قصة رعب قصيرة بعنوان ... (فصام)
قلت بصوت عميق منوم تدربت عليه كثيرا
حتى أصبحت محترفا في أدائه:
-
تفضل سيد (فوزي)، يمكنك أن تستريح على هذه الأريكة وتحكي
لي قصتك من البداية.
وضعت قدما فوق الأخرى، وداعبت عويناتي بطريقة
مفتعلة وضغطت بسبابتي على ذلك الزر الأحمر في جهاز التسجيل الموضوع على الطاولة
أمامي ... كنت بارعا في مهنتي، فبعض الإيحاءات الجسدية، مع لمسة خاصة في تأثيث
المكان والإضاءة قد يكون لها أثرها الفعال، فالأشياء البسيطة كالأريكة التي يستلقي
عليها المريض وموقعها من المقعد الوثير الذي يجلس عليه الطبيب، كلها عناصر تؤثر في
ثقة المريض بطبيبه وتجعله منفتحا أكثر في الحديث إليه، و بالتالي يصبح الأخير أكثر
قدرة على الوصول إلى عقدة المريض، وعندما تبدء مرحلة العلاج يصبح أكثر قدرة في
حلها ... قال بصوت خشن بدا فيه بعض التردد والتخاذل دلا على ضعف شخصية صاحبهما:
-
حسنا يا (دكتور) سأحكي لك.
-
لا لن تحكي شيئا!، لن أسمح لك!
لم أكن أنا قائل العبارة الأخيرة، ولكن
المريض هو الذي قالها ردا على نفسه، قالها بصوت أنثوي ناعم ولكنه شديد الحزم
والتصميم ... لم أبد اندهاشا فطبيعة مهنتي تجعلني متقبلا لتلك الغرائب التي يجود
بها عقل الإنسان ونفسيته الهشة، يبدو أن حالة ذلك المريض باحت بأسرارها من اللحظة
الأولى، هو بالتأكيد مريض فصام آخر أو كما يقولون (سكيزوفرينيا) ولكنهاحالة متطورة
كما يبدو وقد تحتاج إلى العلاج بأدوية (الذهان) إضافة إلى برنامج التأهيل النفسي
والاجتماعي من خلال الجلسات مع الطبيب ومعاونة الأشخاص القريبين منه ... قلت بصوت
هادئ:
-
من أنت؟
أجابني بصوت حاد:
-
أنا (سنية)... زوجته!
-
ولكنني أريد أن اتحدث إلى السيد (فوزي) ...هلا سمحت لي
بذلك؟
خيم الصمت لثوان، ثم استعاد صوته الذكوري،
المتخاذل، وهو يقول:
-
تلك هي مشكلتي يا (دكتور)!
قاطعه الصوت الأنثوي الحاسم مرة أخرى:
-
مشكلة! هل أصبحت مشكلة الآن أيها الجاحد؟ .. عشر سنوات
على زيجتنا لم تشتك فيها يوما، والآن تصفني بالمشكلة!
كان الصوت الأنثوي مستغربا وهو يخرج من
تلك الحنجرة الذكورية وصاحبها الأصلع ذو الكرش المتدلي عن الأريكة التي يتكأ عليها
بجانبه الأيمن وملامحه التي لا يمكن أن تقد على وجه أنثى ... تخيلت المريض الذي
أمامي في ثوب أنثى!، فبدا لي (كإسماعيل ياسين) في فيلم (الآنسة حنفي)، وحتى هذا
الأخير عندما قام بهذا الدور لم يصدر عنه صوتا أنثويا ناعما مثل هذا، بل كان صوته
حلقيا، خشنا، وذكوريا! .. تنحنحت مقاطعا، وقلت بصوت حاولت أن أكسبه نبرة مهددة،
قوية:
-
توقفي، قلت لك أريد أن أتحدث إلى السيد (فوزي)، عندما
يأتي الوقت المناسب سأتحدث إليك.
توقف عن الكلام لدقيقة، ثم قال بنفس
الصوت الأنثوي وأن تغيرت نبرته لتصبح أكثر نعومة ودلال:
-
تعجبني شخصيتك يا (دكتور)، لو لم أكن متزوجة من هذا
اللعين، لفكرت في الارتباط بك ولكن سأنصح بك أختي فهي تحب نوعك من الرجال، وهي
تبحث عن عريس لها هذه الأيام ولم تجد من يناسبها تحت الأرض.
قاطعتها بصوت أكثر حدة:
-
السيد (فوزي) ... الآن.
طالت فترة الصمت هذه المرة، قبل أن
يقطعها المريض بشهقة عالية، عاد بعدها يتحدث بصوته الذكوري وإن بدا أكثر ضعفا
ويأسا هذه المرة، حكى لي قصته، عن تلك المرأة التي تصاحبه داخل جسده تتحدث بلسانه
وتسحق إرادته في كل مناسبه تذكره فيها أنه تحت سيطرتها، ومحاولاته للخلاص منها
والاستعانة بكل السبل وحتى السحر والشعوذة منها، ثم اليأس والاستسلام وقبول الأمر
لسنوات طويلة في مقابل أن تقصر تلك اللعينة ظهورها على اللحظات التي يكون فيها
وحده، وهو الوعد الذي خالفته مؤخرا عندما قررت الظهور والتحدث أمام الآخريين
وإعلان أنها زوجته في كل مناسبة، حتى أيقن الجميع أنه قد جن تماما من حياة الوحدة
التي يحياها دون زوجة أو أطفال، أو أنه (ملبوس) بمخلوقة من عالم الجن والمردة ...
سألته عما يعتقده هو، فقال:
-
اعتقد أن الخيار الثاني هو الأوقع، ولكنني أتمنى في
باطني أن يكون الأول ... سيكون أكثر أريحية لي أن يكون ما أنا فيه مجرد خزعبلات
عقل مجنون.
أنهيت الجلسة مع المريض، واتفقت معه
على الموعد التالي ونصحته ببعض الأدوية، كان المريض هو الأخير لهذا اليوم لحسن
الحظ فأنا أشعر بالإرهاق ... استأذن الممرض بالانصراف فأذنت له وأغلقت العيادة خلفه،
لم يكن هناك من داع للعودة للمنزل، فهنا سأكون وحدي وهناك أيضا، سأبيت الليلة في
العيادة كعادتي مؤخرا وأنطلق منها باكر إلى المشفى مباشرة ... ارتديت منامتي
واستلقيت على الأريكة المريحة، خففت الإضاءة وتناولت رواية لأقرء فيها قليلا، بدأ
بعدها النوم يداعب عيناي.
كنت أسير في ذلك المكان العجيب يتعالى
صوت دبيب أقدامي، يبدو أنني أسير على الأرض صخرية، كان الظلام يحيط بي من كل جانب،
لا أكاد أرى كف يدي، المكان ليس خلاء فلا أشعر بالهواء الطلق من حولي ولكنني أيضا
لا أميز أي جدران أو سقفا بسبب الظلام من حولي، فجأة رأيتها تظهر أمامي على مسافة
أمتار تحيط بها هالة من الضوء وتتقدم نحوي، شعرها أحمر كالنار أشعث كأشعة الشمس،
على قدر هائل من الجمال والجاذبية، ترتدي ثوبا أسود لامع، اقتربت حتى صارت أمامي،
مدت يدها بدلال فأمسكت بها، فقالت:
-
أنا (جميلة)!
-
بالتأكيد!
فهمت الدعابة، فابتسمت برقة وهي تقول:
-
لا، اسمي (جميلة) ... أنا أخت (سنية).
حاولت تذكر من هي (سنية) أختها تلك؟
فلم استطع، انتبهت إلى أنها اقتربت أكثر مني حتى التصقت بي تماما، شعرت بالحرج
فحاولت أن ابتعد، سحبت يدي من يدها فزادت ضغطها عليها حتى آلمتني، تعجبت من أين
تأتي تلك الرقيقة بكل هذه القوة، ولكن فجأة بدأت أشعر بحرارة هائلة تنبعث من جسدها
تلهب جسدي، حاولت الهرب فأطبقت على ظهري بكلتا يداها، وأمام ناظراي بدأت النار
تشتعل في كل جسدها، وبدأت تعتصرني بنارها حتى شعرت بأني اشتعل بدوري، صرخت صرخة
هائلة.
وجدت نفسي أتدحرج من فوق الأريكة، وأسقط على أرض العيادة، كان ذلك كابوسا
لعينا، أخذت أبسمل وأحوقل وأنا أحاول أن أدفع تلك المشاعر الكابوسية عن عقلي، نهضت
وجلبت كوبا من الماء البارد، صببته في حلقي دفعه واحدة، مازلت أشعر بتلك النار
تحرق جسدي، عدت للأريكة مرة أخرى محاولا العودة للنوم، التقطت الرواية، و!:
-
هل تحب القراءة؟
قفزت من فوق الأريكة مفزعا وسقطت على
الأرض مرة أخرى، وأنا أتسائل:
-
من؟
جائني الصوت الأنثوي الناعم نفسه كما
كان في الحلم:
-
أنا ... (جميلة)؟
لم استطع تحديد مصدر الصوت، رغم أنه كان
مرتفعا وشديد الوضوح، هذا ليس حلما بالتأكيد!.. كان الصوت كأنه يصدر من داخل أذناي
أو من أروقة عقلي نفسه، حاولت التماسك وأنا أتسائل مجددا:
-
أين أنت؟
ضحكت ضحكة مائعة، وهي تقول:
-
أنا هنا إلى جوار قلبك، وأعجبني ما رأيته، لقد كانت
(سنية) محقة.
شعرت بحالة هائلة من الذعر، أنا الآن أتذكر
من هي (سنية)!.. إنها تلك الشخصية اللعينة التي تحدث بصوتها مريضي الأخير، هل
أصابني ذلك اللعين بالعدوى، أم أنني جننت أخيرا كما كان الجميع يتوقعون ... كنت
مازلت مقعيا على الأرض، زحفت على أربع حتى وصلت إلى المكتب، استندت عليه حتى نهضت
على قدمي،سرت بخطوات مرتعدة متوجها إلى دورة المياة، وقفت أمام الحوض وشرعت أغسل وجهي
وشعري بالماء البارد، وأنا أتسائل عما يحدث لي، قد يكون الإجهاد هو السبب ... سقطت
عيناي على المرآة أمامي فرأيتها تقف خلفي تنظر نحوي من فوق كتفي الأيسر وعلى وجهها
ابتسامة ساخرة بملابسها السوداء وشعرها الأحمر الأشعث، وهي تقول:
-
أنا هنا.
سقطت على الأرض من فرط الرعب والفزع ،أخذت
اتلفت حولي بحثا عنها في جنون، فبادرتني من داخل ذهني:
-
قلت لك أنا هنا، إلى جوار قلبك، لماذا تبحث عني في
الخارج.
زحفت إلى خارج دورة المياة لا ألوي على
شئ، كيف يمكنني الهرب؟، وإلى أين؟.. تفهمت الآن شعور مريضي الأخير الذي كان يتمنى
أن يكون ما هو فيه حالة من الجنون، على الأقل سيكون الأمر أكثر رحمة ومنطقية.
فكرت في الهرب إلى خارج العيادة، شرعت
في تنفيذ فكرتي على الفور، ولكن قبل أن أصل إلى الباب تجمد جسدي في مكانه وشعرت
بحالة من الخدر تصيب كل عضو في جسدي، الذي بدأ يتحرك دون إرادة مني عائدا إلى داخل
العيادة، قبل أن يسقط على الأريكة ... صرخت في يأس:
-
ماذا تريدين مني؟
قالت في صوت قاس وحازم:
-
أنت تعرف، لقد اخترتك، وسيكون عليك أن تنصاع لقراري.
صرخت بصوت عال:
-
وإذا لم أفعل؟
قالت ببساطة:
-
ستندم!
ثم أردفت:
-
أنت لا تعرف ما استطيع أن أفعله بك.
كنت قويا في السابق، يتحاكى من يعرفني
عما أملكه من عزم وتصميم ولكن الموقف كان أقوي من إرادتي، أخذت أسبها وألعنها مطالبا
إياها بالرحيل، فصعقني ذلك الألم الرهيب في ذراعي ورقبتي، وهي تقول بصوت شيطاني:
-
هذا عقابا لك على تلفظك بتلك الأشياء القبيحة، إنها مجرد
(عينة) بسيطة.
توقف الألم مرة واحدة، فأخذت دفقا من
الشهيق وأنا أضغط أسناني في محاولة لتثبيط أثر الألم، فقالت مستطردة:
-
أنا ذاهبة الآن ولكنني سأعود، وعندها يمكننا أن نكمل
حديثنا.
ساعة مرت كنت فيها مستلقيا على ظهري
غارقا في عرقي، أقاوم دموع الألم والاستسلام في عيني ... سمعت دقات على باب
العيادة، تجاهلتها في البداية، لا أشعر بأني قادر على القيام من مكاني، ولكن
الدقات تزايدت وصارت أكثر إلحاحا وتصميما، فقمت إلى الباب مترنحا، تهتز الأشياء
أمام ناظراي ... فتحت الباب ودققت في القادم:
-
سيد (فوزي)، ما الذي أتى بك الآن؟
كان يقف أمامي مرتديا بنطال منامته تحت
(الفانلة) الداخلية، وفي قدميه خف منزلي من الجلد، قال معتذرا:
-
أنا آسف.
فقلت منازعا نفسي عن دق عنقه، هذا
اللعين الذي بلاني بتلك الكارثة:
-
ماذا تريد الآن؟
تنحنح، وقال بصوت خافت:
-
(سنية) .. تت
تأففت في نفاذ صبر، فقال بسرعة:
-
(سنية)، كانت تريد شيئا عاجلا من أختها (جميلة)، أجبرتني
على القدوم إلى هنا، كما ترى.
كان يلوح بيديه بحرج في إشارة إلى
حالته التي جاء بها، نظرت إليه متفحصا في دهشة، قبل أن أقول له بصوت أنثوي هادئ،
صوت (جميلة):
-
ماذا تريدين يا (سنية)؟
.. (تمت) ..
للمزيد زوروا صفحتنا لقراءة المزيد من قصص الرعب ...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق