قصة قصيرة بعنوان ... (إمرأة طيبة)
هي إمرأة طيبة بحق، بخلاف زوجها ذلك
العجوز النكد الذي جعل لحياته هدفا واحدا فقط، هو مضايقتنا وتكدير
لهونا ومنازعة ممارستنا لرياضتنا المفضلة (كرة القدم)، تلك التي نعشقها ونمارسها
بشراهة طوال ساعات الليل والنهار في شارعنا الضيق الذي تطل عليه شرفة منزلهما
بالطابق الأرضي لتلك البناية القديمة بناصية الشارع.
هي إمرأة طيبة تقطر منها صفات الأمومة
والحنو، لا أعرف كيف انتهى بها الحال لتعيش وحيدة مع ذلك الرجل ذو الصلعة والكرش
المتدلي بذاته كأنه رفيقه أو توأمه السيامي المتعلق به كالمصير، ولا أفهم ما هي
المتعة التي ينالها عندما يمزق كرتنا الجديدة بسكين كأنها بطيخة ناضجة إذا طارت
بعد تسديدة حماسية حمقاء وحطت في شرفته التي يجلس فيها طوال الوقت يراقبنا بعيون
تفيض بالكراهية واللؤم، يتحين الفرصة لينال منا، كانت مشاعره واضحة تجاهنا وكنا
نبادله بمثلها، حتى أننا كنيناه بكنية خاصة، السيد (زقلط)، تلك الكنية التي كنا
نصيح بها كقرود البابون عند الخطر وذلك إذا قرر أن يطور هجماته وينزل للشارع تاركا
موقعه الأبدي في محاولة لمطاردتنا والنيل من أحدنا أو الأسوء من كرتنا، كنا إذا
سمعنا تلك الصيحة تتردد في الجوار نعرف أنه نداء الخطر، فيلتقط الكرة أقربنا إليها،
ثم يعدو كل منا في اتجاه منفصل خوفا من أن يقتنصه السيد (قدري، هذا هو اسمه
الحقيقي) فيجره إلى منزله مكللا برايات الخجل ليستمع هو وأهله إلى محاضرة طويلة عن
إزعاج الناس وقلقلة راحتهم وقلة ذوق من يفعل ذلك وهمجيته هو وأهله.
هي أمرأة طيبة بملامحها الشرقية
الأصيلة ونظرتي الاحتواء والرضا في عينيها اللتان تكفي نظرة واحدة إليهما لبعث
الطمأنينة في نفوس أطفال بأعمارنا، كنا نعرج على منزلها إذا شعرنا بالعطش وأيقنا
أن السيد (قدري) غير موجود، فكانت تسقينا الماء البارد الطيب وتزيد عليه أحيانا
أكواب العصير الطازج والحلوى المطهوة اللذيذة، وكانت أحيانا تستنقذ لنا كرة يكون
زوجها قد اقتنصها منا بالأمس وأخفاها في قبو الكرات، ذلك القبو الذي يجتمع فيه
كارهوا الكرات لإقامة طقوس تعذيب وتمزيق الكرات المسكينة، فكنا نخطفها من بين
يديها ونعدو بها نحو الشارع في ظفر وسعادة، سألتها مرة (ببجاحة):
-
كيف تعيشين وحدك مع هذا الر... مع السيد (قدري)؟
فأجابت بإبتسامة حزينة:
-
إنه إنسان طيب للغاية، ولكنه أصبح حزينا، نكدا، سريع
الغضب بعد أن ذهب إبننا الوحيد.
فقلت (ببجاحة) أكثر:
-
أين ذهب؟
ارتسم الحزن على ملامحها، وشردت
بناظريها، وبدا أنها تسترجع مشاهد خاصة من ذاكرتها، أطرقت برأسها لحظات ولم تجب
على تسائلي، ثم مدت إلي يدها بكوب الماء، فالتقطته منها، وألقيته في جوفي دفعة
واحدة، وانطلقت إلى أصحابي لنستكمل مباراتنا الحماسية، تلك التي نبدي فيها أكبر
قدر ممكن من الإزعاج والعنف الذي لا تحلو كرة القدم من دونهما.
هي أمرأة طيبة، تفهمنا وتتعاطف معنا
فكانت إذا سقطت الكرة في الشرفة ولم ينتبه لها السيد (قدري) تعيدها إلينا، أو تشير
لنا من طرف خفي حتى يقفز أحدنا إليها ويسترجعها وتشاغل هي زوجها وتحذرنا منه إذا
اقترب، لماذا لا يتأسى زوجها بها ويحذو حذوها؟ أذكر ذلك اليوم الذي سقطت فيه كرتنا
في الشرفة فقفز إليها أكثرنا رشاقة وسرعة في نفس اللحظة التي فتح فيها باب الشرفة
ليخرج إليها السيد (قدري)، صرخنا جميعا في نفس اللحظة بكلمة السر:
-
زقلط، زقلط!!
انتبه صاحبنا إلى السيد (قدري) الذي
يندفع نحوه وشرارات الغضب تئز ما بين عينيه، فراوغه مرة ومرة في مشهد كوميدي يذكرك
بمواجهة (عنتر ولبلب) الشهيرة، قبل أن يلتقط الكرة ويقفز بها من الشرفة عائدا
إلينا تطارده لعنات صاحب الشرفة وتمنياته بأن يقع ويدق عنقه أو تتحطم أطرافه الأربعة
وهو ما لم يحدث ولله الحمد ... كان السيد (قدري) إذا فاضت روحه بأفعالنا يتصل
بالشرطة، التي كانت تتجاهل بلاغاته في معظم الأحيان أو ترسل سيارتها (البوكس) إلى
أول الشارع فننطلق هاربين لا نلوي على شئ، وسرعان ما نعود بعد أن تذهب السيارة
لاستكمال لعبتنا، لا أعرف لماذا لا يفهم
هذا الرجل أن ممارسة كرة القدم شئ حيوي بالنسبة إلينا بالضبط كالماء والهواء
والكشري وعصير (الفخفخينا)!؟ في أحدى المرات بالغ في اتصالاته حتى ضاق به ضابط
الاتصالات فأوصى قائد السيارة (البوكس) ومن معه بأن يضع حدا لنا في هذه الليلة،
وبالفعل بعد حركة تمويه (بوليسية) خاصة، وجدنا أربعة من المخبرين بيننا أثناء المباراة
دون أن ننتبه، كان هدفهم هو كرتنا لا نحن، كانت لقطة رائعة وأنت تراوغ المخبر
الأول بالكرة وتمر من الثاني والثالث بلعبة (هات وخد) مع زميل لك، قبل أن تسدد
الكرة بركلة مزدوجة أشبه بركلات (الكابتن ماجد) لتسقط في شرفة المنزل في الطابق
الثالث بعيدا عن يد المخبر الرابع التي كادت تصل إليها، قبل أن نزوغ جميعا ليجد
المخبرون أنفسهم وحدهم في الشارع الخاوي من الجميع، نزل أليهم السيد (قدري) ودعاهم
على مشروب بارد من محل البقالة الوحيد في شارعنا وأخذ يشتكي إليهم معاناته منا ومن
شقاوتنا وإزعاجنا، أخذوا يستمعون إليه منصتين حتى انتهى المشروب فوعدوه بأن يعودوا
مرة أخرى ليمسكوا بنا ويخلصوه منا ومن أفعالنا الأثيمة للأبد، ولكنهم ذهبوا ولم
يعودوا بعدها لشهور.
إمرأة طيبة، غاب زوجها عن مكانه الأثير
في الشرفة لأكثر من عام، حسبنا فيها أنه مريض أو مسافر أو أنه قد مات وارتاح
نهائيا من سماجتنا، ولكنها لم تغيب هي عنا بكرمها وتعاطفها وتشجيعها لنا، واستمر
لعبنا الحماسي، العنيف، المتواصل كما هو، وفي أحد الأيام أخذتني الحماسة فقمت
بتسديد كرة قوية ذهبت دون قصد مني تجاه شرفة السيد (قدري) وعبرتها بسرعة الصاروخ
إلى بابها فاخترقته محطمة ألواحه الزجاجية وسقطت داخل المنزل، للحظات أخذنا نتبادل
النظرات المذعورة اللائمة، وقبل أن أنطق بحرف اختفى جميع أصحابي وتركوني وحدي
لأتلقى اللوم والتقريع، خصوصا وأن الكرة كرتي وهي جديدة اشتريتها اليوم فقط وألعب
بها معهم للمرة الأولى، تنازعتني الأفكار ولم أدر ماذا علي أن أفعل؟.. ووجدت نفسي
أقفز إلى الشرفة كالمسحور واقترب بحذر من بابها وزجاجه المحطم، نظرت إلى داخل
الغرفة المضيئة الخالية فلمحت كرتي ملقاة على الأرض في جانب منها، دفعت الإطار
الخشبي للباب فانفتح بسهولة فخطوت إلى الداخل متوجسا، اتلفت حولي في قلق متوقعا أن
يقبض علي في أي لحظة.
اقتربت من كرتي في حذر، فجأة انطلقت
مني صرخة مكتومة، لقد كانت الكرة هناك ملقاة على أرض الغرفة الخشبية مباشرة أسفل
قدمي السيد (قدري) الذي كان يجلس على مقعده متدثرا في غطاؤه الصوفي وموجها ناظريه
للناحية الأخرى، كان يجلس في زاوية لم تكن بادية لي وأنا انظر للغرفة من الخارج،
لم أعرف ما يجب علي فعله الآن، لقد أغلقت المصيدة على الفأر والأسوء أن القط معه
في الداخل، قررت أن أواجه الموقف بشجاعة واستكمل المخاطرة حتى النهاية، فقلت بصوت
خافت، مرتعش:
-
سيد (زقل..)، سيد (قدري).
فلم يجب، لا أعرف لماذا يتجاهلني؟
بالتأكيد لم يفته تحطم الزجاج ولا تلك الكرة التي بين قدميه، اقتربت أكثر حتى صرت
على بعد خطوة واحدة منه، فمددت يدي ولمست كتفه المغطى بالدثار الصوفي، يبدو أن
لمستي أرجفته فقد سقط منه شيئا على الأرض، فانحنيت والتقطته بسرعة وأنا أقول بلهجة
معتذرة:
-
أنا آسف يا سيد (قدري)، تفضل.
نظرت نحو الشئ الذي أمسكه في يدي وأنا
أناوله أياه:
-
تفضل، لقد سقط منك، ذراعك!!!
صرخت بقوة وسقطت على الأرض وألقيت
الذراع من يدي، نهضت مفزعا لأجد وجه السيد (قدري) أمامي، فانطلقت مني صرخة أكثر
حدة وأنا أطالع فجوتي عينيه الخاليتين المجوفتين ووجهه المهترئ وجلده المتحلل عن
عظامه وأسنانه المتآكلة، أخذت أصرخ صرخات طويلة مولولة كصفير قطار يوشك أن يغادر
محطته للأبد، قبضت يد قوية على كتفي، فأرجفت وتعالت صرخاتي، وصارت أشبه بسفينة
عابرة للمحيطات توشك على الغرق.
كانت تلك هي السيدة الطيبة زوجة السيد
(قدري)، تقف ممسكة بكتفي بأصابعها العجوز ككلابات وتحرك سبابة يدها الأخرى أمام
فمها وهي تقول بلهجة صارمة:
-
أصمت، أنت لن تقول لأحد ما رأيته.
-
أجل، أجل.
تمتمت بها بصوت مرتعد، صمتت هي للحظات
وبدا كأنها تقيم الموقف، قبل أن تقول بصوت متحشرج:
-
ما كان له أن يتركني وحدي هو أيضا ويذهب، لن استطيع
العيش وحيدة.
أومأت برأسي مبديا تفهما لا أملكه،
فأعادت كلامها مؤكدة:
-
لن استطيع العيش وحيدة.
دفعتني مستسلما نحو مقعد خشبي وأجلستني
عليه، لمحت سكينا في يدها، أخذ جسدي يرتعد بطريقة هستيرية، وهي تقرب السكين من
وجهي وهي تقول:
-
لا يمكنك أن تخبر أحدا، لن أسمح لك بذلك.
لم أعرف ما الذي حدث بعدها فقد غبت عن
الوعي، ولكن يبدو أن صرخاتي قد نبهت بعض الجيران، الذين إندفعوا إلى داخل المنزل
الذي كان بابه مفتوحا لحسن الحظ، وقاموا بإنقاذي في اللحظات الأخيرة.
كنا متحلقين حول منزل السيد (قدري)،
أنا وجميع أهل الحي، كانت عربة إسعاف ومعها عربتي شرطة تحاصر جميعها المكان ولا
تتوقف أضوائها عن البريق بلا إنقطاع، كانت جثة السيد (قدري) قد أخرجت منذ لحظات
وأسجيت في عربة الإسعاف، علمت بعدها أنه مات ميتة طبيعية قبل شهور، الآن تخرج
زوجته وفي يديها ذلك القيد الحديدي، مرت بنا ولمحتني بين الجموع فأطرقت برأسها
وقالت لي وفي عينيها نظرة حزينة:
-
أنا آسفة!
قبل أن يزج بها في عربتة الشرطة،
لتنطلق وهي داخلها وتغيب للأبد، لم نراها بعد ذلك أبدا ... لا أعرف كلما تذكرت تلك
الواقعة أشعر بالشفقة تجاه السيد (قدري)، الذي لم ينل راحة في حياته بسبب إزعاجنا
الدائم له ولا بعد موته بعد أن تأخر جسده عاما قبل أن يوارى التراب، أما عن زوجته
فلا أذكر سوى أنها تلك المرأة الطيبة، الكريمة، التي كانت لا تستطيع العيش وحيدة.
.. (تمت) ..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق