قصة رعب قصيرة بعنوان ... (ملك الخفافيش)
نظر إلى الجهاز الذي يحمله وإلى النقطة
المضيئة الحمراء التي تتحرك على شاشته، وقال لي في ظفر:
-
لقد اقتربنا!
ثم أشار بسبابته إلى فوهة مظلمة أعلى ذلك
الممر الصخري الضيق الذي نرتقيه، وهو يقول:
-
إنها تصدر من هذا الكهف.
كنت أشعر بالإرهاق الشديد بعد ساعات من
تسلق تلك الهضبة الجبلية ... لم يكن تسلقا بالمعنى المفهوم فالانحدار في ذلك
الجانب لم يكن كبيرا مقارنة بالجانب الآخر الذي يواجه المزرعة، كنا نسير صعودا معظم
الوقت أو نقفز فوق الصخور والعقبات التي تقابلنا في الطريق ... لم أعد قادرا على
التحرك خطوة أخرى إضافية، وهو شئ طبيعي مع نقص (الأوكسجين) على هذا الارتفاع، ومع
كوني غير مؤهل لذلك النوع من الجهد من الأساس ... قلت:
-
يجب أن أرتاح قليلا الآن.
-
سنرتاح بعد قليل.
كانت تلك هي المرة العاشرة التي أطالبه
فيها بالراحة، فيدعوني هو للاستمرار قليلا، فأطيعه، أما تلك المرة فلن أفعل ... لا
أقدر!.. جلست على صخرة قريبة وخلعت حذائي الجلدي وألقيته مع حقيبة ظهري على الأرض،
وأنا أقول بإصرار:
-
أحتاج الراحة لدقائق ... إذا أردت الاستمرار فعليك أن
تفعلها وحدك.
شعرت بالغضب والصراع يعتملان داخله، هو
يريد الاستمرار ولكنه لا يريد أن يفعل ذلك وحده، لذا، زفر في استسلام وهو يقول:
-
حسنا، سنتوقف ... ولكن لخمس دقائق فقط.
ابتسمت وأنا أشير له بإبهامي دلالة على
الموافقة، انحنيت لأخرج زجاجة الماء وقطعة من الحلوى من حقيبتي ... كنت أحاول
التذكر ما الذي أتى بي إلى تلك المنطقة المنعزلة في شمال (البرازيل) بالقرب من
الحدود (الفنزويلية) وبصحبة هذا الرجل المتحمس، نطارد ذلك المخلوق الأسطوري في تلك
البيئة الجبلية الوعرة!
كنت قد تخرجت حديثا من كلية العلوم قسم
(حيوان) والتحقت بالطابور الأبدي للباحثين عن العمل، عندما أخبرتني أمي بأن عمي
اتصل هاتفيا وأنه سيعاود الاتصال بي مرة أخرى، سألتها بتعجب:
-
هل تقصدين عمي الذي هاجر إلى البرازيل قبل ولادتي
وانقطعت أخباره، حتى ظننتم أنه مات؟
-
نعم.
قلت بحيرة:
-
إذا كان حيا يرزق فلماذا لم يحاول التواصل معنا قبل الآن
... لو فعل ذلك لكان أدرك أبي في حياته؟
لم تبد أمي مهتمة، ولكنها قالت بكلمات
مقتضبة:
-
لا أعرف ... ولكن لو كان مهتما لحاول الاتصال بأمه وأبيه
اللذان ماتا دون أن يعرفا عنه شيئا.
في الواقع بدا عمي مهتما، على الأقل بي
أنا! وهذا ما قاله لي في اتصاله الهاتفي لاحقا، وعرفت منه أيضا أنه قد صار واحدا
من أغنى أغنياء الأقليم الشمالي، يمتلك مزراع ماشية بها ملايين الرؤوس، تمتد آلاف
الهكتارات مابين السهل الشمالي والسلسلة الجبلية ... ودعاني أيضا لقضاء إجازة طويلة
في مزرعته التي تقع على مسافة خمسين كيلومترا جنوب مدينة (ماناوس) ووعدني بإرسال
تذاكر الطيران وتصريح السفر خلال أيام.
عارضت أمي في البداية ولكنني استطعت
إقناعها كعادتي بعد أن قبلت يدها ورأسها وهمست في أذنها بأني سأعود ولن أفعل كما
فعل عمي من قبل، وافقت في النهاية، ولكن ما ضايقني هو أني لم استطع طمأنتها وتبديد
خوفها وقلقها علي حتى موعد السفر ... عم مليونير، ورحلة غير متوقعة إلى بلاد
(رونالدو) و (بيليه) وراقصي السامبا!!! هل ابتسم لي الحظ أخيرا؟
استقبلني عمي استقبالا حارا فاضت فيه
دموعه ودموعي ... شعرت بالارتياح نحوه وبأواصر القربى التي تجمعني به منذ اللحظة
الأولى، وخاصة أنه يذكرني بأبي ... يبدو أن كل القلق الذي كان يعتمل في نفسي وفي
نفس أمي تجاهه ليس له أساسا من الصحة ... أخبرني عمي أنه لم يتزوج ولم يرزق بأطفال
وأنني قد صرت إبنه ووريثه الوحيد ... مفاجأة رائعة بحق هل تغير حظي حقا؟... الأيام
الأولى في البرازيل كانت رائعة، الشواطئ، المزارات، المطاعم والمقاهي ... جولات في
مزارع عمي وأملاكه، احترام الجميع لي باعتباري ولي العهد ... إطراء عمي على
ملاحظاتي وتعليقاتي وترحيبه بأفكاري خصوصا تلك المرتبطة بطبيعة دراستي والتي
تتقاطع بشكل كبير مع أعمال عمي في تربية الماشية ... سؤال واحد كان عمي يتهرب من
الإجابة عليه دائما ويتعكر مزاجه كلما ألقيته عليه ... لماذا لم يحاول التواصل مع
أهله قبل اليوم؟
بعد فترة، كنت قد اعتدت الإقامة في
المزرعة، وألفت الوجوه واعتاد أصحابها وجودي وألفوه، لذلك عندما استيقظت ذلك اليوم
ونزلت لأتجول في المزرعة شعرت بأن هناك شئ غير اعتيادي ... كانت هناك حالة من التوتر
والعصبية بين العاملين في المزرعة، وعندما سألت عمي عن السبب، أجابني باختفاء بعض رؤوس
الماشية ... الغريب أن الموضوع بدء منذ عدة أيام باختفاء أول بقرة كانت ترعى في
المرعى المفتوح ليلا، وتكررت الحادثة في اليوم التالي وفي الأيام التي تليه، وفي
كل مرة تختفي بقرة واحدة أو ثور واحد حتى بلغ عدد رؤوس الماشية التي اختفت عشرة
... اليوم عثر العمال على آخر الأبقار التي اختفت، عثروا عليها نافقة خارج أسوار
المزرعة!.. الأطباء الآن يفحصون الجثة في العيادة البيطرية الملحقة بالمزرعة ...
طلبت من عمي الانضمام إليهم، فوافق.
كانت العيادة البيطرية حسنة التأثيث ومجهزة
بأحدث الأجهزة والآلات الطبية ... شعرت وأنا ألج بابها أنني أدخل مشفى من فئة
الخمسة نجوم ... كان الأطباء متحلقون حول الجثة التي وضعت على مائدة تشريح، كانوا
يرتدون ملابس الجراحة الكاملة، أشار أحد الأطباء لي على خزانة جانبية تحوي ثيابا
مماثلة، مطبقة ومعقمة ومرتبة في أكياس خاصة، ارتديتها وانضممت إلى الحلقة .... أومأ
لي كبير الأطباء برأسه مرحبا، ثم أشار إلى الجثة وهو يقول بإنجليزية تحمل لكنة ثقيلة
فهمتها بصعوبة:
-
ماذا ترى؟
أجبته بإنجليزية تحمل لكنة مصرية واثقة،
وأنا اتفحص الجثة:
-
حالة افتراس بالتأكيد ... يوجد آثار أنياب على الرقبة، ومخالب
على الظهر والبطن.
-
رائع، ملاحظة جيدة، ولكن أنظر إلى المسافة بين النابين
إنها تزيد على عشرة سنتيمترات، كما أن آثار المخالب لها بصمة ثلاثية معقوفة ... أي
مفترس يترك آثارا مثل هذه؟
كان سؤالا صعبا، أنا لا أعرف الكثير عن
هذه الأشياء، وملاحظتي الأولى كانت مجرد محاولة للتفزلك لكي لا أظهر أمامهم بمظهر
الجاهل، فمشروع تخرجي كان عن أثر حيوانات القرية في خصوبة البيئة الزراعية، هل يعتقد
هذا الرجل أنني استطيع تحديد اسم مفترس برازيلي من شكل آثار أنيابه ومخالبه؟.. قررت
الرد على سؤاله بسؤال آخر، وهي تقنية مضمونة للتهرب من الإجابة:
-
هل يمتلك مفترس من مفترسات البيئة هنا فك بهذا الحجم؟
قال ببساطة:
-
ولا في أي مكان آخر من العالم، أكبر مفترسين لدينا هما
نمر الغابات ذو العلامات المرقطة والتمساح، وكلاهما لا تتطابق آثاره مع تلك.
صمت لبرهة ثم أشار إلى قوائم البقرة:
-
القوائم مكسورة أيضا، وكذلك عظام القفص الصدري والعمود
الفقري ... رغم عدم وجود آثار التهام، وكأن المفترس لم يجد الفرصة لالتهام فريسته.
-
إذا، ما سبب الكسور؟
عدل وضع منظاره الطبي وهو يقول:
-
إما أن البقرة سقطت من ارتفاع كبير، أو أن قطار ما صدمها
بسرعة عالية ... ولا توجد سكك حديدية تمر قريبا من هنا.
ضحكت ضحكة مفتعلة، ظنا أن جملته
الأخيرة كانت نكتة، ولكن نظراته الجادة جمدت الضحكة على وجهي ... قال طبيب شاب
شيئا لم أفهمه يبدو أنه قاله باللغة (البرتغالية)، اللغة شائعة الاستخدام في
(البرازيل)، فترجمه لي كبير الأطباء:
-
يقول دكتور (باولو) أن آثار الأنياب والمخالب تشبه الآثار
التي يصنعها الخفاش.
صمت لحظة ثم أردف:
-
لو كان لدينا خفاش بحجم
سيارة دفع رباعي.
ضحكت مرة أخرى، ثم انتبهت إلى أن هذا
الرجل لا يمزح أبدا، فكتمت ضحكتي ... تحدث طبيب آخر حديثا عصبيا كرر فيه كلمة (باسيتو
... باسيتو!) كثيرا، فعنفه كبير الأطباء ثم دخلا في جدال طويل ... وجدت أنه لا
داعي لوجودي أكثر من ذلك فطلبت الإذن وغادرت المكان!
لمحت عمي يقف وسط مجموع من العمال يتحدث
إليهم بحدة، بدا منفعلا وقد أحمر وجه وعلا صوته، اقتربت أكثر وحاولت أن أفهم ما
يدور، يبدو أنه يحاول إقناعهم بشئ هم غير مقتنعين به، وبعضهم يشعرون بالخوف
والتوتر ... مرة أخرى تتكرر كلمة (باسيتو!) في الحوار ... انتظرت حتى انتهت
المناقشة وانصرف العمال إلى أعمالهم، فسألت عمي:
-
ماذا تعني كلمة (باسيتو!)؟
فنظر إلى مندهشا، ثم ابتسم بإرهاق وهو
يقول:
-
أنت أيضا تسأل عن (باسيتو!)؟
ركل حجر صغير بحجم كرة تنس الطاولة، ثم
زفر بضيق قبل أن يلتفت نحوي وهو يقول:
-
(باسيتو!) هو مخلوق أسطوري على شكل خفاش عملاق، رواية
سخيفة تناقلها السكان الأصليين عن أن (باسيتو!) هذا كان بشريا أصابته اللعنة بسبب
عضة خفاش، جعلت هذا المسكين يتحول إلى وحش مفترس يهاجم الحيوانات والبشر ويتغذى
عليهم، ويظل يحمل اللعنة لسنوات طويلة وينقلها إلى أشخاص آخريين.
قلت ساخرا:
-
إذا نحن نتكلم عن مخلوق هو خليط ما بين مصاص الدماء
والمستذئب ... شئ رائع ... كنت أعلم أن حظي لن يتركني مرتاحا لفترة طويلة وإنه
عاجلا أو آجلا كان سيتدخل ويبليني (بباسيتو!) أو بأي مصيبة أخرى.
ربت على كتفي بتعاطف، وهو يقول موضحا:
-
إنها مجرد خرافات، أنت تعرف القرويين وتطيرهم ...
أنا لا أعرف شيئا عن القرويين في
البرازيل، ولكنني حاولت أن أبدو متفهما وأنا أجيب:
-
أعرفهم.
فالتفت إلي بحماس:
-
ما لا تعرفه، أن عمك صياد محترف، تلك كانت هوايتي
المفضلة في العشرين عاما الأخيرة ... إذا كان هناك مفترس يترصد أبقاري فسنكون أنا
وأنت في انتظاره الليلة.
حاولت الاعتراض قائلا (ما دخلي أنا؟) ...
ولكنه قاطعني وهو يقول بحماس ونشوة:
-
الليلة سيتحول المفترس إلى فريسة.
ثلاث ليال مرت علينا، بت فيها أنا وعمي
في الخلاء، كان هو فيها متنبها طوال الوقت يحمل في يده بندقية صيد خاصة، أما أنا
فكنت نائما بجواره أغط بصوت كصوت آلة الطحين! ... لم يظهر أي أثر للمفترس، بالتأكيد
أفزعه صوت غطيطي الذي كان يصل إلى القرية المجاورة ... أعد عمي الفخ ببراعة، وضع
فيه بقرة سمينة تسر الناظرين وربطها بحبل وتركها وحدها في المرعى بعد التأكد من أن
باقي الماشية مؤمنة داخل الحظائر، أما نحن فكنا مختبئين على مقربة منها في جب صغير
مخفي ببراعة وسط النباتات والأشجار، كنا متأهبين أو كان هو كذلك على الأقل، كان يوقظني
مفزعا من فترة لأخرى كلما سمع صوتا أو تخيل أنه رأى شيئا، فكنت أتظاهر بالاهتمام
للحظات قبل أن أعود للنوم متثائبا ... كنت مضطرا للبقاء معه في تلك المهمة
الثقيلة، فهذه هي واجبات ولي العهد، وعلي أن أضلع بها إذا رغبت أن أتولى العرش
يوما!
خلال تلك الأيام الثلاثة كان قلق
العاملين يتزايد بل أن بعضهم أصبح يرفض ورديات العمل الليلية خصوصا بعد تواتر
الشائعات عن اختفاء شابين كانا يقومان بمغامرة ليلية في دغل قريب، إلى جانب بعض
الأبقار والخيل من مزراع مجاورة ... توقعت أن تمر الليلة الرابعة كسابقيها ... لم
أكن أعلم أن الليلة الرابعة هي الليلة التي سيفتح فيها الجحيم أبوابه ...
توقعت أن تمر الليلة الرابعة كسابقيها،
لذلك عندما لكزني عمي بكوعه لاستيقظ وأشار تجاه المرعى، لم أكن متحمسا للاستيقاظ،
ولكن عندما لمحت ذلك الظل الأسود يحوم فوق البقرة التي أصابتها حالة من الهياج
وحاولت الهرب لولا القيد الذي كان يثبتها إلى الأرض، تنبهت على الفور وأنا أصرخ
قائلا:
-
اللعنة ما هذا؟
وجه عمي بندقيته، وانتظر في صبر وهو
يقول بصوت خافت:
-
يبدو أن الأسطورة ليست كذبة في النهاية.
في تلك اللحظة هجم الظل الأسود على
البقرة حتى غطاها تماما وعلا صوت خوارها المستغيث ... خرج عمي من الجب وأنا وراءه
وأخذ يطلق طلقات من بندقيته تجاه ذلك الظل وهو يعدو تجاهه، لم يبد أن الظل قد تأثر
بتلك الطلقات وهو يرتفع لأعلى حاملا البقرة بين براثنة ... واصلنا العدو، وواصل
عمي إطلاق الرصاصات، ولكن الظل كان قد بدء يرتفع، ويبتعد حتى غاب وراء الأفق،
التفت إلي عمي وهو يقول بانفعال شديد:
-
هل رأيته؟
قلت وقد ارتسمت على وجهي ملامح الدهشة
المختلطة بالبلاهة وعدم التصديق:
-
إنه خفاش لعين! ... ماذا كان اسمه في الأسطورة؟
-
(باسيتو!).
قلت له وقد بدءت استوعب المشكلة وبدء
الرعب يتسرب إلى باطني:
-
وماذا الآن؟
أخرج من حقيبته جهاز إلكتروني له شاشة
صغيرة عليها نقطة حمراء مضيئة، قبل أن يقول:
-
سنذهب في أثره، ما لا يعرفه هذا اللعين أن البقرة كانت
مجهزة.
-
مجهزة بماذا؟
-
بجهاز تتبع يتصل بالأقمار الصناعية، يمكننا من ملاحقتها
إلى أي مكان في العالم.
شعرت أكثر بالخوف، وأنا أرى ما ينتويه،
فقلت بصوت لاهث:
-
ولكنك رأيت أنه لا يتأثر بالرصاصات.
-
لا تقلق في المرة القادمة سأستخدم هذه الحلوة.
ثم أخرج من جعبته رصاصة ذهبية لامعة
لها رأس حمراء، قبل أن يردف:
-
تلك الحلوة تعادل قنبلة صعيرة ... سواء كان مخلوقا
أسطوريا أو مارد من عالم المردة، عندما تتفجر تلك الرصاصة في صدره سيتحول إلى
أشلاء.
حاولت الاعتراض، ولكن عمي كان قوي
الشخصية، ولديه قدره هائلة على الإقناع، فوجدت نفسي اتبعه صاغرا في تلك المغامرة
المحفوفة بالمخاطر، وراء ذلك الوحش الأسطوري ... هذا هو السبب الذي جاء بنا هنا
نقف على مرمى حجر من وكر ذلك (الباسيتو!) كما يشير الجهاز ... ينظر لي عمي نظرة واضحة
المغزى، وكأنه يقول لي أن فترة الراحة قد انتهت وسيكون علينا مواصلة المغامرة ...
الآن!
كنا نلج ذلك الكهف المظلم بخطوات
متحسبة، تعثرت قدمي بشئ لزج في المدخل فتفحصته فوجدت بقايا جثة البقر المسكينة بعد
أن أتى ذلك (الباسيتو!) على معظمها، تأففت وأنا أرفع قدما وأقفز بالأخرى بعيدا
عنها، أمسك عمي بيدي في حزم وهو يحرك سبابته أمام فمه طالبا مني التزام الهدوء،
فأومأت برأسي، كان الكهف مظلما من الداخل بلا أي بصيص من الضوء، أخرج عمي مصباحين من
حقيبته وأضاءهما وناولني واحدا منهما وتقدمني إلى الداخل ... الأرض حجرية وتتحرك
نزولا في ممر شبه ممهد، هناك عوالق صخرية على السقف ... تشعر كأنها منجدة بالقطيفة
وبها أزرار صغيرة لامعة، وجهت مصباحي إليها فاختل توازني وسقطت على الأرض مصدرا ضجة
عالية وصخب ... فجأة فتح الجحيم أبوابه، لم تكن العوالق منجدة بقطيفة ذات أزرار
لامعة كما تصورت، بل بملايين الخفافيش المعلقة
عليها، والتي أزعجتها بحركتي الحمقاء فقررت أن تفر إلى خارج الكهف مرورا بي وبعمي
... افترشت الأرض وأنا أغطي رأسي، أشعر بأجنحة الخفافيش وخفقاتها تمس ظهري وكتفي
... اللعنة ... ظللت على تلك الوضعية لدقيقة أخرى حتى توقف صوت خفقان الأجنحة،
اعتدلت فوجدت عمي يقف موليا اهتمامه للجهاز اللعين أمامه، قلت بصوت متهدج:
-
أنا بخير لا تقلق.
لم يكن قدسأل عن حالي، فمن الواضح أن
تلك المطاردة قد استحوذت على كل تركيزه ... قررت أن أبدي ملاحظة أخرى من ملاحظاتي
الحمقاء، التي اشتهر بها:
-
ما فائدة هذا الجهاز الآن، البقرة المجهزة في الخارج وقد
تحولت إلى كباب.
نظر لي وأومأ برأسه ثم أعاد الجهاز إلى
حقيبته، أخرج منها مسدسا صغيرا ناولني أياه وهو يقول:
-
هذا لتدافع به عن نفسك ... إحذر إنه ملقم.
لم أكن قد أمسكت سلاحا في حياتي قبل
الآن، لكن ما المشكلة لا اعتقد أنه أمرا صعبا، التقطته منه وأمسكته واضعا يد تحت
الأخرى، بتلك الطريقة التي يفعلها العميل (007) في مقدمه أفلامه متصنعا الاحترافية،
فابتسم عمي مشفقا، من الواضح أنني لم أفلح في إخفاء جهلي التام بهذا الموضوع أيضا.
كان الممر يصير زلقا، وأكثر انحدارا،
هناك بقع من الماء الآسن والوحل على أرضيته ، هناك أيضا ترسبات ملحية على الجدران
والعوالق بسبب رطوبة المكان ... كان عمي يزداد شجاعة وثقة مع الوقت وهو يتقدمني
وأنا أزداد قلقا وتوترا وأنا التصق بظهره كالورم، فجأة بدء الممر يتسع تدريجيا حتى
ألقى بنا في بهو واسع له سقف ضخم محمول على أعمدة صخرية عملاقة ، هناك مشاعل تضئ
المكان معلقة على تلك الأعمدة، وفي وسطه درجات تصعد إلى عرش كبير، جميعها منحوتة
في الصخر، انتبهت إلى ذلك المخلوق الأسود العملاق الذي يرقد على الأرض أسفل العرش،
نبهت عمي بلكزة خفيفه في كتفه ... أومأ لي برأسه، ثم بدء يتحرك ناحيته مشرعا
بندقيته... كنت مازلت ملتصقا به، أحاول إبطائه أو إثنائه، وأنا أقول بصوت مرتعد،
هامس :
-
لقد وجدناه، وعرفنا وكره، يمكننا أن نرحل الآن ونأتي
بقوة كبيرة من الجيش والشرطة للقضاء عليه.
تجاهل عمي تعليقي، واستمر في تقدمه حتى
صار على بعد خطوة واحدة من الوحش، عندها انتصب المخلوق ... ما هذا الشئ؟ ... إنه خفاش
قبيح بطول يتجاوز المترين، المسافة بين جناحيه أكثر من أربعة أمتار، رائحته نفاذة
كريهة، له رأس دب عملاق بعينين حمراوين كالجحيم وأنياب مشرعة كالأنصال ... وجه عمي
بندقيته بثقة ناحيته، ووجهت أنا مسدسي بيد مرتعشة بالتأكيد لن أطلق منه رصاصة،
سأنتظر أن يفعلها عمي بحلوته المتفجرة ... عندها هجم علينا المخلوق، قفزت للخلف
وسقطت على ظهري وأنا انتظر أن أرى عمي بين براثنه وأنيابه...
كان المشهد مختلفا في اللحظات التالية
عما توقعته.... كان ذلك الخفاش العملاق يمسح رأسه في صدر عمي الذي يداعبه كأنه كلب
أو قط أليف ... ألقى عمي بندقيته على الأرض، وتناول حقيبته، أخرج منها مكعب بني
اللون وضعه في فم ذلك الخفاش فتناوله بنهم ثم ابتعد، عندها استدار عمي وتوجه إلى
الدرج الصخري فصعده ثم جلس على العرش...
كنت عاجزا عن الكلام تماما، ولكنني
نهضت وتحركت ناحيته بركبتان مرتعدتان تنوءان بثقلي، كنت أحاول أن أجد الكلمات
المناسبة، ولكن يبدو أن اللغة والكلمات قد محيتا تماما من عقلي لهول المفاجأة ... بادرني
هو بصوت جهوري قوي خالي من تلك النبرة الحانة التي كانت في صوته سابقا:
-
الحقيقة؟
لم أفهم ما يريد قوله، فقلت بحروف متأتأة:
-
ماذا؟
-
الحقيقة ... بالتأكيد أنت الآن تريد أن تعرف الحقيقة؟
-
أجل؟
نزل من فوق العرش وتقدم نحوي ثم قال
بصوت أقل قوة:
-
الأسطورة حقيقية، ولكنها تختلف قليلا عما رويته لك آنفا
... (الباسيتو!) تعني الخفاش الملك وتعني أيضا ملك الخفافيش.
قلت بسذاجتي المعتادة بعد أن خالطها
الرعب، فجعلني ذلك عاجزا عن استيعاب أي معاني ضمنية:
-
وهل هناك فارق؟
اقترب مني أكثر، هل أتخيل أم أن عمي
صار أكثر طولا ... وعرضا ... إن جسده يستطيل وملامح وجهه تتغير ... تصبح أكثر
جهامة وكآبة ... قال:
-
اللعنة حقيقية، وقد تعرضت لها منذ عشرين سنة عندما عقرني
صديقي الصغير هذا!
أخرج مكعب بني آخر من جعبته، وألقاه
ناحية الخفاش العملاق فالتقطه هذا الأخير في الهواء والتهمه ... غريب ألا يقولون
أن الخفافيش عمياء ... من أين له كل تلك البراعة ككلب سيرك! .. كان عمي قد صار
أمامي تماما وقد تغيرت ملامحه واكتسبت ملامح ذئبية أو خفاشية ولكنني مازلت استطيع
تمييز ملامحه البشرية ورائها ... فكرت في الهرب، وكأنه قرأ أفكاري قال ببساطة:
-
لن يمكنك الهرب.
قبل أن يردف:
-
لم يكن الموضوع سيئا بالمرة، فقد تغيرت حياتي إلى الأفضل
... فبعد أن كنت مهاجرا فقيرا يبحث عن عمل باليومية يكفي لقوته، أصبح لدي تلك قدرة
خارقة للتأثير على الآخريين والاستحواذ على عقولهم وإرادتهم ... أصبحت ملك يطيع
الجميع أوامري، الخفافيش، البشر، الجميع، ولم يكن صعبا أن أصنع تلك الثروة في
سنوات قليلة.
أحاول أن أركب قطع البازل، أنا ما زلت
لا أفهم الحقيقة كاملة:
-
وماذا كنت تفعل؟ هل كنت تخرج في مغامرات ليلية وتقتنص
الفرائس مثل أي مصاص دماء أو مستذئب يحترم أصول مهنته.
أطلق ضحكة عالية مجلجلة وهو يجيب:
-
أحيانا، كانت لدي حاجات حيوانية ملحة، ولكنني تمكنت في
معظم الأوقات من تغليب جانبي البشري ... يمكنك أنت أيضا أن تفعل ذلك.
قلت بسرعة:
-
أنا لا أريد جانب حيواني، أنا أشك أنني أمتلك حتى جانب
بشري.
قاطعني:
-
ومن القدرات التي تكتسبها أيضا التواصل مع الخفافيش،
فعقول الخفافيش ليست كعقول البشر فهي متصلة مع بعضها طوال الوقت، وبصفتك ملكها
ستستجيب دائما لأوامرك.
أشرت إلى الخفاش الضخم الذي يجلس قريبا
منا في دعة:
-
وهذا؟
-
هذا هو أليفي المفضل، وهو الذي منحني تلك القدرة.
صمت للحظة، ثم أردف:
-
وسيمنحها إياك.
ثم نظر إليه فطار من مكانه وحط أمامي مباشرة
مثيرا سحابة من الغبار، شعرت بالفزع وبصغر حجمي وعجزي، وأنا أقول بصوت مرتعد:
-
ماذا سيفعل؟
أجابني وهو يستدير عائدا إلى عرشه:
-
الجزء الأخير من الحقيقة، هو أن ولايتي تنتهي بعد أيام
وسأموت كأي إنسان أو مخلوق آخر، وكان علي أن أختار خليفة لي ... وأنت ابن أخي
وتجري في عروقك دمائي وتستحق أن تكون الملك من بعدي.
هجم علي الخفاش وأمسكني بين براثنه ورفعني
ناحية فمه وأنيابه، فصرخت:
-
ولكنني لا أريد هذه الولاية، لا أريد أن أصبح ملكا.
أجاب ببساطة وبصوت أبوي بعد أن تحول
مرة أخرى إلى هيئته البشرية:
-
لا تقلق الموضوع لن يكون سيئا، سيكون عليك فقط أن تنسى
حياتك السابقة...
صمت للحظة ثم أردف بصوت لم أسمعه وقد
تعلقت عيناي بأنياب ذلك المخلوق المشرعة:
-
هل عرفت لماذا لم اتواصل مع أهلي في السابق رغم اشتياقي
لفعل ذلك؟ ... الآن أنت تعرف الحقيقة كاملة ... كاملة!
... (تمت) ...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق