قصة رعب قصيرة بعنوان ... (الحمقى فقط يخدعهم الدجالون!)
حكى لي صديق عن شيخ في قريتهم يجيد فك
الأعمال وتخليص الناس من آثار السحر والمس وغيرها من أعمال الشعوذة ... وجدتها
فرصة لمقابلته وإجراء حديث صحفي معه، تماشيا مع موجة الخرافات التي أصبحت رائجة
هذه الأيام على برامج فضائيات الدرجة الثانية، وعلى صفحات الصحف الصفراء كالصحيفة
التي أعمل بها حاليا ... بالتأكيد موضوع مثل هذا سينال إعجاب رئيس التحرير بعشقه
المعروف للخرافات والدجل والذي يأتي لديه في المرتبة الثانية مباشرة بعد الفضائح
الجنسية للفنانين ولاعبي الكرة ... جميعها موضوعات تعتبر الوقود الرئيسي للإعلام
الأصفر...
سألت الدجال في نهاية حوارنا المطول، والذي
أبدى فيه سعة صدر، وأريحية يحسد عليها أمام طلقاتي التي أطلقتها في وجهه، وأنا أتهمه
في أسألتي صراحة ودون مواربة، أن ما يفعله
هنا هو صورة من صور النصب والخداع:
-
إذا كانوا (الله احفظنا!) كما تقول بيننا وحولنا
وموجودين في كل مكان، إذا لماذا تكون الوقائع التي ترصد وجودهم قليلة ومحدودة وغير
مؤكدة؟
أجاب وهو يعبث بشعيرات ذقنه الشعثاء، ويحاول
أن يرسم إمارات الحكمة على وجه خط عليه الزمن بفرشته علامات الهرم القاسية:
-
هم كثيرون جدا وأعدادهم تفوق أعدادنا بملايين المرات،
ولكن بيننا وبينهم ألف حجاب وسور، لا يتخطاه منا ولا منهم إلا أصحاب الحظوة والكرامة،
عندها تحدث تلك الوقائع التي تتكلم عنها.
أطلقت ضحكة متهكمة أخيرة، تعمدت أن
أنهي بها لقائنا وكأنها رسالة واضحة أقولها في وجهه (أنت دجال!) ... قمت لأغلق
جهاز التسجيل وألملم أوراقي، فقبض بيده الخشنة على ساعدي، وهو يقول بصوت عميق قوي
التأثير:
-
انتظر قليلا، ألا تريد أن أفك لك (العمل) الذي عليك.
حررت يدي من قبضته بعنف، وقلت بلهجة
متحدية:
-
لا ضير، هيا أفعلها!
أغمض عينيه، ويمم وجهه ناحية السقف،
وهو يحرك رأسه يمينا ويسارا، فرك بأصابعه بعض حبيبات البخور في قسط الفحم المشتعل
أمامه فانبعث منه دخان ذو رائحة عطرية عجيبة، قال بصوت قوي، عميق ،مجوف، كأنه يخرج
من مكبر صوت:
-
هناك (عمل) بإسمك، عمل قذر، ملعون، مدفون تحت نخلة عجوز
عقيم، بسور أطلال دار مهجورة في واحة لا طريق للبشر إليها في الصحراء الغربية ... (عمل)
سحرته لك إمرأة من أقاربك لتفرق بينك وبين زوجتك.
قلت ساخرا:
-
(العمل) في الصحراء الغربية ... إذا تحركنا الآن يمكننا
أن نجلبه بعد نصف ساعة.
قاطعني بجدية، متجاهلا الجزء الساخر في
كلامي:
-
لا داعي لذلك، سآتي به إليك الآن ... خادمي سيفعلها ...
وقبل أن أحاول التهكم من كلامه مرة
أخرى، أضاف:
-
المرأة اسمها (نادية).
ثم دس كفه العاري في الفحم الملتهب
وأخذ يقلب في قاعه قبل أن يخرج كيس من القماش كان مدفونا فيه! كانت أطراف الكيس قد
بدءت تشتعل بالنار فأطفأها بأصابعه ببساطة ... كان هناك أكثر من سبب يدعوني
للدهشة، الأول هو تلك الطريقة التي دس بها يده في النار وكأنه يضعها في الماء
البارد، والثاني هو أنه لدي قريبة بالفعل تحمل هذا الاسم، كان البعض يحاولون
تزويجي بها قبل زوجتي، والثالث هو أن العلاقة بيني وبين زوجتي تشهد فتورا في
الأيام الأخيرة ...
انتبهت إليه وهو يخرج من جعبته قارورة
زجاجية ممتلئة بسائل شفاف، اسقط منها بعض القطرات على الكيس، قبل أن يلقيه نحوي:
-
تفضل، لقد أفسدت (العمل)، يمكنك أن تفتحه.
التقطت الكيس بيد مرتعشة، وفتحته، وجدت
داخله ورقة مطبقة عدة مرات على نفسها حتى صارت بحجم حبة البازلاء، فضضتها بصعوبة، أخذت
أفحصها وأقرأ ما فيها، كانت ورقة صفراء مهترءة قديمة كأنها كتبت منذ مئات السنين، خط
عليها بخط شيطاني مرتعش بعض الكلمات، كان من بينها اسمي الرباعي، واسم أمي كاملا، وعملي،
وعمري في هذا اليوم، وعليها أيضا الأثر الشيطاني الذي يفترض أن يصنعه (العمل) في
ضحيته ... نوبات الصداع، ساعات من الاكتئاب والضيق ليلا، العصبية غير المبررة،
شعور بالفتور تجاه الزوجة وهجرانها ... وأشياء أخرى ملعونة حتى نهاية الورقة ...
المفجع هو أن بعض تلك الأشياء كنت أشعر بها
في الفترة الأخيرة بالفعل، وأعزيت ذلك إلى حالة الملل التي تسربت إلى زواجي، وضيقي
من عملي الحالي الذي لا يتناسب مع مهارتي ولا مع طموحي ... ألجمتني المفاجأة فلم
استطع أن أنطق بحرف ، وعندما حاولت التعليق، خرجت كلماتي متلجلجة مختلجة... لقد هزت
تلك الورقة ثقتي بنفسي وضربت قناعاتي في مقتل ... قال الدجال بصوت تمثيلي وعلى
وجهه إمارات الظفر:
-
انتهت المقابلة يمكنك أن ترحل الآن، لن أطالبك بأجر.
حملت حاجياتي وغادرت المكان أجرجر
أقدامي، قابلني صديقي في الخارج فقال:
-
أراك تحمل وجها غير الذي دخلت به؟
فقلت بحيرة:
-
لقد فاجئني بمعلومات كثيرة عني، تخيل لقد كان هناك (عمل)
بإسمي قام هو بفكه.
اطلق صديقي ضحكة ساخرة، وهو يقول:
-
إذا لقد خدعك، هذه هي أصول اللعبة، وأمثال هذا الشخص
يجيدونها بحذافيرها.
-
هل تعتقد؟ لقد كانت المعلومات دقيقة للغاية!
قال صديقي بلهجة تقريرية:
-
صدقني هو مجرد دجال آخر ... وكلما كانت الضحية أكثر
ثقافة وتعلقا بالقواعد المنطقية والثوابت سهل على أمثاله خداعها.
نظرت لصديقي وأنا أفكر فيما قاله وأردد
جملته الأخيرة:
-
مجرد دجال آخر!
ثم ابتسمت وشعرت بالفهم والراحة، وأنا
أردف بحماس:
-
معك حق ... لقد كانت خدعة، مجرد خدعة بارعة، بالتأكيد
علم بقدومي فجمع بعض المعلومات عني هذا ليس أمرا صعبا في هذا العصر، وأكملها
بمعلومات أخرى تنطبق على الجميع، بالتأكيد كل شخص منا لديه أمرأة من أقاربه اسمها
(نادية)، وعانى مؤخرا من بعض الصداع أو الضيق، أما عن فتور الحياة الزوجية فحدث
ولا حرج، من منا ليس كذلك ...
أومأ صديقي برأسه موافقا على كلامي وهو
يقول:
-
بالضبط، أنا أيضا تنطبق علي جميع المعلومات التي ذكرتها
الآن...
ثم عقد حاجبيه وقال مازحا:
-
هل أنت متأكد أنه كان يقصدك أنت بها؟ أم هي رسالة كان
عليك إيصالها لصديقك الذي كان ينتظرك في الخارج؟
بدأت المشكلة في نفس الليلة ... كنت
نائما بعد أن انتهيت من تفريغ التسجيلات وكتابة المقال الذي سأعرج به على الصحيفة
غدا، شعور غريزي فطري ذلك الذي دفعني للاستيقاظ دفعة واحدة، هنالك شئ ليس على ما
يرام ... بالفعل كان هناك شخص أو شئ ما معي في الغرفة، لا استطيع تمييز ملامحه
بسبب الظلام ولكنه يقف هناك في منتصف الغرفة صامتا يحدق في!.. امتدت يدي بسرعة إلى
المصباح فأضأته، ولكن ذلك الشئ كان قد اختفى، عدت للنوم مرة أخرى بعد أن تركت
المصباح مضاء تلك المرة وبعد أن طمأنت نفسي بأن ماحدث مجرد تبعات لحلم سمج استيقظت
أنا في منتصفه دون أن أدرك ذلك! ، ولكن الحالة عاودتني أكثر من مرة في نفس الليلة،
كنت استيقظ مفزعا أشعر أن هناك من يراقبني، وفي مرات أخرى استيقظ على صوت يهمس في
أذني.
طار النوم من عيني وقررت أن أظل مستيقظا
حتى الصباح، ولكن حالة الجنون لم تتوقف، أسمع الآن ضحكات تنبعث من غرفة المعيشة،
أعلم أنني وحدي في الشقة الآن بعد أن أغضبت زوجتي فرحلت إلى بيت أبيها منذ يومين، إذا
ما مصدر تلك الضحكات، استجمعت شجاعتي وتحركت إلى غرفة المعيشة في خطوات متوترة،
وأيضا وجدتها خالية ... وقبل أن أفكر في الخطوة التالية وصل إلى أذني صوت عال
ينبعث من غرفة النوم، فجريت إليها فوجدت كتاب عن (الجن والشياطين) ملقا على الأرض في منتصفها، الغريب أن هذا الكتاب لم
يغادر مكتبتي ولا غرفة مكتبي منذ سنوات، ما الذي جاء به إلى هنا الآن؟ أكاد أجن!
ارتديت ثيابي على عجل وخرجت إلى
الشارع، الشعور بأنني مراقب يلازمني طوال الوقت، وكلما نظرت خلفي لا أجد أحدا ...
وصلت إلى الصحيفة التي أعمل بها وسلمت المقال للسكرتيرة، تعجب زملائي من حالة الأرهاق
التي ظهرت على وجهي وثيابي بسبب السهر والتوتر،
وعندما حاول أحدهم الاستظراف اشتبكت معه وكدت افتك به، أعصابي لا تحتمل كل
تلك الضغوط ... دخلت إلى دورة المياة وأخذت أصب الماء على وجهي، وعندما نظرت إلى
المرآة أمامي وجدت انعكاس لشبح غير واضح الملامح يظهر في زاوية منها، التفت ناحيته
بسرعة، ولكنه اختفى كالعادة ... كنت قد أخذت القرار، خرجت بسرعة من دورة المياة
واتصلت بصاحبي في رحلة الأمس وطلبت منه أن يأتيني برقم هاتف ذلك الشيخ اللعين
وبسرعة!
اتصلت به، فجائني صوته العميق المجوف
من الناحية الأخرى:
-
كنت أعرف أنك ستتصل.
صمت للحظة، ثم قلت مستفهما:
-
إذا أنت تعلم بما يحدث لي؟
-
أجل.
-
وما الحل؟
فترة أخرى من الصمت، نطق بعدها بكلمات
بطيئة ممطوطة:
-
في الواقع، لم أكن أمينا معك بالأمس، لم يكن ما بك مجرد
(عمل) فقط ... كان هناك شئ آخر ... أخطر بكثير من ذلك.
قلت محاولا دفعه للكلام بسرعة أكبر:
-
أرجوك، أكمل!
-
بسبب (العمل) القذر الذي سحرته لك تلك المرأة، أصبحت
عرضة لخطر أكبر ... أنت مرصود.
-
وماذا يعني ذلك!؟
حاول أن يكسب صوته بعض التعاطف:
-
أصبحت هدفا لبعضا منهم.
كررت سؤالي:
-
وماذا يعني ذلك؟
-
السحر الذي تعرضت له جعلك مثل منزل رحب يغري الضيوف
بسكناه، وعلمت من خادمي أن العشرات منهم في أثرك الآن، ولو لم تتصرف بسرعة فإنك
ستتعرض لخطر لن يكون في مقدور أحد تخليصك منه ... حتى أنا!
كنت أشعر بحالة شديدة من الذعر والتوتر
... حتى في تلك اللحظات التي اتحدث فيها في الهاتف كنت أشعر بأن هناك من يراقبني، وبأن
هناك من يقف خلفي، وأثق تماما بأنني لو التفت فلن أجد احدا، قلت بصوت مذعور:
-
هل تستطيع مساعدتي؟
-
أجل، ولكن يجب أن يكون ذلك بسرعة، اليوم قبل الغد، وقبل
أن تقع الكارثة.
-
إذا سآتي لك حالا!
وقبل أن أغلق الهاتف أردف بلهجة قوية:
-
ولكن هذا لن يكون مجانيا، فتخليصك من الرصد يحتاج لأشياء
ومواد مكلفة.
-
كم تريد؟
-
عشرة آلاف!
ثم أردف ببساطة وبلهجة تقريرية:
-
أنا في انتظارك ... لا تتأخر.
ثم أغلق الهاتف من ناحيته ... دخلت بعدها
في حالة من الصراع النفسي، كنت أتحدث بصوت مسموع وأرد على نفسي، من يراني في تلك
الحالة لن يشك لحظة في أنني أصبت بالخبال ... أنا لا أمتلك المبلغ المطلوب ولكنني
استطيع تدبيره ... ولكن هل يعني ذلك أن استسلم وأمنحه بسهولة لهذا الدجال! ... ماذا
لو كان هو الذي أرسل تلك الأشياء في أثري؟ ... وحتى لو كان الأمر كذلك فماذا
يمكنني أن أفعل؟ ... أنا لن استطيع تحمل تلك الحالة يوما آخر ... سأجن بالتأكيد ... ماذا أفعل؟
في المساء، كنت أجلس أمام ذلك الشيخ في
صومعته وسط سحب البخور، وكان يكرر نفس ما فعله في اليوم الأول ولكن في تلك المرة
كان تأثيره على قويا بعض أن تلاشت مناعتي تماما ... سلمته الظرف الذي يحتوي على
المبلغ في استسلام، فارتسمت على وجهه ابتسامة لثانية واحدة أخفاها وراء قناع الجد
وهو يقول:
-
يمكننا أن نبدء الآن ... أنت في خطر كبير، لا يستطيع أحد
أن ينجيك منه، من حسن حظك أنك جأت لي مبكرا، فأنا الوحيد القادر على ذلك ...
وقبل أن يكمل حديثه اقتحم المكان
مجموعة من الضباط والجنود في بزاتهم الرسمية، حاول الدجال الهرب فتعثر في عبائته
وسقط بين براثنهم ... قال الظابط الأعلى رتبة:
-
لقد سقطت أيها الدجال.
ليلة طويلة قضيتها في قسم الشرطة ومع
ضوء الفجر سطعت الحقيقة ... كانت خدعة بالفعل، خدعة صياد ماهر يلقي بسنارته في
الماء وينتظر في صبر حتى تأتي لها السمكة وبنفسها، وعندما اعترف ذلك الدجال بخدعته
أمامي بعد أن ضيق عليه الضباط الخناق، فاجئتني براعته وقدرته على التخطيط والتنفيذ
... في اليوم الأول استغل غروري واعتدادي بعلمي وثقافتي وزرع في نفسي الشك لأصبح
أكثر تقبلا لما سيحدث بعدها، أما الضربة القاضية فجائت وسط سحب البخور الذي كان
معبقا بعقار مثير للهلوسة، عقار خاص متدرج وممتد التأثير ... لم يكن يستطيع توقع أثر
العقار على الضحية والذي كان سيختلف بالتأكيد من شخص لآخر، ولكن عندما تخور قوى
الضحية بتأثير العقار وبتأثير الحالة النفسية التي وضعها فيها في الجلسة الأولى
فإنها ستأتيه طواعية ويصبح تقبلها لفكرة الرصد والخطر المحدق بها أمر محسوما ...
لقد كنت حسن الحظ بالتأكيد ... فأنا لم أخسر أموالي أيضا وإن كنت أشعر بأنني كرامتي
وإيماني بقناعاتي قد تزعزعا... أما هو فكعادة كل الخارجين على القانون فقد فاحت
رائحة ما يفعله حتى وصلت إلى الجهات الأمنية، التي وضعته تحت الرقابة حتى اقتنصته في
اللحظة المناسبة...
كنت عائدا من قسم الشرطة في الطريق إلى
منزلي، مررت ببائع الصحف، التقطت صحيفتي الصفراء التي أعمل بها، كان مقالي منشورا بها
وهناك تنويه عنه يزين الصفحة الأولى ... أعجبني العنوان الذي اخترته للمقال (الحمقى
فقط يخدعهم الدجالون!) ...
... (تمت)
...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق