الجمعة، 18 نوفمبر 2016

صائدوا الموتى



قصة رعب قصيرة بعنوان ... (صائدوا الموتى – الجزء الأول)


شعر بالتوتر، فصرخ في صاحبه:
-    هل أنت مجنون يا (كريم)؟ ستتسبب في قتلنا.
نظر إليه نظرة متهكمة، ثم عصر دواسة الوقود بقدمه، فانطلقت السيارة بسرعة جنونية على ذلك الطريق الزلق بسبب الأمطار التي لم تنقطع في الساعتين الأخيرتين ... نظر عبر الزجاج أمامه فاستحالت الرؤية أمام ناظريه ، وتوترت أعصابه أكثر بسبب تلك المساحات التي تتقافز فوقه بهستيرية في محاولة يائسة لدفع قطرات الماء عنه دون أن تحقق أي نجاح يذكر... قال له (كريم) ببرود يحسد عليه:
-    لا تقلق يا (علاء)، أنا خبير في قيادة السيارات، ألم تر ذلك الفيديو على صفحتي وأنا أقود فيه هذه السيارة، ومؤشر سرعتها على علامته القصوى؟
-    رأيته!
شعر (علاء) أن (كريم) يتلذذ بقلقه وتوتره، فقرر أن يتظاهر بعدم الاهتمام أملا في أن يثبط ذلك من حماسته لتلك القيادة المتهورة، فسأله محاولا تغيير مجرى الحديث إلى موضوع آخر يعرف أنه يهمه:
-    هل شاهدت مباراة الأمس؟
التفت له وقال بحماس:
-    بالطبع، لقد كان الحكم أعمى أو مصاب بالعته ... هل هذه ضربة جزاء؟
لاحظ (علاء) أن تسارع السيارة قد بدأ يقل بالفعل، من الواضح أن خطته تنجح ... ورغم أنه لا يهتم بكرة القدم ولم يشاهد هذه المباراة من الأساس، إلا أنه قال وهو يرسم ملامح الاهتمام على وجهه:
-    حكم منحاز،ومدرب جاهل ، ولاعبون حمقى، وملعب سئ، وحظ ملعون!
كان (علاء) يعلم أن صاحبه يعزي دائما خسارة فريقه لسبب من تلك الأسباب الخمسة، فسردها عليه جميعا وترك له حرية الاختيار من بينها ... فتوقف (كريم) للحظة وهو ينظر إليه نظرة جانبية تحمل الكثير الشك والريبة، قبل أن يقول:
-    هل أنت متأكد من مشاهدتك للمبارة؟
فكر (علاء) أن صاحبه قد كشف خدعته، ما كان عليه أن يتحمس بتلك الطريقة ... وقبل أن يعترف له بأنه لم يشاهد المباراة ولكن سمع البعض يتحدثون عنها اليوم صباحا وهو يتناول شطيرتي الفول والفلافل الأثيرتين من عربة (عم حسن)، وجد نفسه يصرخ في صاحبه محذرا وهو يشاهد تلك الشاحنة القادمة من الاتجاه المعاكس بسرعة كبيرة جعلت اصطدامها بهما حتميا...
ما حدث بعد ذلك استغرق ثانية واحدة أو جزء منها، ولكنه يذكر ما حدث كاملا وبكل تفاصيله وبدقة شديدة، وكأنه كان يتابع مشهد بالتصوير البطئ أو كأن عقله اكتسب قدرات خاصة في تلك اللحظة جعلت استيعابه أسرع من الزمن ... يذكر صرخته وهو يحذر صاحبه، وانتباه الأخير إلى تلك الشاحنة التي تقترب منهما بسرعة كالمصير، ويذكر الذعر الذي ارتسم على وجه صاحبه وعجزه عن الإتيان بأي رد فعل، ويذكر محاولته لتحويل المقود إلى اتجاه آخر بعد أن تجمد صاحبه من الخوف، ويذكر انحراف السيارة بزاوية حرجة وتجاوزها للشاحنة ببوصات قليلة، واندفاعها إلى خارج الطريق لتقفز فوق قناة ري صغيرة وتهبط داخل أرض زراعية في الجانب الآخر وهي تنطلق بسرعتها الهائلة، قبل أن يرتطم إطارها الأيمن بتبه صخرية صغيرة فتنقلب السيارة بعنف عدة مرات حول محورها، قبل أن تستقر على سقفها ويظلم كل شئ...
أفاق بعد ثوان قليلة فقط، فالغبار الذي صنعته الحادثة كان مازال معلقا في الهواء ولم يرتد إلى الأرض بعد ... كان ممدا على مسافة أمتار من السيارة وصاحبه (كريم) يجلس بجانبه، يغطي وجهه بكفيه، فبادره:
-    (كريم) ... هل أنت بخير؟
لم يرد! ولم يبد عليه أنه سمعه من الأساس! كرر سؤاله من جديد فلم يتلق إجابة في تلك المرة أيضا، بدا (كريم) أنه في حالة شديدة من الذهول تجعله لا يعي ما حوله ... نهض (كريم) من مجلسه وتحرك بخطوات آلية، متثاقلة ناحية السيارة المنقلبة على ظهرها، قبل أن يتوقف في منتصف الطريق وهو ينظر إلى داخلها في ذعر، ويبدء في الصراخ والنحيب ولطم الخدين ... لحق (علاء) به محاولا تهدئته، وعندما وصل إلى مكانه وقعت عيناه على ما كان ينظر إليه (كريم) داخل السيارة ... للحظات ظن أن عيناه تخدعانه أو أن عقله أصابه الخبال أخيرا ... ولكنه عندما أمعن النظر تأكد مما رآه هو وصاحبه ... فداخل السيارة رأى جسده وجسد صاحبه غارقين في الدماء وغائبين تماما عن الوعي ... أو عن الحياة.
***
كان مشهدً مرعبا للغاية أن ترى جسدك مضرجا في دمائه وأنت تقف تنظر إليه من بعيد!.. حاصرته الأفكار ... هل هذا هو الموت حقا؟.. إذا كان كذلك فماذا عليه أن يفعل الآن؟.. هل يقترب من السيارة ويحاول فحص جسده وجسد صاحبه؟.. بالتأكيد هناك تفسير لما يحدث الآن ولكنه لا يعرفه ... أقعى (كريم) على الأرض وهو يواصل البكاء والنحيب ... تعجب (علاء) لماذا لا يفعل مثله؟ هل أصابته تلك الحادثة بالتبلد؟.. لقد كان دائما الأكثر عصبية، وانفعالا مقارنةً بصاحبه هذا الذي يتصف بالبرود، فهل تبدل حالهما بعد الموت؟
فجأة شعر وكذلك فعل صاحبه بأنهما ليسا وحدهما، فانتبه الأخير وتوقف عن البكاء ... ومن وسط الظلام ظهرت تلك المخلوقات المرعبة، بأجساد البشر ورؤوس كالذئاب أو الكلاب، يرتدي كل منهم مئذرا أو بنطالا قصير على جسده العاري ذو العضلات القوية البارزة... يشعر أنه شاهد هذه المخلوقات في مكان ما من قبل ولكن لا يذكر أين!؟ ... كانوا خمسة من المخلوقات يلحقون بزعيمهم صاحب العين العوراء، والذي كان أكبرهم حجما، توجهوا مباشرة إلى السيارة ونظروا داخلها، ثم أخذ زعيمهم يتشمم الهواء قبل أن يحول ناظريه نحوهما ويعوي عواء طويل كالذئاب ... لم تتحمل أعصاب (كريم) ذلك فانطلق يعدو محاولا الهرب، فلاحقته تلك المخلوقات بسرعة هائلة، كان بعضها يجري على قدمين وبعضها يجري على أربع باستخدام يديه وقدميه ... وفي ثوان قليلة لحقوا به وأسقطوه على الأرض قبل أن يعتليه كبيرهم ويثبته على الأرض ثم ينهش رقبته بأنيابه الذئبية الطويلة، تكالبت عليه باقي المخلوقات تمزق جسده وتنهش لحمه حتى أتت عليه.
نهض زعيمهم وعاد لتشمم الهواء مرة أخرى ثم بدأ يقترب من موقع (علاء) بخطوات صياد يترصد فريسته ومن خلفه لحقت به باقي المخلوقات ... كان (علاء) قد أصيب بالتجمد في اللحظات الأخيرة، يشعر أنه عاجز عن الحركة ولكن ما حل بصاحبه جعلنه يلتقط جذع شجرة ضخم من الأرض ويتأهب للدفاع به عن نفسه في معركة خاسرة ضد تلك المخلوقات التي حاصرته في دائرة ... لوح بالجذع مهددا فلم يبد الخوف على أي مخلوق منها، التقط حجرا من الأرض وألقاه على أحدها فأصابته في رأسه فتحرك للخلف خطوة وهو يصدر زمجرة متوعدة ... أدرك في  تلك اللحظة أن هذه المخلوقات لا تراه، فهي لا تأتي بأي رد فعل على أفعاله، ولكن يبدو أنها تشعر بوجوده وتعرف مكانه بالضبط قد يكون ذلك بسبب رائحته ... وقبل أن يحاول استخدام تلك الميزة وذلك الاستنتاج في وضع خطة للهرب، انقض عليه زعيمهم وأسقطه على الأرض وربض فوق صدره وقبض بكفه البشرية على كتفه بقوة شديدة، وأخذ يصدر عواءً ظافرا، مهتاجا، فجاوبته تلك المخلوقات التي لم تحاول التدخل قبل أن يعطيها كبيرها الإشارة بذلك ... أمسك (علاء) بقبضته ذراع هذا الوحش محاولا نزعها عن كتفه ولكنه كان قويا للغاية ... التمع ضوء القمر على أنياب ذلك المخلوق وبدا أنه يوشك على أن يغرسها في رقبته ... فجأة غامت الصورة أمام عينيه وتداخلت معها مشاهد أخرى لبشر عاديين يتحركون حوله مع خلفية ضوئية باللونين الأزرق والأحمر ... وصل إلى مسامعه ذلك الصوت الذي لا يعرف صاحبه وهو يقول:
-    أحدهما بخير ولكن مصاب إصابات بالغة ... أما الآخر فقد لقى حتفه مباشرة.
اختفى مشهد تلك المخلوقات المفترسة، وكان آخر ما رآه هو وجه زعيمهم القبيح وعينه العوراء وهو يقبض على كتفه وهو يمسك بذراعه محاولا دفعه، وحل محله مشهد آخر لسيارات الشرطة والاسعاف، والمسعفون وهم يخرجون جسده وجسد صاحبه من السيارة، وهو يصرخ فيهم دون أن يسمعه أحدٌ منهم:
-    لقد قتلوا (كريم)!
فجأة شعر بقوة هائلة تجذبه وبأنه ينزلق بسرعة هائلة داخل أفعوانية عملاقة، قبل أن يظلم كل شئ!
***
استعاد وعيه دفعة واحدة ... كان ممددً على سرير من تلك الأسرة المعدنية التي تستخدم في المستشفيات أو في الفنادق الرخيصة، وهناك أنبوب وريدي مطاطي ينقط بعض السائل الرائق داخل عروقه، وهناك أيضا بعض الأقطاب الكهربية المتصلة بجسده، من الواضح أنه الآن في غرفة بأحد المستشفيات الخاصة متوسطة المستوى، كما هو واضح من شكل تأثيث الغرفة وحالة الأجهزة الطبية بها ... يشعر بآلام شديده في كل أعضائه، يحاول الاعتدال، ينتبه إلى ذلك الطبيب الذي يقف في منتصف الغرفة ويوليه ظهره، يبدو أنه يتفحص شيئا ما في يده، يحاول تنبيهه:
-    سيدي.
لا يجيب ... ينادي عليه مرة أخرى فيلتفت نحوه ببطأ، قبل أن تنطلق منه صرخة فزع مروعة وهو يرى وجه الذئب وهو يحدق فيه بعين واحدة فقط!... فقد كانت عينه الأخرى عوراء!
***
-    لا تقلق ياحبيبي ... أنت بخير.
يستعيد وعيه مرة أخرى، المشهد غائم أمام ناظريه، هناك إثنان معه في الغرفة يراهم كشبحين يتحركون حول فراشه، قبل أن يضع أحدهما يده على كتفه، وهو يقول بصوت مختنق بالدموع:
-    أنت بخير.
هذا هو صوت أمه، هو يعرفه حق المعرفة، يمد يده نحوها وهو أقول بصوت لاهث:
-    أمي.
فتمسك بيده، وهي تقول مطمئنة:
-    الحمد لله ... لقد استجاب الله لدعائي.
تستقر الصورة أمام عينيه فيرى وجه أمي الحنون وقد علاه القلق والخوف، وعيناها وقد امتلأتا بالدموع، يحاول النهوض ليضمها ويريح رأسي على صدرها فيعجزه الألم، فتربت على كتفه وصدره وهو تقول بلهجة متعاطفة:
-    لا تتحرك يابني ... لقد أوصى الطبيب بالراحة التامة حتى نطمئن تماما على حالتك...
صوت آخر يعرف صاحبته يقول:
-    الحمد لله لا يوجد نزيف ولا كسور ... فقط بعد الكدمات والرضوض العنيفة ... لقد أوجعت قلبي وقلب أمي عليك في الأيام الماضية.
-    (فاتن).
-    أجل.
كانت هذه هي (فاتن) خطيبته وحبيبته، تطمئنه وتطمئن نفسها على حالته، كانت كعادتها تصف حماتها بلفظ (أمي) ... تنبه إلى كلمة (الأيام) التي ذكرتها، فقال مندهشا:
-    الأيام الماضية.
-    أجل ... لقد غبت خمسة أيام كاملة عن الوعي.
حملق في وجهها للحظة، وهو يردد:
-    خمسة أيام!
أجابت أمه:
-    أجل ... كنت تفيق لبعض لحظات، تتمتم فيها ببعض الكلمات عن الذئاب والوحوش ثم تغيب عن الوعي بعدها ... لقد كدت أفقد الأمل.
قال بلهفة وقد تذكر صاحبه:
-    (كريم) ... أين هو؟
تبادلت أمه وخطيبته النظرات المشفقة، قبل أن تنسحب الأخيرة متعللة بأنها ستخبر الطبيب بإفاقته، ثم غادرت الغرفة ... التفت إلى أمه وهو يكرر سؤاله عن (كريم)، فردت بلهجة حزينة:
-    مسكين ... لم يكتب له النجاة.
-    لقد قتلته تلك المخلوقات اللعينة.
نظرت له أمه بقلق، وهي تقول بحيرة:
-    أي مخلوقات ياحبيبي، ألا تتذكر ماحدث؟ لقد مات صاحبك أثر حادثة السيارة التي انقلبت بكما.
حاول أن يرد عليها ويشرح لها أن هذا لم يحدث، فقد كان (كريم) حيا بعد تلك الحادثة، ولكنه كان مترددً، فهو ليس متأكدً مما رأته عيناه، وحتى لو كان متأكدً، فما رآه لا يمكن وصفه بكلمات بسيطة ... فجأة لمحه من باب الغرفة المفتوح الذي تركته (فاتن) وراءها، لمحه يسير في الرواق بجسده العضلي، القوي، العاري إلا من إزار أو بنطال قصير، لمحه برأسه الذئبي وعينه العوراء، رآه ينظر له بغل قبل أن يغيب في نهاية الرواق!
.. (انتهى الجزء الأول – ويليه الجزء الثاني) ..

قصة رعب قصيرة بعنوان ... (صائدوا الموتى – الجزء الثاني)
كان الدكتور (كمال عثمان) نائما على فراشه في (فيلته) التي يعيش فيها منفردا في منطقة الضواحي بالعاصمة ... كانت أنفاسه منتظمة في البداية، ثم بدأ صوتها يتعالى تدريجيا، ويبدأ صدره في الاختلاج بقوة وهو يتقلب في فراشه مصدرً أنينا متألما وقد غطى العرق كل جسده وثيابه، وبدا أنه يعاني من كابوس مخيف ... استيقظ على صرخة قوية، أخذ يتلفت حوله لثوان في قلق حتى أدرك أنه في داره، وفي فراشه، تمتم بصوت خفيض:
-    اللعنة ... لقد عبر أحدهم إلى عالمنا.
نهض من فراشه وتوجه إلى الحمام فأغرق رأسه بالماء البارد، ثم غير منامته التي ابتلت تماما بالعرق بأخرى جافه، ثم نزل إلى غرفة مكتبه ... توجه مباشرة إلى مكتبته العملاقة التي تحتل جدارً كاملا منها، صعد على سلم منزلق  قصير والتقط كتاب عتيق من رف مرتفع، ثم توجه إلى مكتبه الأثري المصنوع من خشب الأبنوس وجلس خلفه، ووضع الكتاب على سطحه وأشعل المصباح قريبا منه ... بدأ يقلب الصفحات باهتمام وهو يحرك عويناته حركة عصبية اعتاد أن يفعلها دائما عندما يكون مستغرقا في موضوع ما ... وصل إلى الصفحة التي يبغاها فنقر عليها بسبابته بظفر، قبل أن يحول عينيه إلى العنوان أعلى الصفحة ويقرأه بصوت قلق:
-    صائدوا الموتى.
تفحص الصورة أسفل العنوان،  والتي تمثل بعض المخلوقات التي لها أجساد كالبشر ورؤوس كالذئاب، تعكف على جسد رجل ممد في قبره وتنهشه في شراهة ونهم.
وضع الكتاب جانبا، ثم جذب الهاتف الأثري العتيق من طرف المكتب فأنزلق على سطحه بصرير مزعج، التقط السماعة التي تصلح بضخامتها كأداه للقتل في قصص (إجاثا كريستي)، وهو يحدث نفسه قائلا:
-    أعرف أن الوقت متأخر ... ولكن لا يمكنني الانتظار وإلا ستحدث الكارثة.
دق جرس الهاتف في الناحية الأخرى لفترة طويلة، قبل أن يجيبه رجل متثائب بصوت يحمل كل الضيق، وهو يقول:
-    من المتصل؟
-    أنا خالك ... تعال إلي حالا!
للحظات حاول الرجل استيعاب الأمر، قبل أن يقول وقد تسرب بعض الفهم إلى صوته:
-    دكتور (كمال) ... أتعرف كم الساعة الآن؟
-    أعرف بالطبع ... ولكن الموضوع جد خطير؟
قال الرجل بضيق:
-    لماذا تكون كل موضوعاتك الخطرة بعد الواحدة صباحا؟ ولماذا أنا في كل مرة؟
قال الدكتور (كمال):
-    لأنك ضابط يا (محسن). وتستطيع التصرف في تلك الظروف الخطرة.
صمت للحظة، ثم أردف بكلمات واضحة، حاول إكساب حروفها قوة وعزم:
-    كما أنك وريثي الوحيد.
صمت (محسن) للحظة وكأنه يقلب الموضوع في عقله، ثم زفر بحدة وهو يقول:
-    أنا قادم!
***
في ذلك الوقت في قاعة الاستقبال بتلك المستشفى الخاصة، جلس الممرض المناوب مع رجل الأمن يتحدثان بحماسة وحدة حول بعض الأمور السياسية والاقتصادية ... كان كل منهما يسوق الأدلة والبراهين التي تؤيد وجهة نظره وتسفه من وجه نظر صاحبه، كانت تلك هي طريقتهما التي يزجيان بها ساعات السهر إذا تصادفت نوبة البيات لكل منهما مع الآخر، لم يكن هناك الكثير ليفعلانه، فالمستشفى لا تستقبل الكثير من الزائرين في تلك الساعات المتأخرة ... زادت حدة الحديث بينهما ودافع كل منهما عن وجهة نظرة وكأنها إبنه الذي أنجبه بعد طول انتظار، والغريب أن كلا منهما لا يفقه شيئا في السياسة ولا في الاقتصاد، وآراؤهما هي مجرد آراء سطحية، منقولة عن بعض الإعلاميين المرتزقة!
فجأة تحول رجل الأمن وهو ينظر ناحية مخزن الأدوية والعقاقير في الجانب الآخر من صالة الانتظار، وهو يسأل:
-    هل رأيت هذا؟
نظر الممرض إلى الجهة التي ينظر لها صاحبه فلم يرى مايريب، فأجابه:
-    لا!
-    لمحت شخصا يدخل مخزن الأدوية والعقاقير؟
-    قد يكون دكتور (مراد)، فهو أيضا يبيت معنا الليلة.
هب رجل الأمن وقد أنبأته غريزته بأن هناك شيئا مريبا هناك ... ترك صاحبه وتوجه إلى المخزن بخطوات متحسسة، قبل أن يلجه ويغلق الباب وراءه ... انتظر الممرض عودة رجل الأمن لفترة، وعندما تأخر قرر الذهاب في أثره ... كان المكان مظلما داخل المخزن، أخذ الممرض يتحسس بيده الجدار بحثا عن زر الإضاءة، ولكنه توقف عندما انتبه إلى تلك الحركة وذلك الصوت الذي ينبعث من وسط المخزن، أخرج من جيبه مصباحا يدويا صغيرا وأخذ يسدد شعاعه نحو ذلك المكان الذي يأتي منه الصوت، في البداية وقع الشعاع على حذاء جلدي لشخص ممد على الأرض، هو يعرف هذا الحذاء ويعرف صاحبه، إنه زميله رجل الأمن الذي كان يتحدث معه في أمور السياسة منذ دقائق! .. حرك الشعاع صعودا نحو رأسه فالتمع شئ أحمر عند صدر رجل الأمن، وعندما وجه الممرض شعاع الضوء نحو ذلك الشئ الأحمر، أصابه الهلع والذعر وألقى بالمصباح وانطلق يجري إلى خارج المخزن وهو يصرخ صرخات هستيرية مدوية ... لقد كان ذلك الشئ الأحمر هو انعكاس ضوء المصباح على العين الواحدة لذلك الذئب الذي يربض على صدر صاحبه وينهش منه ... هل كان ذئبا حقا؟ ... هو لا يدري فقد رأي رأسه الضخم وفرائه المنتصب وانعكس شعاع الضوء على عينه للحظة واحدة فقط ... المهم هو شئ لعين يفترس صاحبه، وقد يفعل به المثل إذا لم يستدع النجدة ... التقط الهاتف وضغط زر الطوارئ وصرخ في مجيبه:
-    النجدة ... لدينا حيوان مفترس هنا!
***
في اليوم التالي شعر (علاء) بأنه قد صار أفضل حالا، وبأن جسده قد بدأ يتعافى قليلا من الرضوض والآلام، فطلب من الطبيب عندما عاده في الصباح أن يسمح له بالمغادرة فوافق هذا الأخير، ولكن أوصاه بأن يكمل فترة الراحة المتفق عليها في منزله وألا يرهق نفسه في أي عمل يحتاج لجهد بدني ... كان يتناول إفطاره عندما سمع تلك الدقات على باب الغرفة، فرفع صوته قائلا:
-    تفضل!
دخل أخوه الأصغر (عمرو) وعلى وجهه تلك الابتسامة العابثة التي لا تفارقه أبدا، وهو يقول:
-    صباح الخير ... أراك أفضل اليوم!
-    وكيف هذا؟
أشار إلى الصفحة التي يضعها على قدميه وفيها إفطاره:
-    أنت تتناول الأفطار اليوم مثل باقي البشر بشكل طبيعي دون أن تهتز يدك فتغرق جسدك ووجهك بالجبن والبيض كما كنت تفعل في الأيام الماضية.
ضحك (علاء) وهو يقول:
-    وأكثر من ذلك لقد دخلت الحمام وحدي اليوم.
قال (عمرو) متصنعا الجدية:
-    إذا فأنت مستعد للعودة للمنزل ... هيا بنا فأمي تنتظرك هناك.
ثم غمز بعينه وهو يردف بخبث:
-    وأنت تعرف من أيضا.
ثم اقترب منه وقال بصوت خافت:
-    من حسن حظك أنك ستخرج من المستشفى اليوم.
-    لماذا؟
-    ألم تشعر بما حدث بالأمس؟
-    ماذا حدث؟
-    يقولون أن هناك ذئب ضخم افترس أحد رجال الأمن ليلا.
ارتسمت ملامح الرعب على وجه (علاء) وهو يتسائل بصوت متحشرج:
-    ذئب ... هل أنت متأكد؟
-    بالطبع ... لقد تحدثت إلى بعض رجال الشرطة الذين يقومون الآن بالتحقيق في الحادثة.
تعلقت عين (علاء) بشئ كان يحمله (عمرو) معه طوال الوقت، فقال متسائلا:
-    ما هذا؟
-    إنها مجلة رياضية ... هل تريدها؟
-    أجل.
ناوله (عمرو) الجريدة، ففرد (علاء) صفحة الغلاف الأخيرة والتي كان بها إعلان سياحي يحوي بعض صور المعابد واللوحات الفرعونية ... أشار (علاء) إلى صورة بعينها وهو يقول:
-    ما هذا؟
نظر (عمرو) إلى الصورة التي تمثل أحد الآلهة الفرعونية الذي يبدو كرجل برأس (كلب) أو (ذئب)، ثم أجاب بحيرة:
-    إذا أنت تختبرني وتريد أن تعرف هل كلية الآثار التي أدرس فيها آتت أكلها أم لا ... إنه (أنوبيس) حارس الموتى.
***
-    (أنوبيس)! ... أنا لا أفهم شيئا!
قالها النقيب (محسن) لعمه الثري الدكتور (كمال)، فأجابه الأخير:
-    ما الذي لا تفهمه؟
-    كل ما قلته!
قال الدكتور (كمال) بضيق:
-    إذا أنت لا تصدقني.
أشار (محسن) بيده مدافعا وهو يقول:
-    بالتأكيد أصدقك،وكيف لا أفعل وقد جرجرتني معك في العشرات من المغامرات الخوارقية والتي لم أكن لأصدق بوجود أيها إلا بعد أن رأيتها بعيني هاتين.
توقف للحظة، ثم أردف:
-    وأعرف أيضا أنك تمتلك تلك القدرة الخاصة والشفافية التي تستطيع أن تجعلك تتواصل مع هذه العوالم وتلك الكائنات بشكل خارق، وأنا شاهد على هذا أيضا.
قاطعه الدكتور (كمال) وهو يقول:
-    وتعرف أيضا أنه رغم كوني دكتور في الأدب والفلسفة، إلا أنني خبير أيضا في مجال الظواهر الخوارقية وأصول الأساطير، وأفنيت نصف مالي وعمري كله في البحث في الكتب القديمة والمخطوطات والمصادر النادرة حتى أصبحت دليلا ومرجعا في هذا المجال.
-    أعرف بالطبع.
-    إذا لماذا لا تصدق ما قصصته عليك بشأن صائد الموتى الذي عبر إلى عالمنا؟
مط (محسن) شفتيه وهو لا يجد ما يقوله، فاستطرد الدكتور (كمال):
-    المهم أن تساعدني في العثور على هذا الشخص الذي عبر من خلاله إلى عالمنا.
-    وكيف أفعل هذا؟
-    استخدم مصادرك الشرطية ... ابحث عن شخص تعرض لحادثة، قربته من الموت كثيرا ونجا منها بأعجوبة.
أصدر (محسن) ضحكة متهكمة خافتة، قبل أن يقول:
-    وكيف أجده؟ إنه كالبحث عن إبرة في كومة قش ... هناك المئات الذي يتعرضون لحوادث مميتة يوميا وينجون منها، وعشرات منهم فقط ينقلون إلى المستشفيات.
فكر الدكتور (كمال) للحظة ثم قال:
-    ابحث عن حوادث افتراس.
-    ماذا؟
-    حوادث افتراس ... حيوانات مفترسة تهاجم البشر ... وسنجد ضالتنا قريبا من موقع تلك الحوادث.
.. (انتهى الجزء الثاني – ويليه الجزء الثالث) ..

قصة رعب قصيرة بعنوان ... (صائدوا الموتى – الجزء الثالث)
وقف المخلوق ذو الجسد البشري ورأس الذئب، أمام ذلك المذبح الحجري في منتصف ذلك الكهف الضخم الذي تتدلى من سقفه عوالق صخرية عملاقة، تغطيها الترسبات الجيرية والنباتات الفطرية، وعلى أرضيته الصخرية تجمعت بعض البرك من الماء الآسن صنعتها القطرات التي تتسرب من الشقوق في سقف الكهف وجدرانه ... كان المكان مضاءً ببعض المشاعل المعلقة على حوامل من الحديد الصلب مغروسة في الجدران ... كان الجو حارً وخانقا في هذا المكان الذي لم تلجه قدم بشري منذ الأزل!.. بدا أن المخلوق غير عابئ بكل تلك الأشياء وهو يلتقط خنجرا ذو نصل حاد ويد من الذهب اللامع منحوت عليها رموز شيطانية عجيبة ... مرر النصل على راحته فصنع فيه جرحا غائرا، اعتصر كفه فوق المذبح فسالت منه الدماء على نحت بارز لوجه ذئب فوقه، سرعان ما اشتعل بلون أحمر كالجمر ... تراجع المخلوق إلى الخلف تاركا المساحة لتلك الدائرة الحمراء الشفافة التي بدات تتشكل فوق المذبح صانعه مرآة عملاقة تضئ بلون أحمر فسفوري.
نظر المخلوق عبر تلك المرآة فلمح مخلوقات على شاكلته تنظر له من الناحية الأخرى، رفع رأسه في الهواء ورفع عقيرته بعواء طويل مرعب فجاوبته المخلوقات بالمثل ... اقترب من المرآة ومد يد ليلمس سطحها، فانطلقت منها شراره كهربية هائلة صعقته وألقت به إلى الخلف لعدة أمتار ليسقط على الأرض وهو يزمجر بألم وعصبية ... نظر ناحية المذبح فوجد المرآة قد اختفت وخبا الضوء الأحمر ... شعر بخيبة أمل وحسرة، وأدرك أنه مازال ضعيفا ويحتاج للمزيد من القوة حتى يستطيع فتح تلك البوابة إلى عالمه ... يحتاج للمزيد من الصيد حتى يمكنه أن يكتسب القوة اللازمة لجلب اتباعه معه إلى هذا العالم الملئ بالفرائس السائغة.
***
كان النقيب (محسن) يقود سيارته وهو في طريقه إلى عمله، ارتفع رنين هاتفه المحمول فأجاب محدثه قائلا:
-    كيف الحال يا (عبد العزيز)؟ ... لقد سبقتني كنت ساتصل بك بعد قليل.
أخذ يستمتع إلى محدثه للحظات، ثم أجاب:
-    أنا في الطريق الآن سنناقش هذا الموضوع عندما أصل، ولكني أريد منك خدمة أخرى ... خدمة عاجلة.
انتظر للحظة ثم أردف:
-    أريدك أن تجري لي بعض التحريات عن حوداث افتراس في الأيام الأخيرة.
استمع لثوان، ثم أجاب وهو يومئ برأسه:
-    أجل ... أشخاص تعرضوا لهجوم من كلب مسعور، ذئب، سلعوة، أي مصيبة من تلك الأشياء التي لها أنياب وتهاجم البشر.
أغلق المحمول وألقى به على الكرسي المجاور، ثم أخذ يتذكر ما أخبره به خاله الدكتور (كمال) عن تلك الأبعاد الموازية التي تحيط بعالمنا وتعيش فيها مخلوقات شريرة تتوق للنفاذ إلى عالمنا ولا تقدر، ومنها ذلك البعد الذي يعيش فيه صائدوا الموتى، وهم كما قال خاله مخلوقات شرسة، شرهه، تتغذى على الطاقة التي تنبعث من الإنسان في لحظة موته ... مخلوقات شريرة لا يدرك وجودها إلا بعض البشر الذين يمتلكون شفافية خاصة مثل خاله، أو الأشخاص الذين يتعرضون لخطر الموت أو حادث عنيف يجعلهم يكتسبون قدرة خاصة تنقلهم بصورة مؤقتة لهذا البعد ... حتى أن الأقدمون ممن تعرضوا لتلك الظروف الخاصة ورأوا تلك المخلوقات وعادوا ليحكوا عنها، حسبوا أنها آلهة أو جبابرة تحرس قبور الموتى، يتحدث الفراعنة عن (أنوبيس) إله الموتى وحارس القبور، ويتحدث الأغريق عن (هادس) إله العالم السفلي وكلبه ذو الجسد البشري والرؤوس الذئبية الثلاث الذي يتغذى على الأرواح، ويتحدث (الفايكنج) عن الذئب (فنرير) الذي أرعب الآلهة فسبكت له سلسلة أزلية لا تنكسر وكان يتغذى على أرواح الخطاة، وغيرها من الحضارات القديمة، ستجد دائما ذلك التنويع الذي يشير في النهاية إلى ذلك البعد ومخلوقاته النهمة ولكن بصورة مشوهة أو محورة لا تشير بدقة إلى الحقيقة ... فالحقيقة أسوء من ذلك بكثير.
قاطع حبل أفكاره رنين هاتفه المحمول مرة أخرى، فالتقطه ووضعه على أذنيه وهو يستمع لمحدثه، قبل أن يعقد حاجبيه بدهشة وهو يجيب:
-    هكذا بسرعة!
استمع لثوان أخرى، قبل أن يقول بلهجة عملية:
-    ما هو عنوان المستشفى الخاص الذي حدث فيه هذا الهجوم.
استمع لمحدثه مرة أخرى، قبل أن يرد:
-    سأتوجه إلى هناك مباشرة ... شكرا يا (عبد العزيز) ... إذا سأل أحد عني فأخبره أنني سأتأخر قليلا.
أنهى الاتصال ثم بدأ يبحث عن رقم خاله الدكتور (كمال) على الهاتف، وهو يتمتم:
-    من الأفضل أن أخبره ليلحق بي، فقد يجد هناك ضالته ... ومن تجاربي السابقة معه، فإن العثور على الهدف هو الجزء السهل من المهمة، أما التعامل معه فهو شئ آخر.
***
صحا (عمرو) من نومه ليلا على حاجة ملحة لدخول دورة المياة، يبدو أن زجاجة المياة الغازية بسعة (اللتر) التي تجرعها مع العشاء تريد الخروج الآن وبسرعة ... وعندما انتهى، تنبه إلى حركة في غرفة أخيه (علاء)، فكر أنه قد يكون بحاجة لكوب من الماء أو لمن يساعده على دخول الحمام، فرغم تحسن حالته في الأيام الأخيرة إلا أنه مازال يجد صعوبة في الحركة وفي أداء المهام البسيطة ... توجه (عمرو) بعد خروجه إلى غرفة أخيه وفتح بابها وهو يقول:
-    هل تريد شيئا يا (علاء).
فاجأة عدم وجود (علاء) في الغرفة، وفي نفس اللحظة سمع باب المنزل الخارجي وهو يغلق بقوة ... هل يكون (علاء) قد غادر المنزل!؟. لم يصدق (عمرو) ذلك  فحالته لم تكن تسمح!.. فكر أنه قد يكون توهم سماع صوت الباب الخارجي، فحاول البحث عن أخيه في كافة أرجاء المنزل، فلم يجده!..  شعر (عمرو) بحيرة ودهشة شديدتين، زاد منهما تلك الضمادات والجبائر التي كانت تغطي معظم جسد أخيه والتي وجدها ملقاه في جانب من غرفة نومه!
أرتدى (عمرو) ثيابه على عجل ونزل ليبحث عن أخيه، وعندما وجد سيارته مكانها، توقع أن يكون (علاء) قد قرر التريض قليلا، ليعذب نفسه ويعذبه معه بلسعة جو الليل البارد، أو قد يكون توجه إلى محل البقالة الموجود في أول الشارع ليشتري علبة سجائر كعادته ... ولكن بعد عشر دقائق اكتشف (عمرو) أن توقعاته في غير محلها، (فعلاء) لم يكن يتريض في الجوار، ولم يجده أيضا في محل (البقالة)، لذا قرر العودة إلى المنزل وانتظار أخيه هناك.
عندما وصل (عمرو) إلى المنزل وجد نور غرفة أخيه مضاءً!.. هو يتذكر جيدً أنه أغلقه قبل مغادرة المنزل ... توجه إلى غرفة أخيه بخطوات سريعة ففاجأة هذه المرة وجود أخيه في غرفته، نائما في فراشه وبراءة الأطفال في عينيه ... أطلق (عمرو) سبة قصيرة ثم توجه إلى غرفة نومه أملا في الحصول على قسط بسيط من الراحة بعد تلك المغامرة الليلية الغامضة.
***
-    تفضل ياباشا.
قالها العامل وهو يقود النقيب (محسن) وخاله الدكتور (كمال) إلى مخزن الأدوية والعقاقير في المستشفى الخاص حيث وقعت تلك الحادثة المريعة التي راح ضحيتها أحد رجال الأمن منذ ليلتين عندما هاجمه ذئب متوحش وفتك به ... وصل النقيب (محسن) وخاله منذ نصف ساعة إلى المكان وقابلا نائب مدير المستشفى الذي حكا لهما عن الواقعة والتحريات التي قامت بها الشرطة في الأيام السابقة ... وعرفا منه ماحدث بعد قيام ممرض الاستقبال الذي كان شاهدً على تلك الحادثة بالإبلاغ، ووصول الشرطة في غضون دقائق قليلة وانتشار رجالها في المستشفى وحولها دون أن يجدوا أي أثر لهذا الذئب ... وادعاء ممرض الاستقبال أن الذئب لم يخرج من المستشفى بعدما فعله، فهو يقول أن بعد ماعاناه من رعب شديد بسبب ما شاهده في تلك الليلة، هرع إلى المدخل الرئيسي للمستشفى في انتظار وصول رجال الشرطة، وهو يؤكد أن أحدً لم يخرج أو يدخل حتى وصولهم!  ورغم وجود مداخل أخرى للمستشفى إلا أن جميعها تكون مغلقة وبإحكام في تلك الساعة من الليل، ماعدا المدخل الرئيسي ... طلب الدكتور (كمال) من نائب المدير تقرير بكل الحالات التي دخلت المستشفى في الأسبوع الأخير، وطلب منه أيضا أن يسمح لهما بمعاينة المكان الذي وقعت فيه الحادثة ... وافق الأخير بسرعة على الطلبين وهو يلقي نظرة جانبية على النقيب (محسن) الذي رسم على وجهه علامات الجدية والحزم.
وقف الدكتور (كمال) في منتصف الغرفة وأغمض عينيه لدقائق، قبل أن يقول بصوت عميق:
-    هناك حضور قوي بالفعل ... لقد كان هنا.
كان النقيب (محسن) يتفحص باب المخزن والمكان الذي بدا أنه قد تم تنظيفه جيدا بعد الحادثة، انتبه إلى تعليق خاله فرد عليه:
-    هل كان المعتدي من صائدي الموتى؟
-    بالتأكيد.
صمت للحظة وأغمض عينيه مرة أخرى وكأنه يحاول أن يلتقط بعض الموجات والذبذبات:
-    وهو ليس بصائد موتى عادي ... إنه يتمتع بطاقة هائلة.
-    وماذا يعني ذلك؟
-    كارثة ... فهندما تمتلك تلك الكيانات طاقة كبيرة أحيانا تكون قادرة على فتح بوابة إلى عالمها، بوابة من ناحيتنا وهو شئ لا تستطيع أن تفعله من الناحية الأخرى مهما كانت تلك الكيانات قوية.
أشاح النقيب (محسن) بيده، وهو يقول بلهجة تقريرية:
-    وما الكارثة في ذلك؟.. سيرحل إلى عالمه عبر تلك البوابة وتنتهي المشكلة.
-    لا ... هو لن يفتح البوابة ليعود إلى عالمه، هو سيفتحها ليأتي بعالمه إلى هنا.
شعر النقيب (محسن) بالتوتر والقلق، هو يعرف أن خاله شخص جاد ولا يبالغ أبدا في وصفه للأمور.
-    التقرير (يافندم).
كان ذلك هو العامل الذي عاد إليهما بتقرير مطبوع يحمل بيانات بالحالات التي دخلت المستشفى في الأسبوع الماضي، التقطه منه الدكتور (كمال) وأخذ يقلب فيه بسرعة وهو يقول:
-    حالة ولادة ... حالة ولادة أخرى ... وثالثة ... يبدو أننا في موسم ... وهذه حالات لأزمات وإصابات بسيطة.
توقف لحظة وهو يحدق في التقرير:
-    هذه هي الحالة التي نبحث عنها ...
مد النقيب (محسن) رقبته ونظر إلى التقرير الذي  يحمله خاله في يده، ولمح الاسم الذي يشير إليه بسبابته ... (علاء) ... كان اسم المريض (علاء عبد الحميد)!
***
عندما سأل (عمرو) أخاه (علاء) عن سبب خروجه في الليلة الماضية، أنكر الأخير ذلك وبشدة، وأدعى أنه لم يغادر فراشه للحظة، سأله (عمرو) بفضول:
-    وماذا عن تلك الضمادات والجبائر ... متى خلعتها؟
أخذ (علاء) يفكر للحظات، قبل أن يجيب في حيرة:
-    لا أعرف ... لقد وجدتها ملقاة هناك ... لا أذكر متى خلعتها!
توقف لحظة قبل أن يردف وهو يشير إلى جسده:
-    في الواقع لا يبدو أنني احتاج لها، فالجروح كلها إلتأمت ولا أشعر بآلام الإصابات والرضوض ... أنا بخير الآن.
-    الحمد لله أنك بخير ... ولكن ألا تجد ذلك غريب ولو بقدر ضئيل.
سرح (علاء) بعقله وهو يسترجع ماحدث في الأيام الأخيرة قبل أن يلتفت إلى أخيه وهو يقول:
-    في الواقع أن التجربة التي مررت بها تحوي الكثير من الألغاز الغامضة والأسئلة المحيرة التي لا أعرف لها إجابة.
لا يعرف (عمرو) الهاجس الذي دفعه للسهر في هذه الليلة تاركا أذنه مع غرفة أخيه الذي أوى إلى فراشه مبكرا، وكأنه يتوقع أن يذهب أخوه في مغامرة ليلية أخرى، وبالفعل صدقت توقعاته عندما وصل إلى مسامعه حركة مريبة في غرفة أخيه، بعدها بلحظات ظهر (علاء) في الرواق وهو يتحرك ناحية الباب ويغادر المنزل ... غادر (عمرو) وراءه محاولا ألا يلفت إنتباهه ... خرج (علاء) من المنزل وسار في الشارع بخطوات قوية سريعة حتى وصل إلى آخره ثم انحرف إلى شارع جانبي ومنه إلى شارع آخر، كان (عمرو) ما زال في أثره، جادً في ملاحقته ... استمرت المطاردة لفترة طويلة من شارع إلى آخر حتى وصل (علاء) إلى منطقة بعيدة، خالية من العمران، فتوجه إلى أرض خربة ووقف في منتصفها وأخذ يتلفت حوله ليتأكد أن أحد لا يراه ... في تلك اللحظة كان (عمرو) يختفي وراء جدار مهدم يتابع (علاء) بناظريه وقد وصل فضوله إلى أقصى مدى ... رفع (علاء) ساعديه ورأسه إلى أعلى وبدا كأنه ينظر إلى القمر، ثم رفع عقيرته بعواء طويل مرعب ... ارتعدت فرائص (عمرو) وهو يتابع أخاه يعوي كالذئاب ويناجي القمر في تلك الأرض الخربة... شعر (عمرو) بالخوف وفكر أن أخوه قد يكون أصيب بالجنون بسبب الحادثة ... ولكن سرعان ماتحول خوفه إلى رعب وذعر شديدين وهو يراقب جسد أخيه يتضخم فيصير أكبر حجما وأكثر قوة، وفمه وأنفه وهما يستطيلان وتبرز أنيابه وتنتصب أذنه وينمو ذلك الفراء على رأسه فيتحول إلى ذلك الشكل الذئبي المرعب ... زاغت عينا (عمرو) للحظة وحاول السيطرة على روعه وألا يفقد وعيه بتأثير تلك المفاجأة، وقبل أن يأتي بأي رد فعل انطلق (علاء) بشكله الذئبي يعدو على أربع ويختفي في ظلام الليل ... دقائق طويلة قضاها (عمرو) مختفيا وراء الجدار قبل أن يستجمع شجاعته ويدبر عائدً إلى المنزل وهو يتلفت وراءه خوفا من ظهور (علاء) مرة أخرى بهيئته الجديدة المريعة ... أفكار كثيرة مرعبة تتقافز في ذهن (عمرو) في تلك اللحظة عن أخيه الذي تحول إلى عملاق برأس ذئب! ولكن شئ واحد وصورة واحدة كانت تلتمع وسط كل تلك الأفكار، صورة لذلك الوجه الذئبي ذو العين العوراء الذي تحول إليه وجه أخيه.
 .. (انتهى الجزء الثالث – ويليه الجزء الرابع) ..

قصة رعب قصيرة بعنوان ... (صائدوا الموتى – الجزء الرابع)
وصل النقيب (محسن) وخاله الدكتور (كمال) إلى (فيلا) الأخير ... كان الدكتور (كمال) يرغب في مراجعة بعض الأوراق والمخطوطات من مكتبته قبل الذهاب في أثر صائد الموتى الذي عبر إلى عالمنا في الأيام الأخيرة، بعد أن نجحا في التقاط طرف الخيط الذي سيقودهما إليه ... دخلا إلى غرفة المكتب، وأعتذر الدكتور (كمال) بالذهاب إلى دورة المياة لدقائق ... أخذ النقيب (محسن) يتطلع إلى ذلك المكتب وأثاثه الأثري وتلك المكتبة العملاقة التي تضم آلاف الكتب والمخطوطات ... كانت دائمة ما تثير دهشته في كل مرة دعاه فيها خاله إلى هذا المكان، وقعت عيناه على ذلك الكتاب المفتوح على سطح المكتب، فالتقطه بحرص شديد خوفا من أن يتلفه، فقد كان الكتاب قديما للغاية بأوراقه الصفراء المتآكلة وغلافه المصنوع من الجلد السميك الذي أصابه العفن في بعض أجزائه فأعطاه رائحة قوية نفاذة، رائحة الزمن! ... نظر النقيب (محسن) إلى صفحات الكتاب فأصابته الدهشة الشديدة، فقد احتوت صفحات الكتاب على كتابة مسمارية غريبة لم يرى مثلها من قبل! لم تكن الغرابة في اللغة التي خطت بها الحروف والكلمات ولكن في الطريقة التي خطت بها! فسطورها لم تكن أفقية ولا رأسية مثل أغلب لغات الكتابة المعروفة، ولكنها مجرد نقشات وخربشات تتحرك في مسارات عشوائية! وكأنك بللت أقدام كتكوت صغير بالحبر وأطلقته ليعدو بعشوائية على صفحات هذا الكتاب!.. أخذ النقيب (محسن) يقلب في صفحات الكتاب فوجدها كلها على نفس الحالة ... قاطعه صوت خاله وهو يقول:
-    لن يمكنك قراءة هذا الكتاب، أبدا!
وضع النقيب (محسن) الكتاب على سطح المكتب، وهو يجيب بفضول:
-    ماهذه اللغة (المعفرتة)؟
جلس الدكتور (كمال) على كرسيه، وقرب الكتاب منه، وفتحه على صفحة بعينها، وهو يقول:
-    أنا أقرؤها باللغة العربية!
أشار النقيب (المحسن) إلى الحروف العجيبة على صفحات الكتاب، وهو يقول:
-    هل هذه حروف عربية؟
-    أجل ... وأحيانا تكون بها بعض المصطلحات بالإنجليزية ... وبلغة بسيطة واضحة وبالأسلوب الأنسب الذي يستطيع عقلي فهمه وإداركه.
-    كيف يكون هذا؟
أشار الدكتور (كمال) إلى المكتبة العملاقة:
-    أتعلم؟ ... هذا الكتاب وحده يحوي معلومات وأسرار تفوق كل هذه الكتب مجتمعة، المهم أن يكون لديك الموهبة التي تسمح لك بقراءته.
عقد النقيب (محسن) حاجبيه محاولا أن يلاحق ما يقوله خاله ويفهمه دون جدوى، استطاع خاله أن يقرأ ذلك على وجهه فقال موضحا:
-    هناك نقطتين فاصلتين كانتا السبب فيما آلت حياتي، ثانيهما هو عثوري على ذلك الكتاب، والذي يظن كل من ينظر لمحتواه أنه يحوي شخبطات خطها قلم شخص مجنون أو سكير، ولكن بمجرد أن فتحت الكتاب ونظرت فيه وجدت فيه الإجابة عن مئات الأسئلة الغامضة من عالم الماورائيات والتي قضيت عمري كله في البحث عن نذر ضئيل منها فلم أفلح، ووجدتها جميعا ببساطة ووضوح شديدين داخل هذا الكتاب ... كتاب الأسرار.
كان الدكتور (كمال) يلهث من فرط الانفعال، فتوقف لحظة ليلتقط أنفاسه ثم أردف:
-    والغريب أنني وحدي استطعت قراءة مابكبد هذا الكتاب، والذي ظل منغلقا على أسراره تلك لمئات أو آلاف السنين، قبل أن يبوح بها لي في النهاية.
قال النقيب (محسن) بفضول:
-    هكذا قررت أن تستفيد من تلك الأسرار وتكرس حياتك لمحاربة الشرور التي تأتي من عالم الماورائيات.
فكر الدكتور (كمال) للحظة، ثم قال بهدوء:
-    في الواقع لقد كان هذا القرار قبل ذلك بسنوات طويلة، وهذه كانت النقطة الأولى الفاصلة في حياتي... ولهذا قصة أخرى.
***
على الرغم من أن تطور حالة (علاء) الصحية بعد الحادثة فاق كل التوقعات، فاختفت كل الإصابات والرضوض من جسده بين عشية وضحاها! وأصبح يشعر بنشاط هائل وبطاقة متدفقة، ويكاد يجزم أنه صار أفضل صحيا وجسديا عما كان عليه قبل الحادثة، إلا أن حالته النفسية والذهنية كانتا على العكس من ذلك تماما، فلم تكن المرة التي رأي فيها هذا المخلوق المرعب ذو الرأس الذئبي والعين العوراء هي المرة الأخيرة، بل تكرر ذلك أكثر من مرة بعدها، رآه أثناء مغادرته للمستشفى، وهو في السيارة، وحتى في منزله يراه يتحرك ليلا في ردهة المنزل، وعندما يغلق عليه غرفة نومه ويطفئ النور يشعر بأنه موجود معه في داخل الغرفة ... يكاد يجن، بخاصة أنه لا يستطيع مصارحة أحد بذلك حتى المقربين منه، فمن سيصدق ذلك، حتى هو نفسه لا يصدقه ويحاول إقناع نفسه أن ما حدث ويحدث له بسبب الحادثة والإرهاق النفسي الذي تعرض لهما، وأنه بمرور الوقت ستزول تلك الرؤى المفزعة.
بالأمس رأي حلما مفزعا، رأى نفسه يعدو في الطرقات الخربة، يعوي كالذئاب ويناجي القمر، ورأى نفسه أيضا وهو يهاجم رجل عجوز كان يسير في طريقه إلى المسجد لأداء صلاة الفجر، ولكنه انقض عليه وأسقطه على الأرض وفتك به، وسط صرخاته الفزعة، المتألمة ... يتساءل، ما طبيعة ذلك العقل المريض الذي يصنع حلما مثل هذا؟ وما يضايقه أكثر أنه يعرف ذلك العجوز الذي فتك به في الحلم فهو من سكان الحي.
-    الإفطار يا (علاء).
قاطع تلك الخواطر صوت أمه وهي تدعوه للإفطار، فقام واغتسل وتوجه إلى مائدة الأفطار، فوجد أمه وأخاه (عمرو) قد سبقاه إليها، فحياهما، فأجابته أمه بحماس، في حين بدا صوت أخوه باردً وهو ينظر نحوه نظرات متشككة، قلقة، بعينين محاطتين بهالات سوداء من أثر السهر، وهو يقول:
-    صباح الخير.
ثم أتبع ذلك بسؤال مباشر:
-     أين ذهبت ليلة الأمس؟
نظر إليه (علاء) بحيرة، وهو يجيب:
-    ما بك يارجل؟ هل أنت مريض؟ تسألني كل يوم نفس السؤال وأجيبك نفسك الإجابة؛ بأنني لم أغادر المنزل ليلة الأمس!
أشاح (عمرو) بوجهه وهو يقول بصوت منخفض:
-    هذا ماتقوله.
دق جرس المنزل، فهبت الأم وهي تقول:
-    إنها (ضحى) زوجة البواب، لقد أرسلتها لشراء بعض الخضروات من السوق.
فتحت الأم الباب وانطلقت في حديث مطول مع (ضحى)، فعلق (علاء) ساخرا:
-    أمي تتلقى نشرة الأخبار اليومية عن الجيران من وكالة الأنباء (ضحى).
لم يبتسم (عمرو) لتلك الدعابة، ورمق أخاه بنظرة باردة، سمجة، فأجابة الأخير بعصبية:
-    ما بك؟ لا يروق لي أسلوبك في التعامل معي مؤخرا؟
لم يرد (عمرو) وتشاغل بتناول لقمة من الجبن وأخذ يلوكها ببطء، زاد هذا التصرف من عصبية (علاء) فهب غاضبا وتوجه ناحية أخيه، الذي قام من مقعده هو الآخر في تحفز وهو يقول:
-    ماذا تريد؟
قاطعت الأم تلك المشاحنة وهي تلج الغرفة وتقول بعصبية:
-    لا حول ولا قوة إلا بالله ... لقد لقى عم (عرفان) مصرعه.
انتبه إليها الأثنان وهما يقولان في نفس الثانية:
-    ماذا؟
-    عم (عرفان) جارنا الذي يسكن في البناية المقابلة، لقد هاجمه كلب مسعور وهو في طريقه إلى المسجد لصلاة الفجر وقتله ... هذا مايقولون!
ألجمت الدهشة (عمرو) و(علاء) للحظات، قبل أن ينهار الأخير على مقعده ويحيط وجهه بكفيه وفي ذهنه تذكر حلم الأمس، لقد كان العجوز الذي فتك به بالأمس في الحلم هو عم (عرفان) بالفعل، ما هذا الجنون؟ هل كان حلما أم علم؟ ... اقترب منه (عمرو) وهو يقول بلهجة متعاطفة في تلك المرة:
-    أخي ... هل هناك ما تخفيه؟ ... أحك لي ودعني أساندك، أنا أخوك.
***
قال النقيب (محسن) لخاله الدكتور (كمال):
-    وما هي النقطة الفاصلة الأولى في حياتك ... تقول أن هناك نقطتين فاصلتين فيها، وثانيهما هو عثورك على هذا الكتاب؟
قال الدكتور (كمال):
-    من صغري عرفت أنني مختلف عن الآخريين، كنت أرى اشياء لا يرونها، وتهاجمني أحلام ورؤى تحمل وقائع وأحداث حقيقية عن مخلوقات وكيانات تعيش بيننا بعضها شرير، آثم، وبعضها غير مؤذي ... كان الموضوع رهيب ويصعب على عقل طفل يتيم الأب مثلي أن يحتمله، لكن الفضل كان لأمي التي علمتني كيف أخفي تلك الأشياء داخل عقلي، ولا أخبر بها أحدً، حتى لا يصفني الناس بالجنون والخبال، ونجحت في ذلك بالفعل، بل أجدته تمام الإجادة واندمجت وسط البشر وعشت بينهم دون أن يعلم أحدهم بسري.
توقف للحظة يلتقط فيها أنفاسه، ثم أردف:
-    حتى جاء ذلك اليوم ... كنت يومها في الصف الثالث الابتدائي وكان لدينا حصة لمعلمي المفضل في اللغة العربية الأستاذ (أحمد) ... يومها دخل علينا الأستاذ ولم يكن في حالته، كان يبدو مريضا، فاقد التركيز على غير عادته، وكنت الوحيد الذي يعرف السبب.
لم يتمالك النقيب (محسن) فضوله وهو يسأل:
-    وماذا كان السبب؟
-    لقد رأيت ذلك (الطفيل) يجثم على كتفيه، يغرس أنيابه في رقبته كل فترة ليمتص رحيق روحه، فتزداد حالة المسكين سوءً.
-    وما هو (الطفيل)؟
قلب الدكتور (كمال) صفحات الكتاب بين يديه وهو يقول:
-    في ذلك الوقت لم أكن أعرف عنه شيئا، سوى أنه مخلوق شرير يؤذي معلمي المفضل، أما الآن بعد أن عثرت على كتاب الأسرار أصبحت أعرف عنه كل شئ.
-    وماذا حدث بعدها.
زفر الدكتور (كمال) وهو يتابع قصته:
-    في اليوم التالي تغيب الأستاذ (أحمد) وعلمنا أن حالته ساءت ونقلوه للمستشفى، وفي الأيام التالية علمنا ان حالته تتدهور أكثر وأكثر وأنه يقترب حثيثا من الموت ... عندها ودون أن أخبر أمي قررت زيارته في المستشفى والذي كان قريبا من منزلي حينها لحسن الحظ.
نظر الدكتور (كمال) إلى النقيب (محسن) وهو يحاول أن يثير فضوله أكثر بسؤاله:
-    أتعرف ماذا وجدت عندما دخلت عليه غرفته؟
-    ماذا؟
-    وجدته نائما في فراشه وقد أصابه الهزال وأصبح كالهيكل العظمي وهو غائب تماما عن الوعي، وعلى صدره يجثم ذلك (الطفيل) اللعين وقد تضخم جسده واكتنز وصار سمينا كالخنزير.
-    وماذا فعلت؟
-    كانت معي ممرضة طيبة، هي التي سمحت لي بعيادته بعد أن تأثرت ببكائي وطلبت مني ألا أطيل في الزيارة، وكالعادة لم تكن ترى ذلك (الطفيل) الذي كنت أراه وحدي ولهذا لم يكن غريبا عليها أن تراني أفعل ما فعلته.
كرر النقيب (محسن) سؤاله:
-    وماذا فعلت؟
-    قررت إلا أقف مشاهدً تلك المرة كعادتي مع تلك المخلوقات اللعينة، قررت أن أتدخل وليكن مايكون ... لذا اقتربت من الفراش ومددت يدي وأمسكت برقبة هذا (الطفيل) الذي أخذ يصرخ وينازع، متشبثا أكثر بجسد الأستاذ (أحمد)، ولكنني أفلحت في انتزاعه وألقيت به بقوة على الأرض، فانفجر مثل قربة الماء.
نقر الدكتور (كمال) بأصبعه على كتاب الأسرار:
-    لم أكن أعرف حينها أن تلك هي الطريقة المثالية للتخلص من (الطفيل)، ولكنني فعلتها بفطرتي.
-    وماذا حدث للأستاذ (أحمد) بعدها؟
-    تعافى، وزال كل المرض عنه، وعاد افضل مما كان.
-    رائع.
-    بالضبط رائع ... وهكذا علمت أن تلك القدرة التي كنت أحسبها نقمة ولعنة، كانت في الأصل منحة ونعمة، فقط إذا استطعت أن أوظفها لمصلحة الآخريين عندها يمكنني أن أصنع فارقا، وهكذا بدأت تلك الرحلة الطويلة التي أوصلتني إلى هنا.
.. (انتهى الجزء الرابع – ويليه الجزء الخامس والأخير) ..

قصة رعب قصيرة بعنوان ... (صائدوا الموتى – الجزء الخامس والأخير)
شعر (عمرو) بحيرة شديدة ولم يدر ماذا عليه أن يفعل؟.. بالأمس لم يذق طعم النوم بعد أن اكتشف سر أخيه المرعب، لذا ظل مستيقظا بعد أن أغلق باب غرفته وغرفة نوم أمه عليهما، وتأهب لما قد يفعله إخوه إذا قرر أن يتحول إلى ذلك الشكل الذئبي ويهاجمه أو يهاجم أمه، لم يكن يعرف ماذا كان سيفعل حينها، ولكن ذلك لم يمنعه من التأهب والاستعداد وليذر التفكير في الفعل لوقت حدوث الكارثة ... اليوم صباحا عندما طلب من أخيه أن يصارحه، تعذر الأخير بأنه على موعد مع خطيبته (فاتن) وغادر المنزل على عجل وملامح وجهه المكفهر توحي بما يكتم في صدره.
يمكنه أن يتجاهل ماحدث ويداري سوءة أخيه، عندها سيكون هناك بالتأكيد المزيد من الضحايا كما حدث مع عم (عرفان) المسكين، وقد يكون هو أو أمه التاليين ... يمكنه أن يتحدث مع أحد من معارفه ويطلب منه النصيحة ولكن من سيصدقه؟ ... الحل الأمثل هو أن يواجه (علاء) عند عودته ويطالبه بالعلاج إذا كان ما فيه علة أو مرض، ولو دعت الضرورة عليه أن يخطر الشرطة والجهات الأمنية بذلك ... رن جرس الباب فتوجه لفتح الباب وهو يتمتم بصوت منخفض:
-    بالفعل ... عليه أن يبلغ الشرطة ... وإذا لم يفعل سأفعل أنا ... فأنا لن أقبل أن تكون دماء الضحايا الذين سيفتك بهم في رقبتي!
فتح الباب فطالعة شاب ذو بنية رياضية وملامح جادة ومن خلفه كهل يرتدي (بالطو) أنيق من الصوف الثقيل رغم حرارة الجو، بادرة الأول بسرعة:
-    هل هذا هو منزل الأستاذ (علاء عبد الحميد)؟
-    أجل ... ولكنه غير موجود الآن ... هل استطيع مساعدتك؟
نظر الشاب إلى الكهل للحظة فأومأ له الأخير، فقال مقدما نفسه:
-    أنا النقيب (محسن) وهذا هو الدكتور (كمال) هل تسمح لنا ببضعة دقائق من وقتك؟
ارتسم الذعر على وجه (عمرو)، فمقولته التي أسرها إلى نفسه منذ لحظات، يبدو أنها ستتحقق وبسرعة، فقال بصوت متلجلج وهو يفسح لهما الطريق:
-    أجل ... تفضلا.
***
تعجبت (فاتن) عندما أخبرها (علاء) بأنه سيصحبها في زيارة سريعة للمتحف المصري، والسبب في تعجبها أن (علاء) لم يبد يوما أهتماما بالتاريخ ولا بالآثار ولا بأي شكل من أشكال الأعمال الفنية كالتماثيل والجداريات والتحف والمشغولات التي يضج بها المتحف المصري ... وفي الطريق، كان (علاء) صامتا، شاردا، وهو يقود سيارته متوجها إلى المتحف، لم ترغب (فاتن) في مقاطعة ذلك الصمت فهي ترصد التغييرات التي طرأت على شخصيته بعد الحادثة التي تعرض لها مؤخرا، ولكن ذلك لا يقلقها فالزمن كفيل بمداواة أي جرح، وخاصة أن الضغط العصبي الذي تعرض له (علاء) ليس بالهين وفقدانه لصديقه الأنتيم كان كافيا لتحطيمه تماما، ولكنها تعرف (علاء) وقدرته على التحمل وهذا أكثر ماتحبه فيه، ولكن بالطبع هذا ليس سببا يجعلها تزيد العبأ عليه بأسئلة ساذجة على غرار (ما بك؟ ... ولماذا تغيرت مؤخرا؟ ... وأنت لم تعد تحبني مثل الماضي؟) كعادة الفتيات مع خطابهن، فهي ترى نفسها أكثر نضجا من ذلك، ومشاعرها تجاه (علاء) تحوي رصيدا لن ينفذ أبدا مهما حدث منه.
وصلا إلى المتحف المصري، فانطلق (علاء) يعدو بين القاعات وكأنه يبحث عن شئ بعينه، تلاحقه (فاتن) بصعوبة، تحاول أن تلفت انتباهه لبعض التحف الرائعة فلا يكترث ويستمر في بحثه الحميم، حتى عثر على ذلك التمثال المصنوع من الذهب وخشب الأبنوس (الأسود) الذي يمثل إنسان برأس ذئب، فتوقف أمامه وبدت على وجهه نظرات عجيبة وهو يقرأ الشرح المدون على اللوحة الرخامية أسفل التمثال، اقتربت (فاتن) وأخذت تقرأ بدورها وهي تردد ما تقرأه بصوت مسموع:
-    (أنوبيس) ... إله الموتى وحارس القبور!
ثم التفتت إلى (علاء) وهي تتساءل في دهشة:
-    هل يعجبك هذا التمثال ... إنه مرعب ... لو كنت تفكر في أن تشتري تقليد له وتضعه في عش الزوجية فأنا لن أسمح بذلك.
بدا أن (علاء) لم يسمع تعليق (فاتن) الأخير، وهو يتلفت حوله حتى وقعت عيناه على شاب مصري يشرح لزوجين من الأجانب بعض المعلومات الخاصة بالتحف المعروضة ... فتوجه إليه (علاء) وقاطعه سائلا:
-    هل حضرتك خبير في الحضارة الفرعونية.
اندهش الرجل من تلك المقاطعة الفجة، وبدا على ملامحه الضيق وهو يجيب:
-    لا لست خبيرا ... ولكنني أعرف بعض المعلومات.
ثم تحول إلى الزوجين وواصل الحديث معهما متجاهلا (علاء) الذي قاطعه مجددا وهو يشير إلى تمثال (أنوبيس):
-    ماذا تعرف عن هذا؟
اقتربت (فاتن) وهي تشعر بالحرج تحسبا لأن ينفجر الشاب في وجه (علاء)، ولكن الشباب تمالك نفسه وهو يجيب بلهجة تقريرية وبكلمات سريعة يحاول بها التخلص من هذا المزعج المقتحم:
-    (أنوبيس) إله الموتى لدى الفراعنة ويسميه البعض (أنوب) ... ويظهر دائما بجسد إنسان ورأس ذئب أو (ابن أوي) أو شئ بينهما ... ودوره هو أن يستقبل المتوفي ويزن قلبه أمام ريشه (ماعت)، فإذا كان قلبه أخف تمتع بالحياة الأخرى وإن كان أثقل هلك.
لم يهتم (علاء) بكل ما قاله، وهو يقاطعه مجددا بسؤال تضرج له وجه (فاتن) بحمرة الحرج:
-    وهل الآلهة الفرعونية حقيقية؟
نظر له الشاب وكأن ينظر إلى مجنون، ولكنه أجاب بصبر:
-    اختيار الفراعنة تلك الصورة للتعبير عن آلهتهم، كبشر برؤوس حيوانات مرتبط في الأساس بملاحظتهم للحيوانات في بيئتهم وصفاتها الخاصة المميزة التي يرونها نذرا من صفات الآلهة، (فأنوبيس) هذا مثلا إله الموتى وحارس القبور تمثل لديهم كإنسان برأس ذئب أو (ابن أوى) لارتباط هذين القمامين بالقبور ورفات الموتى ... وكذا (سخمت) إلهة الحرب تمثل برأس لبوة وغيرهما.
توقف الشاب للحظة ثم أردف وهو يولي (علاء) ظهره ويبتعد بصحبة الزوجين:
-    أما إذا كان سؤالك عن وجود تلك الآلهة في الحقيقة! فيمكنك أن تبحث عنها بنفسك ... عن نفسي لم أقابل واحدً منها يسير في الطرقات.
جذبته (فاتن) من ذراعه وهي تقول لائمة:
-    ما هذا السؤال الغريب؟
لم يرد عليها (علاء) وهو يعود لتمثال (أنوبيس) ليحدق فيه بعصبية وهو يتفحصه من وراء الصندوق الزجاجي الذي يعرض فيه ... صرخ (علاء) فجأة عندما لمح انعكاس صورته على الزجاج والتي لم تكن تشبهه على الأطلاق، فالصورة المنعكسة على الزجاج كانت تحمل وجه ذئب عينه عوراء، أخذ (علاء) يأن وهو يتفحص وجهه بيده وتضاعفت دهشته وهو يرى انعكاس صورته التي تحمل رأس الذئب وهي تقلده وتتفحص وجهها الذئبي بدورها ... سألته (فاتن) بقلق:
-    هل أنت بخير يا (علاء)؟
دفعها (علاء) وهو يعدو بهستيرية مبتعدا وهو يغطي وجهه بيديه ... لحقت به (فاتن) وهي تطالبه بالانتظار وقد أشعل القلق باطنها ... غاب (علاء) في ممر قبل أن يدخل غرفة في آخره عليها لوحة تحمل كلمتي (ممنوع الدخول) ... اقتربت (فاتن) بقلق وأخذت تطرق الباب وتنادي باسم (علاء) ... وصل إلى مسامعها صوته وهو يلهث ويأن أنين متحشرج مختلج ... فتحت (فاتن) الباب ودخلت الغرفة التي كان بها عدد من الخزانات الخشبية الكبيرة ... وصلها صوت اللهاث من داخل إحدى الخزانات، فتعجبت لماذا يحبس (علاء) نفسه داخل تلك الخزانة ... اقتربت منها وهي تنادي عليه بصوت وجل، ثم فتحت الخزانة وهي تقول:
-    (علاء) ... ماذا تفعل؟
شقت صرختها العالية، الحادة، صمت المكان، فقد كان ما رأته داخل الخزانة مرعبا بحق، قبل أن تنقطع الصرخة فجأة وتسقط (فاتن) مغشيا عليها.
***
وصل (علاء) إلى المنزل في وقت متأخر ... أولج المفتاح في ثقب الباب الذي انفتح مرة واحدة من الداخل، ليظهر خلفه أخوه (عمرو) وهو يقول بلهفة:
-    (علاء) لماذا تأخرت؟
نظر له (علاء) بدهشة ثم سأل بعفوية:
-    أين أمي؟
-    ستبيت الليلة في منزل خالتك.
قال (علاء) بقلق:
-    خير ... ما السبب؟
-    لا أعرف ... هيا هناك من ينتظرك في الداخل.
-    من؟
أخذ (عمرو) بذراعه وتوجه ناحية غرفة الصالون ... فجأة رن جرس هاتف (علاء) المحمول فأجاب عليه، فجاءه صوت حماته وهو يقول بقلق وعصبية:
-    (علاء) ... أين (فاتن)؟ ... لماذا لا ترد على هاتفها؟ ... هل مازالت معك؟ ... أرجوك طمأني.
سقط الهاتف من يد (علاء) وهو يقول بصوت حائر، مرتجف:
-    (فاتن)!
حاول (علاء) التذكر ... آخر ما يذكره، (فاتن) وهي معه في المتحف المصري، عندما شعر ببعض التعب والصداع! ولكنه لا يذكر أي شئ بعد ذلك ... وكأن الساعات الأخيرة محت تماما من عقله ... نظر نحو أخيه بعينين زائغتين، لا يعرف ماذا يقول أو يفعل ... في ذلك الوقت خرج النقيب (محسن) وخاله الدكتور (كمال) من غرفة الصالون وتوجها ناحيتهما، قبل أن يخرج الأخير شيئا من جيبه ويلصقه بسرعه على جبهة (علاء) الذي تفاجئ بما حدث، فارتعد جسده للحظه ثم سقط مغشيا عليه بين يدي النقيب (محسن).
***
أراح (عمرو) جسد أخيه على الأريكه وهو ينظر إلى ذلك الجعران الأبيض الذي لصقه الدكتور (كمال) بجبهة أخيه، قبل أن يسأله:
-    ما هذا؟
-    أنها تقية فرعونية تستطيع أن تحجب قوى الشر وتمنع خروجها، كما أنها تضعف تلك القوى وهذا سيساعد أخاك على تذكر كل ماحدث.
-    هل هو بخير؟
-    بالطبع.
لحظات وأفاق (علاء)، فانطلقت منه صرخة عالية مستغيثة وهو يهب من على الأريكة، حاول الجميع تهدئته، فأخذ يقاومهم وهو يواصل الصراخ ودفعهم عنه بعصبية محاولا التحرر، قال له أخوه (عمرو) بصوت قلق:
-    اهدء ... أنت بخير.
صرخ (علاء):
-    أنت لا تعرف ...
أجابه الدكتور (كمال) بصوت هادئ رزين:
-    بل نعرف كل شئ ونحن هنا لمساعدتك
نظر (علاء) في وجهه وهو يقول بحيرة:
-    من أنت؟
-    أنا الدكتور (كمال) ولدي بعض الخبرة في المشكلات المشابهة للمشكلة التي تعاني منها بعد الحادثة الأخيرة.
وأشار إلى النقيب (محسن) وهو يقول:
-    وهذا ابن أختي، ونحن هنا لمساعدتك.
تجاهل الدكتور (كمال) ذكر عمل النقيب (محسن) حتى لا يزيد توتر (علاء) الذي قال بصوت ضعيف، عاجز:
-    وكيف يمكنك مساعدتي؟
قبل أن يتذكر (فاتن) فيعتدل وهو يقول بعصبية:
-    (فاتن) إنها أسيرة لدى ذلك اللعين ... علينا أن نخلصها.
قال الدكتور (كمال) بلهفة:
-    هل تعرف أين هي؟
-    نعم؟
-    هل تستطيع أن تقودنا إلى هناك؟
-    أجل.
-    إذا هيا بنا ... لا يوجد وقت لنضيعه
***
سارت السيارة لساعتين في ذلك الطريق الصحراوي خارج العاصمة، كان النقيب (محسن) يقود تبعا لتعليمات (علاء) الذي أخذ يقص على الموجودين قصته مع ذلك الكائن المرعب الذي يتقمص جسده ويفعل به الفظائع، وشرح لهم أيضا خطته الشريرة لفتح تلك البوابة إلى عالمه لجلب كائنات مثله لتعيث الفساد في هذه الأرض ... استمع الدكتور (كمال) لحديثه باهتمام، قبل أن يسأله بصوت رزين:
-    ما الذي تشعر به عندما يتقمصك صائد الموتى.
-    في البداية كنت أشعر كأنني في حلم لا استطيع الاستيقاظ منه، أما الآن فأنا أتذكر كل ماحدث بتفاصيله، وكأنني كنت أسير داخل جسدي أنظر من شباك ناظراي لأشاهد ما يفعله ذلك اللعين دون أن استطيع منعه.
توقفت السيارة في منطقة مطلة على هضبة صخرية، قبل أن يتمتم (علاء):
-    علينا الآن أن نكمل الطريق سيرا على الأقدام.
ترجل الجميع من السيارة، انتبه النقيب (محسن) إلى ذلك الجعران الملتصق بجبهة علاء والذي حال لونه إلى اللون الرمادي، فنبه خاله الدكتور (كمال) الذي أجابه بصوت هامس:
-    كلما زاد لون الجعران قتامة دل ذلك على تلاشي تأثيره تدريجيا، عندما يتحول إلى اللون الأسود سيصبح بلا فاعلية على الإطلاق.
قبل أن يناوله جعران آخر أخرجه من جيبه وهو يقول له:
-    احتفظ بهذا يا (محسن) بالتاكيد سنحتاج إليه ... وأحذر فانا لا أمتلك المزيد.
 بدء الجميع في السير على الأقدام في رحلة أخرى استغرقت ساعة إضافية، قبل أن يصلوا إلى مدخل ذلك الكهف ... كانت الوقت قد تجاوز منتصف الليل بساعة وكان الجو شديد البرودة وكان جهد المسير قد تملك من الجميع مع ذلك الرعب والقلق الذي كان يعتمل في باطنهم ولكنهم كانوا مصرين جميعا على الاستمرار حتى النهاية ... أشار (علاء) إلى مدخل الكهف الذي كان مختفيا خلف مجموعة من الصخور وهو يقول:
-    من هنا.
دخل جميعهم الكهف الذي قادهم إلى ممر صخري مضاء ببعض المشاعل يذهب بهم نزولا في طريق طويل ساروا فيه لدقائق عدة ... كان (عمرو) هو الذي لاحظ التغيرات التي بدأت تطرء على أخيه (علاء)، فصرخ في صاحبيه:
-    أحذرا ... أنه يتحول إلى تلك الهيئة.
بالفعل كان جسد (علاء) يتضخم ورأسه يستطيل ويتحول إلى ذلك الشكل الذئبي ذو العين العوراء ... صرخ النقيب (محسن) وهو يخرج مسدسه من جعبته:
-    تراجعا.
ولكن ضربه واحدة من صائد الموتى أطاحت به للخلف عدة أمتار ليصطدم بجدار الممر الصخري ويسقط على الأرض وقد شعر أن كل عظمة في جسده قد تفتت ... تحول صائد الموتى إلى (عمرو) والدكتور (كمال) وهو يزمجر زمجرة متوعدة، فتراجعا إلى الخلف في ذعر ... بدا لثانية أن صائد الموتى سيهاجمها ولكنه تراجع للخلف وأقعى على يديه وقدميه وانطلق يعدو في سرعة إلى داخل الكهف قبل أن يختفي في نهاية الممر ... لثوان ألجمهما الرعب، قبل أن ينتبه الدكتور (كمال) وهو يسرع ليطمئن على النقيب (محسن) الذي كان يتأوه وهو يحاول النهوض وهو يقول:
-    أنا بخير ... هذا اللعين قوي كالثور!
***
وصل صائد الموتى إلى ذلك الرواق المتسع في باطن الكهف حيث ذلك المذبح الحجري الذي فيه المفتاح إلى عالمه ... كانت (فاتن) مقيدة بقيد حديدي إلى عمود صخري في منتصف الرواق وما أن رأت صائد الموتى يصل إلى المكان حتى بدأت تصرخ في هستيريا وهي تبكي في ذعر وتنادي باسم (علاء) ... اقترب منها صائد الموتى، كان متعطشا لافتراسها وتمزيق جسدها بأنيابه ولكنه احتفظ بها حية كما فعل مع هؤلاء الحمقى حتى يكون كل منهم عائلا لواحدً من بني جلدته عندما يجلبهم إلى هذا العالم، كهذا الشاب الذي يتقمص جسده الآن.
بسرعة بدأ في طقوس فتح البوابة، هو يشعر بالقوة والطاقة هذه المرة، بالتأكيد سيكون قادرً على فتح البوابة وإبقائها مفتوحة لفترة كافية تسمح بعبور البعض من قومه إلى هذه الأرض المليئة بالفرائس ... شعر بالظفر عندما فتحت البوابة، فأطلق عواء طويل فبدأت بعض المخلوقات من صائدي الموتى تتجمع من الناحية الأخرى للبوابة ... مس سطح البوابة بأصابعه فشعر بتيار خفيف يسري في جسده دلاله على أن البوابة تعمل ... الآن سيتمكن المخلوق الأول الذي سيتقمص جسد هذه الفتاة من العبور.
-    توقف!
كان ذلك هو صوت النقيب (محسن) الذي وصل إلى المكان ومعه صاحبيه ... نظر صائد الموتى عبر البوابة فرأى قومه قد تجمعوا من الناحية الأخرى، ويقترب أولهم بالفعل من مدخل البوابة وينتظر إشارته للعبور ... أطلق النقيب (محسن) رصاصة من مسدسه فأصابت جسد صائد الموتى الذي صرخ في ألم رغم أن الرصاصة ارتدت عنه في عنف ولم تترك في جسده العضلي سوى خدش بسيط ... قفز صائد الموتى نحو النقيب (محسن) فأسقطه على الأرض، حاول (عمرو) التدخل فأطاح به بضربة قوية ... حاول الدكتور (كمال) أن يصيب صائد الموتى على رأسه من الخلف بحجر ضخم، فزمجر صائد الموتى بضيق ثم التفت إليه وبدء يقترب منه مشرعا أنيابه، ومعتزما افتراسه، صرخ الدكتور (كمال):
-    الآن يا (محسن).
قفز النقيب (محسن) على ظهر صائد الموتى و بسرعة ألصق الجعران الحجري الأبيض على جبهته ... أخذ صائد الموتى يصدر عواء طويل متألم وحشرجة مختنقة وهو يدور يمينا ويسارً محاولا إسقاط النقيب (محسن) عن ظهره وهو ما حدث بالفعل ... التفت صائد الموتى في غضب إلى النقيب (محسن) وعينه الوحيدة تلمتع بالغضب، ثم اقترب منه خطوة قبل أن يسقط على الأرض ويبدء في التحول إلى هيئته البشرية ... هيئة (علاء).
كان صائد الموتى الأول قد اقترب تماما من البوابة، وبدء يتحسس سطحها وينظر منها إلى ذلك العالم الآخر الذي سيعبر إليه بعد ثوان عندما يشير له قائده بذلك ... وفي الناحية الأخرى وقف الأربعة ومعهم (فاتن) بعد أن حرروها من قيودها ... كانوا يتبادلون النظرات المتوترة، قبل أن يسأل النقيب (محسن) خاله:
-    ماذا سنفعل الآن؟ كيف نغلق تلك البوابة؟
نظر له خاله الدكتور كمال بحيرة وهو يقول:
-    لا أعرف؟
قال (علاء) بصوت هادئ وهو يربت على كتف أخيه، وينظر في عيني خطيبته:
-    أنا أعرف.
ثم اندفع ناحية البوابة والقي بنفسه عبرها إلى عالم صائدي الموتى، كان آخر ما سمعه هو صوت (عمرو) أخوه وهو يردد اسمه، وصرخه (فاتن) الملتاعة.
***


سقط (علاء) في ذلك المكان الضبابي ذو الأرض الرملية ذات الحبات الحمراء كالجمر، وما أن ارتطم جسده بالأرض حتى نهض على الفور ليجد نفسه محاصرا بالعشرات من صائدي الموتى وعلى مسافة أمتار قليلة رأى جسد زعيم تلك المخلوقات ذو العين العوراء الذي كان يتقمص جسده ملقا على الأرض ... لقد تحرر منه الآن، ونجح في إعادته إلى أرضه، وأنقذ الناس من شره وشر قومه بعد أن نجحت تلك الحركة المجنونة في إغلاق البوابة، ولكن من سينقذه هو الآن؟ ... نهض زعيم صائدي الموتى وهو يزمجر ويعوي في غضب وهو يقترب من (علاء) متوعدا ... انطلق علاء هربا فانطلقت في أثره تلك المخلوقات حاول الهرب منها وهو يعدو في مسارات متعرجة ولكن زعيمها الغاضب نجح في اللحاق به وإسقاطه على الأرض ... لحقت به المخلوقات الأخرى وكبلت حركته تماما ... أصدر الزعيم عواء طويل غاضب، كشر عن أنيابه ثم غرسها في كتف (علاء) الذي صرخ بألم ... فجأة وصل إلى مسامعه ذلك الصوت الضعيف ينادي بإسمه ... إنه صوت أخيه (عمرو) وصوت خطيبته (فاتن) ... بدء الصوت يتعالى ويتعالى ومع تعالي الصوت بدأت صورة ذلك العالم تغيب تدريجيا حتى اختفت تماما ... وحل محلها الظلام التام والسكون للحظات، قبل أن يبدء ذلك الظلام أيضا في الزوال تدريجيا ويتخلله الضوء الذي سمح له بأن يرى الصورة تتشكل أمام ناظريه حتى أصبحت واضحة تماما ... فرأى من حوله أخاه وخطيبته وذلك الدكتور وصاحبه ... صرخ (عمرو) بفرحه:
-    الحمد لله ... لقد عدت إلينا.
قالت (فاتن) بصوت متهدج ودموع عينيها تسيل على وجنتيها:
-    لقد كدنا نفقدك بعد تلك الحركة المتهورة التي قمت بها ... لقد كانت أنفاسك منقطعة تماما ... حتى قلبك توقف تماما عن العمل لثوان!
شعر (علاء) ببعض الألم في كتفه فتلمسه بأصابعه فشعر بذلك الجرح الغائر الذي صنعته تلك الأنياب الذئبية، فقال له الدكتور (كمال):
-    لا تقلق ... سيشفى هذا الجرح ويندمل ... لقد زال الخطر.
سأله (علاء) بصوت ضعيف متالم:
-    ما الذي حدث؟
أجابه الدكتور (كمال):
-    ألا تذكر ... لقد قمت بحركة شجاعة عندما ألقيت بجسدك نحو البوابة فانفجرت مصدرة شرارات هائلة وانغلقت وارتد جسدك عنها بعنف وسقط على الأرض وظننا انك فارقت الحياة.
قال (علاء) بصوت مندهش
-    ولكنني عبرت بالفعل البوابة إلى عالم تلك المخلوقات المرعبة وكادت تفتك بي هناك.
فكر الدكتور (كمال) للحظة، قبل أن يقول:
-    قد يكون هذا ما حدث بالفعل، ولكنك لم تعبر إلى هناك بجسدك لقد كنت بيننا طوال الوقت ... المهم أنك عدت إلينا بعد ان تخلصت من صائد الموتى الذي لا استشعر طاقته هنا الآن.
قال (علاء):
-    لقد تركته هناك ... لقد كان غاضبا للغاية.
عاونه النقيب (محسن) على النهوض
-    هيا بطل ... علينا أن نتحرك الآن ... أمامنا طريق طويل للعودة.
استند (علاء) على أخيه وخطيبته وهو ينهض، قبل أن يسأل الدكتور (كمال):
-    هل أنت متأكد أن الخطر قد زال؟
أجابه بهدوء:
-    بالتأكيد .. الآن على الأقل!
..(تمت)..

هناك 5 تعليقات:

  1. رائع فى أنتظار الجزء الثالث

    ردحذف
  2. روعة في انتضار الجزء للثالث

    ردحذف
    الردود
    1. تابع إضافة الأجزاء كل سبت وأربعاء من الأسبوع

      حذف
  3. تابع إضافة الأجزاء كل سبت وأربعاء من الأسبوع

    ردحذف
  4. رائع جدا
    متشوقه للجزء الخامس

    ردحذف