الطعام العشاء لم يحترق بعد ... بالتأكيد يحتاج هذا البرد إلى حساء ساخن، من حسن حظه أنه يعشق الحساء ويجيد صنعه بمائة طريقة مختلفة، سيكون حساء الدجاج هو الخيار الأفضل في هذه الليلة الباردة ، أخذ يقلب الحساء في الآنية ويضيف إليه القليل من التوابل والملح، ويتذوق، ثم يثني على براعته ... فكر أنه يحتاج الآن إلى جلب بعض الخبز لتسخينه، لقد ترك كيس الخبز هناك على ذلك النضد الموجود أسفل الشباك الذي يطل على الحديقة الخلفية ... الشباك الذي تقف تلك المرأة خارجه، تتابعه عبر زجاجه الشفاف بنظرات غريبة ... وقع نظره عليها أثناء عودته بعد أن التقط الكيس، لم ينتبه في البداية، وعندما تنبه وارتد إليها كانت قد اختفت، ألقى كيس الخبز وانطلق إلى الخارج، ولم ينس أن ينتعل حذاءه في الطريق، دار حول الشاليه وبحث عن تلك المرأة في الحديقة الخلفية ولكن دون جدوى، تنهد وهو يقول:
- ما هذا العبث؟
حاول أن يتذكر ملامح تلك المرأة ولكنه لم ينجح، كل مايذكره أنها امرأة، وهناك شئ غريب وغامض بخصوص نظراتها ... جال بخاطره أنها قد تكون تلك الفتاة العابثة التي رآها في الصباح، وشعر أنها تحاول التلاعب به، فقرر أن يتوجه إلى الشاليه المجاور الخاص بها ويعاتيها، ولو وجد أحدا من أهلها سيعاتبه أيضا ولكن بلهجة رقيقة، مهذبة، فمن يدري فقد يكون أباها وزريرا أو أمها سفيرة! ... وصل إلى الشاليه فكان النور مغلقا ولا يوجد أي أثر لقاطنيه، عبر الحديقة حتى وصل إلى الباب الداخلي ففاجآه وجود قفل خارجي على الباب ... لاحظ أيضا أن الشرفة والممر في الحديقة يغطيهما الغبار، شعر بالدهشة، فمن الواضح أن هذا الشاليه خال منذ شهور ... هو ظن أنه رأى تلك الفتاة تخرج من هذا الشاليه في الصباح، من الواضح أنه مخطأ، بالتأكيد هي تقطن في مكان آخر وهو اختلط عليه الأمر كعادته ... تحرك عائدا إلى الشاليه الخاص به، وما أن دخل الحديقة حتى شعر بحركة خلفه، فالتفت بسرعة ...
***
قضى المفتش (علي) يومه في إجراء المزيد من التحقيقات، قام بتفتيش غرف المختفين وبحث في متعلقاتهم، أعاد استجواب بعض الشهود، أخذ يراجع بعض التقارير التي أرسلت إليه (بالفاكس) والتي جمعها المخبرون من أهل المختفين وجيرانهم في مناطق سكنهم، حتى حل المساء، فقاده المهندس (عبدالله) بعد تناول العشاء إلى غرفته في طوف الإعاشة الملحق بالمنصة البحرية والمتصل بها عن طريق جسر معدني قصير، والذي به أماكن النوم والإقامة ... طلب منه المهندس (عبدالله) أن يرتاح حتى الصباح فقد كان يومه مرهقا، ولكن كعادته عندما يعمل على جريمة غامضة كان النوم أو الراحة غايتان يصعب تحقيقهما، لذا جلس على الفراش وأخرج رزمة من الأوراق، وأخذ يخط عليها بقلم من الرصاص بعض الكلمات والملاحظات التي أثارت انتباهه اليوم، ويوصل بينها بخطوط رأسية وأفقية وأسهم ويحد بعضها بالدوائر أو يظلل تحتها، كانت تلك هي طريقته في التفكير والتحليل ...
كانت الليلة قد اقتربت من الانتصاف عندما قرر الصعود إلى سطح المنصة ... كان الجو شديد البرودة، والقمر هلاله نحيل يكاد لا يضئ المكان، وكانت الريح قوية، صاخبة، تدفع الماء ليصطدم بأعمدة المنصة بصوت هادر، أخبره المهندس (عبدالله) أن سرعة الرياح في تلك المنطقة تصل إلى ثلاثين عقدة، وهي ريح قادرة على أن تطيح بالمعدات وبالبشر ... فكر أنه سيكون من الأفضل له أن يعود لغرفته الآن بدلا من أن يصاب بنوبة برد أو تتجمد أطرافه أو يجد نفسه في وسط البحر بعد أن تطيح به الرياح ... فجأة وصل إلى مسامعه ذلك النحيب ... في البداية ظن أنه صوت صفير الرياح، ولكنه استطاع تمييز صوت البكاء والنحيب بوضوح مختلطا به ... كان الصوت لإمرأة تبكي وتنتحب في مرارة، وكان الصوت يعلو وينخفض ويهتز تردده مع الريح ... شعر بالتوتر وبالقشعريرة الباردة تسري على عمودة الفقري وأطرافه ... أفكار كثيرة تصطرع داخل عقله الآن، قبل أن تسيطر عليه فكرة واحدة، نطق بها لنفسه بصوت منخفض:
- من أين يأتي صوت تلك المرأة النائحة على منصة بحرية في وسط البحر يعمل عليها الرجال؟ ... الرجال فقط!
دفع التوتر والأفكار جانبا ... تحسس بأصابعه المسدس المعلق في صديريته الجلديه، شعر بالقليل من الاطمئنان، ثم بدأ يلاحق مصدر الصوت ... لم تكن المهمة سهلة فهو ليس خبيرا بتلك المنصة البحرية وممراتها المتشابكة ... كان يسير في الطريق الذي يقربه من الصوت قبل أن يجده مغلقا، فيضطر إلى العودة بحثا عن طريق آخر ... في النهاية قادته قدماه وأذناه حتى مرفأ القوارب، وأدرك أنه في الطريق الصحيح فقد كان الصوت قريبا للغاية، وكأن صاحبته تنتظر على رصيف المرفأ ... بدأ يهبط الدرج المعدني عندما قبضت تلك اليد الخشنة على كتفه ...
- لا تذهب يابني.
كان ذلك هو كبير الطهاة العجوز، قبل أن يردف:
- إنها هي ... هذا صوتها!
- كنت أظن أن صوتها هو الغناء العذب الذي يغوي الصيادين، هكذا كنا نسمع في قصص الأطفال.
- لا ... صوتها هو صوت النحيب والبكاء، هكذا علمنا أجدادنا ... لا شئ يغوي الرجل ويدفعه للاقتراب أكثر من بكاء امرأة.
أومأ المفتش (علي) برأسه متفهما، ثم أزاح يده الممسكة بكتفه بهدوء، وهو يهبط الدرج ويقول:
- إذا دعنا نرى شكلها.
حاول كبير الطهاة العجوز حثه على البقاء ولكنه لم يفلح، فاضطر إلى ملاحقته ... كان الصوت قد انقطع، أخرج المفتش (علي) مسدسه وأخذ يصوبه يمينا ويسارا وهو يفحص الرصيف والقوارب المرتبطة به، قبل أن يقول:
- لا شئ.
أجابه الطاهي العجوز وهو يزفر بارتياح:
- لقد رحلت.
ثم أشار إلى القمر، وهو يردف:
- ليلة الغد هي ليلتها الأخيرة، لن يكون علينا أن نقلق بشأنها من جديد إلا بعد خمسين عاما أخرى.
كان المفتش (علي) عائدا إلى غرفته عندما دق جرس هاتفه المحمول، فاستمع إلى محدثه للحظات ثم قال بفضول:
- أين وجدوها؟
استمع للحظات أخرى، ثم قال بحسم:
- حسنا، سانتقل غدا صباحا إلى هناك لمتابعة الأمر.
***
عندما شعر (سامح) بحركة خلفه، التفت بسرعة، ففزع للحظة عندما رأى أحد رجلي الأمن المرتابين اللذان قابلاه على مدخل المجمع، ولكنه تماسك بسرعة وهو يقول بلهجة حازمة:
- خير ... ماذا تريد؟
بدت نظرة حيرة على عيني رجل الأمن وهو يقول:
- هل رأيت زميلي؟
- لا.
زفر رجل الأمن بإحباط، ثم استدار ليرحل، فاستوقفه (سامح)، وهو يقول:
- هل هناك ما يسوء؟
- أجل ... زميلي ذهب في جولة روتينية بالأمس في المجمع، ولم يعد بعدها، ولم يأت أيضا في الصباح ... وسألت أهله عنه فلم يعرف أحد منهم طريقه.
حاول (سامح) طمأنته وهو يقول:
- لا تقلق ... بالتأكيد سيظهر في أقرب وقت ... الغائب حجته معه.
أومأ رجل الأمن برأسه، فوجدها (سامح) فرصة مناسبة فسأله:
- أريد أن أسألك عن فتاة من سكان هذه الشاليهات، فتاة شابة نشطة في العشرينات.
أجاب الرجل ببساطة:
- لا يوجد أي فتاة في المجمع في هذه الفترة.
ثم أشار إلى الشاليه، وهو يردف:
- أنت القاطن الوحيد فيه الآن.
.. (انتهى الجزء الثاني ويليه الجزء الثالث) ..
قصة رعب قصيرة بعنوان ... (عروسة البحر – الجزء الثالث)
ما لا يعرفه (سامح) أنه في الليلة الماضية بعد وصوله، أخذ رجلا الأمن المرتابين يتحدثان عن تلك الأشكال الغريبة التي أصبحت تزور المجمع في الفترة الأخيرة، وأنه لو استمر أصحاب الشاليهات في التساهل مع تلك الفئة من البشر والسماح لهم بالإقامة فيه سيتحول إلى (جمصة) أو (بلطيم) في غضون سنوات، ورغم أنهما ينتميان إلى نفس الفئة التي يتحدثان عنها بالسوء إلا أن ذلك لم يمنعهما من إبداء ذلك الامتعاض، وكأن عملهما ليس في حراسة المجمع ولكن في حراسة ذلك الخط الحائل بين العامة وبين طبقة المنعمين في بحور الثراء والرفاهية ... حتى أن أحدهما أعاد الاتصال بمالك الشاليه للتأكد مرة أخرى من موافقته (لسامح) على الإقامة فيه، وعندما أجابه المالك بالموافقة، طلب منه أن يصف له ملامح (سامح) وأوصافه وكأنه يتمنى أن يكون ذلك الذي دخل المجمع منذ دقائق هو شخصا آخر ينتحل شخصيا (سامح)، حينها يمكنه أن يقبض عليه ويطرده خارج جنة المجمع، وفي النهاية عندما تيقن من أن (سامح) هو (سامح)، أعلن لصاحبه في ضيق أنه ذاهب في جولة تفحصية.
قادته قدماه بالطبع إلى الشاليه الذي يقيم فيه (سامح) والذي كانت أنواره مطفأة، يبدو أن قاطنه قد أفرغ حقائبه ونام بعدها مباشرة متأثرا بإرهاق السفر ... فجأة لفت انتباهه حركة في الحديقة، بالفعل هناك شخص في الحديقة يتحرك حركات مريبة، يقترب من خصاص الأبواب ومن زجاج النوافذ الشفافة وينظر منها إلى داخل الشاليه ... اقترب رجل الأمن أكثر وتربص وراء بعض الشجيرات منتظرا اللحظة المناسبة للهجوم على ذلك المتلصص الذي تبين أنه امرأة على درجة عالية من الجمال.
توقفت تلك المرأة للحظة وأخذت تنظر حولها وتتشمم الهواء، ثم ثبتت ناظريها على تلك الشجيرات التي يختفي وراءها رجل الأمن، ثم بدأت تتوجه إليها ... وعندما أصبحت في مواجهته أشارت له ليخرج، فخرج من وراء الشجيرات وقد اتسعت عيناه من جمال تلك المرأة وفتنتها، قبل أن يقول بصوت متلعثم:
- من ... من أنت؟
لم ترد المرأة ولكنها تجاوزته وهي تمضي ناحية الشاطئ بدلال ... ملأ أنفه أريج غامض، جذاب ينبعث منها، فوجد نفسه يسير وراءها كالمسحور.
***
بعد المكالمة الهاتفية التي تلقاها المفتش (علي) بالأمس، توجه إلى نقطة شرطة قرية الصيادين فاستقبله الظابط الشاب مرحبا، وأخذ يتبادل معه بعض الأحاديث الودية، وطلب من العامل جلب كوبين من الشاي، ثم توجه إليه قائلا:
- لم أتصور كل هذا الاهتمام من القيادة عندما أرسلت لإجراء بعض التحريات الروتينية عن المهندس صاحب الحافظة الجلدية التي عثرنا عليها.
- إنها قضية حساسة للغاية.
- هذا ماتوقعته عندما أخبروني بحضورك اليوم.
رشف المفتش (علي) رشفة من كوب الشاي، ثم وضعه فوق الصفحة على الطاولة أمامه، وهو يقول:
- أين وجدتم تلك الحافظة؟ وهل وجدتم معها أي متعلقات أخرى للمهندس أو لغيره؟
- وجدها أحد الصيادين بعد أن ألقاها البحر على الشاطئ، وبعد أن أتلفت مياة البحر كل الأوراق التي كانت فيها، ما عد بعض البطاقات البلاستيكية، ومنها بطاقة الرقم القومي خاصته.
توقف للحظة، ثم أردف:
- لم نجد معها أي متعلقات أخرى، ومن الواضح أن صاحبها لم يفقدها بسبب السرقة، فقد كانت ممتلئة بأوراق نقدية تحولت إلى عجين بسبب ماء البحر.
ناوله الحافظة الجلدية، وهو يقول:
- بالطبع لم نحاول أن نستخرج أي بصمات من عليها ... أنت ترى حالتها.
التقطها منه المفتش (علي)، وأخذ يتفحصها بدقة، ثم ألقاها أمامه وهو يفكر ... إذا كان المهندس غرق عند المنصة البحرية، فهل من الطبيعي أن تظهر حافظته الجلدية على الشاطئ على مسافة خمسة أميال كاملة؟ ... احترم الضابط الشاب صمته ولم يحاول مقاطعة تفكيره، حتى قال المفتش (علي):
- هل يمكنني مقابلة هذا الصياد؟
- لا يوجد مشكلة، هو في الخارج من الصباح الباكر ... توقعت أن تطلب مقابلته.
ضغط على زر جانبي، فدخل الجندي الذي كان يقف أمام الباب، وأدى التحية العسكري، فبادره:
- أدخل عم (منصور).
دخل الرجل الغرفة بقدمين مرتعشتين، ووجه يشبه وجه فأر وقع في المصيدة ... من الواضح أنه يشعر بندم شديد على أمانته وتسليمه للحافظة الجلدية التي عثر عليها إلى نقطه الشرطة، لو عاد به الزمن لتجاهل وجودها تماما أو دسها في التراب ليقي نفسه وغيره شرها ... لاحظ المفتش (علي) ذعر الرجل فحاول طمأنته وهو يقول:
- لا تقلق يا عم (منصور)، سأسألك سؤال واحد وبعده يمكنك أن تذهب إلى دارك.
- تفضل يا (باشا).
- أين وجدت تلك الحافظة؟ ... بالضبط.
تزايد ذعر الرجل وهو ينظر إلى الضابط الشاب بطرف عينه، فأومأ له برأسه ليتكلم، فقال:
- لقد وجدتها على أطراف المجمع السياحي المجاور للقرية.
حدقه الضابط الشاب بنظرة مستنكرة، فقال الرجل بلهجة معتذرة وصوت مرتعش:
- أعرف أنه غير مصرح لي بالصيد أو الذهاب هناك ... ولكن السمك لا يعرف ذلك ويصر دائما على التواجد في تلك المنطقة وبكثرة.
ابتسم المفتش (علي)، على تعليق الرجل المذعور الذي خلطه بدعابه في محاولة لتخفيف وطأة فعلته لدى الضابط ... فقال:
- لا يوجد مشكلة هذه المرة ... يمكنك أن ترحل ياعم (منصور).
ثم التفت إلى الضابط الشاب وهو يلتقط الحافظة الجلدية من أمامه، وينهض عن مقعده، وهو يقول له بجدية:
- أريدك أن ترسل معي من يدلني على مكان ذلك المجمع.
- تمام يا (أفندم).
***
- (هاي).
- أنت مرة أخرى ... توقفي أريد أن أتحدث إليك.
كانت الفتاة الشابة تخرج من الشاليه المجاور في طريقها لممارسة رياضة الجري كعادتها كل صباح وألقت التحية على (سامح)، فاستوقفها هذا الأخير ... اقتربت منه بخطوات نشيطة، فبادرها قائلا:
- من أنت؟
قالت ببساطة:
- أنا (حسناء).
نظر إلى ذلك الجمال والحسن الطفولي على وجهها، ثم قال:
- أعرف ... ولكن ما اسمك؟
ابتسمت برقة وهي تقول:
- (حسناء) ... اسمي (حسناء).
أومأ برأسه متفهما:
- من أين أتيت؟
وقبل أن ترد أشار لها بيده محذرا، وهو يردف:
- ولا تكذبي علي، فأنت لا تقطنين في الشاليه المجاور، بل أنت لا تقطنين في هذا المجمع من الأساس ... من أين أتيت؟
ابتسمت ابتسامة عريضة:
- أنا لا أقطن في الشاليه المجاور بالفعل، أنا فقط أمر من حديقته أثناء الجري.
- إذا أين تقطنين؟
أشارت بسبابتها ناحية البحر، وهي تزوغ منه وتبتعد لمواصلة رياضة الجري، فصرخ عليها:
- ولكني أريد أن أعرف.
- عندما نتقابل في المرة القادمة ... ستعرف
- وأين أجدك؟
- قابلني عند (البرجولة).
***
توقف ذلك المركب على مسافة ميل واحد من الشاطئ وألقى مرساته ... أخذ الموج يتلاعب به يمينا ويسارا كأنه دمية صغيرة ... لم يكن مركبا ضخما مثل تلك اليخوت الفخمة التي يملكها الأثرياء ويتخذون منها مكان للهو ووسيلة للسفر وللاحتفالات الصاخبة ... كان مركب أبحاث صغير بمحرك ديزل بسيط ونظام شراعي للملاحة الطويلة ... فيه مكان يصلح لمبيت أسرة صغيرة، إضافة إلى غرفة مجهزة بالآلات الحديثة والحواسيب وأجهزة (السونار) والاتصالات وأجهزة الأقمار الصناعية ... عكف الدكتور (محمد السيد) على تلك الأجهزة يسجل منها بعض القراءات والأرقام ويمليها على الدكتورة (سلمى) فتسجلها بعلامات على الخريطة المفرودة على طاولة في منتصف الغرفة، قال الدكتور (محمد):
- هذه آخر قراءة.
ثم اقترب منها وهو ينظر معها إلى العلامات التي وضعت على الخريطة، فقالت له وهي تشير بسبابتها إلى على الخريطة:
- هذه هي المنصة البحرية التي حدثت فيها معظم حوادث الاختفاء، وهذه هي الأماكن التي سمع فيها بعض الصيادين صوتها، وهذه هي الأماكن التي عثرنا فيها على بعض آثارها.
توقفت لحظة وهي ترسم دائرة على الخريطة، وهي تردف:
- إنها تتحرك في دائرة قطرها خمسة أميال.
أشار الدكتور (محمد) إلى نقطتين على الخريطة:
- منطقة عملياتها تتركز مابين المنصة البحرية، وقرية الصيادين.
وافقته الدكتورة (سلمى) وهي تضيف:
- وذلك المجمع الصغير الذي يجاور قرية الصيادين.
ثم تحركت ناحية براد صغير في ركن من الغرفة، وجلبت منه زجاجتي عصير، ألقت بواحدة منهما إليه وهي تلقي بنفسها على الأريكة، وهي تقول:
- نحن قريبان من نجاح علمي غير مسبوق.
أومأ برأسه وهو يقول:
- بالفعل ... ولكن إذا كانت أسطورة الصيادين صحيحة فعلينا أن نصل بسرعة، وإلا سيكون علينا أن ننتظر خمسين عاما أخرى.
ألقى بنفسه على الأريكة إلى جوارها، فقالت له:
- خمسون عاما، ستمر سريعا وأنت معي يازوجي الحبيب.
ابتسم وهو يداعب كفها بين أصابعه، وعقله منشغل بشئ آخر ... شئ يأتي من أعماق البحر، شئ أقرب للأسطورة منه للحقيقة ... فجأة انبعث ذلك الطنين المتقطع من جهاز السونار، فقز الدكتور (محمد) إلى الجهاز ولحقت به الدكتورة (سلمى)، قبل أن يقول الأول وهو يحدق في الجهاز بظفر:
- إنها هي.
- قد يكون قرش أو (دولفين).
- من الوارد ... ولكن نمط الحركة وسرعتها يختلفان.
- أين تتجه؟
حدق في الجهاز لثانية، ثم نظر إليها وقد اتسعت حدقتاه:
- إنها تقترب منا.
صرخت فيه وهي تتحرك بسرعة:
- إطفئ النور، واجلب الكاميرا، وبندقية التخدير.
مرت عليهما لحظات من التوتر والترقب، كانا يراقبان فيها ذلك المخلوق وهو يقترب من المركب حتى أصبح تحتها تماما كما يشير جهاز السونار ... تحولا إلى نافذة الغرفة الزجاجية ووقفا يراقبان في ظلامها سطح المركب، لحظات أخرى حتى ظهرت تلك المرأة وهي تصعد السلم الجانبي، قبل أن تتوقف فوق السطح تتشمم الهواء وتنظر حولها، قال الدكتور (محمد) بصوت متهدج:
- إنها جميلة جدا!
نظرت له الدكتور (سلمى) باستنكار:
- جميلة!!... إنها قبيحة كالشياطين!
تكورت تلك المرأة على نفسها في عند سور المركب، ثم أخذت تنتحب وتبكي بصوت يمزق نياط القلوب ... همست الدكتورة (سلمى) وهي تتحرك للخارج وفي يدها الكاميرا:
- هيا بنا إنها فرصتنا، ستطلق أنت أسهم التخدير وسأصورها أنا.
خرجت من الغرفة وتوجهت بخطوات متحسبة، قبل أن تتوقف على بعد خطوات، وهي تهمس:
- هي أطلق أسهم التخدير.
لم تتلق إجابة من زوجها، فكررتها مرتين قبل أن تنتبه إلى أن زوجها قد تجاوزها وهو يقترب من تلك المرأة المنتحبة وهو يسير بخطوات ميكانيكية كالزومبي، ودون أن يكون في يده بندقية التخدير من الأساس ... صرخت فيه الدكتورة (سلمى) صرحة مدوية:
- حذار!
ثم ضغطت زر الكاميرا فلمع الفلاش وأضاء الليل المظلم، وفي لحظة واحدة انتصبت تلك المرأة المنتحبة وقفزت في الماء وسبحت بعيدا بسرعة كبيرة ...
.. (انتهى الجزء الثالث ويليه الجزء الرابع والأخير) ..
قصة رعب قصيرة بعنوان ... (عروسة البحر – الجزء الرابع والأخير)
مشاعر غريبة حركتها تلك الفتاة (حسناء) في باطن (سامح)، بحيويتها، وروحها الساخرة، وغموضها ... لقد ظن بعد تلك الحادثة الأليمة التي فقد فيها حبيبة عمره قبل أيام من زواجهما أنه لن يكون قادرا على استعادة تلك المشاعر مرة أخرى ... صار جافا، حاد في التعامل مع كل النساء، وكأنه يحملهن مسئولية ذهاب حبيته وبقائهن... اقتصرت حياته في السنوات الأخيرة على عمله وهوايته فقط واتخذ منهما وسيلة تنسيه ماحدث، وكلما عاودته تلك الذكرى الأليمة انغمس فيهما أكثر وأكثر ... فماذا يحدث له الآن!؟ ما الذي تغير!؟ ... دفع تلك المشاعر جانبا، وأقنع نفسه أن مشاعره نحوها يحركها الفضول فقط ورغبته في معرفة السر الذي وراءها... حسم أمره أخيرا وقرر الذهاب إلى الشاطئ بحثا عنها في ذلك المكان الذي طلبت منه أن يقابلها عنده ... تمتم مخاطبا نفسه بصوت خفيض:
- ماذا كان اسم المكان؟ جلجولة... لا ... أعتقد بلجولة ... سأستشير (جوجل).
أخذ يعبث بأزرار الهاتف للحظات قبل أن تتسع سريرته وهو يقول:
- (برجولة) ... إنها (برجولة) ... إنها تلك (العشة) الخشبية التي يجلسون داخلها على الشاطئ ... لقد تغيرت المصطلحات كثيرا في السنوات الماضية.
وصل إلى المكان وثبت حامل اللوحات وبدأ يكمل رسمته الأولى، قبل أن يزفر بضيق فيرفع اللوحة من على الحامل ويضع واحدة أخرى بيضاء، وبدء يخط عليه بفرشته رسما جديدا ... انتصف النهار وكانت ملامح اللوحة قد اتضحت ... إنها تحمل وجه (حسناء) الطفولي وابتسامتها الرقيقة، العذبة ... نظر للوحة في دهشة وكأن شخصا آخر هو الذي رسمها وليس هو، تلفت حوله في قلق خوفا من أن يرى أحد آخر تلك الصورة، ثم رفعها وأخفاها في دفتره ... قضى نصف ساعة أخرى ثم قرر العودة إلى الشاليه.
***
دقات قوية على باب الشاليه أفزعت (سامح) وجعلته يهرع نحو الباب ويفتحه، فطالعه وجه رجل الأمن الذي تحدث إليه بالأمس وهو يقول:
- الباشا (عايزك)؟
ومن خلفه ظهر رجل أنيق يرتدي حلة رمادية، وتبدو عيه ملامح قوة الشخصية، وإن بدا على عينيه الكثير من الأرهاق، أردف رجل الأمن بلهجة متشفية وكأنه لسان حال يقول (أي مصيبة فعلت أيها المجرم):
- الباشا ... مباحث.
رد (سامح) بسرعة، وهو يوجه حديثه إلى المفتش:
- تفضل.
دخل الرجل وجلس على المقعد وهو يفحص المكان بعينيه، قبل أن يخاطب رجل الأمن:
- يمكنك أن تذهب ... أعرف طريق العودة.
ثم توجه إلى (سامح) قائلا:
- المقدم (علي) ... مفتش مباحث.
رد عليه بصوت ضعيف، متخاذل، يخرج من أغوار عميقة:
- (سامح) ... صاحب صاحب الشاليه.
ابتسم المفتش (علي):
- هل تسمح لي ببضعة دقائق من وقتك ...
- تحت أمرك.
- كنت أريد أن أسألك، هل شعرت بأي شئ مريب مؤخرا في الجوار؟
أخذ (سامح) يفكر للحظات، وهو يرسم على وجهه علامات الاجتهاد في التفكير، كان أكثر شئ مريب حدث له في الأيام الأخيرة هي زيارة هذا الرجل ...ولكنه يجب أن يجد إجابة ترضيه، فهو لا يريد أن يغضبه أو يثير حفيظته، يجب أن أبحث عن شئ مريب، ليقوله:
- هناك شيئان مريبان لاحظتهما.
بدا على وجه المفتش (علي) الاهتمام وهو يقول:
- ما هما؟
- الأول هو اختفاء رجل الأمن ... زميل هذا الذي كان معك منذ لحظات.
- وهل اختفى؟
- هو أخبرني ذلك بالأمس.
أخذ المفتش (علي) يفكر للحظات، ثم قال:
- حسنا سأعرف منه المزيد عندما أعود ... وما هو الشئ الثاني؟
تردد (سامح) للحظة، وفكر هل يخبره بشأن (حسناء) أم يكتم عنه هذه المعلومة، الحقيقة أنها مريبة بالفعل وتحمل سرا غامضا:
- هناك فتاة غامضة، أراها على الشاطئ وبالقرب من الشاليه، ويجزم عامل الأمن أن المجمع لا يوجد به أحد غيري في هذا الوقت من العام.
أومأ المفتش برأسه وهو يقول:
- بالفعل لقد أخبرني بذلك منذ دقائق، لهذ جئت لأتحدث إليك.
توقف قليلا ثم أردف بكلمات سريعة، عصبية، وكأنه وجد ضالته:
- وهل تعرف اسمها ووصفها؟ وهل تعرف أين أجدها؟
- اسمها (حسناء)، أما عن وصفها فأنا رسام وقد رسمت لها صورة بالفعل.
ثم أخرج من دفتره صورة (حسناء) وأعطاها للمفتش (علي)، الذي صورها بهاتفه المحمول وأعادها إليه ... أردف (سامح) قائلا:
- أما أين أجدها؟ فهي تظهر لي في كل وقت وفي كل مكان مثل عفريت العلبة ... ولكن!
تردد (سامح) للحظة، فشجعه المفتش (علي) على الاسترسال:
- ولكنها طلبت مني أن أقابلها على الشاطئ عند (البرجولة)!
شكره المفتش (علي) على وقته، وأعطاه رقم هاتفه المحمول وهو يقول:
- إذا وجدت مايريب اتصل بي فورا ولا تتردد ... ونصيحة أخيرة.
- ماذا؟
- لا تذهب إلى البحر الليلة!
***
لا يعرف (سامح) لماذا وجد نفسه يتوجه إلى الشاطئ في المساء متجاهلا تحذير المفتش (علي) ... كانت الساعة العاشرة عندما وصل إلى تلك (البرجولة)، كان يأمل أن تظهر (حسناء) وتخبره بما يريد معرفته، أو لا تخبره، كان بحق يتمنى ظهورها فقط ... كان يرتدى ثياب ثقيلة لتحميه من برد المساء، وبالفعل كان الجو شديدة البرودة، من ذلك النوع الناخر للعظام ... شعر بأن أطرافه تتجمد وبأن أنفه وأذنيه وشفتيه، لم يعد لهم وجودا على وجهه ... بالطبع لم يجد (حسناء) تنتظره هناك كما تمنى، فجلس ينتظر وحيدا،يتشاغل بمراقبة حركة الموج المنومة ويسرح بخياله في عوالم تخيلية، يكون فيها هو البطل الوحيد، الغريب أنه كان يجد تلك الفتاة (حسناء) تقفز إلى داخل كل قصة تخيلها، حتى ولو حاول دفعها بعيدا ولكنها كانت تعود إليها وبإصرار عجيب ...
عندما تجاوزت الساعة الثانية عشر قرر أن يعود إلى الشاليه، عندها اكتشف إن أطرافه تجمدت تماما وأن تحريكها يحتاج لمجهود كبير ... وعندما تمكن من تحريكها أخيرا ونهض عازما الرحيل، رآها ... رآها تخرج من البحر والمياة تقطر عن جسدها وشعرها الذهبي الذي يغطيها حتى ما دون ركبتيها ... للحظات تصور أنها (حسناء)، ولكن عندما اقتربت منه بخطوات فاتنة، مغوية، أدرك أنها ليست (حسناء)، بل هي امرأة أخرى فائقة الحسن والجمال ... بالتأكيد هي أجمل امرأة رأتها عيناه كرجل وكفنان يستطيع أن يميز الجمال ويوقره ... تمنى أن يكون بين يديه الآن فرشاة وألوان حتى يرسم صورة تخلد هذا الجمال، صورة سيكون محلها بين أعظم اللوحات التي رسمتها فرشاة بيد إنسان ... كانت تقترب منه أكثر حتى صارت على مسافة مترين فقط، فمدت له يدها بدلال، فخطا نحوها بسرعة وأمسك بيدها، فاستدارات عائدة نحو البحر فتحرك معها مسلوب الإرادة ... مست قدماه ماء البحر فلم يشعر ببرودته، واستمر على توغله معها حتى جاوز الماء فخذيه ... فجأة انطلقت تلك الصرخة بذلك الصوت النسائي قادما من ناحية الشاطئ:
- توقفي أيتها اللعينة.
جعلته تلك الصرخة يفيق من الحالة التي كان عليها، فانتبه إلى (حسناء) وهي قادمة تعدو نحوهما، قبل أن تلج الماء وتتقدم أكثر منهما وفي يدها بندقية غريبة المنظر ... شعر بألم رهيب في يده التي كانت تمسك بها تلك المرأة فالتفت إليها، فراعه ما رأى، فقد تحولت تلك المرأة فائقة الجمال إلى وحش مرعب تغطي الحراشيف جسده ويعلو رأسه أجمة من الأشواك يجعله أشبه (بميدوزا) ذلك الوحش الأغريقي الأسطوري، وله أنياب مرعبة ومخالب بارزة تمزق يد (سامح) في تلك اللحظة، صرخ (سامح) بهستيريا وحاول أن يخلص يده ويهرب، فزاد ذلك الوحش من قبضته وبدأ يجذبه أكثر إلى داخل البحر بقوة لا قبل (لسامح) بها ... وصلت (حسناء) وصوبت بندقيتها إلى الوحش وأطلقت منها سهما ذو ذيل زغبي انغرس مباشرة في صدره ... أصدر ذلك الوحش صرخة حادة تشبه النحيب، ثم خلى قبضته عن ذراع (سامح) وتوجه إلى (حسناء) التي أطلقت عليه سهم ثان انغرس في كتفه ... وصل الوحش إلى (حسناء) التي كانت تعد البندقية لطلقة ثالثة ولكنه لم يمهلها وضربها بيده المخلبية ضربة قوية أطاحت بها لعدة أمتار قبل أن تسقط على الأرض دون أي حراك ... صرخ (سامح) بإسم (حسناء) واندفع بقوة محاولة الإطاحة بذلك الوحش بجسده، ولكنه شعر كأنه يصطدم بحائط خرساني، فسقط على الأرض وهو يشعر أن كل عظمة في جسده قد تفتت ... التفت الوحش إليه ثم توجه نحوه بخطوات متأدة، كان (سامح) يشعر بأنه عاجز تماما عن الحركة ... فجأة انطلق دوي طلقات نارية أضاءت شرارتها ظلام الليل، أصابت تلك الطلقات النارية جسد الوحش، أكثر من مرة، فأخذ الوحش يترنح وهو يتراجع إلى الخلف ... ظهر المفتش (علي) وهو يواصل إطلاق النار من مسدسه على ذلك الوحش حتى أفرغ مشطا كاملا من الطلقات، فاستبدله بآخر بمهارة عالية وواصل إطلاق النار ... كان الوحش ينتحب من الألم ويتراجع للخلف، ثم استدار وقفز في الماء وهو يسبح بسرعة عالية، قبل أن يغيب في ظلام البحر ...
اقترب المفتش (علي) من (سامح) وأعانه على النهوض وهو يقول:
- هل أنت بخير؟
تأوه (سامح)، وهو يقول بجزع:
- (حسناء) ... هل هي بخير... لقد أنقذتني؟
توجه كلاهما إلى (حسناء) التي كانت تتألم بدورها وهي تعتدل، قبل أن تقول:
- هل أخذ أحدكم رقم الحافلة؟
كانت دعابة في غير موضعها، ولكنها طمأنت (سامح) عليها، فابتسم وهو يقول:
- أنت غريبة، هل هذا موقف يدعو للسخرية ... لقد كنا سنذبح بيد مخلوق يشبه (الميدوزا).
- إنها عروس البحر التي تتحدث عنها الأساطير.
نظر لها (سامح) نظرة مطولة، وهو يقول:
- من أنت؟ ومن أين جئت؟
أشارت مرة أخرى إلى البحر، فقال بغضب:
- تريدين العبث من جديد.
- إنها الحقيقة ... أترى هذا الضوء الضعيف في منتصف البحر، إنه المركب الذي أقطن فيه هذه الأيام مع أبي وأمي.
كانت الدهشة وعدم الفهم قد ارتسما على وجه (سامح)، فأردفت قائلة:
- أبي عالم في الأحياء البحرية، وأمي عالمة آثار ... وقعت بين أيديهما مخطوطة من العصر الفرعوني تتحدث عن ذلك المخلوق الأسطوري، عروسة البحر، وقد أسرتهما تلك المخطوطة واستحوذت على عقليهما، فقضيا سنوات طويلة في أبحاث أوصلتهما إلى هذا المكان في هذا الزمان على أمل إثبات وجود ذلك المخلوق الأسطوري.
ابتسم المفتش (علي) وهو يقول:
- إذا أنت كنت تقومين بدور المخبر لهما على الشاطئ.
- لم يكن ذلك برغبتي ... أنت لا تعرف الحل عندما تعيش في بيت من العلماء ... أسرة مجنونة ولكنك مضطر أن تكون فردا فعالا فيها، وجزء من الخطط التي يضعونها.
قال المفتش (علي) بحدية:
- لقد كانت خطتكم سيئة، لقد كدت تفقدين حياتك وذلك المسكين أيضا.
حاولت (حسناء) النهوض فعاونها (سامح) وهو يقول بصوت متهدج:
- المهم أنك بخير ... أنا مدين لك بحياتي.
تلاقت عيناهما لفترة طويلة في نظرات تحمل مشاعر خاصة، فتنحنح المفتش (علي) وهو يقول بحرج:
- هيا ... علينا أن نذهب الآن.
قالت (حسناء) وعيناها مازالت معلقة بعيني (سامح):
- هناك اعتراف يجب أن اعترف به ... لقد كنت أؤدي هذه المهمة في البداية من أجل أبي وأمي ...
تضرج وجهها بحمرة الخجل وهي تردف بحرج موجهه حديثها إلى (سامح):
- ولكن عندما شعرت أن الخطر قد يطالك أيضا، وبخاصة أنني رأيت آثار ذلك المخلوق بقرب الشاليه الخاص بك، وعرفت أنه في أثرك، قررت مراقبتك والتدخل لحمايتك إذا تعرضت للخطر... ولم أرد أن أخبرك بالحقيقة من البداية حتى لا تظن أنني مجنونة.
ابتسم (سامح) وهو يقول
- الآن تأكدت أنك كذلك ... أتعرفين، قرأت أسطورة عروسة البحر في صغري وكان أكثر ما أسرني فيها، هو أن الشئ الوحيد الذي يحرر الضحية من ذلك السحر، هو الحب ... الحب الحقيقي ...
تضرج وجهها أكثر بحمرة الخجل وأشاحت بوجهها إلى الناحية الأخرى، فابتسم المفتش (علي) وهو يكرر:
- هيا ... علينا أن نذهب الآن.
فقال له (سامح) وهو يشير إلى البحر:
- وماذا عن ذلك الشئ؟
كانت أشعة الشفق قد بدأت تنعكس سطح البحر باستحياء معلنة بدء يوم جديد، فقال المفتش (علي):
- هذا شئ لن يكون علينا أن نقلق بشأنه إلا بعد خمسين عام.
..(تمت)..
وقف مستندا إلى ذلك السور المعدني الذي يحيط بالمنصة ويسمونه (هاندريل) ... أخذ ينظر إلى انعكاس القمر الفضي على سطح البحر الذي تلون بلون الليل فبدا ساكنا كأنه صفحة سواداء لا يشوبها إلا بعض فقاعات الهواء التي تنفسها بعض الأسماك أو المخلوقات البحرية فتجعل السطح يتوتر للحظة في بقعة دوامية صغيرة سرعان ما تستقر ويعود سطح البحر إلى سكونه ... فجأة تنبه إلى تلك الحركة الخافتة خلفه، فالتفت بسرعة ،فلمح شبحا يختفي عند الزاوية، دفعه الفضول إلى التحرك مسرعا في أثره، وعندما وصل إلى الزاوية، لمح الشبح يجري متسربلا بظلام الليل ويختفي وراء ضلع آخر من أضلاع المربع الذي يكون تلك المنشأة في الطرف الشمالي للمنصة البحرية والتي تضم غرف التحكم وبعض المكاتب الإدارية إضافة إلى المطبخ ودورات المياة ... زاد من سرعته فتناقصت المسافة بينه وبين ملاحقه، الذي غير استراتيجية هروبه فابتعد نحو منطقة البئروجاوزها حتى وصل إلى مرفأ القوارب، ونزل الدرج المعدني بسرعةـ، ثم بدأ يتحرك بخطوات حثيثه فوق الرصيف حتى وصل إلى الحافة فتوقف عندها تماما ... كان لا يزال في أثر ذلك الشبح، يدفعه الفضول وشئ آخر غامض مرتبط بهيئة ذلك الشبح وطريقة عدوه ... نزل وراءه الدرج المعدني ولاحقه على الرصيف حتى حاصره عند الحافة، فالتفت له الشبح ... وعلى أشعة الضوء الساقط من القمر الفضي تبين ملامح ذلك الشبح، فألجمته المفاجأة، فأمامه كانت تقف إمرأة على درجة هائلة من الجمال، تدثر جسدها بشعرها الذهبي الناعم الذي يمتد حتى ما دون ركبتيها، وقبل أن ينطق بكلمة واحدة، ترنحت المرأة ثم سقطت من فوق الحافة لتغوص في ماء البحر ... اندفع في جزع وانحنى على الحافة وهو يبحث عن تلك المرأة التي غابت تماما في قلب البحر ... لفت نظره انعكاس لشئ ما يتحرك تحت السطح، فقرب رأسه أكثر ليدقق النظر، قبل أن ينشق سطح البحر عن ذلك الكائن الذي انقض عليه وقبض على كتفيه بكفين مخلبتين وسحبه إلى داخل الماء ... توتر السطح للحظات ثم عاد إلى السكون، وهدأ كل شئ!
***
استيقظ (سامح) من نومه بنشاط على غير عادته، نهض عن فراشه وسار إلى المطبخ بخطوات آلية ليضغط زر الغلاية الأحمر، وتوجه بعدها إلى الحمام ليغتسل ...نظر إلى وجهه في مرآة الحمام، ابتسم لهذا التناقض الغريب، ففي أيام العمل يستيقظ وكل ذرة في جسده تشكو من الألم، تدعوه كل جوارحه للعودة إلى النوم والتظاهر بأنه لا عمل ينتظره اليوم ... أما في أول أيام العطلة ها هو يستيقظ نشطا، مرتاحا، ممتلئ بالحماس والطاقة لفعل مئات الأشياء ...
خرج إلى الشرفة، وملأ صدره بهواء الصباح البكر في ذلك المكان الذي لم يطله تلوث الفقراء والعامة بعد ... فقد كان المكان حكرا على أبناء الطبقة الراقية، الراقية جدا ... ورغم كونه ينتمي إلى الفئة الأولى إلا أنه الآن يقضي عطلته هنا، في شاليه من فئة النجوم العشرة، في ذلك المجمع المسور، الذي يضم مجموعة من الشاليهات والفيلات المتفرقة بشكل يبدو عشوائيا وإن كان يحمل نمطا فنيا خاصا، تم تشيدها على تله نباتية خضراء تذكرك بسهول أوروبا، وتطل جميعها على ساحل البحر الأحمر ... مستوى من الرفاهية والرقي ماحسب يوما أنه موجود في هذا العالم، لولا صديقه الذي تعرف عليه مؤخرا واكتشف أنه ابنا لأحد كبار المسئولين، والذي عرض عليه أن يقضي عطلته في الشاليه الخاص بأسرته، فقبل بعد أن تظاهر بالتردد والإعراض، في الوقت الذي كان باطنه يشتعل من الفرحة ... لوحة فنية خاصة تصنعها زرقة البحر والسماء بألونهما المتدرجة، مع خضرة اليابسة، واللون الأصفر لرمال الشاطئ ... هو يرى كل ذلك بعين وروح فنان هاوي يعشق الرسم ويتخذ منه وسيله تعرج به دائما بعيدا عن عمله الممل الرتيب.
جلس في الشرفة يتناول إفطاره وفي يده كوب من الشاي الثقيل، وهي طريقته المعتادة لبدء يومه.
- (هاي).
كان ذلك هو صوت فتاة شابة خرجت من الشاليه المجاور وهي ترتدي ثوبا وحذاء رياضيين وتنطلق نحوالشاطئ لممارسة رياضة الجري، أشارت له بيدها وهي تمر أمام الشاليه الخاص به، فأشار لها بدوره وهو يقلد تحيتها، قائلا:
- (هاي)!
شعر بسخافته وهو ينطق بتلك الكلمة بصوته الخشن، المتحشرج، خاصة بعد أن جاءت بعد كلمتها التي اتصفت بالنعومة والرقة، فابتسم وهو يتحدث إلى نفسه بصوت مسموع بعد أن غابت الفتاة:
- إذا كنت في المريخ فعليك أن تفعل مثل المريخيين.
كان يظن أنه سيكون وحده في هذا المجمع في ذلك الوقت من الشتاء، وهو ما أخبره به بالفعل رجلا الأمن المرتابين على مدخل المجمع ... ففي هذا الجو البارد يزهد أصحاب هذا المكان فيه ويتخذون من مشاتي الجنوب الدافئة ملجأ لهم ... ورغم أن تلك الفتاة الشابة تبدو في بدايات العقد الثالث من عمرها، وهذا يجعلها تصغره بعشرة سنوات، إلا أن وجود أناس آخرين في هذا المكان يكسبه روح وحيوية يفتقدهما رغم فخامته، وهذا سيجعل عطلته أفضل بالتأكيد.
أنهى إفطاره، وحمل لوحاته وألوانه وتوجه إلى الشاطئ ... اختار بقعة مميزة ثم ثبت حامل اللوحات ليكون مواجها لمنظر طبيعي يعرض صف من أشجار النخيل ومن خلفها يمتد الشاطئ الرملي حتى يعانق ماء البحر والسماء ... مرت عليه ساعتين وقد اندمج في عمله حتى غاب فيه تماما، كان يحرك فرشاته بحرفيه على النسيج رغم كونه هاوي، حتى بدأت تتشكل الخطوط الأولية للوحة.
- رائع ... أنت فنان إذا؟
كان ذلك هو صوت نفس الفتاة التي بادلها (الهاي) في الصباح، كانت تقف وراء ظهره تنظر إلى لوحته من فوق كتفه في فضول ... أعادته تلك الملاحظة إلى عالم الواقع، فالتفت إليها وحدق فيها بدهشة ... كان أول ما لاحظه هو أنها ترتدي ثوب سباحة قصير وقد تبلل جسدها وشعرها بماء البحر، وهذا بعث في جسده قشعريرة، فالجو كان بارد للغاية حتى أنه أرتدي (بول أوفر) ثقيل فوق القميص حتى يتقي من لسعة البرد ... قال لها بلهجة مستنكرة:
- هل كنت تسبحين في هذا الجو؟
أشار بيده إلى البحر الذي كان موجه هائجا، مرتفعا، يضرب الشاطئ بقوة فيصدر عنه صوت عال، منذر، قادر على إخافة أشجع السباحين ... أجابته ببساطة:
- البحر رائع ... هيا، تعال معي سنستمتع كثيرا.
تحركت ناحية البحر، وأشارته له بيدها بحماس ليلحق بها، فأجاب بسرعة:
- في هذا البرد !؟
- الماء دافئ ... هيا لا تكن كسولا.
أشاح لها بكلتا يديه، وهو يقول بلهجة معتذرة:
- عذرا، لست مستعدا هذه المرة ، ربما في المرة القادمة.
ثم عاد إلى لوحته وتشاغل بها لثانيتين، وعندما لم يتلق رد من الفتاة، تحول إليها فوجدها قد اختفت تماما ... شعر بدهشة شديدة، لقد اقتربت منه في البداية دون أن يشعر بها، وها هي تختفي في ثانية دون أن يدري أين ذهبت ... هل تكون عادت إلى البحر؟ ... أخذ يبحث داخل البحر فلم يلمح لها أثرا فيه ... قال مخاطبا نفسه بصوت منخفض:
- عجيب أمر هذه الفتاة!
***
رن جرس الهاتف بإلحاح في منزل الدكتور (محمد السيد) عالم الأحياء البحرية، فأطلق سبة قصيرة في حق هذا اللعين الذي يتصل في هذا الوقت المبكر من يوم عطلته الأسبوعية، ثم تقلب في فراشه وتصنع أنه لا يسمع ذلك الجرس، على أمل أن ييأس المتصل أو أن تنهض زوجته الدكتورة (سلمى) عالمه الآثار التي كانت تنام بجانبه في الفراش وتخاطرها الفكرة نفسها في هذه اللحظة ... توقف الرنين للحظات ثم عاد مرة أخرى أكثر إلحاحا، من الواضح أن المتصل لن ييأس!.. تنهدت الدكتورة (سلمى) وقالت بصوت متثائب:
- (محمد) ... الهاتف ... أعرف إنك مستيقظ!
- لا أنا نائم!
- هيا ... قد يكون أمرا هاما.
- كيف عرفت أنني مستيقظ؟
- أنا زوجتك وأعرف كل حيلك.
نهض الدكتور (محمد) وهو يترنح من أثر النوم، ويتمتم بكلمات غير مفهومة ... غاب في الخارج لدقائق، ثم عاد يجري منفعلا وهو يصرخ بحماس ونشوة:
- إنه يحدث الآن ... لقد بدأت دورتها االخمسينية!
فزعت الدكتورة (سلمى) من صراخ زوجها وانفعاله، حاولت أن تستجمع شتات ذهنها لتفهم ما يقوله فلم تستطع، فسألته:
- من كان المتصل؟
- إنه الشيخ (عرفان)!
- من الشيخ (عرفان)؟
- الشيخ (عرفان) من قرية الصيادين.
تنبهت حواسها مرة واحدة وهي تقول:
- هل تقصد؟
- أجل ... إنه يحدث الآن ... وهناك بالفعل حوادث اختفاء.
نهضت من فراشها وقد انتقلت حماسته وانفعاله لها وهي تقول:
- إذا علينا أن نتحرك بسرعة وإلا ضاعت مننا الفرصة.
***
دارت الطائرة المروحية حول المنصة البحرية مرتين ثم حطت في منتصف تلك الدائرة السوداء الموجودة على سطحها، خرج منها رجل ذو جسد رياضي يرتدي حلة رمادية أنيقة، تحرك في خطوات واثقة، رغم هواء المروحيات القوي الذي كان يدفعه للأمام ويطيح بشعره وثيابه وضجيجها الذي يكاد يمزق طبلتي أذنه ... تقدم منه مستقبله الوقور الذي يرتدي (أفرول) أزرق اللون، مد يده ليصافحه، وهو يقوله:
- المقدم (علي ناصر) ... مفتش مباحث.
- المهندس (عبدالله عبدالقادر) مدير المحطة.
أشار له المهندس (عبدالله) بيمناه بطريقه مرحبة وأن لم تخل من القليل من العصبية، واصطحبه إلى غرفة مكتبه، وأجلسه على مقعد وثير وجلس هو على المقعد الذي يقابله في إشارة مرحبه أخرى بعيدا عن مكتبه الخشبي الأنيق وطاوله الاجتماعات المعدنية الصغيرة التي اكتظت بالخرائط واللوحات ... وقال:
- ماذا أطلب لك؟ شاي ... قهوة؟
قال المفتش (علي) بلهجة عملية:
- لا شئ ... سيكون أفضل أن نبدء التحقيقات فورا.
أومأ المهندس (عبدالله) برأسه متفهما، وهو يقول:
- معك حق ... فاختفاء ثلاثة من العاملين على منصة لاستخراج البترول في وسط البحر في أسبوع واحد ... ليست شيئا هينا.
- بالضبط.
صمت للحظة، ثم قال بلهجة حزينة:
- اعتقد أنهم يفكرون في إيقاف العمليات لحين التأكد من عدم وجود خطر على باقي أفراد الفريق، ولكنهم يرجئون اتخاذ القرار لحين انتهاء التحقيقات.
وقف المفتش (علي) وتحرك ناحية النافذة الدائرية، وأخذ ينظر عبر زجاجها إلى البحر الممتد أمامه إلى مالا نهاية، قبل أن يقول:
- لهذا أريد أن استفيد من كل ثانية ... أريد مقابلة زملاء المفقودين والمقربين منهم، أريد مقابلة كل من شاهد شيئا أو يملك دليل ... أريد ذلك فورا.
ساعات طويلة قضاها المفتش (علي) بحضور المهندس (عبدالله) في التحقيق مع أفراد الفريق وحصر أقوالهم، وكانت النتيجة مخيبة للأمال، فالمعلومات التي حصل عليها منهم لم تزد كثيرا عما أخبره به رئيسه، وهو يطلب منه التوجه إلى تلك المنصة للتحقيق في الأمر ... قال المفتش (علي) وهو ينظر إلى المهندس(عبدالله)، رغم أنه كان يخاطب نفسه في تلك اللحظات:
- يمكننا أن نلخص الأحداث كما يلي ... أول حادثة اختفاء كانت لأحد المهندسين، وحدثت منذ أسبوع تقريبا، أما الثانية والثالثة فكانت لعاملي صيانة، بفارق يومين بين كل حادثة والتي تليها ... لا يوجد أي آثار، لا يوجد شبهة لعمل إجرامي فجميعهم كانوا محبوبين بين رفقائهم ولا يوجد خلاف بينهم وبين آخرين ... معلومة واحدة جديدة أضافها أحد أفراد فريق العمل، الذي تصادف وجوده على سطح المنصة في الليلة التي اختفى فيها العامل الثالث، هي أنه سمع صرخة من ناحية مرفأ القوارب وصوت سقوط في الماء وعندما ذهب ليستطلع الأمر لم يجد مايريب، حتى عرف في اليوم التالي باختفاء زميله ...
زفر المفتش (علي) بضيق، وقال موجها حديثه إلى المهندس (عبدالله) في هذه المرة بالفعل:
- هل هناك المزيد من الشهود؟
- هناك واحد أخير ... ولكن ...
- ولكن ماذا؟
صمت للحظة ثم قال:
- ولكنه على شئ من الخبال ... لا يحمل أحد منا رواياته على محمل الجد ... بل نعتبرها حواديت وقصص، نسخر منها ونزجي بها الوقت.
- وما هو عمله؟
- إنه كبير الطهاة لدينا هنا، وهو شخص محبوب ومجيد لعمله ... كما أنه من أهل هذه المنطقة، فقريته هي أقرب قرية ساحلية من موقعنا هذا ...
- حسنا، اجعله يدخل.
تحرك المهندس (عبدالله) نحو باب الغرفة وفتحه وأشار بيده للواقف في الخارج بالدخول ... دخل الغرفة رجل مسن يحمل ملامح مريحة وشعرا بلون القطن، يرتدي ملابس الطهاة ويسير بخطوات بها عرجة خفيفة ... عندما وقع بصره على المفتش بادره قائلا:
- أنا أعرف ماذا حدث لهم.
ابتسم المفتش (علي) وهو يتذكر وصف المهندس (عبدالله) لهذا الرجل بالخبال، قبل أن يقول:
- وماذا حدث؟
- خطفتهم عروسة البحر ... مساكين ... لقد أغوتهم اللعينة، ثم أغرقتهم في ماء البحر عندما حاولوا اللحاق بها.
.. (انتهى الجزء الأول ويليه الجزء الثاني) ..
قصة رعب قصيرة بعنوان ... (عروسة البحر – الجزء الثاني)
أشار له المفتش (علي) بالجلوس، ثم سأله:
- دعني أعرف اسمك وعملك أولا.
- الشيف (عيد بكر)، كبير الطهاة.
- وهل لديك دليل على ما تقول؟
توقف الرجل وهو ينقل ناظريه بين المفتش (علي) والمهندس (عبدالله)، قبل أن يقول بصوت هادئ:
- يابني، أنا من سكان قرية الصيادين وهي تبعد خمسة أميال فقط عن موقعنا هذا، وأهل القرية جميعهم يعرفون من هي عروسة البحر.
سأله المفتش (علي) ببساطة:
- من هي؟
حدق الرجل فيه وجهه للحظة، ثم قال:
- لا أعرف متى بدأت تلك القصة، ربما من مئات السنين وربما أكثر من ذلك، ربما بدأت من عصر الفراعنة، ولكنها قصة حكاها لنا الأجداد الذين شهد بعضهم على أحداثها، وننقلها بدورنا إلى أحفادنا، وهكذا في دورة لا تنتهي.
توقف الرجل للحظة ليلتقط أنفاسه، فحثه المهندس (عبدالله) على الاسترسال بحركة عصبية من يده، فشعر الرجل بتوتر، فطمئنة المفتش (علي):
- لا يوجد مشكلة، يمكنك أن تأخذ كل الوقت الذي تحتاجه.
- عروسة البحر هي مخلوق يعيش في أعمق أعماق البحر، حيث لا يمكن للبشر أو لأي شئ صنعه البشر أن يصل ... المشكلة هي أنها تصعد للسطح مرة واحدة فقط كل خمسين عام، تقوم فيها بالصيد لمدة أسبوعين، ما بين اكتمال القمر في السماء وحتى اختفاءه ...
- وماذا تصطاد؟
أجاب الرجل بانفعال شديد:
- الرجال.
ثم أردف بنفس العصبية:
- إنها تصطاد الرجال وبخاصة الشباب ... فهي تظهر لهم على الشاطئ في صورة أمرأة فاتنة، فتغويهم وتدعوهم للنزول معها إلى الماء، عندها تتحول إلى حقيقتها كوحش مرعب متعطش للدماء، فتسحبهم معها إلى تحت الماء وتغرقهم.
قال المهندس (عبدالله) في عدم اقتناع:
- وماذا ستفعل بهم بعد ذلك؟
- لا أحد يعلم ... في الواقع لم يعد أحد منهم أبدا ليحكي ما حدث ... قد يعثرون فقط على بعض ثيابه أو متعلقاته، أما صاحبهما فلا يعثرون عليه أبدا، ولا على جثته.
سأله المفتش (علي):
- وهل شهدت على بعض تلك الأحداث بنفسك؟
- أجل ... كنت حينها مراهقا شابا عندما منعني والدي من الذهاب للبحر وطالبني بالبقاء في المنزل لأسبوعين ... وسمعته يتحدث لأمي عن اختفاء أحد الصيادين، وعن أنهم سمعوا صوتها يأتي من داخل البحر.
- وهل حاولتم مطاردتها؟
- لا ... علمنا الأجداد أن نبقى في بيوتنا حتى يختفي القمر في السماء، فلا نخرج منها بعد الغروب ولا نقترب من الشاطئ حتى تنتهي الأزمة وتعود اللعينة من حيث جاءت.
توقف للحظة كأنه يتذكر شيئا، ثم قال:
- البعض كان يدعي أنها قادرة على الخروج من البحر والابتعاد عنه لمسافات طويلة والسير بين الناس في القرى والأسواق، فكان الرجال يرونها كإمرأة فاتنة، أما النساء فكانت لديهن مناعة، كن يرونها قبيحة كأنثى القرد ... ولكن لا يوجد ما يؤكد ذلك!
انتهى الرجل من روايته، فتوقف عن الحديث وهو يلهث من فرط الانفعال، ويترقب رد فعل المفتش (علي) على روايته ... نهض المفتش من مقعده وأخذ يسير في الغرفة مفكرا، قبل أن يسأل الرجل:
- وما الذي يجعلك تظن أنها عادت الآن؟
أجاب الرجل بسرعة، كأنه كان ينتظر هذا السؤال:
- لقد سمعتها ... سمعت صوتها أكثر من مرة هنا على المنصة في الليالي الفائتة!
***
كان (سامح) يجلس على الأريكة ممددا قدميه على الطاولة أمامه، وهو يتابع بعض البرامج المملة على التلفاز في انتظار أن يسخن طعام العشاء الذي وضعه على الموقد، أخذ يضغط أزرار (الريموت) في ملل ليتنقل بين القنوات دون أن يجد ما يجذب انتباهه ... فجأة وصل إلى مسامعه صوت يأتي من ناحية الحديقة، صوت خطوات خافتة، كأن صاحبها يحاول التسلل إلى المكان ... نهض (سامح) وتحرك بحذر حتى وصل إلى باب الشاليه ووقف خلفه ينصت للحظات، كان الصوت قد توقف تماما، فتح الباب مرة واحدة فلم يجد أحدا، بحث في الشرفة وجال بنظره في الحديقة للحظات ثم قرر العودة إلى الشاليه، وطأت قدمه بقعة كبيرة من الماء كانت تغرق ملاط الشرفة، فتنبه إلى أنه لم يكن يرتدي في قدميه إلا الجورب الذي ابتل تماما، قفز بعيدا عن بقعة الماء وهو يتمتم:
- اللعنة ... من أين جاء هذا الماء؟
خلع الجورب وألقاه في حوض الغسيل وتوجه إلى المطبخ ليتأكد أن الطعام العشاء لم يحترق بعد ... بالتأكيد يحتاج هذا البرد إلى حساء ساخن، من حسن حظه أنه يعشق الحساء ويجيد صنعه بمائة طريقة مختلفة، سيكون حساء الدجاج هو الخيار الأفضل في هذه الليلة الباردة ، أخذ يقلب الحساء في الآنية ويضيف إليه القليل من التوابل والملح، ويتذوق، ثم يثني على براعته ... فكر أنه يحتاج الآن إلى جلب بعض الخبز لتسخينه، لقد ترك كيس الخبز هناك على ذلك النضد الموجود أسفل الشباك الذي يطل على الحديقة الخلفية ... الشباك الذي تقف تلك المرأة خارجه، تتابعه عبر زجاجه الشفاف بنظرات غريبة ... وقع نظره عليها أثناء عودته بعد أن التقط الكيس، لم ينتبه في البداية، وعندما تنبه وارتد إليها كانت قد اختفت، ألقى كيس الخبز وانطلق إلى الخارج، ولم ينس أن ينتعل حذاءه في الطريق، دار حول الشاليه وبحث عن تلك المرأة في الحديقة الخلفية ولكن دون جدوى، تنهد وهو يقول:
- ما هذا العبث؟
حاول أن يتذكر ملامح تلك المرأة ولكنه لم ينجح، كل مايذكره أنها امرأة، وهناك شئ غريب وغامض بخصوص نظراتها ... جال بخاطره أنها قد تكون تلك الفتاة العابثة التي رآها في الصباح، وشعر أنها تحاول التلاعب به، فقرر أن يتوجه إلى الشاليه المجاور الخاص بها ويعاتيها، ولو وجد أحدا من أهلها سيعاتبه أيضا ولكن بلهجة رقيقة، مهذبة، فمن يدري فقد يكون أباها وزريرا أو أمها سفيرة! ... وصل إلى الشاليه فكان النور مغلقا ولا يوجد أي أثر لقاطنيه، عبر الحديقة حتى وصل إلى الباب الداخلي ففاجآه وجود قفل خارجي على الباب ... لاحظ أيضا أن الشرفة والممر في الحديقة يغطيهما الغبار، شعر بالدهشة، فمن الواضح أن هذا الشاليه خال منذ شهور ... هو ظن أنه رأى تلك الفتاة تخرج من هذا الشاليه في الصباح، من الواضح أنه مخطأ، بالتأكيد هي تقطن في مكان آخر وهو اختلط عليه الأمر كعادته ... تحرك عائدا إلى الشاليه الخاص به، وما أن دخل الحديقة حتى شعر بحركة خلفه، فالتفت بسرعة ...
***
قضى المفتش (علي) يومه في إجراء المزيد من التحقيقات، قام بتفتيش غرف المختفين وبحث في متعلقاتهم، أعاد استجواب بعض الشهود، أخذ يراجع بعض التقارير التي أرسلت إليه (بالفاكس) والتي جمعها المخبرون من أهل المختفين وجيرانهم في مناطق سكنهم، حتى حل المساء، فقاده المهندس (عبدالله) بعد تناول العشاء إلى غرفته في طوف الإعاشة الملحق بالمنصة البحرية والمتصل بها عن طريق جسر معدني قصير، والذي به أماكن النوم والإقامة ... طلب منه المهندس (عبدالله) أن يرتاح حتى الصباح فقد كان يومه مرهقا، ولكن كعادته عندما يعمل على جريمة غامضة كان النوم أو الراحة غايتان يصعب تحقيقهما، لذا جلس على الفراش وأخرج رزمة من الأوراق، وأخذ يخط عليها بقلم من الرصاص بعض الكلمات والملاحظات التي أثارت انتباهه اليوم، ويوصل بينها بخطوط رأسية وأفقية وأسهم ويحد بعضها بالدوائر أو يظلل تحتها، كانت تلك هي طريقته في التفكير والتحليل ...
كانت الليلة قد اقتربت من الانتصاف عندما قرر الصعود إلى سطح المنصة ... كان الجو شديد البرودة، والقمر هلاله نحيل يكاد لا يضئ المكان، وكانت الريح قوية، صاخبة، تدفع الماء ليصطدم بأعمدة المنصة بصوت هادر، أخبره المهندس (عبدالله) أن سرعة الرياح في تلك المنطقة تصل إلى ثلاثين عقدة، وهي ريح قادرة على أن تطيح بالمعدات وبالبشر ... فكر أنه سيكون من الأفضل له أن يعود لغرفته الآن بدلا من أن يصاب بنوبة برد أو تتجمد أطرافه أو يجد نفسه في وسط البحر بعد أن تطيح به الرياح ... فجأة وصل إلى مسامعه ذلك النحيب ... في البداية ظن أنه صوت صفير الرياح، ولكنه استطاع تمييز صوت البكاء والنحيب بوضوح مختلطا به ... كان الصوت لإمرأة تبكي وتنتحب في مرارة، وكان الصوت يعلو وينخفض ويهتز تردده مع الريح ... شعر بالتوتر وبالقشعريرة الباردة تسري على عمودة الفقري وأطرافه ... أفكار كثيرة تصطرع داخل عقله الآن، قبل أن تسيطر عليه فكرة واحدة، نطق بها لنفسه بصوت منخفض:
- من أين يأتي صوت تلك المرأة النائحة على منصة بحرية في وسط البحر يعمل عليها الرجال؟ ... الرجال فقط!
دفع التوتر والأفكار جانبا ... تحسس بأصابعه المسدس المعلق في صديريته الجلديه، شعر بالقليل من الاطمئنان، ثم بدأ يلاحق مصدر الصوت ... لم تكن المهمة سهلة فهو ليس خبيرا بتلك المنصة البحرية وممراتها المتشابكة ... كان يسير في الطريق الذي يقربه من الصوت قبل أن يجده مغلقا، فيضطر إلى العودة بحثا عن طريق آخر ... في النهاية قادته قدماه وأذناه حتى مرفأ القوارب، وأدرك أنه في الطريق الصحيح فقد كان الصوت قريبا للغاية، وكأن صاحبته تنتظر على رصيف المرفأ ... بدأ يهبط الدرج المعدني عندما قبضت تلك اليد الخشنة على كتفه ...
- لا تذهب يابني.
كان ذلك هو كبير الطهاة العجوز، قبل أن يردف:
- إنها هي ... هذا صوتها!
- كنت أظن أن صوتها هو الغناء العذب الذي يغوي الصيادين، هكذا كنا نسمع في قصص الأطفال.
- لا ... صوتها هو صوت النحيب والبكاء، هكذا علمنا أجدادنا ... لا شئ يغوي الرجل ويدفعه للاقتراب أكثر من بكاء امرأة.
أومأ المفتش (علي) برأسه متفهما، ثم أزاح يده الممسكة بكتفه بهدوء، وهو يهبط الدرج ويقول:
- إذا دعنا نرى شكلها.
حاول كبير الطهاة العجوز حثه على البقاء ولكنه لم يفلح، فاضطر إلى ملاحقته ... كان الصوت قد انقطع، أخرج المفتش (علي) مسدسه وأخذ يصوبه يمينا ويسارا وهو يفحص الرصيف والقوارب المرتبطة به، قبل أن يقول:
- لا شئ.
أجابه الطاهي العجوز وهو يزفر بارتياح:
- لقد رحلت.
ثم أشار إلى القمر، وهو يردف:
- ليلة الغد هي ليلتها الأخيرة، لن يكون علينا أن نقلق بشأنها من جديد إلا بعد خمسين عاما أخرى.
كان المفتش (علي) عائدا إلى غرفته عندما دق جرس هاتفه المحمول، فاستمع إلى محدثه للحظات ثم قال بفضول:
- أين وجدوها؟
استمع للحظات أخرى، ثم قال بحسم:
- حسنا، سانتقل غدا صباحا إلى هناك لمتابعة الأمر.
***
عندما شعر (سامح) بحركة خلفه، التفت بسرعة، ففزع للحظة عندما رأى أحد رجلي الأمن المرتابين اللذان قابلاه على مدخل المجمع، ولكنه تماسك بسرعة وهو يقول بلهجة حازمة:
- خير ... ماذا تريد؟
بدت نظرة حيرة على عيني رجل الأمن وهو يقول:
- هل رأيت زميلي؟
- لا.
زفر رجل الأمن بإحباط، ثم استدار ليرحل، فاستوقفه (سامح)، وهو يقول:
- هل هناك ما يسوء؟
- أجل ... زميلي ذهب في جولة روتينية بالأمس في المجمع، ولم يعد بعدها، ولم يأت أيضا في الصباح ... وسألت أهله عنه فلم يعرف أحد منهم طريقه.
حاول (سامح) طمأنته وهو يقول:
- لا تقلق ... بالتأكيد سيظهر في أقرب وقت ... الغائب حجته معه.
أومأ رجل الأمن برأسه، فوجدها (سامح) فرصة مناسبة فسأله:
- أريد أن أسألك عن فتاة من سكان هذه الشاليهات، فتاة شابة نشطة في العشرينات.
أجاب الرجل ببساطة:
- لا يوجد أي فتاة في المجمع في هذه الفترة.
ثم أشار إلى الشاليه، وهو يردف:
- أنت القاطن الوحيد فيه الآن.
.. (انتهى الجزء الثاني ويليه الجزء الثالث) ..
قصة رعب قصيرة بعنوان ... (عروسة البحر – الجزء الثالث)
ما لا يعرفه (سامح) أنه في الليلة الماضية بعد وصوله، أخذ رجلا الأمن المرتابين يتحدثان عن تلك الأشكال الغريبة التي أصبحت تزور المجمع في الفترة الأخيرة، وأنه لو استمر أصحاب الشاليهات في التساهل مع تلك الفئة من البشر والسماح لهم بالإقامة فيه سيتحول إلى (جمصة) أو (بلطيم) في غضون سنوات، ورغم أنهما ينتميان إلى نفس الفئة التي يتحدثان عنها بالسوء إلا أن ذلك لم يمنعهما من إبداء ذلك الامتعاض، وكأن عملهما ليس في حراسة المجمع ولكن في حراسة ذلك الخط الحائل بين العامة وبين طبقة المنعمين في بحور الثراء والرفاهية ... حتى أن أحدهما أعاد الاتصال بمالك الشاليه للتأكد مرة أخرى من موافقته (لسامح) على الإقامة فيه، وعندما أجابه المالك بالموافقة، طلب منه أن يصف له ملامح (سامح) وأوصافه وكأنه يتمنى أن يكون ذلك الذي دخل المجمع منذ دقائق هو شخصا آخر ينتحل شخصيا (سامح)، حينها يمكنه أن يقبض عليه ويطرده خارج جنة المجمع، وفي النهاية عندما تيقن من أن (سامح) هو (سامح)، أعلن لصاحبه في ضيق أنه ذاهب في جولة تفحصية.
قادته قدماه بالطبع إلى الشاليه الذي يقيم فيه (سامح) والذي كانت أنواره مطفأة، يبدو أن قاطنه قد أفرغ حقائبه ونام بعدها مباشرة متأثرا بإرهاق السفر ... فجأة لفت انتباهه حركة في الحديقة، بالفعل هناك شخص في الحديقة يتحرك حركات مريبة، يقترب من خصاص الأبواب ومن زجاج النوافذ الشفافة وينظر منها إلى داخل الشاليه ... اقترب رجل الأمن أكثر وتربص وراء بعض الشجيرات منتظرا اللحظة المناسبة للهجوم على ذلك المتلصص الذي تبين أنه امرأة على درجة عالية من الجمال.
توقفت تلك المرأة للحظة وأخذت تنظر حولها وتتشمم الهواء، ثم ثبتت ناظريها على تلك الشجيرات التي يختفي وراءها رجل الأمن، ثم بدأت تتوجه إليها ... وعندما أصبحت في مواجهته أشارت له ليخرج، فخرج من وراء الشجيرات وقد اتسعت عيناه من جمال تلك المرأة وفتنتها، قبل أن يقول بصوت متلعثم:
- من ... من أنت؟
لم ترد المرأة ولكنها تجاوزته وهي تمضي ناحية الشاطئ بدلال ... ملأ أنفه أريج غامض، جذاب ينبعث منها، فوجد نفسه يسير وراءها كالمسحور.
***
بعد المكالمة الهاتفية التي تلقاها المفتش (علي) بالأمس، توجه إلى نقطة شرطة قرية الصيادين فاستقبله الظابط الشاب مرحبا، وأخذ يتبادل معه بعض الأحاديث الودية، وطلب من العامل جلب كوبين من الشاي، ثم توجه إليه قائلا:
- لم أتصور كل هذا الاهتمام من القيادة عندما أرسلت لإجراء بعض التحريات الروتينية عن المهندس صاحب الحافظة الجلدية التي عثرنا عليها.
- إنها قضية حساسة للغاية.
- هذا ماتوقعته عندما أخبروني بحضورك اليوم.
رشف المفتش (علي) رشفة من كوب الشاي، ثم وضعه فوق الصفحة على الطاولة أمامه، وهو يقول:
- أين وجدتم تلك الحافظة؟ وهل وجدتم معها أي متعلقات أخرى للمهندس أو لغيره؟
- وجدها أحد الصيادين بعد أن ألقاها البحر على الشاطئ، وبعد أن أتلفت مياة البحر كل الأوراق التي كانت فيها، ما عد بعض البطاقات البلاستيكية، ومنها بطاقة الرقم القومي خاصته.
توقف للحظة، ثم أردف:
- لم نجد معها أي متعلقات أخرى، ومن الواضح أن صاحبها لم يفقدها بسبب السرقة، فقد كانت ممتلئة بأوراق نقدية تحولت إلى عجين بسبب ماء البحر.
ناوله الحافظة الجلدية، وهو يقول:
- بالطبع لم نحاول أن نستخرج أي بصمات من عليها ... أنت ترى حالتها.
التقطها منه المفتش (علي)، وأخذ يتفحصها بدقة، ثم ألقاها أمامه وهو يفكر ... إذا كان المهندس غرق عند المنصة البحرية، فهل من الطبيعي أن تظهر حافظته الجلدية على الشاطئ على مسافة خمسة أميال كاملة؟ ... احترم الضابط الشاب صمته ولم يحاول مقاطعة تفكيره، حتى قال المفتش (علي):
- هل يمكنني مقابلة هذا الصياد؟
- لا يوجد مشكلة، هو في الخارج من الصباح الباكر ... توقعت أن تطلب مقابلته.
ضغط على زر جانبي، فدخل الجندي الذي كان يقف أمام الباب، وأدى التحية العسكري، فبادره:
- أدخل عم (منصور).
دخل الرجل الغرفة بقدمين مرتعشتين، ووجه يشبه وجه فأر وقع في المصيدة ... من الواضح أنه يشعر بندم شديد على أمانته وتسليمه للحافظة الجلدية التي عثر عليها إلى نقطه الشرطة، لو عاد به الزمن لتجاهل وجودها تماما أو دسها في التراب ليقي نفسه وغيره شرها ... لاحظ المفتش (علي) ذعر الرجل فحاول طمأنته وهو يقول:
- لا تقلق يا عم (منصور)، سأسألك سؤال واحد وبعده يمكنك أن تذهب إلى دارك.
- تفضل يا (باشا).
- أين وجدت تلك الحافظة؟ ... بالضبط.
تزايد ذعر الرجل وهو ينظر إلى الضابط الشاب بطرف عينه، فأومأ له برأسه ليتكلم، فقال:
- لقد وجدتها على أطراف المجمع السياحي المجاور للقرية.
حدقه الضابط الشاب بنظرة مستنكرة، فقال الرجل بلهجة معتذرة وصوت مرتعش:
- أعرف أنه غير مصرح لي بالصيد أو الذهاب هناك ... ولكن السمك لا يعرف ذلك ويصر دائما على التواجد في تلك المنطقة وبكثرة.
ابتسم المفتش (علي)، على تعليق الرجل المذعور الذي خلطه بدعابه في محاولة لتخفيف وطأة فعلته لدى الضابط ... فقال:
- لا يوجد مشكلة هذه المرة ... يمكنك أن ترحل ياعم (منصور).
ثم التفت إلى الضابط الشاب وهو يلتقط الحافظة الجلدية من أمامه، وينهض عن مقعده، وهو يقول له بجدية:
- أريدك أن ترسل معي من يدلني على مكان ذلك المجمع.
- تمام يا (أفندم).
***
- (هاي).
- أنت مرة أخرى ... توقفي أريد أن أتحدث إليك.
كانت الفتاة الشابة تخرج من الشاليه المجاور في طريقها لممارسة رياضة الجري كعادتها كل صباح وألقت التحية على (سامح)، فاستوقفها هذا الأخير ... اقتربت منه بخطوات نشيطة، فبادرها قائلا:
- من أنت؟
قالت ببساطة:
- أنا (حسناء).
نظر إلى ذلك الجمال والحسن الطفولي على وجهها، ثم قال:
- أعرف ... ولكن ما اسمك؟
ابتسمت برقة وهي تقول:
- (حسناء) ... اسمي (حسناء).
أومأ برأسه متفهما:
- من أين أتيت؟
وقبل أن ترد أشار لها بيده محذرا، وهو يردف:
- ولا تكذبي علي، فأنت لا تقطنين في الشاليه المجاور، بل أنت لا تقطنين في هذا المجمع من الأساس ... من أين أتيت؟
ابتسمت ابتسامة عريضة:
- أنا لا أقطن في الشاليه المجاور بالفعل، أنا فقط أمر من حديقته أثناء الجري.
- إذا أين تقطنين؟
أشارت بسبابتها ناحية البحر، وهي تزوغ منه وتبتعد لمواصلة رياضة الجري، فصرخ عليها:
- ولكني أريد أن أعرف.
- عندما نتقابل في المرة القادمة ... ستعرف
- وأين أجدك؟
- قابلني عند (البرجولة).
***
توقف ذلك المركب على مسافة ميل واحد من الشاطئ وألقى مرساته ... أخذ الموج يتلاعب به يمينا ويسارا كأنه دمية صغيرة ... لم يكن مركبا ضخما مثل تلك اليخوت الفخمة التي يملكها الأثرياء ويتخذون منها مكان للهو ووسيلة للسفر وللاحتفالات الصاخبة ... كان مركب أبحاث صغير بمحرك ديزل بسيط ونظام شراعي للملاحة الطويلة ... فيه مكان يصلح لمبيت أسرة صغيرة، إضافة إلى غرفة مجهزة بالآلات الحديثة والحواسيب وأجهزة (السونار) والاتصالات وأجهزة الأقمار الصناعية ... عكف الدكتور (محمد السيد) على تلك الأجهزة يسجل منها بعض القراءات والأرقام ويمليها على الدكتورة (سلمى) فتسجلها بعلامات على الخريطة المفرودة على طاولة في منتصف الغرفة، قال الدكتور (محمد):
- هذه آخر قراءة.
ثم اقترب منها وهو ينظر معها إلى العلامات التي وضعت على الخريطة، فقالت له وهي تشير بسبابتها إلى على الخريطة:
- هذه هي المنصة البحرية التي حدثت فيها معظم حوادث الاختفاء، وهذه هي الأماكن التي سمع فيها بعض الصيادين صوتها، وهذه هي الأماكن التي عثرنا فيها على بعض آثارها.
توقفت لحظة وهي ترسم دائرة على الخريطة، وهي تردف:
- إنها تتحرك في دائرة قطرها خمسة أميال.
أشار الدكتور (محمد) إلى نقطتين على الخريطة:
- منطقة عملياتها تتركز مابين المنصة البحرية، وقرية الصيادين.
وافقته الدكتورة (سلمى) وهي تضيف:
- وذلك المجمع الصغير الذي يجاور قرية الصيادين.
ثم تحركت ناحية براد صغير في ركن من الغرفة، وجلبت منه زجاجتي عصير، ألقت بواحدة منهما إليه وهي تلقي بنفسها على الأريكة، وهي تقول:
- نحن قريبان من نجاح علمي غير مسبوق.
أومأ برأسه وهو يقول:
- بالفعل ... ولكن إذا كانت أسطورة الصيادين صحيحة فعلينا أن نصل بسرعة، وإلا سيكون علينا أن ننتظر خمسين عاما أخرى.
ألقى بنفسه على الأريكة إلى جوارها، فقالت له:
- خمسون عاما، ستمر سريعا وأنت معي يازوجي الحبيب.
ابتسم وهو يداعب كفها بين أصابعه، وعقله منشغل بشئ آخر ... شئ يأتي من أعماق البحر، شئ أقرب للأسطورة منه للحقيقة ... فجأة انبعث ذلك الطنين المتقطع من جهاز السونار، فقز الدكتور (محمد) إلى الجهاز ولحقت به الدكتورة (سلمى)، قبل أن يقول الأول وهو يحدق في الجهاز بظفر:
- إنها هي.
- قد يكون قرش أو (دولفين).
- من الوارد ... ولكن نمط الحركة وسرعتها يختلفان.
- أين تتجه؟
حدق في الجهاز لثانية، ثم نظر إليها وقد اتسعت حدقتاه:
- إنها تقترب منا.
صرخت فيه وهي تتحرك بسرعة:
- إطفئ النور، واجلب الكاميرا، وبندقية التخدير.
مرت عليهما لحظات من التوتر والترقب، كانا يراقبان فيها ذلك المخلوق وهو يقترب من المركب حتى أصبح تحتها تماما كما يشير جهاز السونار ... تحولا إلى نافذة الغرفة الزجاجية ووقفا يراقبان في ظلامها سطح المركب، لحظات أخرى حتى ظهرت تلك المرأة وهي تصعد السلم الجانبي، قبل أن تتوقف فوق السطح تتشمم الهواء وتنظر حولها، قال الدكتور (محمد) بصوت متهدج:
- إنها جميلة جدا!
نظرت له الدكتور (سلمى) باستنكار:
- جميلة!!... إنها قبيحة كالشياطين!
تكورت تلك المرأة على نفسها في عند سور المركب، ثم أخذت تنتحب وتبكي بصوت يمزق نياط القلوب ... همست الدكتورة (سلمى) وهي تتحرك للخارج وفي يدها الكاميرا:
- هيا بنا إنها فرصتنا، ستطلق أنت أسهم التخدير وسأصورها أنا.
خرجت من الغرفة وتوجهت بخطوات متحسبة، قبل أن تتوقف على بعد خطوات، وهي تهمس:
- هي أطلق أسهم التخدير.
لم تتلق إجابة من زوجها، فكررتها مرتين قبل أن تنتبه إلى أن زوجها قد تجاوزها وهو يقترب من تلك المرأة المنتحبة وهو يسير بخطوات ميكانيكية كالزومبي، ودون أن يكون في يده بندقية التخدير من الأساس ... صرخت فيه الدكتورة (سلمى) صرحة مدوية:
- حذار!
ثم ضغطت زر الكاميرا فلمع الفلاش وأضاء الليل المظلم، وفي لحظة واحدة انتصبت تلك المرأة المنتحبة وقفزت في الماء وسبحت بعيدا بسرعة كبيرة ...
.. (انتهى الجزء الثالث ويليه الجزء الرابع والأخير) ..
قصة رعب قصيرة بعنوان ... (عروسة البحر – الجزء الرابع والأخير)
مشاعر غريبة حركتها تلك الفتاة (حسناء) في باطن (سامح)، بحيويتها، وروحها الساخرة، وغموضها ... لقد ظن بعد تلك الحادثة الأليمة التي فقد فيها حبيبة عمره قبل أيام من زواجهما أنه لن يكون قادرا على استعادة تلك المشاعر مرة أخرى ... صار جافا، حاد في التعامل مع كل النساء، وكأنه يحملهن مسئولية ذهاب حبيته وبقائهن... اقتصرت حياته في السنوات الأخيرة على عمله وهوايته فقط واتخذ منهما وسيلة تنسيه ماحدث، وكلما عاودته تلك الذكرى الأليمة انغمس فيهما أكثر وأكثر ... فماذا يحدث له الآن!؟ ما الذي تغير!؟ ... دفع تلك المشاعر جانبا، وأقنع نفسه أن مشاعره نحوها يحركها الفضول فقط ورغبته في معرفة السر الذي وراءها... حسم أمره أخيرا وقرر الذهاب إلى الشاطئ بحثا عنها في ذلك المكان الذي طلبت منه أن يقابلها عنده ... تمتم مخاطبا نفسه بصوت خفيض:
- ماذا كان اسم المكان؟ جلجولة... لا ... أعتقد بلجولة ... سأستشير (جوجل).
أخذ يعبث بأزرار الهاتف للحظات قبل أن تتسع سريرته وهو يقول:
- (برجولة) ... إنها (برجولة) ... إنها تلك (العشة) الخشبية التي يجلسون داخلها على الشاطئ ... لقد تغيرت المصطلحات كثيرا في السنوات الماضية.
وصل إلى المكان وثبت حامل اللوحات وبدأ يكمل رسمته الأولى، قبل أن يزفر بضيق فيرفع اللوحة من على الحامل ويضع واحدة أخرى بيضاء، وبدء يخط عليه بفرشته رسما جديدا ... انتصف النهار وكانت ملامح اللوحة قد اتضحت ... إنها تحمل وجه (حسناء) الطفولي وابتسامتها الرقيقة، العذبة ... نظر للوحة في دهشة وكأن شخصا آخر هو الذي رسمها وليس هو، تلفت حوله في قلق خوفا من أن يرى أحد آخر تلك الصورة، ثم رفعها وأخفاها في دفتره ... قضى نصف ساعة أخرى ثم قرر العودة إلى الشاليه.
***
دقات قوية على باب الشاليه أفزعت (سامح) وجعلته يهرع نحو الباب ويفتحه، فطالعه وجه رجل الأمن الذي تحدث إليه بالأمس وهو يقول:
- الباشا (عايزك)؟
ومن خلفه ظهر رجل أنيق يرتدي حلة رمادية، وتبدو عيه ملامح قوة الشخصية، وإن بدا على عينيه الكثير من الأرهاق، أردف رجل الأمن بلهجة متشفية وكأنه لسان حال يقول (أي مصيبة فعلت أيها المجرم):
- الباشا ... مباحث.
رد (سامح) بسرعة، وهو يوجه حديثه إلى المفتش:
- تفضل.
دخل الرجل وجلس على المقعد وهو يفحص المكان بعينيه، قبل أن يخاطب رجل الأمن:
- يمكنك أن تذهب ... أعرف طريق العودة.
ثم توجه إلى (سامح) قائلا:
- المقدم (علي) ... مفتش مباحث.
رد عليه بصوت ضعيف، متخاذل، يخرج من أغوار عميقة:
- (سامح) ... صاحب صاحب الشاليه.
ابتسم المفتش (علي):
- هل تسمح لي ببضعة دقائق من وقتك ...
- تحت أمرك.
- كنت أريد أن أسألك، هل شعرت بأي شئ مريب مؤخرا في الجوار؟
أخذ (سامح) يفكر للحظات، وهو يرسم على وجهه علامات الاجتهاد في التفكير، كان أكثر شئ مريب حدث له في الأيام الأخيرة هي زيارة هذا الرجل ...ولكنه يجب أن يجد إجابة ترضيه، فهو لا يريد أن يغضبه أو يثير حفيظته، يجب أن أبحث عن شئ مريب، ليقوله:
- هناك شيئان مريبان لاحظتهما.
بدا على وجه المفتش (علي) الاهتمام وهو يقول:
- ما هما؟
- الأول هو اختفاء رجل الأمن ... زميل هذا الذي كان معك منذ لحظات.
- وهل اختفى؟
- هو أخبرني ذلك بالأمس.
أخذ المفتش (علي) يفكر للحظات، ثم قال:
- حسنا سأعرف منه المزيد عندما أعود ... وما هو الشئ الثاني؟
تردد (سامح) للحظة، وفكر هل يخبره بشأن (حسناء) أم يكتم عنه هذه المعلومة، الحقيقة أنها مريبة بالفعل وتحمل سرا غامضا:
- هناك فتاة غامضة، أراها على الشاطئ وبالقرب من الشاليه، ويجزم عامل الأمن أن المجمع لا يوجد به أحد غيري في هذا الوقت من العام.
أومأ المفتش برأسه وهو يقول:
- بالفعل لقد أخبرني بذلك منذ دقائق، لهذ جئت لأتحدث إليك.
توقف قليلا ثم أردف بكلمات سريعة، عصبية، وكأنه وجد ضالته:
- وهل تعرف اسمها ووصفها؟ وهل تعرف أين أجدها؟
- اسمها (حسناء)، أما عن وصفها فأنا رسام وقد رسمت لها صورة بالفعل.
ثم أخرج من دفتره صورة (حسناء) وأعطاها للمفتش (علي)، الذي صورها بهاتفه المحمول وأعادها إليه ... أردف (سامح) قائلا:
- أما أين أجدها؟ فهي تظهر لي في كل وقت وفي كل مكان مثل عفريت العلبة ... ولكن!
تردد (سامح) للحظة، فشجعه المفتش (علي) على الاسترسال:
- ولكنها طلبت مني أن أقابلها على الشاطئ عند (البرجولة)!
شكره المفتش (علي) على وقته، وأعطاه رقم هاتفه المحمول وهو يقول:
- إذا وجدت مايريب اتصل بي فورا ولا تتردد ... ونصيحة أخيرة.
- ماذا؟
- لا تذهب إلى البحر الليلة!
***
لا يعرف (سامح) لماذا وجد نفسه يتوجه إلى الشاطئ في المساء متجاهلا تحذير المفتش (علي) ... كانت الساعة العاشرة عندما وصل إلى تلك (البرجولة)، كان يأمل أن تظهر (حسناء) وتخبره بما يريد معرفته، أو لا تخبره، كان بحق يتمنى ظهورها فقط ... كان يرتدى ثياب ثقيلة لتحميه من برد المساء، وبالفعل كان الجو شديدة البرودة، من ذلك النوع الناخر للعظام ... شعر بأن أطرافه تتجمد وبأن أنفه وأذنيه وشفتيه، لم يعد لهم وجودا على وجهه ... بالطبع لم يجد (حسناء) تنتظره هناك كما تمنى، فجلس ينتظر وحيدا،يتشاغل بمراقبة حركة الموج المنومة ويسرح بخياله في عوالم تخيلية، يكون فيها هو البطل الوحيد، الغريب أنه كان يجد تلك الفتاة (حسناء) تقفز إلى داخل كل قصة تخيلها، حتى ولو حاول دفعها بعيدا ولكنها كانت تعود إليها وبإصرار عجيب ...
عندما تجاوزت الساعة الثانية عشر قرر أن يعود إلى الشاليه، عندها اكتشف إن أطرافه تجمدت تماما وأن تحريكها يحتاج لمجهود كبير ... وعندما تمكن من تحريكها أخيرا ونهض عازما الرحيل، رآها ... رآها تخرج من البحر والمياة تقطر عن جسدها وشعرها الذهبي الذي يغطيها حتى ما دون ركبتيها ... للحظات تصور أنها (حسناء)، ولكن عندما اقتربت منه بخطوات فاتنة، مغوية، أدرك أنها ليست (حسناء)، بل هي امرأة أخرى فائقة الحسن والجمال ... بالتأكيد هي أجمل امرأة رأتها عيناه كرجل وكفنان يستطيع أن يميز الجمال ويوقره ... تمنى أن يكون بين يديه الآن فرشاة وألوان حتى يرسم صورة تخلد هذا الجمال، صورة سيكون محلها بين أعظم اللوحات التي رسمتها فرشاة بيد إنسان ... كانت تقترب منه أكثر حتى صارت على مسافة مترين فقط، فمدت له يدها بدلال، فخطا نحوها بسرعة وأمسك بيدها، فاستدارات عائدة نحو البحر فتحرك معها مسلوب الإرادة ... مست قدماه ماء البحر فلم يشعر ببرودته، واستمر على توغله معها حتى جاوز الماء فخذيه ... فجأة انطلقت تلك الصرخة بذلك الصوت النسائي قادما من ناحية الشاطئ:
- توقفي أيتها اللعينة.
جعلته تلك الصرخة يفيق من الحالة التي كان عليها، فانتبه إلى (حسناء) وهي قادمة تعدو نحوهما، قبل أن تلج الماء وتتقدم أكثر منهما وفي يدها بندقية غريبة المنظر ... شعر بألم رهيب في يده التي كانت تمسك بها تلك المرأة فالتفت إليها، فراعه ما رأى، فقد تحولت تلك المرأة فائقة الجمال إلى وحش مرعب تغطي الحراشيف جسده ويعلو رأسه أجمة من الأشواك يجعله أشبه (بميدوزا) ذلك الوحش الأغريقي الأسطوري، وله أنياب مرعبة ومخالب بارزة تمزق يد (سامح) في تلك اللحظة، صرخ (سامح) بهستيريا وحاول أن يخلص يده ويهرب، فزاد ذلك الوحش من قبضته وبدأ يجذبه أكثر إلى داخل البحر بقوة لا قبل (لسامح) بها ... وصلت (حسناء) وصوبت بندقيتها إلى الوحش وأطلقت منها سهما ذو ذيل زغبي انغرس مباشرة في صدره ... أصدر ذلك الوحش صرخة حادة تشبه النحيب، ثم خلى قبضته عن ذراع (سامح) وتوجه إلى (حسناء) التي أطلقت عليه سهم ثان انغرس في كتفه ... وصل الوحش إلى (حسناء) التي كانت تعد البندقية لطلقة ثالثة ولكنه لم يمهلها وضربها بيده المخلبية ضربة قوية أطاحت بها لعدة أمتار قبل أن تسقط على الأرض دون أي حراك ... صرخ (سامح) بإسم (حسناء) واندفع بقوة محاولة الإطاحة بذلك الوحش بجسده، ولكنه شعر كأنه يصطدم بحائط خرساني، فسقط على الأرض وهو يشعر أن كل عظمة في جسده قد تفتت ... التفت الوحش إليه ثم توجه نحوه بخطوات متأدة، كان (سامح) يشعر بأنه عاجز تماما عن الحركة ... فجأة انطلق دوي طلقات نارية أضاءت شرارتها ظلام الليل، أصابت تلك الطلقات النارية جسد الوحش، أكثر من مرة، فأخذ الوحش يترنح وهو يتراجع إلى الخلف ... ظهر المفتش (علي) وهو يواصل إطلاق النار من مسدسه على ذلك الوحش حتى أفرغ مشطا كاملا من الطلقات، فاستبدله بآخر بمهارة عالية وواصل إطلاق النار ... كان الوحش ينتحب من الألم ويتراجع للخلف، ثم استدار وقفز في الماء وهو يسبح بسرعة عالية، قبل أن يغيب في ظلام البحر ...
اقترب المفتش (علي) من (سامح) وأعانه على النهوض وهو يقول:
- هل أنت بخير؟
تأوه (سامح)، وهو يقول بجزع:
- (حسناء) ... هل هي بخير... لقد أنقذتني؟
توجه كلاهما إلى (حسناء) التي كانت تتألم بدورها وهي تعتدل، قبل أن تقول:
- هل أخذ أحدكم رقم الحافلة؟
كانت دعابة في غير موضعها، ولكنها طمأنت (سامح) عليها، فابتسم وهو يقول:
- أنت غريبة، هل هذا موقف يدعو للسخرية ... لقد كنا سنذبح بيد مخلوق يشبه (الميدوزا).
- إنها عروس البحر التي تتحدث عنها الأساطير.
نظر لها (سامح) نظرة مطولة، وهو يقول:
- من أنت؟ ومن أين جئت؟
أشارت مرة أخرى إلى البحر، فقال بغضب:
- تريدين العبث من جديد.
- إنها الحقيقة ... أترى هذا الضوء الضعيف في منتصف البحر، إنه المركب الذي أقطن فيه هذه الأيام مع أبي وأمي.
كانت الدهشة وعدم الفهم قد ارتسما على وجه (سامح)، فأردفت قائلة:
- أبي عالم في الأحياء البحرية، وأمي عالمة آثار ... وقعت بين أيديهما مخطوطة من العصر الفرعوني تتحدث عن ذلك المخلوق الأسطوري، عروسة البحر، وقد أسرتهما تلك المخطوطة واستحوذت على عقليهما، فقضيا سنوات طويلة في أبحاث أوصلتهما إلى هذا المكان في هذا الزمان على أمل إثبات وجود ذلك المخلوق الأسطوري.
ابتسم المفتش (علي) وهو يقول:
- إذا أنت كنت تقومين بدور المخبر لهما على الشاطئ.
- لم يكن ذلك برغبتي ... أنت لا تعرف الحل عندما تعيش في بيت من العلماء ... أسرة مجنونة ولكنك مضطر أن تكون فردا فعالا فيها، وجزء من الخطط التي يضعونها.
قال المفتش (علي) بحدية:
- لقد كانت خطتكم سيئة، لقد كدت تفقدين حياتك وذلك المسكين أيضا.
حاولت (حسناء) النهوض فعاونها (سامح) وهو يقول بصوت متهدج:
- المهم أنك بخير ... أنا مدين لك بحياتي.
تلاقت عيناهما لفترة طويلة في نظرات تحمل مشاعر خاصة، فتنحنح المفتش (علي) وهو يقول بحرج:
- هيا ... علينا أن نذهب الآن.
قالت (حسناء) وعيناها مازالت معلقة بعيني (سامح):
- هناك اعتراف يجب أن اعترف به ... لقد كنت أؤدي هذه المهمة في البداية من أجل أبي وأمي ...
تضرج وجهها بحمرة الخجل وهي تردف بحرج موجهه حديثها إلى (سامح):
- ولكن عندما شعرت أن الخطر قد يطالك أيضا، وبخاصة أنني رأيت آثار ذلك المخلوق بقرب الشاليه الخاص بك، وعرفت أنه في أثرك، قررت مراقبتك والتدخل لحمايتك إذا تعرضت للخطر... ولم أرد أن أخبرك بالحقيقة من البداية حتى لا تظن أنني مجنونة.
ابتسم (سامح) وهو يقول
- الآن تأكدت أنك كذلك ... أتعرفين، قرأت أسطورة عروسة البحر في صغري وكان أكثر ما أسرني فيها، هو أن الشئ الوحيد الذي يحرر الضحية من ذلك السحر، هو الحب ... الحب الحقيقي ...
تضرج وجهها أكثر بحمرة الخجل وأشاحت بوجهها إلى الناحية الأخرى، فابتسم المفتش (علي) وهو يكرر:
- هيا ... علينا أن نذهب الآن.
فقال له (سامح) وهو يشير إلى البحر:
- وماذا عن ذلك الشئ؟
كانت أشعة الشفق قد بدأت تنعكس سطح البحر باستحياء معلنة بدء يوم جديد، فقال المفتش (علي):
- هذا شئ لن يكون علينا أن نقلق بشأنه إلا بعد خمسين عام.
..(تمت)..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق