قصة قصيرة بعنوان ... (واقع افتراضي)
قصة قصيرة بعنوان ... (واقع افتراضي –
الجزء الأول)
قال لي وقد أحمر وجهه من فرط الحماس فتطاير
الرذاذ من فمه مع كلماته:
-
لقد فعلتها أخيرا.
-
ماذا فعلت؟
أشار بيده بحركة مبهمة إلى كومة من
الأجهزة الرقمية والآلات المتصلة ببعضها بعدد كبير من الكابلات المتنوعة في القطر
والطول، والمتداخلة بشكل عشوائي في شكل يشبه طبق عملاق من المكرونة (الإسباجتي)،
قبل أن يردف بلهجة ظافرة:
-
هذا.
-
وما هذا !؟
نظر لي نظرة اختلط فيها الإحباط لعدم
اهتمامي، بالاحتقار من جهلي وقلة إدراكي ، ثم قال بنفس الحماس:
-
لقد فعلتها، أتممت اختراعي الأخير، ونجح نجاحا باهرا.
-
عن أي اختراع تتحدث؟
تلفت حوله في غضب، كان كمن يبحث عن شئ
يصلح لتحطيم رأسي، ثم نظر نحوي نظرة لائمة، وزفر زفرة طويلة في محاولة لتمالك
نفسه، وهو يقول:
-
حدثتك عن اختراعي هذا من قبل، أنت تعلم عنه كل شئ!
-
أجل حدثتني عن عشرات الاختراعات في الماضي، وجميعها باءت
بالفشل، أو زهدت أنت في استكمالها، أو تحمست لغيرها، أو...
قاطعني بصوت هادر:
-
ولكن هذه المرة نجحت، وأي نجاح؟.. نجاح باهر.
تصنعت تفحص كومة الأجهزة، في محاولة لكسب
المزيد من الوقت لأتذكر عن أي اختراع يتحدث ... فلسوء حظي كنت أنا الصديق الوحيد
لهذا المخترع الفاشل، وبحكم الصداقة كنت مضطر دائما لأن أكون أذنا مصغية لكل ذلك
الهراء الذي يتحدث به عن اختراعاته المنتظرة التي ستغير العالم ... وصديقي هذا
فاحش الثراء، ورث عن أبويه أموالا لا تحصى،
أفنى جزء ضئيل منها جريا وراء العشرات من الاختراعات المشابهة ... كان صديقي
مثابرا، ولم يفت الفشل في عضده يوما ... فكلما كانت تأتيه فكرة جديدة لاختراع
جديد، كان يصدع رأسي بالحديث عنه ليلا ونهارا، ويطالبني بالمجئ لمعمله الملحق بمنزله
الريفي الضخم ليطلعني على آخر التطورات، وأنا بدوري اتصنع الاهتمام وأومئ برأسي
متفهما، وأبدي حماسا وتشجيعا مصطنعا، حتى يثبت فشل الاختراع أو تعلو عليه فكرة
جديدة واختراع جديد في عقل صديقي ... والحق أقول، هو لم يكن صديقا سيئا، بل على
العكس من ذلك تماما، فلولا كونه مخترعا فاشلا وإنسانا لحوحا، لكان الصديق الأمثل
... قلت بصوت متردد:
-
هل تقصد ماكينة صناعة الصلصة من القمامة؟
-
لا.
-
إذا هو المحرك الذي يعمل بعصير الكرنب؟
-
لا أيضا ... أنت لا تفهم، كل هذه اختراعات فاشلة، أنا
اتحدث عن اختراعي الأخير، اختراعي العبقري.
-
وما هو؟
صرخ في وجهي:
-
جهاز الواقع الافتراضي.
تذكرت الآن أنه بالفعل كان يتحدث عن شئ
ما افتراضي مؤخرا، فقلت مدعيا الفهم:
-
أجل، أجل ... كانت فكرة رائعة، هل يمكنك تذكيري بها؟
صمت للحظة، أعرف أنه يرتب أفكاره الآن
ليلقي علي بعدها محاضرة طويلة عن اختراعه الرائع وأهدافه ومميزاته، وكيف سيساهم في
تغيير الحياة على كوكب الأرض ... علي أن أجهز نفسي لنصف ساعة من الملل وأضبط جسدي على برنامج
الإيماءات وحركات الدهشة والانبهار التلقائية ... ولكنه خالف توقعاتي وهو يقول
ببساطة:
-
يمكنك أن تجربه بنفسك وتتعرف عليه بشكل أكبر.
ثم دفعني دفعا إلى وسط كومة الأجهزة،
وأزاح بعض الأشياء ثم أجلسني على مقعد خشبي، وبدء يسحب بعض الكابلات من وسط طبق
المكرونة تجاهي ... حاولت المقاومة والهروب متعذرا:
-
ليس الآن، لدي موعد هام ... اشتاق بالفعل للتجربة ولكن
يمكننا أن نفعلها لاحقا، الشهر القادم سيكون موعدا مناسبا أو الذي يليه بعدة أشهر.
أسكتني بإشارة من يده، وهو يقول بصوت
هادئ منوم:
-
يجب أن يقوم أحد بذلك، وأنت صديقي الوحيد، كما أنه شئ
بسيط ولن تشعر بشئ بتاتا، فقط سنضع هذا هنا وهذا هنا، أما هذا ...
كان يوصل الكابلات ببعض الأقطاب
ويثبتها على رأسي وساعداي بمادة جيلاتينية، نزعتها بحدة وأنا انهض قائلا:
-
لا هذا خطر!
بعدها بنصف ساعة وبعد (منولوج) طويل
مجهد عن الصديق وأهميته، ووجوب وقوفه مع صديقه وقت الحاجة، وبعد تعداد وحصر دقيق
للمواقف التي وقف فيها بجانبي وساندني بوقته وماله، وجدت نفسي أجلس على المقعد
والأقطاب مثبته إلى جسدي، وصديقي أمامي يعبث بأجهزته في حماس وعلى وجهه ارتسمت
ملامح العالم المجنون كما عهدناها في الأفلام الكارتونية وأفلام الرعب في حقبة
الستينات، قبل أن يقول بصوت عميق له صدى:
-
سنبدء الآن ...
-
قبل أن نبدء، هل يمكنك أن تشرح لي ماذا سيحدث بالضبط؟
-
لا شئ.
ثم ضغط أحد الأزرار في اللوحة التي
أمامه فاتبع ذلك صوت انفجار مكتوم كالذي يصدر عن احتراق مصباح كهربائي بتأثير شدة
التيار، قبل أن تظلم الدنيا عن عقلي تماما وأغيب عن الوعي، كأن هناك من سحب القابس
عن مخي وجسدي.
***
عندما عاودني الوعي كنت أقف هناك أمام
معمل صديقي المخترع الفاشل ويدي تطرق على الباب ... شعرت بالدهشة لثانية قبل أن
يفتح لي صديقي الباب ويدفعني للداخل، وهو يقول في حماس:
-
لقد فعلتها أخيرا.
للحظة شعرت بشئ غريب، ولكنني أجبت
بعفوية:
-
ماذا فعلت؟
أجاب بسرعة:
-
لقد فعلتها، أتممت اختراعي الأخير، ونجح نجاحا باهرا.
زادت دهشتي، وصارت مشوبة بالقلق
والريبة، وأنا أقول:
-
أعرف ذلك.
نظر لي متعجبا:
-
كبف عرفت؟... أنا أتحدث عن جهاز الواقع الافتراضي.
-
أعرف ذلك أيضا، وكنت تجربه علي منذ لحظات، ويبدو أن
التجربة فشلت كالعادة.
صرخ:
-
ماذا تقول؟.. لم أجرب عليك أي شئ ، كما أنني أراك اليوم للمرة
الأولى.
صرخت فيه بدوري:
-
كفى عبثا، أنا كنت هنا معك في المعمل منذ ساعتين، وحكيت
لي عن اختراعك الملعون، وأجبرتني على تجربته بحكم الصداقة، والنتيجة أنني غبت عن
الوعي، وأفقت لأجد نفسي خارج المعمل، هل قمت بتخديري ونقلي إلى هناك؟ قل الحقيقة
ما هي الخدعة؟
حدق في وجهي محاولا سبر غوري واكتشاف
إذا ما كنت أكذب عليه أم لا! ... وعندما رأي إمارات الجدية على ملامحي، وأنني موشك
على الانفجار في وجهه، أخذ ينظر إلى الأرض وهو يعبث بمقدمة حذاؤه في الملاط كعادته
عندما يستغرق في التفكير، قبل أن يرتد نحوي ببصره وهو يقول:
-
ما تقوله خطير للغاية؟ هل حدث هذا بالفعل؟ هل قمت بتجربة
اختراعي عليك اليوم؟
-
نعم، فعلت، هل أصبت بفقدان الذاكرة؟
قال بغموض:
-
قد يكون هناك من فعل ذلك، ولكن لست أنا.
أمسكت بخناقته، وأنا أصرخ في وجهه:
-
ليس فقدانا للذاكرة، لقد أصبت بالجنون التام، هذه هي
نهايتك المتوقعة، هل تعرف ما هو رقم مستشفى الأمراض العقلية؟
زاغ من بين يدي وهو يحاول تهدئتي:
-
اهدء ... دعني أشرح لك.
-
لا داعي للشرح، كل شئ واضح، ستكون أنيقا في قميص الأكتاف
الأبيض، أعدك بزيارتك في المشفى من حين لآخر، وأطلع على آخر اختراعاتك هناك ...
يمكنني أن اتصل بالدليل لأعرف رقم المستشفى، أين الهاتف؟
وضع يديه على كتفي، وربت عليهما بتفهم،
وهو يقول:
-
أرجوك اهدء، لا داعي للعصبية، أحاول أن اربط الدلائل
بطريقة علمية لأصل للحقيقة.
-
وإلام وصلت؟
التفت للخلف،وتحرك خطوتين إلى داخل
المعمل، وهو يقول:
-
إذا افترضنا أن كلانا صادقيين ولا يوجد بيننا كاذب.
قلت ساخرا:
-
أنا متأكد أن واحدا منا كذلك.
تجاهل تعليقي، وهو يقول:
-
إذا فمعنى هذا أني قابلتك منذ ساعتين وأنا متأكد أنني لم
أفعل، وأني قمت بالتجربة عليك وأنا أيضا متأكد من إنني لم أفعل ذلك أيضا ...
فالفرضية الوحيدة المنطقية هنا، أن هذه الأشياء قد تكون حدثت لك ولكن مع شخص آخر
أو في مكان آخر أو ...
صمت للحظة، فأشرت له برأسي في نفاذ صبر
ليكمل:
-
أو واقع آخر.
قلت مازجا السخرية بالضيق:
-
ولماذا لم تقل ذلك من البدابة؟ إنه شئ واضح للغاية ...
اللعنة عليك لا أفهم شيئا!
ابتسم وهو يقول موضحا:
-
أقصد أن التجربة نجحت بالفعل وأنك الآن في واقع افتراضي
غير واقعك الأصلي، وما أنا فيه إلا ممثل صنعه عقلك لأداء هذا الدور.
أطلقت ضحكة طويلة متهكمة، وأنا أقول:
-
وعندما يصنع عقلي المريض ممثلا في واقع افتراضي لعين، لا
يأتي إلا بك أنت لتلعب هذا الدور، اللعنة عليك وعلى هذا العقل وصاحبه، أين
الممثلات الفاتنات؟ أين نجمات هوليود وبوليود؟ أين نجوم الشباك وأبطال (البوكس
أوفس)؟ ما أفقر هذا العقل وقلة خياله.
-
يبدو إنك لم تكن مستعدا للتجربة فأعاد عقلك بعض المشاهد
المختزنة فيه ... وبالطبع أوافقك على أنك إنسان فقير الخيال، سأضع هذه الملاحظة في
روزنامتي عندما أعيد التجربة، سيكون علي أن اختار أشخاصا واسعي الخيال وراجحي
العقل.
صرخت وأنا أهجم عليه وأحيط عنقه
بأصابعي:
-
لن يسمح لك الوقت لإعادة التجربة، فأنا سأقتلك الآن لو
لم تعيدني إلى واقعي الأصلي في هذه اللحظة.
تفلت من بين براثني وقد أحمر وجهه
اختناقا:
-
لا استطيع، عليك أن تفعل ذلك بنفسك.
-
وكيف يكون ذلك؟
-
أنت الآن أشبه بالنائم في واقعك الأصلي ... تخيل أنك
نائم تحلم وحاول الاستيقاظ من هذا النوم بدفع
الحلم بعيدا عن عقلك.
للحظات أخذت أدعك عيناي وألطم وجهي
وذقني بقبضتي، ثم توجهت إلى المبرد والتقطت زجاجة مياه باردة وأفرغتها على رأسي،
قبل أن أقول بيأس:
-
هذا لا ينجح، لا يمكنني الاستيقاظ من ذلك الواقع اللعين.
-
لا تقلق بالتأكيد سيفعلها ويوقظك من يمثلني في واقعك
الحقيقي، عندما يتأكد من نجاح التجربة.
-
هذا المعتوه، لا يمكن أن ترجو منه خيرا، إنه مثلك تماما
... فاشل.
..(انتهى الجزء
الأول ويليه الجزء الثاني والأخير) ..
قصة قصيرة بعنوان ... (واقع افتراضي –
الجزء الثاني والأخير)
ملخص ما سبق ... أخضعني صديقي العالم
الفاشل لتجربة اختراعه الجديد الذي أسماه (الواقع الافتراضي) ... فوجدت نفسي انتقل
إلى واقع افتراضي مشابه لواقعي الأصلي ولكن في زمن يسبق الزمن الحالي بساعتين،
وهذا جعلني استعيد نفس الأحداث ونفس الكلمات ونفس الانفعالات التي خضتها سابقا ...
حاولت أن أخرج نفسي من تلك التجربة ولكنني لم أنجح وصرت عالقا في هذا الواقع
الجديد!
***
برقت عينا صديقي بتلك الطريقة التي
تشعل المخاوف في باطني في كل مرة تأتيه فكرة كارثية جديدة وأكون أنا ضحيتها ...
قال بنفس طريقته المنومة:
-
هناك فكرة تراودني الآن، يمكنك أن تجربها إذا أحببت.
-
وما هي؟
-
أجرب عليك الاختراع مرة أخرى.
لدقائق أخذ يحاول أن يوقف سيل السباب
الذي انطلق من فمي مختلطا بالرذاذ في وجهه ... لا أظن أنه كان يعلم أن قاموس
الشتائم يحوي كل تلك المفردات اللغوية:
-
تمهل ياصديقي، أنا لا استحق منك كل ذلك.
-
بل تستحق ما هو أكثر.
-
أرجوك تمهل، أحاول مساعدتك فقط.
-
وكيف ذلك؟
-
إذا كنت أفهم اختراعي بشكل جيد، فإعادة التجربة مرة أخرى
قد تجعلك تستيقظ وتعيدك مباشرة لواقعك الأصلي.
حملقت في وجهه للحظة وأنا أحاول تذكر
كل تجاربه واختراعاته الفاشلة من قبل، قبل أن اتمتم في يأس:
-
هل أنت متأكد؟
-
بنسبة كبيرة.
-
وماذا إن وجدت نفسي في عالم افتراضي جديد.
-
سيكون عليك أن تجرب مرة أخرى حتى تعود إلى واقعك الأصلي.
-
يمكنني أن أتجاهل كل هذا وأعيش في هذا الواقع الافتراضي
وأمارس حياتي بشكل عادي حتى استيقظ وأعود لواقعي الأصلي.
-
قد يستغرقك هذا أعواما، فمقياس الزمن يختلف دائما بين
الحلم والواقع، فالنائم لدقيقتين فقط قد يحلم حلما يعيش داخله عدة حيوات تمتد كل
منها لعشرات السنين.
قلت بيأس:
-
لا أعرف ماذا علي أن أفعل؟.. كل هذا بسببك!
-
لا داعي لليأس ستعود لواقعك في النهاية، كأنها لعبة وأنت
تخوض مراحلها واحدة وراء الأخرى، وكأي لعبة شبيهة ستصل في النهاية إلى مرحلتها الأخيرة
وتصل معها للحقيقة والحكمة من هذه اللعبة.
مضى وقت طويل بعد أن أصبت عينه اليسرى بقبضتي
اليمنى، لم استطع تحمل وصفه ما فعل بي باللعبة، استغللت هذا الوقت في تقييم ما علي
فعله وحساب مخاطر الاستمرار، أمام ألم الانتظار والترقب ... كان هو يجلس أمامي
ينتظر قراري بفضول وعينه اليسرى المحاطة بكدمة زرقاء دائرية كحيوان الباندا قد
أغلقت تماما ...
-
سأفعلها.
-
هذا قرار صائب.
-
أعلم أن دوافعك ليست مساعدتي فقط، ولكنك أيضا تريد أن
تختبر اختراعك الملعون كما فعلها نظيرك الأحمق في واقعي، من حسن حظك أنه لا طاقة
بي للانتظار للأبد، أنت تعرفني سيقتلني الملل إذا فعلت.
كان يثبت الأجهزة والأقطاب إلى جسدي
هذه المرة دون مقاومة مني، تراودني فكرة واحدة، لماذا لم اختر الحل الأسهل وأعيش
هنا في هذا الواقع متجاهلا أنه واقع افتراضي، ولكن ماذا إن عشت فيه لأعوام كما
يقول، قد تتغير فيها حياتي وأتزوج وأرزق بأطفال وأحقق كل ما كنت أحلم به في واقعي،
وفجأة استيقظ من هذا وأعود لواقعي الأصلي لأبدء من جديد، سيكون هذا محبطا
للغاية...
-
هل أنت مستعد؟
-
لا.
تجاهل إجابتي وضغط على الزر ...
-
لقد فعلتها أخيرا، أتممت اختراعي الأخير، ونجح نجاحا
باهرا.
-
هيا، يمكنك أن تجرب اختراعك اللعين علي من جديد!
لم أندهش كثيرا في تلك المرة، ولم أضيع
المزيد من الوقت في حوار مع تلك النسخة المقيتة من نسخة صديقي الأكثر مقتا، والتي
صنعها عقلي المريض له ليلعب دورا سمجا في واقع افتراضي أكثر سماجة ... كنت أريد
الاستمرار في اللعبة حتى نهايتها، عسى أن أجد في نهايتها ضالتي، ولكن بعد المرة
العاشرة شعرت أن هناك خطأ ما، لا أعرف هل كانت العاشرة أو العاشرة بعد المائة، هل
بحق يوجد نهاية لهذه اللعبة الأبدية؟.. في أحدى المرات تملكني اليأس وجلست في هذا
الركن من معمل صديقي أو نسخته الافتراضية، يحاول هذا الأخير أن يواسيني، وفجأة
شعرت بهذا الدوي في أذني يكاد يمزق طبلتيهما، وشعرت بشرايين مخي تكاد تنفجر، غبت
بعدها عن الوعي لأفيق وأجد نفسي خارج معمل صديقي في نفس المكان الأثير ... لم
استطع تفسير ما حدث، ولكن نسخة صديقي الافتراضية في هذا الواقع، فسرت ذلك بواحد من
احتمالين، إما أنني أفقت من واقع افتراضي إلى الواقع الذي يسبقه وهذا مؤشر جيد، أو
أن عقلي قد اكتسب القدرة ليلج واقع افتراضي جديد بنفسه دون مساعدة من أي جهاز أو
اختراع ... في الواقع كان يمكن للاحتمال الأول أن يدفعني للتفائل قليلا وللثاني أن
يقتلني يأسا ولكن في حالتي تلك تساوى أثر كلا الاحتمالين، فوجدت نفسي مستمرا في
تلك اللعبة الأبدية، اندفع من واقع إلى آخر عبر الجهاز كأي مدمن للمخدر يتلهف
للجرعة التالية وأحيانا دون جهاز بالقدرات التي اكتسبها عقلي وحده، لا أعرف لماذا
أفعل ذلك؟ لماذا أصر علي الاستمرار في تلك اللعبة اللعينة؟ بالتأكيد ليست العودة
لواقعي الأصلي هي الدافع فأنا لن أتعرف عليه حتى لو عدت إليه، فهو لن يختلف عن أي
واقع آخر افتراضي...
***
اليوم لاحظت بعض التغيير!... قابلني
صديقي عند الباب المعمل ورحب بي بصوت مبحوح وبلسان ألدغ في نصف حروف اللغة،
فسألته:
-
ماذا أصاب لسانك هل لسعته بشراب ساخن.
فنظر لي بدهشة واستنكار وهو يجيب:
-
إنه كما هو ... هكذا أنت كعادتك تحاول دائما السخرية
مني.
لم أهتم بهذا التعليق الأخير وأنا ألج
المعمل، كنت أشعر بالعطش وأريد كوبا من الماء، لم أجد المبرد في مكانه في ركن
المعمل، فالتفت إلى صديقي وانا أقول:
-
أين مبرد الماء؟
-
أي مبرد ... لا يوجد لدي مبرد ماء في المعمل ... أتعلم
إنها فكرة جيدة سأشتري واحدا الأسبوع القادم حتى لا أضطر لإيقاف أعمالي العظيمة عندما
أشعر بالعطش.
كنت أحدق في وجهه بذهول، بالتأكيد هو
لا يكذب!.. ما الذي يدفعه إلى ذلك؟.. نظرة أخرى إلى المعمل نبهتني إلى أن هناك
العديد من الأجهزة والمعدات اختفت من أماكنها أيضا ... جلست على مقعد خشبي وأنا أعتصر
رأسي بيدي وأحاول التفكير في سبب هذا التغيير، أما صديقي فكان يقف إلى جانبي
يبشرني باختراعه العظيم ويدعوني لتجربته كما هي عادته في الفترة الأخيرة ... دقائق
قليلة ثم بدء ذلك الطنين المصحوب بالصداع، إنها عوارض الانتقال المعتادة، الملحوظة
الأخيرة التي خطرت على عقلي قبل أن أرتحل عن هذا الواقع إلى الذي يليه، هي أن
الفترة التي أصبحت أقضيها في كل واقع افتراضي أصبحت تقل في كل مرة عن سابقتها.
***
عندما انتقلت للواقع الافتراضي التالي،
أصبح التغيير أكثر وضوحا، أشياء أخرى اختفت منه، حديقة منزل صديقي، أجزاء من
المنزل كالشرفة والأبواب والنوافذ، حتى الألوان في هذا الواقع تبدو شاحبة، متوترة،
وكأني أصبت بضعف في النظر، الغريب أنني لم أجد صديقي نفسه في المعمل الذي كان بابه
غير موجود ... دخلت إلى المعمل الذي كان خاليا تماما، سقف وأرضية وجدران بيضاء في
وسطها كرسي وحيد أسود اللون لا يبدو حقيقيا، بدا كرسوم (الكاركاتير) البدائية التي
كانت تصنع في بدايات القرن، توجهت إلى الكرسي وجلست عليه ... أخذت أفكر فيما يحدث
... هناك تفسير واحد لذلك، يبدو أن عقلي المكدود أصبح غير قادر على اختلاق المزيد
من العوالم الافتراضية، أو أصابه العطل أو الملل فقرر أن يغالطني في العوالم التي
يصنعها لي بعوالم مغشوشة وناقصة.
في المرات التالية أخذت التفاصيل
تتلاشى تدريجيا، وتتلاشى، البشر، المنازل، الطرقات! ... في المرة الأخيرة وجدت
نفسي أقف وحدي وسط الفراغ الأبيض الذي يحيط بي من كل جانب ... رعب هائل اعتراني،
أتسائل هل سيكون هذا هو مصيري؟.. هل مصيري أن أعيش إلى الأبد وسط الفراغ ... أخذت
أصرخ صرخات متواصلة حتى أجهدت تماما فسقطت على الأرض وأنا أغطي عيناي بيدي ودخلت
في نوبة حادة من البكاء.
فجأة وصل إلى مسامعي ذلك الصوت الذي
ينادي بإسمي، اعتدلت بسرعة وأنا اتلفت حولي ... كان الفراغ الأبيض ما زال يحيط بي من كل جانب،
ولكنني أسمع الصوت، الذي بدء يتعالى ويتعالى ... ألمح نقطة سوداء وسط الفراغ
الأبيض، تتسع النقطة وتتحول إلى شق، تتفرع منه شقوق أخرى سوداء تمتد إلى كل جانب
بسرعة هائلة كشبكة عنكبوت عملاقة، قبل أن يتكسر الفراغ كمرآة إلى قطع صغيرة تغيب
في العدم وأجد نفسي غارقا في الظلام.
بدءت أفتح عيناي ببطء ... ألمح صديقي
يقف أمامي يتمتم بإسمي وعلى وجهه إمارات الذعر، قبل أن يقول يصوت منفعل:
-
الحمد لله ... أنت تفيق ...
تأوهت وأنا اعتدل لأجد نفسي في معمل
صديقي على حالة كما كان دائما،وصديقي بجانبي يحاول أن يسيقيني بعض قطرات الماء،
سألته بصوت ضعيف:
-
ما الذي حدث؟
-
لقد غبت عن الوعي بعد أن جربت الاختراع الجديد وسقطت على
الأرض في نوبة صرع، كنت ترتج فيها وكأن صاعقة كهربية أصابتك والزبد يسيل من فمك،
قبل أن تهمد حركتك، لقد حسبتك مت.
نهضت على قدمي وتوجهت ناحية باب
المعمل، أخذ صديقي يركل الأجهزة من حولي وهو يقول في غضب:
-
اختراع فاشل آخر.
نظرت له نظر طويلة لائمة، فقال بفضول:
-
ما الذي شعرت به أثناء التجربة؟
لم أجيب سؤاله الذي كرره أكثر من مرة
وأنا أغادر المعمل وابتعد في الظلام ... بالطبع لن أخبره أن اختراعه الأخير قد
نجح، حتى لا يبلي إنسان آخر بما بلاني به، هذا الاختراع يجب أن يغيب في العدم مثل
اختراعاته السابقة... ما يشغل تفكيري الآن هو الإجابة عن سؤال واحد ... هل عدت حقا
إلى واقعي الأصلي؟ أم أن هذا العالم هو أيضا واقع افتراضي آخر صنعه عقلي، أو عقل
إنسان آخر!؟
.. (تمت) ..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق