قصة رعب قصيرة بعنوان ... (السيدة السوداء)
انقطع النور وغرق المكان في ظلام حالك
... انبعثت مني صرخة مكتومة، فأنا أخشى الظلام أكثر من أي شئ آخر في هذا العالم ...
أتى صوت أمي محذرا:
-
لا تصرخي في الظلام.
أبحث عن يد أمي وأختي لأمسك بهما بقوة،
يبعث ذلك بعض الطمأنينة في روعي لثوان، جاء بعدها صوت أمي من المطبخ:
-
لا تقلقا ... سأجلب بعض الشمع لإنارة المكان!
أهمس بإسم أختي في الظلام بصوت مرتعد،
فتضغط يدي اليسرى مشجعة ... أتسائل في هلع، إذا كانت أختي تمسك بيدي اليسرى وأمي
في المطبخ الآن، فمن الذي يمسك بيدي اليمنى!؟
تختلط المشاهد في ذاكرتي وتتداخل عندما
أحاول أن أتذكر ما حدث لاحقا ... أذكر أمي وهي قادمة من ناحية المطبخ تحمل بين
يديها شمعة غليظة تتراقض شعلتها، فتضئ المكان إضاءة صفراء، مختلجة ...حولت وجهي
بحركة بطيئة، متوجسة، ففوجئت بتلك السيدة في الثوب الأسود تجلس إلى يميني وتمسك بكفي
بين أصابعها، حاولت أن أسحبها فأطبقت عليها بقوة ثم التفت ناحيتي بسرعة كالبرق ودون
أن تحرك جسدها وكأن رأسها يتحرك على برغي، طالعتني كرتا عينيها السوداوين بلا نقطة
واحدة من البياض تتخللهما، وكأنهما احترقتا حتى صارتا قطعتين من الفحم، كانت
ملامحها شاحبة باهتة وكأنها صورة من فيلم عكسي (نيجاتيف) ... ما حدث بعد ذلك كان
مختلطا ومتداخلا ... الصرخة، الدوار، المشاهد الضبابية ... أمي تعدو نحوي وتلتقطني قبل أن أسقط على
الأرض ... الظلام ... غرفتي ... شخص يرتدي سماعة طبية يفحصني باهتمام، ومن خلفه تقف
أمي قلقة، متوترة والدموع في عينيها ... أختي وهي تبكي من أجلي وتمسح بيدها على شعري
... تلك السيدة المتشحة بالسواد وهي تقف في ركن قصي من الغرفة تراقبني دون انفعال
... ثلاثة أيام مضت علي وأنا غائبة عن الوعي،أفيق لثوان، أخرف فيها ببعض الكلمات
ثم أغيب عن الوعي مرة أخرى، حتى أيقظتني شمس الصباح بأشعتها وهي تداعب وجهي عبر
نافذة غرفة نومي، وصوت أمي وهي تقول:
-
هل أنت بخير أيتها الأميرة؟
-
أجل يا أمي ... ولكنني جائعة للغاية، أشعر أنني قادرة
على التهام خروف مشوي بالكامل، بفروته، وقرونه.
ابتسمت
أمي وداعبت خصلات شعري، ثم قبلتني في وجنتي وهي تقول:
-
سأحضر لك فطور دسم ينسيك الأيام الماضية.
-
رائع.
جاء صوت أختي من ناحية باب الغرفة:
-
فطور لها وحدها، وماذا عني؟ .. أنا أيضا أشعر بالجوع
والإرهاقّ!
ثم أقبلت نحوي تحتضني في لهفة، وهي
تردف:
-
الحمد لله أنك بخير ...
أتعلمين أنني تغيبت عن المدرسة وضحيت بثلاثة أيام من التعليم بسبب قلقي
عليك.
ضحكت وأنا أقول:
-
لقد وجدتها فرصة لتتهربي من دروسك ... هل أنت متأكدة أنك
سعيدة لشفائي؟
شاركتني الضحك وهي تقول مداعبة:
-
يمكنك التظاهر بالمرض ليومين آخرين حتى موعد العطلة
الأسبوعية، ولن أنسى لك هذا الجميل أبدا.
تبادلنا الضحك للحظات، وخاصة عندما جاء
صوت أمي من الخارج وهي تقول:
-
أسمعكما!
بعد لحظات سألتني أختي بحرج:
-
من هي (السيدة السوداء) التي كنت تصرخين بإسمها وأنت
غائبة عن الوعي؟
نظرت لها متعجبة وأنا أجيب:
-
إنها تلك المرأة ذات الملامح المرعبة التي كانت تجلس
بجواري عندما انقطع النور!
توقفت للحظة، ثم أردفت وأنا أشير
بسبابتي تجاه ذلك الركن من الغرفة:
-
وكانت تقف هناك أيضا تراقبني طوال الوقت!
تابعت أختي سبابتي بناظريها ثم ارتدت
إلى وقد تغيرت ملامحها لتبدو عليها الدهشة وقد اختلطت ببعض القلق والخوف، وهي
تقول:
-
لم يكن هناك أحدا غيري أنا وأمي معك عندما غبت عن الوعي
... ولم أر أي سيدة في هذا الركن ولا في أي مكان آخر من المنزل!
-
هل أنت متأكدة؟ قد تكون أمي رأتها.
قالت بلهجة جادة وبكلمات بطيئة:
-
ولا أمي رأتها ... أؤكد لك، لا وجود لتلك السيدة...
توقفت للحظة ثم أردفت:
-
إلا في عقلك ... قد تكون تهيؤات بسبب المرض والحمى ...
لا تقلقي هذا شئ طبيعي مع الحالة التي كنت عليها ...
كنت متأكدة بكل جوارحي أنني رأيت تلك
السيدة بعين اليقين، ولكنني وجدت أنه لا داع للدخول في جدال مع أختي الكبيرة فهي
تغلبني في كل مرة، كما أن نظرية التهيؤات ليست سيئة بحال، سأحاول أن أقنع نفسي بها
فهي على الأقل تسوق تفسيرا علميا، بعيدا عن تفسيرات أخرى من عالم الجن والأرواح،
قادرة على أن تؤرق منامي وتحول حياتي إلى جحيم...
استقبلني الجميع بحفاوة واهتمام في يوم
عودتي إلى المدرسة، المعلمات، زميلاتي، الجميع كان مراعيا لحالتي النفسية الهشة
وعدم قدرتي على تحمل المزيد من الضغوط، أشعرني هذا بالراحة وبأن الأمور تسير في
الطريق الصحيح، لولا تلك المتنمرة (سميرة)، ورغم كونها في الصف الثالث من المرحلة
الإعدادية وتكبرني بعام واحد، إلا أنها تحمل في جوفها قلبا أسود كالقطران، وشرا
مجردا كالأبالسة ... بالطبع ما كانت لتضيع تلك الفرصة وأنا أبدو كلقمة سائغة وفريسة
ضعيفة ... عندما تلاقت أعيننا في فترة الراحة في فناء المدرسة قرأت مباشرة تلك
النظرة في عينيها، نظرة المفترس الذي حدد فريسته وقرر الذهاب في أثرها ... حاولت
الابتعاد عنها ولكنها لاحقتني في إصرار حتى حاصرتني في ركن من الفناء، ثم أمطرتني
بوابل من التعليقات الساخرة عن شكلي وثيابي وجسدي السمين ووجهي الطفولي ورأسي
الضخم الذي يشبه كرة القدم ... حاولت الدفاع عن نفسي فجاء صوتي ضعيفا متخاذلا،
فوجدتها هي فرصة لمضاعفة الكيل ... حاولت أن أهجم عليها وأنشب أظافري في رقبتها
ولكنها دفعتني بقسوة فسقطت على الأرض، ركلت التراب في وجهي بقدميها ثم رحلت وهي
ترسم على وجهها ابتسامة ظافرة وقد نجحت في مهتمها ... تابعتها وهي ترحل وأنا أبكي
بحرقة والدموع والتراب يغطيان وجهي، صرخت بكلمي واحدة:
-يارب
تموتي!
كنت أكرهها بشدة وأتمنى أن يأتي اليوم
الذي استطيع الثأر فيه منها، ولكن ما حدث لاحقا في نفس اليوم جعل مشاعرالغضب
الطفولية تختفي في لحظة واحدة ويحل محلها مشاعر مشفقة، متعاطفة ... كنا في الحصة
السابعة، نصارع جفوننا حتى لا نغيب في النوم، وبعضنا قد غبن فيه بالفعل وعلا صوت
غطيطهن ... انبعثت تلك الصرخات االرهيبة، المتألمة، من ناحية دورة المياة الموجودة
في الدور الأرضي، فزعنا جميعا وتوجهنا إلى باب الفصل، حاولت المعلمة السيطرة علينا
ولكن صوت الصرخات المتعالي جعلها تهرع ناحية الصوت ونحن ورائها ... عندما وصلنا
إلى دورة المياة كانت المدرسة كلها قد تجمعت هناك، وكانت المديرة ومساعدتها تزودان
عن المكان وتمنعان الحشد من الاقتراب أكثر، قامت بعض المعلمات بتشكيل حاجز أمام
دورة المياة ... الكلمات تنتشر بين الطالبات بسرعة كالنار في الهشيم، البعض يتحدث
عن طالبة هاجمها حيوان مفترس فمزق جسدها، وأخريات يدعين أن سفاح فعلها بسكين حاد
... اخترقت الصفوف وحاولت الاقتراب أكثر ... يصل إلى مسامعي صوت المديرة وهي تتصل
بالإسعاف وتخبرهم أن الطالبة في حالة خطرة وقد فقدت الكثير من دمائها ... ملت على
الفتاة التي إلى جواري، وسألتها:
-
هل تعرفين من هي؟
-
يقولون إنها سميرة (المتنمرة)!
كنت على وشك أن ألقي عليها سؤالا آخر
عندما لمحت (السيدة السوداء) تخرج من دورة المياة وتمر بين المعلمات وتتوجه ناحية
باب الفناء، كانت هي بنفس ملامحها الشاحبة وفجوتي عينيها المظلمتين وثوبها الأسود
الفاحم، سألت الفتاة:
-
هل ترين تلك السيدة؟
-
أي سيدة؟
-
تلك التي ترتدي ثوبا أسود وتتجه إلى باب الفناء ... إنها
تمر الآن بجوار الأستاذة (علياء).
-
لا أحد بجوار الأستاذة (علياء).
توقفت عن الاستمرار في تلك المناقشة
العبثية، من الواضح أن لا أحدا غير يرى تلك (السيدة السوداء)، كما أنها كانت قد غابت
بالفعل خلف باب الفناء ... عندما عدت للمنزل حكيت لأمي ما حدث فلم تصدقني وكذلك
فعلت أختي ... تقول أمي أن أعصابي متوترة وأحتاج للراحة، وتواصل أختي الترويج
لنظرية التهيؤات خاصتها ... لا أحد يريد أن يصدقني، لا أعرف ماذا أفعل!؟
في تلك الليلة صاحبتني أمي إلى الفراش
وجلست بجانبي تحكي لي بعض القصص لتبث الطمأنينة في نفسي المتوترة، ثم دثرتني وقبلت
جبهتي وقالت لي بلهجة حانة:
-
تصبحين على خير يا حلوتي.
ثم أردفت:
-
هل أطفأ المصباح؟
كانت تعرف إجابتي مسبقا فأنا أكره
الظلام، فأجبتها بسرعة:
-
لا ... أرجوك!
ابتسمت وأرسلت لي قبلة في الهواء،
فأرسلت لها مثلها، ثم غادرت ... استيقظت من النوم بعد ساعة وأنا أشعر بعطش شديد،
كانت الغرفة غارقة في الظلام، يبدو أن أمي غافلتني كعادتها وأطفأت النور بعد نومي،
أخذت أتحسس زجاجة المياة في مكانها على الكومود بجوار الفراش حتى وجدتها، أخذت أعب
منها لأروي عطشي الشديد ... فجأة شعرت بأني لست وحدي في الغرفة، كان لدي ذلك
الهاجس الفطرني يؤرق باطني ويخبرني أن هناك شخص آخر معي في ظلام الغرفة ... وضعت
الزجاجة مكانها وقلت بصوت حذر:
-
من هناك؟ من أنت؟
لحظة من الصمت ثم جاء بعدها ذلك
المبحوح، المتحشرج، كأنه يخرج من حنجرة ممزقة:
-
أنا أمك.
صرخت بفزع:
-
هذا ليس صوت أمي!
-
أنا أمك الثانية.
كان جسدي كله يرتعد في تلك اللحظة ... أعرف من تكون، حتى ولو لم
أرها بسبب الظلام ... إنها تلك (السيدة السوداء) التي تصر على مطاردتي ... استجمعت
كل إراداتي وأنا أسألها بصوت مرتعش:
-
ماذا تريدين مني؟
لحظة أخرى من الصمت، جاء بعدها نفس
الصوت المتحشرج وهو يقول:
-
أريدك أن تأتي معي.
كانت أعصابي قد وصلت إلى آخر قدرتها لى
الاحتمال، فصرخت صرخة هائلة قادرة على إيقاظ الموتى، وأنا أغطي رأسي وجسدي بالغطاء
... ثوان وفتح باب غرفتي ودخلت أمي ومن بعدها أختي يتسائلان بخوف:
-
ماذا بك؟ هل أنت بخير؟
أضاءت أمي المصباح، فشهقت بفزع وأنا
ألمح (السيدة السوداء) تقف في نفس الركن من الغرفة الذي كنت أراها فيه ... أشرت نحوها
بأصبع مرتعد، وأنا أقول بلهجة هستيرية:
-
إنها هناك ... هي مرة أخرى!
التفت أمي وأختي ونظرا ناحية (السيدة
السوداء)، ثم عادا ببصرهما إلي، قالت أمي بصوت مشفق، متألم:
-
لا يوجد أحد ياحبيبتي!
ثم اقتربت مني وهي تحاول تهدئتي وتهدئة
الصرخات التي توالت من حنجرتي وأنا أتابع (السيدة السوداء) وهي تتجاوز أمي وأختي
وتخرج من باب الغرفة دون أن تراها واحدة منهما...
...
قبل أن استكمل بقية قصتي الرهيبة، دعوني أولا أعرفكم بنفسي ... اسمي (هنا) انتقلنا أنا وأختي (رنا) التي تكبرني بعامين ووالدتنا للعيش في (فيلا) صغيرة، عتيقة بمنطقة الضواحي كانت ملكا لأسرة والدي الذي توفاه الله وأنا مازلت طفلة رضيعة ... كانت جدتي تقيم في (الفيلا) وحدها منذ وفاة أبي، لم تحاول يوما التواصل معنا ولا السؤال عن أحوالنا! فهي لم تقبل أمي من البداية ولم توافق على الزيجة، وقاطعتها هي وأبي حتى وفاته ... بعد ذلك حاولت أمي التقرب من حماتها من أجلنا، فقابلتها الأخيرة بجفاء، فآثرت أمي الابتعاد درء للمشاكل وحتى لا تزيد الهوة على أمل أن يرق قلبها لنا يوما ما ... وهو ما حدث مؤخرا عندما قررت جدتي أن تدعونا للإقامة معها في (الفيلا) وقابلتنا بترحاب، وحفاوة، كانت تبكي من الندم، وتلعن القسوة والعناد اللذان جعلاها تبعد عنها فلذتي كبدها اللتان يذكرانها بإبنها الحبيب ... بالنسبة لي ولأختي كان الانتقال من منزل صغير بغرفة واحدة نتكدس فيها جميعا إلى فيلا رحبة، واسعة بها العديد من الغرف والمرافق شيئا رائعا ... كانت أمي متوترة وقلقة في البداية ولكن معاملة جدتي الطيبة لها ولنا أزالت ذلك القلق ... توطدت علاقتنا بجدتي في فترة قصيرة، وشعرنا نحوها بصلة القربى ورباط الدم، كنا نرى فيها روح أبي الذي لم نتعرف عليه أبدا أنا وأختي، وعندما قررت (جدتي) السفر لقضاء بضعة شهور مع عمتنا التي تعيش خارج البلاد شعرنا جميعا بالضيق والحزن على غيابها، وودعناها بالدموع والأحضان وطلبنا منها أن تعود إلينا سالمة وبسرعة ...
الأمور جيدة، والحياة تبدو واعدة لطفلة
في مثل سني، ولكن مشكلتي التي لا أجد لها حلا هي تلك (السيدة السوداء) الشبحية التي
تطاردني وتضيق علي الخناق، والأسوء أن لا أحدا غيري قادرا على رؤيتها ... فكرت
كثيرا أنها صنيعة عقلي، تخريفة من تخاريفة، أو تهيؤات كما يحلو لأختي (رنا) أن
تفسر الأمر، ولكنني أتذكر ما فعلته (بسميرة) المتنمرة، زميلتي في المدرسة التي كان
يحلو لها دائما مضايقتي، وسمعت ماقالته بعض الزميلات اللاتي زرنها في المشفى، وكيف
وصفن الجروح الغائرة التي تغطي جسدها وتبدو كآثار مخالب حيوان مفترس أو سكين حاد،
وكيف حكت لهم بنفسها عن تلك اللحظات المرعبة التي تعرضت فيها للهجوم، وعدم قدرتها
على رؤية مهاجمها رغم أنها كانت تشعر بوجوده وبضرباته التي كانت تمزق جسدها!
مرت فترة هادئة بعد آخر مرة رأيت فيها
تلك (السيدة السوداء) حسبت أن عقلي قد تعافى وأنني لن أراها مرة أخرى ... كانت
والدتي قد اصطحبتني إلى طبيبة نفسية، وبعد جلسة مطولة شرحت لها فيها مشكلتي
ومعاناتي بالتفصيل فأبدت تفهمها ... أخذت تشرح لي كيف أن العقل البشري يحمل كما
كبيرا من الأسرار والغموض، وكيف أنه يستطيع خداع صاحبه وإيهامه بإشياء غير حقيقية
بسبب أزمة تعرض لها أو عقدة ما في حياته السابقة قررت الظهور فجأة ... لم يكن
ماقالته يزيد كثير عما قالته أختي ولكن أسلوبها المحترف وطريقتها في التعاطي مع
مشكلتي بود، وتفهم، جعلاني أرتاح لها كثيرا وانفتح أكثر في الحديث معها كأنها
صديقة في مثل عمري ... صرت أتحمس للذهاب لها عندما يحين موعد الجلسة ... كان ذلك
قبل أن يجدوها مقتولة في عيادتها!! كما سمعنا ... ذهب الممرض لجلب بعض الأغراض
وتركها وحدها في العيادة وعندما عاد وجدها مذبوحة وغارقة في دمائها ... تقول أمي
أنه مجرد حظ سئ ومصادفة محزنة ولكني لا أصدقها!
كنت أقف في غرفتي المظلمة وسط ضباب
أثيري، يلمع بلون فضي، ويهيم فوق الأرضية الخشبية، لمحت (السيدة السوداء) في ركنها
المفضل، أشارت لي لأقترب منها فوجدت نفسي أتحرك نحوها بخطوات بطيئة منزوعة الأرادة
حتى صرت في مواجهتها، مدت لي يدها فسلمت لها يدي فأمسكت بها، ثم بدأت تتحرك إلى
خارج الغرفة عبر بابها المفتوح ... كنت أسير بجانبها في الرواق الذي استطال وبدا
كأنه بلا نهاية، سرنا فيه لفترة طويلة حتى شعرت بالتعب، فقلت لها بصوت متوسل:
-
أرجوك توقفي ... أشعر بالتعب!
توقفت بي أمام باب الغرفة الملاصقة
لغرفتي تماما رغم أن جهد المسير جعلها تبدو كأنها على بعد أميال، ثم قالت لي
بصوتها المبحوح، المتحشرج:
-
هيا ... يجب أن تأتي معي.
-
ولكنني لا أريد.
كررت جملتها كجهاز التسجيل المعطوب:
-
يجب أن تأتي معي.
استعدت سيطرتي على جسدي فسحبت يدي
منها، وأنا أصيح فيها بغضب:
-
لن أفعل ... لن أترك أمي وأختي ... أبدا!
صمتت للحظة:
-
إذا سيتركانك هما!
أخذت أصيح فيها بهستيرية:
-
لا لن يفعلا!.. لا لن يفعلا!.. لا لن يفعلا!
-
(هنا) ... ماذا تفعلين؟
كان هذا هو صوت أختي (رنا)، التي
أردفت:
-
ما الذي جاء بك هنا؟
انتبهت إلى أنني أقف أمام باب الغرفة
المجاورة لغرفة نومي وقد التصق جسدي ببابها المغلق وأنا أكرر الكلمات السابقة ... نظرت
لأختي وأنا أقول بصوت متلجلج:
-
إنها هي مرة أخرى.
-
(السيدة السوداء) ... هل كنت تحلمين بها!؟
-
لا أعلم هل كان حلما أم علما؟
صمت للحظة، ثم أردفت بصوت خائر:
-
كانت تريد أن تأخذني معها!
احتضنتي أختي بحنان وهي تقول مشجعة:
-
لا لن تفعل ...
كانت دموعي قد بدأت تسيل على وجهي وعلى
كتف أختي، فأمسكت بذراعي ونظرت في عيني وهي تقول بلهجة قوية، جعلتني أشعر ببعض
الراحة:
-
لا تخافي ... لا يستطيع أحد أن يفرقنا.
ثم تغير صوتها وهي تقول بلهجة أمومية
جعلتها نسخة مصغرة من أمي:
-
أذهبي إلى الفراش وسأجلب لك كوب من اللبن الساخن ليهدئك.
عبرت أختي الرواق حتى وصلت إلى الدرج في
طريقها إلى المطبخ في الدور الأرضي، كنت ألاحقها بنظرة تحمل الكثير من الحب
والعرفان ... نزلت أختي الدرجة الأولى عندما ظهرت تلك اللعينة خلفها تماما دون أن
تنتبه لها أختي، صرخت فيها محذرة:
-
أحذري يا (رنا)! ... إنها خلف... ك!
ولكن قبل أن تنتبه لتحذيري دفعتها تلك
اللعينة بكلتا يديها في ظهرها، سقطت أختي من فوق الدرج متأثرة بتلك الدفعة متدحرجة
وهي ترتطم بدرجاته، ثم استقرت على الأرض وقد سكن جسدها تماما ... صرخت بإسمها في
جنون وهرعت إليها بأقصى سرعة وأنكفأت على جسدها أحاول أسعافها، ثوان ولحقت بي أمي
بعد أن استيقظت على صرخاتي، دفعتني جانبا وهي ترقد على الأرض بجوار أختي وتضمها
إلى صدرها، تحاول إفاقتها بجزع، ثم تحولت إلي وطلبت مني أن أجلب بعض الماء البارد
من البراد ... عندما عدت كانت والدتي تبكي بهستيرية وتصرخ بإسم أختي وقد أراحت
رأسها على فخذها ...
بعد ليلة عصيبة قضيناها في المشفى، رجعت
إلى (الفيلا) بصحبة صديقة لأمي، التي قالت لي مشجعة:
-
لا تقلقي ... (رنا) بخير ... بعض الرضوض وكسر بسيط في
الساعد ... قدر الله ولطف ... بعض الراحة وستعود بإذن الله أفضل مما كانت.
أومأت برأسي وأنا أحاول أن أفتح عيني
اللتان تورمتا من السهر والبكاء ... حمدت الله في سري، فمشهد أمي وهي تبكي و(رنا)
مسجاة على الأرض أمامها كان مفزعا، ظننت أنني قد فقدت أختي الحبيبة إلى الأبد ..
تمتمت:
-
الحمد لله.
فربتت على كتفي وهي تقول:
-
أنت أيضا تحتاجين إلى الراحة، أذهبي إلى غرفتك وحاولي أن
تحصلي على قسطا من النوم، وسأكون هنا بجانبك إذا احتجت شيئا.
-
شكرا لك.
توجهت إلى غرفتي وأنا أجر قدمي ونفسيتي
المنهارة، وعندما وصلت لفت نظري باب الغرفة التي بجوارها وقد صار مفتوحا ... لم
يكن كذلك بالأمس ... هي ليست غرفة بالضبط بل
هي خزانة كبيرة مساحتها تتجاوز المترين المربعين، كانت جدتي تسميها (خزانة الجلود)
فبداخلها الكثير من المعاطف والملابس الجلدية والأحذية المختلفة إلى جانب بعض
الصناديق والأوراق القديمة ... كان بعض تلك الملابس تصنف كمقتنيات تاريخية
بالتأكيد يزيد عمرها على خمسين عاما وقد يتجاوز المائة ... حملت تلك الغرفة أو
الخزانة بمقتيانتها قدرا كبيرا من الإثارة والمتعة البريئة لي أنا وأختي في
الماضي، عندما كنا نجرب الثياب والمعاطف الموجودة فيها ونضحك على شكلنا في تلك
الثياب الأثرية أمام المرآة، وأحيانا كنا
نختبأ فيها ونحاول أن نفزع بعضنا بعضا على سبيل اللعب والهزار ... ابتسمت فمن
الواضح أن الفزع قد صار حقيقة يومية أعيشها أنا وعائلتي ... كدت أغلق باب الخزانة
عندما انتبهت إلى بعض الصور الضوئية الملقاة على الأرض، تلك الصور أيضا لم تكن
موجودة في السابق ... التقطت بعضها وأخذت أشاهدها ... من الواضح أنها صور قديمة
استطيع أن أميز صورة جدتي وهي في مرحلة الشباب، بالتأكيد الذي يقف بجانبها هو جدي،
أما الطفلين فهما أبي وعمتي ... انتبهت إلى تلك المرأة التي تظهر في بعض الصور إلى
جانب جدتي، تقف بخجل مولية وجهها دائما بعيدا عن عدسة (الكامير) ... في لحظة واحدة
جحظت عيناي وشعرت بشعر رأسي ينتصب وبالقشعريرة الباردة تزحف على سلسلة ظهري ...
وأنا أقول لنفسي بحروف مرتعدة:
-
تلك المرأة ... إنها (السيدة السوداء)!
كانت هي، عرفتها من ملامحها التي تظهر
في الصورة، على الرغم أن ملامحها كانت بشرية آنذاك ولم تكن تحمل تلك الهيئة
الشبحية التي أراها عليها الآن، وعرفتها أيضا من الثوب الذي كانت ترتديه فهو نفسه
الذي ترتديه الآن ... وقعت عيناي على المزيد من الصور ملقاة في ركن آخر من أرض
الخزانة فمددت يدي لالتقطها عندما قبضت يد قوية على رسغي فآلمتني، ومن بين المعاطف
ظهر وجه تلك (السيدة السوداء) وهي تحدق في بعينيها السوداوين ... جذبت يدي بقوة
فخلصتها، ثم عدوت إلى خارج الخزانة وأغلقت خلفي في عنف ... أسرعت إلى أسفل لأبحث
عن صديقة والدتي فلم أجدها ... أين ذهبت!؟ ... أفكر في ردة فعلي الأخيرة وأقارنها
بما كان يحدث في السابق، لقد غيرتني تلك التجربة كثيرا، أنا لم أعد تلك الفتاة الهشة
التي كنت عليها في السابق، فأعصابي صارت أكثر قدرة على تحمل الضغوط والمفاجآت، بل
أن مشاعر الخوف تراجعت في باطني إلى المرتبة الثانية وحل محلها الرغبة في الانتقام
من تلك اللعينة على مافعلته بي وبأختي (رنا) ... وصل إلى أذني صوت دقات مكتومة تأتي
من ناحية المطبخ، اقتربت منه بخطوات متحسسة، مستطلعة، الدقات المكتومة تأتي من داخل
القبو ومن وراء بابه الموجود في المطبخ ... عندما وصلت إلى باب القبو كان الدقات
قد توقفت تماما ... كان الباب مغلقا بمزلاج قديم من الصلب وقد علاه الصدئ حتى أنني
بذلت جهدا شديدا حتى استطعت تحريكه، وعندما تحرك أصدر صوتا عاليا، مزعجا، زاد من
قلقي وتوتري ... أمسكت بمقبض الباب وفتحته دفعه واحدة ...
...
فتحت باب القبو دفعة واحدة، ثم صرخت
بعد أن وجدتها أمامي ... كانت صديقة أمي تقف هناك خلف الباب وقد ظهرت عليها ملامح
الرعب والخوف ... صاحت في وجهي:
-
لماذا أغلقت الباب؟
-
أنا لم أفعل!
-
إذا من فعلها؟
-
لا أدري!
-
من الواضح أنك شقية، رغم أن ملامحك البريئة لا تشي بذلك.
بدأ وجهها يلين وهي تغادر القبو، حاولت
إغلاق الباب بالمزلاج فاستعصى، انضممت إليها وأخذنا ندفع المزلاج العنيد حتى نجحنا
في إغلاقه ... جعلتها صعوبة إغلاق المزلاج تعيد التفكير، من الواضح أن فتاة مثلي
ماكانت لتستطيع أن تفعل ذلك وحدها، فقالت:
-
لقد دخلت إلى المطبخ لإعداد كوبا من الشاي ... كان باب
القبو مفتوحا، حاولت أن ألقي نظرة فانغلق الباب خلفي مرة واحدة ... كيف حدث هذا !؟
لم أجب على تسائلها الأخير، كان هناك
شئ واحد فقط يشغل تفكيري في تلك اللحظة، صورة جدتي مع تلك (السيدة السوداء) ... ماذا
على أن أفعل؟ هل أحاول الاتصال بجدتي؟ ...
سأسأل أمي عن رقم الهاتف ... بالتأكيد سيكون لديها بعض التفسيرات والإجابات على
علامات الاستفهام التي أصبحت تحاصرني مؤخرا ... سمعت صوت باب (الفيلا) يفتح... هل
تكون أمي قد عادت من المشفى؟.. أسرعت إلى الخارج لأرى جدتي قد عادت وهي تقف هناك في
منتصف الردهة، تحمل معها شنطة السفر خاصتها وتبحث عنا وعلى وجهها ابتسامة رضا ...
كانت مفاجأة غريبة بحق، وكأن أبواب السماء كانت مفتوحة أمام أمنيتي! ليتني تمنيت
أن تذهب تلك السوداء اللعينة إلى الجحيم ... ألقيت بنفسي بين ذراعيها، فاحتضنتني بدورها
وربتت على ظهري ورأسي وهي تقول:
-
(هنا) حبيبتي لقد أوحشتني ... أين (رنا)؟ أين أمك؟
لم يخف عليها تلك النظرة الحزينة التي
بدت على وجهي، وكذلك ظهور صديقة أمي التي خرجت ورائي من المطبخ، فقالت بصوت حذر:
-
هل هناك مشكلة؟ هل هما بخير؟
لم أتمالك نفسي فأنطلقت في نوبة حادة
من البكاء وأنا أدفن رأسي في صدر جدتي التي بدا عليها القلق والجزع، فطمأنتها
صديقة أمي:
-
هما بخير ولله الحمد ... لقد تعثرت (رنا) من فوق الدرج
وأصيبت ببعض الإصابات البسيطة، هي الآن في المشفى ... لقد كانت حادثة.
قاطعتها بعصبية وسط النشيج:
-
لا لم تكن حادثة لقد فعلتها (السيدة السوداء)، وأصابت
زميلتي، وقتلت طبيبتي ... إنها تطاردني.
ثم عدت لنوبة البكاء مرة أخرى، أخذت
جدتي تحاول تهدئتي:
-
لا تقلقي ياحبيبتي، سيكون كل شئ على مايرام.
تنهدت بصوت مرتفع وهي تربت على رأسي:
-
سيكون علينا أن نطمئن أولا على (رنا) وأمك، وبعد ذلك
سأسمع منك القصة الكاملة.
في استراحة المشفى كنت أجلس مع جدتي
بعد أن اطمأننا على حالة أختي وعلمنا من الطبيب أنها بخير ويمكنها العودة للبيت في
اليوم التالي بعد إنهاء بعض الفحوص والإجراءات... كنت أحكي لها كل الأحداث التي
حصلت في الأيام الأخيرة، كنت أحكي لها بانفعال شديد، وكانت هي تتابع ما أقول
باهتمام وتفهم، وعندما انتهيت قلت لها:
-
هذا ما حدث ... هل تصدقيني ياجدتي؟
-
بالتأكيد أصدقك.
ثم أشاحت بوجهها والتزمت الصمت للحظات،
فقلت لأحثها على الاستمرار:
-
إذا أنت تعرفين تلك (السيدة السوداء)؟
-
(ليلى) ... كان اسمها (ليلى).
عادت إلى الصمت مرة أخرى، فقلت:
-
وماذا؟
حاولت أن ترسم على وجهها ابتسامة
مطمئنة، ولكنها لم تفلح في إخفاء القلق الذي وراءها ... قبل أن تقول:
-
كانت مربية أبيكي وعمتك في الصغر ... وماتت.
-
كيف حدث هذا؟
-
ماتت بسبب حادثة ... حدثت في (الفيلا) ... كان هذا
الكلام منذ ثلاثين عاما أو يزيد!
فكرت للحظة، ثم قلت:
-
إذا لماذا تطاردني الآن؟
-
لا أعرف ياحبيبتي ... ولكن لا تقلقي فأنا سأكون دائما
إلى جانبك
من الواضح أن هناك المزيد من الحقائق
تخفيها جدتي في جعبتها وتتهرب من أن تحكيها لي ... حاولت أن أعرف منها المزيد
فتهربت وهي تدعوني للعودة إلى غرفة (رنا) حتى لا نترك أمي وحدها في تلك الحالة
التي هي عليها من الإرهاق والضغط العصبي، وافقتها على مضض، وقررت أن أؤجل تساؤلاتي
إلى وقت لاحق الليلة عندما نكون فيه أنا وهي وحدنا في (الفيلا) ... تحركنا سويا في
اتجاه الغرفة وقبل أن نصل إليها بعدة أمتار لمحت (السيدة السوداء) وهي تلج الغرفة
بعد أن رمقتني بنظرة جانبية ... صرخت في جدتي:
-
إنها هناك ... ستدخل غرفة (رنا) ... هل ترينها؟
أجابت جدتي وهي تسرع الخطا بأقصى قدرة
تسمح بها سني عمرها:
-
أجل أراها.
كانت الإجابة مفاجأة ولكن الوقت لم يكن
مناسبا للتفكير فيها، كان علي أن أعدو بأقصى سرعة لألحق بتلك (السيدة السوداء) إلى
داخل غرفة (رنا) بعد أن سبقتني إليها ... وقبل أن أصل إلى باب الغرفة سمعت صرخة تنبعث
من داخلها، صرخة عرفت فيها صوت أختي (رنا)، ضاعف الفزع والخوف عليها من سرعتي حتى
وصلت إليها واقتحمتها، فهالني ما رأيت ... كانت أمي تزود بجسدها الغارق في الدماء
عن جسد (رنا) وتحميها من عدو لا تراه ولكنها تشعر به وبآلام الجروح التي يصنعها في
جسدها ... وكانت تلك اللعينة (السوداء) قد تحولت إلى هيئة أخرى، هيئة مرعبة متوحشة
لن تنمحي من خيالي ما حييت، جسد عملاق مشعر بيدين كبيرتين تنتهيان بمخالب حادة
كالضواري، وجه كوجوه الضباع وقدمين مخلبيتين قصيرتين، كانت تهاجم أمي وأختي وتمزق
جسد أمي بمخالبها ... اندفعت ناحيتها دون تفكير فأطاحت بي بضربة واحدة إلى آخر
الغرفة، قاومت ذلك الألم وأنا أدفع نفسي للقيام ومعاودة الكرة، ولكن قبل أن أفعل
كانت جدتي قد وصلت إلى الغرفة ودخلتها بسرعة وهي تقول:
-
توقفي أيتها اللعينة.
توقف ذلك الشئ البشع عن مهاجمة أمي
وأختي وتحول في لحظة واحدة إلى هيئة تلك (السيدة السوداء) التي أخذت ترمق جدتي
بنظرات حادة ... اقتربت منها جدتي بشجاعة ثم وجهت إليها يدها اليمنى وهي تبسط
أصابعها الخمسة، ثم أخذت تتلو بعض الكلمات والتمتمات الغير مفهومة، وترددها مرة
بعض مرة بصوت عالي بحدة تتزايد ... تحركت (السيدة السوداء) خطوة ناحية جدتي فشعرت
بالقلق من أن تهاجمها، ولكنها توقفت ثم بدأت صورتها تهتز، ثم تصبح أكثر شفافية حتى
اختفت في النهاية ... هرعت مباشرة إلى أمي التي سقطت على الفراش مغشيا عليها
وغارقة في دمائها، كنت أشعر بالخوف والقلق عليها وكذلك كانت أختي التي لم تكن قد
شفت من أصاباتها بعد، لحقتني جدتي وبعض الممرضات والأطباء الذين جذبتهم الجلبة
وصوت الصرخات ولكنهم وصلوا بعد أن انتهى الخطر ... نقلوا أمي بسرعة إلى غرفة
الطوارئ ومنعوني من اللحاق بها أنا وجدتي، قضيت ساعتين من أشق ساعات عمري وأنا
اتنقل بين غرفة أختي لأطمئن عليها ثم أعود أمام غرفة الطوارئ لاستطلع حالة أمي ...
حمدت الله في النهاية عندما عرفت أن أمي بخير وأن الجروح التي أصابتها كانت جروحا
سطحية ... اقتربت جدتي مني وقالت بصوت جاد:
-
يجب أن نعود إلى (الفيلا) الآن.
قلت بلهجة مستنكرة:
-
الآن!.. ونترك أمي وأختي؟
-
سيكون علينا أن نفعل ذلك إذا أردنا أن نتخلص من ذلك
الخطر الذي يحدق بكم جميعا.
قلت لها وأنا أشعر بأن الغموض والألغاز
تضاعفت بعد مجيئها:
-
لم تقولي لي كل الحقيقة بخصوص (تلك السيدة السودلء)
أومأت برأسها وبدا على وجهها بعض ملامح
الحزن والانكسار التي لم أعتدها فيها يوما، وهي تقول:
-
أجل لم أفعل ... ولكنني سأحكي لك الحقيقة كاملة ... ولكن
علينا أن نسرع إلى (الفيلا) قبل أن يتعرض أحدكم لخطر جديد.
-
وماذا عن أختي وأمي؟
أشارت بسبابتها إلى آخر الرواق، فرأيت
صديقة أمي تقبل نحونا بخطوات مسرعة، قلقة، قبل أن تقول:
-
ستعتني بهما صديقة أمك ...
وصلنا إلى (الفيلا)، فأجلستني جدتي على
الأريكة ثم دخلت إلى غرفة المكتب واستغرقت فيها بضعة دقائق حتى شعرت ببعض القلق،
ثم عادت وهي تحمل بين يديها كتابا ضخما، غلافه من الجلدالمهترئ، عليه بعض الكلمات
بخطوط مرتعشة، شيطانية، مكتوبة بخط اليد، لا أفهم معناها، ولا أعرف بأي لغة كتبت،
صفحاته صفراء حائلة تآكلت أطرافها وتعفنت ... جلست جدتي على الكرسي الذي أمامي، ثم
قالت ببساطة:
-
أنا ساحرة.
كانت مفاجأة جديدة تضاف إلى المفاجآت
التي أصبحت تصرعني بشكل يومي مؤخرا، فلم أستطع أن أنبث ببنت شفة ولا أن آتي برد
فعل، فقالت هي مردفة:
-
وأنت أيضا ...
ثم قالت موضحة:
-
على الأقل تحملين الجينات الضرورية لذلك.
في هذا المرة قلت متسائلة، بلهجة
منزعجة:
-
أنا !؟
-
أجل، أنت الوحيدة من دمي التي ورثت مني تلك القدرة، كما
ورثتها عن جدتي أيضا.
شعرت بحيرة شديدة، وأنا أحاول أن أرتب
قطع اللغز:
-
وماذا عن عمتي وأختي؟
-
لا تمتلكها أيا منهما؟
غطيت وجهي بكلتا يداي وأنا أقول:
-
أنا لا أفهم ... أنا لا أفهم!
وضعت جدتي الكتاب على الطاولة، ثم
أقبلت لتجلس بجانبي على الأريكة وهي تقول بلهجة مشفقة:
-
عندما رأيتك في المرة الأولى عرفت ذلك ... ولكنني تمنيت
إلا تكتشفي ذلك أبدا ... في البداية قد تظنيها منحة ثم تكتشفين بعد ذلك أنها شر
لعين يمزق روحك فيميتها ويضر كل من حولك ...
صمتت للحظة، ثم قالت:
-
استطعت أنا أن أوقف تلك اللعنة بعد أن كادت تودي بأعز ما
أملك أباك وعمتك، وبحياتي أيضا ... كان الموضوع صعبا في البداية ولكنني استطعت أن
أمتنع تماما عن أعمال السحر ولأكثر من ثلاثين عاما ... حتى هذا اليوم، أنت رأيت
بعينك ماحدث في المشفى لأمك وأختك، كنت مضطرة لإنقاذهما.
شعرت بالمرارة في صوتها وهي تردف:
-
وهذا معناه أن اللعنة قد عادت من جديد ...
رأيت الحزن والألم في عينيها، فأمسكت
بيدها، فابتسمت لي وهي تكمل قصتها:
-
تلك المرأة اللعينة (ليلى)، كانت صديقتي، وكانت ساحرة هي
أيضا ... كنت أدعي أنها مربية أطفالي أمام الناس وفي الخفاء كنا نمارس طقوس السحر الرهيبة،
أشياء فظيعة لا يمكن أن أقصها عليك، كنا كلما مارسنا السحر أكثر كلما سقطنا
وتداركنا أكثر في هذا الأمر، كانت هي سعيدة متحمسة وكنت أنا أشعر بتأنيب الضمير
كلما فعلت شيئا من تلك الأشياء الفظيعة ... حتى حدث ما حدث.
-
وماذا حدث؟
قالت:
-
لم أكن أعلم أن (ليلى) تكرهني في باطنها وتحقد علي
وتغبطني على حياتي السعيدة التي كانت أفضل من حياتها التي كان الشقاء والبؤس هما
عنوانها ... كانت تحسدني على زوجي الحبيب، وعلى ثرائي وجمالي مقارنة بقبحها ... فعزمت
في نفسها الشريرة أن تجرب علي سحرا ملعونا كنا قد قرأنا عنه في هذا الكتاب الذي توارثناه
عن اسلافنا...
أشارت إلى الكتاب الذي كان على الطاولة
أمامنا، وهي تردف:
-
سحر وقوده من دماء أبنائي، أباك وعمتك ... وثمنه روحي وحياتي
اللذان ستنزعهما من جسدي، ثم تحول إليه وعيها، لتعيش فيه، متمتعة بجسدي وبحياتي
السعيدة.
كان الكلام مرعبا ولا يمكن تصديقه ...
كيف تكون جدتي المحبوبة ساحرة شريرة؟.. توقفت عن متابعة تلك الفكرة وأنا أسمعها
تقول:
-
كان السحر يتضمن أن تلقي لعنة على أحد أبنائي، فيراها
كأنها أمه ويفضلها علي عندما تأتي لحظة الاختيار بيني وبينها ... وعندما يتم
الاختيار سيكون عليها أن تذبحه بسكين وتريق دمائه وهي تلقي تعويذتها السحرية.
صرخت صرخة مكتومة،وأنا أتمتم:
-
ستجعل من نفسها أمه الثانية ... هذا ما كانت تطلبه مني؟
أومأت برأسها ثم استطردت في حديثها
قائلة:
-
أجل، ولكنني اكتشفت خدعتها وألقيت عليه سحرا عكسيا،
وعندما جائت اللحظة المناسبة قتلتها بيدي هاتين قبل أن تقتل أبنائي أو تقتلني.
كان الفزع قد ارتسم على ملامحي، وشعرت
برغبة في الهرب ... كيف يمكن لعقل طفلة في مثل عمري أن يتحمل كل تلك الكوارث
المتلاحقة ... قاطعت جدتي أفكاري وهي تقول:
-
وأخفيت جثتها هنا في هذه (الفيلا) ...
قلت بصوت مرتعد، متسائل:
-
في غرفة الجلود؟
نظرت لي بدهشة ثم قالت:
-
كيف عرفت؟
-
لقد كانت دائما تحاول أن تقودني إلى تلك الغرفة، أراها
دائما في ذلك الركن من غرفتي ظهرها يلاصق الحائط الذي يفصل غرفتي عن غرفة الجلود.
ربتت جدتي على كتفي وهي تقول:
-
أنت فتاة ذكية يا (هنا) ... لقد كانت تحاول أن تنتقم مني
من خلالك ... تحاول العودة مرة أخرى وتضغط عليك حتى تطيعيها عندما تأتي اللحظة
المناسبة.
قلت مستفسرة:
-
وما الذي جاء بها بعد كل تلك السنين؟
نظرت لي جدتي نظرة حزينة وهي تقول:
-
كنت أحسب بعد أن قتلتها وأخفيت جثتها أن الخطر قد انتهى
... بعدها أخفيت كل كتب السحر وهجرته وحاولت أن أكفر عن كل الأشياء الفظيعة التي
فعلتها ... ولكنك ورثت عني جينات الساحرة وعندما صرخت في تلك الليلة في الظلام سمعتك
تلك اللعينة في مرقدها فجائت لتجيب على ندائك...
لقد أصبحت الأمور أوضح الآن، ولكن كان
علي أن أتسائل:
-
وماذا سنفعل الآن؟
قامت جدتي وجلبت الكتاب السحري ثم عادت
وجلست بجانبي، فتحت إحدى صفحاته، الممتلئة بحروف شيطانية، ثم قالت لي:
-
توجد هنا تعويذة للتخلص منها نهائيا، سيكون علينا أن
نحرق رفاتها ثم نذروه مع الريح في ليلة قمرية مثل هذه الليلة، ونقرأ تلك الكلمات
... هل تستطيعين قرائتها؟
-
لا استطيع؟ ... إنها لغة غريبة لم أرها من قبل.
-
حاولي مرة أخرى ... دققي أكثر في المكتوب.
دققت النظر في الكلمات وحروفها
المرتعشة، ثم بدأت أشعر أن تلك الحروف تتحرك على الصفحة وتعتدل وتكون كلمات باللغة
العربية يمكن قرائتها وإن لم أفهم معناها، فقلت:
-
استطيع قرائتها الآن، ولكن لا أفهم معناها.
-
جيد ...
هبت من مجلسها ثم أمسكت بكتفي وهي
تقول:
-
هناك خطر كبير فيما سنفعله، بعد أن اكتسبت تلك الشيطانة كيانا
ماديا وقدرة على الإيذاء، بالتأكيجد ستحاول منعنا بكل قوتها ... عديني بشئ واحد ياصغيرتي.
كنت أسير معها بركبتين مختلجتين من
الرعب، أشعر بالتردد وأفكر في أن انقلب على عقبي وأحاول الهرب إلى خارج (الفيلا)
وأتناسى كل ماحدث في الأيام الأخيرة نهائيا، ولكن عندما فكرت فيما حدث لأمي وأختي
وجدت أنه علي المضي للنهاية، فقلت لها:
-
أعدك بماذا؟
-
تعديني باستكمال تلك الطقوس حتى النهاية، لو لم استطع
أنا أفعلها بنفسي ...
-
أعدك ... ولكن لماذا لن تكملي الطقوس بنفسك؟
قالت بصوت مترفق، وهي تقطع الورقة من
الكتاب وتناولني إياها :
-
احتفظي بهذه ... هيا بنا.
فتحت جدتي باب غرفة الجلود ودخلناها
سويا، ثم توجهت إلى ذلك الحائط الملاصق لغرفتي، أزاحت كل المعاطف والصناديق التي
في طريقها وألقت بها جانبا، ثم تناولت مطرقة كانت موضوعة في ركن من الغرفة ثم أخذت
تطرق بها على هذا الحائط ... كانت جدتي تبذل مجهودا شاقا في عمرها هذا، حاولت أن أساعدها
ولكنها كانت تابى وتعود للطرق على الحائط بقوة وحماس، وسرعان ما تهاوى الحائط الذي
كان مصنوعا من طبقتين من الجبس بينهما لوح من الخشب ... أزاحت جدتي ماتبقى من
الحائط بيدها فانطلقت مني صرخة حادة وأنا أرى تلك الرفات البشرية التي كانت ترتدي
ثوبا أسود مهترء، نفس الثوب الذي كنت أرى فيه تلك (السيدة السوداء) طوال الوقت ...
جلبت جدتي كيس كبير من القماش ووضعته على الأرض ثم نقلت الرفات إلى داخله بحرص ...
عندها ظهرت تلك (السيدة السوداء) في منتصف الغرفة، وتحولت في لحظة إلى تلك الهيئة
الضبعية المتوحشة، ثم انقضت على جدتي ...
كان رد فعل جدتي غريبا، فقد دفعتني
بعيدا بقوة فسقطت على ظهري قرب باب الغرفة، ثم استقبلت هي ذلك الكيان المتوحش
بشجاعة وأحاطت وسطه بكلتا يديها، في نفس اللحظة التي غرس فيها مخالبة في ظهرها،
حاولت الاقتراب ومساعدتها فوجهت يدها نحوي فشعرت أن هناك حاجز خفيا يجمدني في
مكاني ويمنعني من الاقتراب ... تحولت هي إلى ذلك الكيان المتوحش وأمسكت به بقوة
أكثر وهو يغرس أنيابه الضبعية في كتفها ... تمتمت جدتي ببعض الكلمات السحرية فظهرت
دوامة كروية من الأثير الأحمر وأحاطت بها هي وذلك الكيان ... تنبه الكيان لذلك وحاول
الهرب فاصطدم بجدار تلك الداومة وارتد إلى داخلها ... صرخ ذلك الكيان صرخة مرعبة
متعذبة كأنها تصدر من قلب الجحيم قبل أن يتحول إلى هيئة (السيدة السوداء) للمرة
الأخيرة، كان لون الدوامة يزداد أحمرارا ويصبح أكثر قتامة ...صرخت بإسم جدتي،
فنظرت لي نظرة لن أنساها أبدا وقالت:
-
الوداع ياحبيبتي ... لا تنسي أن تفي بوعدك.
انفجرت الدوامة بصوت مكتوم كفقاعة
الصابون ثم اختفت، واختفى معها ذلك الكيان المتوحش أو تلك (السيدة السوداء) واختفت
معها أيضا جدتي ... نصف ساعة ظللت فيها جالسة في مكاني لا أستطيع التحرك، أفكر
فيما حدث بأسى ... ثم نهضت بخطوات متثاقلة ... وأنا أفكر أن ما حدث جعل مني إنسانة
أخرى ... لقد صرت أقوى ... لم أعد تلك الفتاة الصغيرة الهشة، منزوعة الإرادة ...
سيكون على التفكير في كل ذلك لاحقا ولكنني الآن أمامي ليلة طويلة ... حملت الكيس
القماشي الذي يحوي الرفات، نزلت به إلى الدور الأرضي، توجهت إلى المطبخ وجلبت علبة
ثقاب وزجاجة من الكيروسين ... أخرجت من جيبي تلك الورقة التي تحوي التعويذة ثم
توجهت إلى خارج (الفيلا) لأفي بوعدي لجدتي...
.. (تمت) ..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق