الخميس، 15 سبتمبر 2016

أطفال المقابر



قصة رعب قصيرة بعنوان ... (أطفال المقابر)


أرخى بندقيته (الميزر) العتيقة ألمانية الصنع إلى جواره، ومد يده بملعقة معدنية صغيرة إلى علبة بلاستيكية تحوي حبيبات الشاي الحمراء، ملأها حتى آخرها ثم (لقم) بها براد الشاي الذي قارب الماء فيه على الغليان، وكرر ذلك عدة مرات، الشاي لا يكون شايا إلا إذا كان ثقيلا بلون الليل ... رفع البراد بيمينه متقيا من حرارته بخرقة قديمة من القماش حال لونها، صب منه في كوب زجاجي صغير، فملأه، ثم أعاد البراد إلى (الشلية) التي ضعفت جذوتها بعد أن حال معظم حطبها إلى رماد، أضاف خمس ملاعق من السكر، فالشاي لا يكون شايا إلا إذا كان زاعق الحلاوة  ... أخذ رشفتين وشعر بحالة من المتعة وصفاء المزاج ... فالشاي المضبوط مع القمر الفضي والليل البهيم ولسعة البرد المحببة، توليفة وخلطة مضمونة تستطيع معا أن توقظ الرومانسية والمشاعر حتى في الصخر الأصم ... أخذ يغني بكلمات من أغنية قديمة بصوت أجش مبحوح لا ينصح بأن يسمعه أحد غيره.
وردية الليل في حراسة جرن الغلال ليست سيئة خصوصا لمن هم في مثل عمره وفي مثل حاله، فبعد وفاة زوجته منذ أعوام وتفرق أولاده عنه وانشغال كل واحد فيهم بأسرته وحياته، لم يبق هناك من يتأثر بغيابه في الليل ... ولا في الصباح!.. كما أنه يجد عذوبة وسحر خاص في هذا العمل ويجدها فرصة لاجترار بعض الذكريات الجميلة من الماضي عندما كان لحياته هدفا ومعنى.
-          أرحل ياملعون!
 التقط جذوة من النار وألقاها على ذلك الذئب الأشهب الوحيد الذي اقترب منه بفضول، سقطت الجذوة على الأرض بين قدمي الذئب فانبعثت منها شرارة أصابت بطنه وفخذيه ففر موليا وهو يأن متألما ... هو لن يشعر أبدا بالخوف من ذئب أجرب مثل هذا، ولو انضم إليه عشرة آخرين من بني جلدته، ربت بيديه على بندقيته فطمأنته برودة معدنها ... الشئ الوحيد الذي يقلقه هو تلك المقابر الممتدة أمامه على مرمى البصر والتي عليه أن يمر بها ويقطعها كل ليلة عائدا إلى قريته ومنزله مختصرا الطريق بدلا من أن يدور حولها.
تنتهي ورديته قبل الفجر بساعة، ويحل محله زميل آخر  أصغر سنا وأصح عافية، أحيانا يبقى بصحبته حتى بزوغ ضوء الصباح وقد يتناول الإفطار معه، ولكنه في الغالب كان ينتظر حتى يؤذن الفجر فيصليه في ذلك المسجد القريب من المقابر ثم يعود إلى داره، في هذا اليوم شعر بالمرض وبأن فيروسات (الإنفلونزا) قد وجدت طريقها إلى صدره وعظامه وهي الآن تخطط لفرض سيطرتها على جسده وإخضاعه، لذا اعتذر لزميله قبل آذان الفجر بدقائق وقرر الرحيل ، فقال زميله مستظرفا:
-          صحبتك السلامة ... كن حذرا وأنت تمر بالمقابر! لا نعلم أي مخلوقات تجول فيها الآن.
ابتسم وهو يشير ببندقيته:
-          لن يكون من حظها أن تقف في طريقي.
جلب دراجته العجوز الصدئة التي كانت ملقاه على الأرض قريبا منه، جلس على مقعدها، لوح لزميله مودعا قبل أن ينطلق بها في الطريق إلى داره ... كان يقود دراجته على ذلك الممر الترابي الذي يقطع المقابر، فجأة صدر منها صوت تحطم هادر (كرااااك) ثم انقلبت به على الأرض، فتدحرج عنها قبل أن يستقر على ظهره وقد غطى التراب كل جسده وثيابه، اعتدل وهو ينفض التراب عن نفسه، توجه ناحية الدراجة وتفحصها بسرعة، قبل أن يقول بصوت مغتاظ:
-          اللعنة، (الجنزير) انقطع مرة أخرى.
تنهد في ضيق ثم رفع الدراجة، وبدء يدفعها أمامه وهو يسير على قدميه ... لم يكن قد سار أكثر من عشرين مترا عندما تنبه إلى ذلك الصوت الذي ينبعث من أحد القبور القريبة، وعندما اقترب أكثر تنبه إلى أن فوهة القبر مفتوحة وهناك ضوء خافت ينبعث من داخله، شعر بالتوتر و بالقشعريرة الباردة تتولد على ظهره ورقبته، وبانتصاب شعر ساعديه، تذكر كلمات صديقه الأخيرة فزاد ذلك من قلقه وتوتره ... أسند الدراجة على جذع شجرة محترق، وحمل بندقيته في وضع التصويب واقترب أكثر من ذلك القبر ... إنه بالفعل يسمع بعض الأصوات تخرج من داخله وكأن هناك من يتحدث بصوت هامس.
عندما أصبح أمام القبر تماما اختفى الصوت واختفى معه ذلك الضوء الخافت، حاول أن ينظر إلى داخله فلم يرى إلا الظلام والعتمة، أخرج مصباحه الضوئي ومد رأسه إلى داخل فتحة القبر وأخذ يسدد المصباح محاولا تفحص المكان في الداخل، كانت الرائحة عطنة وخانقة، وهناك كفن مهترئ يستند إلى جدار القبر وفي الناحية الأخرى طفل صغير عاري، وبعض الصخور و....!!! ... أصدر صرخة صغيرة حادة، أعاد ضوء المصباح إلى المكان الذي كان فيه الطفل الصغير فلم يجده، أخذ يحرك المصباح بهستيريا بحثا في أرجاء المكان، يلمح شئ ما يتحرك بسرعة من جانب إلى آخر ولكن ضوء المصباح لا يستطيع إدراكه.
رفع رأسه وهو يلهث من الإثارة ومن نقص الأوكسجين في الداخل، أخذ يفكر ماذا عليه أن يفعل الآن؟ ...  حدثته نفسه بأن يهرب بسرعة فهذا الطفل ليس طبيعيا بالتأكيد، ولكنه شعر بالخجل من مشاعر الخوف التي تعتمل في نفسه في تلك اللحظة وهو بهذا العمر ... فجأة امتدت يد من الداخل وقبضت على ساقة اليسرى فأسقطته المفاجأة على بطنه، شعر بقوة هائلة تحاول أن تجذبه إلى داخل القبر، زاد هلعه عندما أمسكت يد أخرى بساقة اليمنى وحاولت جذبه أيضا بقوة إضافية إلى الداخل ... أخذ يقاوم ويدفع بكلتا قدميه ويحاول أن يزحف مبتعدا، نظر لما وراء ظهره فلمح رأس صغيرة تبرق بعينين صفراوين مرعبتين بلا حدقة من فتحة القبر، وبيدين تمسكان بكلتا قدميه كالكلابتين في محاولة لجذبه إلى الداخل، شعر برعب هستيري وأخذ يتلفت حوله بحثا عن بندقيته فوجدها على بعد شبرين من يده الممتدة، استجمع إرادته ثم دفع جسده للأمام دفعة واحدة مكنته من التقاطها، قبل أن يعتدل موجها إياها ناحية فتحة القبر ويطلق النار ... انبعثت صرخة حيوانية هائلة قبل أن يشعر بتحرر ساقيه ... نهض مسرعا وانطلق يعدو مبتعدا ...
كان يعدو كالمجنون بين شواهد القبور، ويتلفت خلفه بين اللحظة والأخرى متحسبا أن يكون ذلك الطفل الملعون في أثره ... توقف فجأة عندما رآه أمامه يسد عليه الطريق ... تبدو ملامحه أوضح الآن، مخلوق صغير بحجم طفل في الخامسة من عمره،  عاري الجسد والرأس، له عينان صفراوين بلا حدقتين ومسحوبتين لأعلى، وله فم كشق بعرض رأسه بلا شفاة تتخلله بعض الأنياب والقواطع المهترئة، كان يقعي على أربع كالضواري وينظر ناحيته نظرة مرعبة، لم يكن بشريا بالتأكيد، يبدو كطفل ولكنه ليس طفلا هو شئ آخر مرعب ... وجه بندقيته ناحيته مهددا وهو يتراجع إلى الخلف كان يعلم أنها تحتاج للتلقيم بعد أن استعملها منذ لحظات ولكن ذلك المخلوق لا يعلم، كما أنه يمكن استخدامها أيضا (كالشومة) للدفاع عن نفسه ... تنبه إلى ذلك الصوت خلفه، فالتفت فراعه طفل ثاني يشبه صاحبه الأول يحاول التسلل ناحيته من الخلف فوجه البندقية إليه برد فعل غريزي وأخذ يحركها بين الأثنين اللذان أخذا يدوران حوله في انتظار الفرصة المناسبة للانقضاض ... انضم لهما ثالث ورابع، كانت تلك المخلوقات الكريهة تخرج من فتحات القبور وتنضم إلى محاصريه ... كان الآن محاصرا بعشرة من أطفال الجحيم، يقف موليا ظهره إلى بقايا حائط حجري قصير، يوجه بندقيته بين تلك المخلوقات مهددا ... مر القليل من الوقت وهو على هذه الحالة، شعر بأنفاسة تتثاقل وبالعرق يغطي جسده الذي بدء يرتعد بشكل مرضي حتى أن البندقية أخذت تتراقص بين أصابعه، شعر أن الرؤية تغيم تدريجيا أمام ناظريه، وبذلك الألم في صدره، يبدو أن قلبه العجوز قرر أخيرا أن يتعرض لأزمته الأولى وفي الغالب ستكون الأخيرة أيضا.
أصبحت البندقية ثقيلة للغاية ولم يعد قادرا على توجيهها أكثر من ذلك، سقطت من يده، فكانت تلك إشارة إلى المخلوقات بالهجوم عليه، فانقضت عليه من كل صوب تجذبه من يده وثيابه تجاه قبر قريب مفتوح تحاول النزول به إلى داخله، حاول المقاومة في البداية ولكنه كان ضعيفا للغاية، فاستسلم لمصيره ... كان مسجيا على ظهره وتلك المخلوقات تجذبه في تصميم ناحية القبر مخلفة وراءهم سحابة من الغبار، بصرت عيناه بصيصا من نور الصباح في السماء، حاول أن يملي عينيه به،  فقد تكون تلك هي المرة الأخيرة التي يرى فيها النور ...
فجأة توقفت تلك المخلوقات عن دفعه، وأخذت تتلفت حولها في قلق وهي تتسمع بآذانها التي تدور حول محورها تجاه الصوت كالحيوانات ... حاول أن يتسمع هو الآخر ولكنه لم يسمع شيئا في البداية، ولكن بعد ثوان وصل إلى مسامعه صوت أقدام حيوان يدق الأرض بحوافره، أخذت المخلوقات تتخاطب فيما بينها بصوت كالأنين قبل أن يبدء كل منها في الهرب والاختفاء داخل قبر من القبور ... كان صوت الحوافر يتعالى ولكنه لم يكن قادرا على الاعتدال لرؤية صاحبه، حتى توقف الصوت بجواره:
-          السلام عليكم، هل أنت بخير؟
إنه يعرف هذا الصوت إنه صوت إمام المسجد المواجه للمقابر، يبدو أنه قد أنهى صلاة الفجر وهو عائد الآن إلى منزله على ظهر حمارته الكالحة ... هب إليه إمام المسجد وأقعى بجانبه محاولا مساعدته، أسند ظهره وأجلسه وأخذ يصب بعض الماء على وجهه من زجاجة كان يحملها في جراب داخل بردعة حمارته، وعندما إطمأن أنه بخير ومازال حيا يتنفس، سأله بتعاطف حقيقي:
-          ماذا حل بك؟
أخذ يحاول أن يشرح له أحداث النصف ساعة الأخير والقبور التي فتحت وخرجت منها تلك المخلوقات اللعينة الشبيهة بالأطفال، ومطاردتها له ... كانت كلماته مرتعشة مهتزة تشوهت معظم معالمها، فلم يفهم الرجل منها إلا كلمتين (القبور المفتوحة)! فنظر ناحية القبور ثم أجابه باستنكار:
-          ولكن القبور كلها مغلقة!
هب من جلسته وهو ينظر إلى القبور التي كانت مفتوحة منذ ثوان قليلة والمخلوقات التي اختفت داخلها، فوجدها كلها كما قال إمام المسجد مغلقة ... ربت الأمام على ظهره وهو يقول بلهجة مشفقة:
-          يبدو أنك كنت مريض وغبت عن الوعي في الخلاء وحلمت بكابوس مرعب.
ساعده على النهوض وهو يردف:
-          هيا سأذهب بك إلى منزلك لترتاح.
نظر نظرة أخيرة إلى القبور التي أغلقت أفواهها، وسأل نفسه في حيرة هل كان كل ما حدث له هو ضربا من الأحلام و الكوابيس الشنيعة ... شعر ببعض الآلام في ساقيه فرفع جلبابه، رأي آثار لكدمات زرقاء على كلتا قدميه، آثار لخمسة أصابع صغيرة ... أصابع يد طفل صغير!
.. (تمت) ..


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق