الأربعاء، 14 ديسمبر 2016

جزيرة الأرواح



قصة قصيرة بعنون ... (جزيرة الأرواح – الجزء الأول)
في قصة (السندباد) عندما تغرق سفينته، كان يربط نفسه بعمامته إلى جذع خشبي عائم ويقاوم البحر والموج حتى يغيب عن الوعي، فإذا أفاق وجد نفسه على شاطئ جزيرة مهجورة، تبدء منها مغامرته ... هذا حدث معي ولكن ليس حرفيا، فعندما غرق بي المركب السياحي أنا وصديقي وباقي الركاب لم أجد جذع شجرة عائم لأتشبث به، ولم أجد على رأسي عمامة لأربط نفسي بها إلى أي شئ ... ولكنني وجدت نفسي أنازع البحر، يسحبني إلى باطنه، فأقاوم وأدفع نفسي إلى سطحه لألتهج بعض ذرات الأوكسجين إلى صدري، قبل أن يغرقني الموج من جديد، وهكذا حتى خارت قواي وغبت عن الوعي ... عندما أفقت وجدت نفسي ملقا على شاطئ جزيرة مجهولة ... ما العجب في ذلك؟ فعلها (السندباد) قبلي!
كانت ساعة المغيب عندما داعبت خيوط أشعة الشمس الأخيرة عيني المرهقتين، احتجت لدقائق حتى أرى ماحولي واستوعب ما أنا فيه ... كنت ملقا على الشاطئ الرملي لتلك الجزيرة الصغيرة، الصخرية في معظمها عدا هذا الشاطئ الرملي القصير الذي لا يزيد طوله عن المائة متر، وتلك الغابة الصغيرة من الأشجار الوارفة خلفه، أما باقي الجزيرة فكانت عبارة عن هضبة صخرية مرتفعة، تحتضن الشاطئ الرملي والغابة من كلا الجانبين وكأنها تحوطهما بذراعيها ... نهضت بركبتين خائرتين وتقدمت عدة خطوات إلى داخل الجزيرة لابتعد عن موج البحر الذي كان يضرب جسدي ويحاول أن يسحبه إلى الداخل من جديد ... ألقيت نفسي مرة أخرى على الرمال وأغمضت عيني.
عندما أفقت هذه المرة كانت الظلام الحالك يخيم على المكان في تلك الليلة التي غاب عنها القمر ... شعرت بالبرد ينخر في جسدي وعظامي، كانت ثيابي قد جفت ولكنها لم تكن كافية لتقيني من البرد ... لمحت تلك النار المشتعلة على بعد خطوات من مكاني، ولمحته يجلس بجانبها يحدق بشرود نحو قلب البحر ... صرخت بإسمه في فرح:
-          (نادر).
يبدو أن صديقي هو الآخر قد نجا من تلك الكارثة، وألقى به الموج على نفس الجزيرة التي ألقى بي عليها، أي صدفة سعيدة فعلت ذلك ... عدوت نحوه وأنا أشعر بثقل قدماي بعد أن تجمدت مفاصلي من البرد، جلست بجواره وأنا أقول في انفعال:
-          الحمد لله ... أنك بخير!
نظر نحوي نظرة خالية من أي انفعالات دون أن يعلق، ثم أشار بيده إلى سمكتين يشويهما على النار التي أشعلها وأنا نائم على ما يبدو، قبل أن يولي وجهه مرة أخرى تجاه البحر ويعود إلى حالة الشرود التي كان عليها ... فكرت أن اسأله عن حالة، ولكن رائحة السمك المشوي جذبت انتباهي، فسال لها لعابي، ووجدت نفسي أسير نحو السمكتين كالمجذوب، قبل أن التقط إحداهما وأشرع في التهامها وأنا أتقازفها من يد إلى أخرى حتى لا تحترق أصابعي ... انتهيت من السمكة، فأشار لي (نادر) بطريقته الباردة كي أتناول الثانية أيضا، فقلت له:
-          ولكنها لك.
-          لست جائعا.
في الواقع كنت جائع وبشدة والسمكة الأولى لم تكن كافية لتسد جوعي، فرحبت بدعوته الكريمة وأجهزت على الثانية، فانتهت إلى نفس مصير صاحبتها الأولى ... نظرت نحو (نادر) كالطفل السمج الذي لا يتوقف عن طلب الأشياء من والديه، وأنا أقول:
-          هل لديك ماء؟
أشار نحو لحاء من الخشب مقوس وممتلئ حتى منتصفه بالماء، فالتقطته بحذر حتى لا يسقط الماء منه وصببته في فمي وأنا أتجشأ بحدة، قبل أن أقول:
-          عذرا.
لم يعلق صديقي على ذلك أيضا كما كان يفعل في الماضي ... ما لا أفهمه، منذ متى أصبح (نادر) بهذه البراعة؟ يشعل نارً، ويصطاد سمك ويشويه، ويقطر ماء عذبا من الماء المالح على تلك الطريقة التي يفعلها الكشافة أو ممثلوا البرامج الواقعية التي تضج بها القنوات الفضائية الأجنبية ... ما أعرفه عن (نادر) هو أنه مثلي تماما يأكل ويشرب وينام كعجول التسمين ... لم أر له كرامات من قبل ولا مهارات ولا أي شئ ينبئ بأنه قادر على فعل مثل تلك الأشياء ... سألته في فضول:
-          كيف وصلت إلى هنا؟ وكيف استطعت أن تفعل كل ذلك؟
أشار إلى فراش بدائي أعده من أوراق الأشجار وبعض الأعشاب الجافة وهو يقول:
-          سأخبرك بكل شئ لاحقا ... حاول أن تنال قسطا من النوم الآن؟
كان الفضول يقتلني، كنت أريد أن أعرف ما حدث معه بالضبط، ولكن قبل أن ألح عليه للإجابة على سؤالي السابق، تمدد على جانبه وأولاني ظهره في إشاره إلى أنه يريد النوم الآن وليس مستعدا للإجابة عن أي سؤال... فجأة أنطلق ذلك الصوت الحيواني الذي يشبه العواء من مكان ما لم أستطع تحديده، فتوتر صاحبي واعتدل بجذعه للحظة قبل أن يعود للتمدد ... وجدتها فرصة لأسأله:
-          هل يوجد حيوانات بهذه الجزيرة.
فأجاب بصوت عامض:
-          كلا ... لا يمكن لحيوان أو لبشر أن يحيا هنا ...
فسألته بفضول:
-          لماذا؟
ولكنه لم يجب وتصنع النوم ... كررت السؤال الأخير أكثر من مرة، دون أن أتلقى إجابة، وفي النهاية لم أجد بدا من الذهاب في النوم أنا أيضا.
***
في الصباح عندما استيقظت لم أجد (نادر) إلى جواري، أين ذهب ذلك الأحمق، الغامض؟.. فكرت أنه قد يكون ذهب لاستكشاف الجزيرة، سأفعل ذلك أنا أيضا ... أخذت أجول ببصري ، لا يوجد شئ يمكن استكشافه سوى تلك الغابة الوارفة في المنتصف، أما تلك الجدران الصخرية التي تحوطها فتحتاج إلى متسلق بارع ليتسلقها، بالتأكيد لن أكون أنا هذا الشخص!.. وقبل أن أتحرك نحو الغابة عبث في باطني ذلك المخبر الحذق الذي طورته متابعتي للأفلام البوليسية وحلقات الكوميكس الشهيرة عن ذلك المخبر الصغير!..  لذا فكرت في تتبع آثار أقدام (نادر) لأرى في أي اتجاه قد ذهب ... الغريب أنني لم أجد آثار لأقدامه ... الآثار الوحيدة الموجودة على الأرض هو آثار أقدامي أنا!.. كيف حدث هذا؟.. هل وصل المد إلى موقعنا فمحى الآثار؟.. ما هذا الغباء؟.. موقعنا كان بعيدا عن البحر! وحتى لوحدث ذلك فهل كان المد انتقائيا وهو يختار آثار صاحبي فقط ليمحوها، تاركا آثاري في محلها ... الشئ الغريب الثاني الذي لفت انتباهي هو أن صديقي لم يعد لنفسه فراش كما فعل معي، يبدو أنه نام على الأرض!؟ ... ما هذا الغموض؟.. عندما أقابل (نادر) في المرة القادمة سأجعله يجيب عن كل تلك التساؤلات، سأجبره على ذلك.
***
أخذت أجول بحذر داخل غابة الأشجار بعد أن نجحت في تجاوز الصف الأول الذي كان يتكون من أشجار كبيرة متشابكة الأفرع ومن دونها الآجام والنباتات الشوكية الكثيفة وكأنها تصنع معا جدار أو سور طبيعي يمنع الولوج للغابة ... بعد ذلك الصف تقل كثافة النباتات وضخامة الأشجار فتصبح الغابة أقرب لحديقة صغيرة ... كان بعض تلك الأشجار يحمل ثمارا ملونة، صفراء وخضراء وحمراء، أنا لست خبيرا في النباتات ولكنها ثمار تشبه الطماطم، تذوقت إحداها فوجدتها حلوة المذاق وأخرى فكانت شديدة المرارة ... خلعت قميصي وربطت أكمامه صانعا منه حقيبة صغيرة ملئتها بتلك الثمار ...  شعرت بالسعادة عندما لمحت عينا صغيرة من الماء، فألقيت نفسي فيها وأخذت أعب واغتسل من مائها العذب ... تزداد حيرتي مع كل لحظة إضافية أقضيها في هذه الجزيرة، التي تحوي كل ما يلزم لإقامة حياة البشر ولكن لا يوجد بها بشر!
في الواقع لم يكن صديقي دقيقا عندما ادعى أن هذه الجزيرة لايوجد بها حيوانات، فقد لمحت في جولتي تلك القليل من الطيور في أعشاشها فوق تلك الأشجار، ولمحت عظاءة تجري وتختفي في جحر، وثعبان صغير ينزلق مبتعدا ليختفي بين الآجام ...  وصلت إلى نهاية تلك الغابة فوجدت نفسي أمام جدار صخري يرتفع بشكل رأسي إلى أعلى لعشرات الأمتار، مرة أخرى أصل إلى نفس الاستنتاج أن الخروج من هذه الجزيرة بطريق غير طريق البحر يحتاج لمتسلق جبال بارع ... لمحت بعض الرسومات الغائرة على ذلك الجدار الصخري، فاقتربت منها في فضول ... كانت رسومات بسيطة تشبة الرسومات الكاريكاتورية، نحتها شخص ما بأداه حادة على تلك الصخور، كانت تبدو قديمة للغاية، هل أنا بصدد كشف أثري جديد؟...يذكرني ذلك بالرسوم الغامضة التي عثر عليها المستكشف (برنان) في كهوف (تسيلي) ... هل كانت تعيش هنا حضارة في الماضي قررت تخليد أخبارها للمستقبل؟..  اقتربت أكثر من الرسوم محاولا فهم معناها، إنها بسيطة للغاية وكأن من رسمها طفل في الخامسة من عمره ... ثلاث رسومات تصف ثلاثة أحداث متتابعة وكأنه شريط سينمائي، شخص يقف أمام البحر، شخص أو شئ يخرج من البحر لأنه يبدو أضخم وخطوط رسمه غائرة بشكل أكبر من الشخص الأول، هذ الشخص أو الشئ يجذب الأول ليغرقه في البحر!
***
تحركت بموازاة الجدار الصخري حتى وصلت إلى حافة الغابة وهناك وجدت كهف صغير على أرتفاع متر ونصف عن سطح الأرض، لن يكون من الصعب التسلق إليه ... لم يكن كهفا بالمعنى الحرفي للكلمة، بدا من مكاني في الأسفل كتجويف غائر في الجدار الصخري ... تسلقت حتىى مدخل الكهف، وكما توقعت لم يكن يمتد لداخل الجدار الصخري إلا لمترين فقط وبعرض متر ونصف، سيكون هذا المكان مناسب لإقامتي حتى أفكر في حل لأخرج به من تلك الجزيرة، على الأقل سيقيني من برد الليل القارص ... تذكرت الآن أنني لم أفلح في العثور على (نادر) ... اعتمل القلق في باطني، أين ذهب هذا الفتى؟ أيكون قد عاد للبحر مرة أخرى؟ وكأنه قد نجا من الغرق بالأمس ليقرر أن يغرق في اليوم التالي ... المزيد من الغموض يحيط بتصرفات (نادر)، سأنطلق للبحث عنه مرة أخرى وأحاول في طريقي أن أجمع بعض الأخشاب لأشعل نارا، بالتأكيد سأنجح في ذلك كما فعل صديقي بالأمس.
***
بعد ساعات من المحاولات الفاشلة، أدركت أنني لن أنجح في إشعال النار، يبدو أن صديقي كان أكثر مني براعة، أو أنه كان يحمل ولاعة أو ثقاب ... وجدت الاحتمال الثاني أقرب للمنطق فإشعال نار بطرق حجرين ببعضها أو بفرك عودين من الخشب الجاف لتوليد شرارة أو احتكاك كاف لإشعال النار، هي طرق خيالية تصلح فقط للسينما والروايات ولا تفلح أبدا في عالم الواقع ... يبدو أنني سأقضي الليلة في الظلام، لا يوجد مشكلة، لدي بعض الفاكهة والماء ودفء الكهف، وهذا سيكفيني حتى الصباح، يمكنني الآن أن أحصل على قدر من الراحة.
لم أعرف كم كانت الساعة في ذلك الوقت ولكن الظلام كان يخيم على كل شئ، عندما بدأت تلك الصرخات الرهيبة ... في البداية تحسبها عواء ذئب، ثم تستشعر ذلك الصوت البشري بين طياتها، وكأنه هناك من ينوح بصوت طويل يحمل قدرا من الحزن والعذاب والتوحش، وكأنها آنات المعذبين ونحيبهم يصدر من قلب الجحيم ... شعرت بالرعب وبالقشعريرة الباردة تختلج جسدي وأطرافي، أنا لم أسمع صوت كهذا من قبل ... الصوت وحده يكفي لإيقاف قلبي من الرعب، فماذا إن قابلت صاحبه!؟ ... ما يثير الرعب أكثر؛ هو أنها ليست أصوات كائن واحد، هناك أكثر من صوت متداخل وكأن هناك قطيع من تلك المخلوقات.
كنت أقف على مدخل الكهف، أحاول تتبع مصدر تلك الأصوات، من الواضح أنها تأتي من ناحية البحر .... فجأة انتبهت إلى حفيف يصدر من ناحية الأشجار القريبة، هناك من يتحرك بينها مقتربا من موقعي، انتصب شعر رأسي وساعدي، وهرعت إلى باطن الكهف وتكورت في ركن منه وعيناي مصوبتان إلى مدخله ... الصوت يقترب أكثر، أرى الآن شبحا يتسلق مدخل الكهف ثم يقف أمامه منتصبا بجسد عملاق متشح بسواد الليل، ينظر إلى داخل الكهف بعينين كقطعتين من الجمر ... يتحرك بخطوات ثقيلة مقتربا من مكمني، أحاول الانكماش أكثر، من الواضح أنه يراني، فهو يقترب من موقعي أكثر وأكثر حتى أصبح أمامي تماما ... أراه يمد ذراعه ومخالبه نحوي، ارتعدت كل عضلة في جسدي وأنا أترقب المصير الذي ستحمله لي تلك المخالب.
.. (انتهى الجزء الأول ... ويليه الجزء الثاني والأخير) ..




قصة قصيرة بعنون ... (جزيرة الأرواح – الجزء الثاني والأخير)
ملخص ما سبق ... بعد غرق المركب السياحي الذي كنت على متنه أنا وصديقي (نادر)، وجدت نفسي ملقا على شاطئ جزيرة غامضة، ولحسن الحظ عثرت عليها أيضا على صديقي، وإن أثارت حيرتي التغيرات التي طرأت عليه، والغموض الذي يكتنف كلماته، قبل أن يختفي في صباح اليوم التالي!.. بعد جولة في الجزيرة؛ اكتشفت كهف في باطن الجدار الصخري، فاتخذت منه مكمنا، قبل أن يحل الليل، فيفتح الجحيم أبوابه مع كل تلك الأصوات المرعبة التي انبعثت من ناحية الشاطئ ... فجأة أجد نفسي محاصرا في كهفي، يقترب مني ذلك الشبح المتشح بالسواد وهو يحدق في بعينين ناريتين.
.
استجمعت كل شجاعتي وأنا أصرخ فيه:
-          من أنت ... ماذا تريد؟
-          صه ... اخفض صوتك ... سيسمعونك.
كان هذا هو صوت (نادر) صديقي وهو يحاول طمأنتي ... كان جسدي مازال يرتعد، الآن أرى ملامح (نادر) التي أعرفها جيدا، كيف خدعتني عيناي وأوهمتني برؤية شبح أسود عملاق ذو عينين كقطعتي جمر!.. سألته بلهفه:
-          (نادر) ... أين كنت !؟
قبل أن أتذكر تعليقه السابق، فوجدت نفسي أسأله مستنكرا:
-          عمن تتحدث؟.. من سيسمعني؟
قال (نادر) بصوت خافت:
-          أنا آسف ياصديقي، ولكنهم يعرفون بوجودك هنا... أنت في خطر.
قلت بصوت حاد، متوتر:
-          من هم؟
-          أرواح الغارقين في البحر؟
حملقت في وجهه بدهشة، وأنا أتساءل:
-          هل هم الذين يصدرون كل تلك الأصوات النائحة، المفزعة؟
-          أجل.
كانت الأصوات ما زالت تتعالى من أماكن متفرقة في الجزيرة، وإن كان معظمها يأتي من ناحية الشاطئ ... سألته:
-          وماذا يريدون؟
-          إنهم يتجمعون من أعماق البحر السحيقة إلى هذه الجزيرة الملعونة في تلك الليالي التي يغيب عنها القمر.
-          ما هي قصتهم؟ وكيف عرفت كل تلك المعلومات؟
أطرق برأسه للحظة وهو يقول بأسى:
-          لأني ...
-          لأنك ماذا؟
وقبل أن يجيب ظهر ذلك الشبح الأسود عند مدخل الكهف وهو يطلق صرخات مولولة، مرعبة، وعيناه تشتعلان كالجمر بنار الحقد والكراهية، لم تكن ملامحه واضحه وقد اكتست كلها بالظلام ماعدا عينيه الحمراوين، إلا أن مارأيته منها كان كافيا ليبث الذعر في روعي للأبد ... إنقض الشبح علي محاولا الإمساك بي، فاعترض طريقه صديقي (نادر) وهو يصرخ بي:
-          أذهب بسرعة ... سألحق بك عند الهيكل الحجري في الناحية الأخرى من الغابة؟
هرعت نحو مدخل الكهف في محاولة للهرب مستغلا تشاغل الشبح بصديقي، قبل أن يوقفني ضميري الذي أبى علي أن أذهب وأترك صديقي ليواجه هذا المصير المرعب بين براثن هذا الشبح، فعدت مرة أخرى لأفاجأ بتلك المعركة الرهيبة بين مخلوقين شبحين يتقاتلان كالضواري ويمزقان بعضهما بعضا ... أين ذهب صديقي؟ ... ناديت عليه:
-          (نادر)؟
فالتفت لي أحد المخلوقين والذي يبدو أن النصر كان حليفه حتى هذه اللحظة وهو يربض فوق صاحبه، وصرخ في وجهي بعينيه الحارقتين، وبصوت صديقي (نادر):
-          قلت لك اذهب ... اذهب.
(كيف كنت بهذا الغباء ولم أرى الدلائل الواضحة؟)، همست بها لنفسي وأنا أعدو بين الأشجار، من الواضح أن صديقي تحول إلى شئ آخر، شئ مرعب ... كنت مازلت أعدو تتطاردني الأصوات النائحة والحقيقة المفجعة التي اكتشفتها للتو ... تعثرت قدماي فسقطت على الأرض للحظة قبل أن أنهض بسرعة وأنا أواصل العدو وقد أدمت تلك العثرة يدي وقدمي ... شعرت أن أنفاسي تتقطع وأنني غير قادر على المواصلة فأقعيت على الأرض أسفل شجرة وارفة أحاول التقاط أنفاسي ... كنت اتلفت حولي بين الحين والآخر متحسبا أن يكون هناك أحد في أثري.
فجأة ارتفعت الصرخات المفزعة من مكان لا يبعد كثيرا من موقعي، نهضت على الفور لأواصل العدو مبتعدا عن مصدر الصوت ... أسمع أصوات قريبة من مكاني، أصوات لأقدام تطأ العشب الجاف، من الواضح أنهم يبحثون عني، جادين في اللحاق بي ... يجب أن أجد مكانا لأختبأ فيه، فهم يقتربون وصرخاتهم المفزعة تحرق أعصابي ... وصلت إلى نهاية الغابة، فسد الحائط الصخري الطريق أمامي من جديد ... بالقرب من المكان، لمحت تشكيل صخري من أربع صخور عملاقة تبدو كأعمدة دون سقف، تساءلت، هل هذا هو الهيكل الصخري الذي ذكره (نادر) قبل أن يتحول إلى تلك الهيئة المرعبة؟ هل أطيعه وألجأ إليه؟ أم أحاول الهرب مجددا؟ ... أخذت قراري بسرعة ووجدت نفسي أتوجه إلى ذلك الهيكل واختفي خلف أحد أعمدته وأنا أتسمع أصوات المطاردين ...
ساعات مضت علي كقطعة من الليالي النابغية ... كنت في حالة لا يرثى لها، وصلت فيها إلى حافة الانهيار، أسمع تلك الكائنات وهي تجول في أماكن قريبة من مكمني، تطلق تلك الصرخات المفزعة، النائحة التي تأتي على جهازي العصبي وتدمر خلاياه ... أتأهب عندما أشعر باقتراب أحدهم، ويرسم لي خيالي المصير الذي ينتظرني، ولكن لحسن الحظ يبتعد ذلك المطارد مخلفا وراءه ذعرا هائلا يجتاح باطني ... في لحظات بعينها اجتمع علي الضغط العصبي مع الخوف والإرهاق فتمنيت أن يلحقوا بي حتى أرتاح من ذلك القلق والترقب وليكن ما يكون ... اقتربت ساعات الليل من الرحيل وبدأت الأصوات تخفت قبل أن تختفي تماما ... أتساءل، هل رحلوا أخيرا؟ ...
***
اقتربت ساعة الفجر، فاستبشرت بالنجاة، وقبل أن ابتهج بإنجاز الحياة لليلة أخرى إضافية، ظهر أحد تلك المخلوقات أمامي، ظهر بشكله المرعب وعينيه المشتعلتين، وهو يقترب من موقعي بخطوات عرجاء تذكرك (بالزومبي)، وقبل أن أهرب، بادرني قائلا:
-          لا تفعل ... إنه أنا.
ثم بدأت هيئته تتغير إلى هيئة صديقي (نادر)، وهو يكرر:
-          إنه أنا.
صرخت فيه وأنا اتراجع للخلف:
-          ابتعد عني أيها الملعون
-          لا تخف ياصديقي ... أنا هنا من أجلك فقط
-          من أجلي!؟
-          أجل ... لأحاول مساعدتك على الهرب والنجاة.
فكرت، إن هذا الذي يكلمني هو صديقي نفسه، بشكله، وصوته، وأسلوبه الذي لا يمكن أن أخطاه ... ولكنني لن أخدع نفسي وعيني مرة أخرى، فلقد رأيته منذ ثوان وهو على تلك الهيئة المريعة ... أشعر بالحير!.. كان خيارا صعبا، هل أصدقه وأحاول أن استفيد من مساعدته؟ أم أهرب الآن وبسرعة قبل أن تضيع الفرصة؟ ... وجدت نفسي أسأله بصوت أقل حده:
-          ما الذي حدث لك؟
نظر لي بنفس النظرة الحزينة وهو يقول:
-          أنا الآن مثلهم تماما.
-          ماذا تقصد؟
تضاعف الأسى في عينيه وهو يقول:
-           أنا لم أنج مثلك؟
للحظات لم أفهم قصده، قبل أن تفجعني الحقيقة الواضحة، فوجدت نفسي أسأله بلسان متلجلج:
-          هل تقصدك أنك...؟
لم استطع أكمالها، ولكنه أجاب ببساطة وهو يومئ برأسه:
-          أجل ... أنا غرقت ليلتها مع من غرقوا.
قلت وأنا أشيح بكفي في أسى:
-          إذا لماذا عدت؟
-          كما قلت لك ... لمساعدتك.
وجدت نفسي أجلس على صخرة وعيناي تزرفان الدمع، كنت أشعر بلوعة وألم، ولكن  هذا لم يمنعني من التساؤل:
-          إذا لماذا أنت مختلف، ولست مثلهم تماما؟
قال بصوت متحشرج:
-          لعنتي لم تكتمل بعد، مازلت أحمل جزء بشريا في داخلي، قد تكون تلك هي ليلتي الأخيرة أو القادمة ... فعندما يضئ القمر هذه الجزيرة في المرة القادمة سأصبح مثلهم تماما، سأتحول حينها إلى كيان جشع شرير، يجوب البحر ولا يعود إلى الأرض إلا على هذه الجزيرة الملعونة في الليالي المظلمة، يحمل شرا وكرها لكل الأحياء، وجشعا لا يرتوي إلا بإغراق أجسادهم وإصابتهم بنفس اللعنة.
علا صوتي بالبكاء وأنا أقول:
-          ألا يوجد شئ يمكن فعله؟
-          لا.
قبل أن يردف:
-          ولكن علينا أن نخرجك من هذه الجزيرة حتى لا تلق نفس المصير.
أعادتني تلك الجملة للواقع المرير، وللرعب الذي كنت أعيشه في الساعات الأخيرة، فابتلعت ريقي بصعوبة وأنا أسأله:
-          وكيف يمكنني الخروج من هذه الجزيرة الملعونة؟
كان نور الفجر قد بدأ يلوح في الأفق ... فنظر لي نظرة تحمل الكثير من المعاني وهو يقول:
-          يجب أن أرحل الآن ياصديقي ... لا يمكنني البقاء في نور الصباح ... أحفر تحت هذا الهيكل ستجد ضالتك.
ثم أولاني ظهره وهو يبتعد بتلك الخطوات العرجاء وجسده يتحول إلى تلك الهيئة المرعبة من جديد ... ناديت عليه، فلم يلتفت لي واختفى بين الأشجار.
***
لساعة جلست في مكاني يخيم على عقلي وقلبي الحزن والكآبة، قبل أن أدفعهما بعيدا وأنا أهب محاولا البحث عن وسيلة نجاتي التي ذكرها صديقي والمدفونة تحت هذا الهيكل الصخري ... كان النور الصبح قد بزغ، فبدأت أتفحص المكان وانتبهت إلى بعض الرسومات على الأعمدة الصخرية والتي كانت مختفية بسبب الظلام والتي تشبه تلك التي وجدتها في الصباح على باطن الجدار الجبلي، وكأنها تكمل القصة ... أولها صورة لرجل يرتدي عمامة أو قبعة من الريش يشبه الساحر، يلوح بعصا تخرج منها شرارة كهربائية تضرب سطح البحر، وصورة أخرى لتلك المخلوقات وهي تخرج من البحر وتنحني لذلك الساحر ...  وصورة ثانية لتلك المخلوقات وهي تهاجم الساحر وتغرقه ... وصورة لأهل الجزيرة وهم يخرجون أناس غرقى من البحر، وصورة أخيرة لأهل الجزيرة وهم يغادرونها في قوارب يصطحبون معهم الأجساد التي أخرجوها ... القصة واضحة ولا تحتاج لكثير من الذكاء حتى يمكن تفسيرها ... القصة عن ساحر أطلق لعنة فانقلبت عليه وعلى أهل جزيرته ... حيرتني فقط الصورة الأخيرة والسبب الذي جعل أهل الجزيرة يحملون معهم أجساد غرقاهم وهم يغادرون الجزيرة، فوجدت أن التفسير الأقرب لذلك أن إخراج أجساد الغرقى يذهب عن أصحابها اللعنة ... كانت هناك المزيد من الصور، في الواقع كانت هناك الكثير من الصور التي تحكي القصة بالتفصيل، وكأن تلك الأعمدة الصخرية كانت أول مجلة كوميكس في التاريخ! ولكن لا يوجد لدي الوقت لمتابعة المزيد من الصور، علي أن أشرع مباشرة في العمل.
***
كان النهار قد انتصف عندما تمكنت أخيرا من إخراج ماوعدني به صديقي من باطن الأرض أسفل الهيكل الحجري ... في الواقع لو كان ماوجدته هناك كنزا من الذهب والفضة لما فرحت به كما فرحت بهذا القارب القديم المتهالك الذي جاوز عمره القرنين، والممتلأ بالثقوب والأخشاب المتعفنة، المهترئة ... لم أحصل على أي قسط من الراحة وأنا أحفر الأرض بيدي وبقطعة من الخشب القاسي بهستيرية، تتنازعني مشاعر عدة، الخوف، القلق، والإرهاق، والحزن على ما آل إليه صديقي، ولكن كل ذلك لم يمنعني من إخراج القارب قبل أن تستقر الشمس في كبد السماء ... علي الآن أن أسد تلك الثقوب والفجوات ببعض النباتات وأوراق الأشجار التي سأخلطها بالطين لأصنع منها مادة لاصقة بدائية، يبدو أن تلك الظروف قد شحذت عقلي وهمتي!.. وعلي بعد ذلك أن أجر القارب كل تلك المسافة حتى البحر لأركبه وأغادر تلك الجزيرة إلى الأبد ... المهم أن أفعل ذلك قبل أن مغيب الشمس، وإلا سأجد نفسي في مطاردة جديدة من تلك المخلوقات، وفي تلك المرة لا أضمن أن يكون الحظ حليفي فأنجو، كما حدث بالأمس.
***
  مع المحاولة الأولى لمغادرة الجزيرة اكتشفت أن الموضوع ليس بتلك البساطة!.. لقد شاهدت ذلك في فيلم أجنبي من قبل لا أذكر اسمه، فالجزيرة كانت محاطة بجدار من الأمواج العالية ... في البداية وضعت القارب في الماء ورغم تسرب بعض القطرات إليه إلا أن الكمية كانت قليلة ولن تتسبب في غرقه ... بدأت أدفع القارب لأمتار ثم قفزت داخله وأخذت أجدف بذلك المجداف القوي من خشب الزان الذي وجدته أيضا في الحفرة مع القارب ... في البداية كان الموج محتملا ثم تزايدت قوته تدريجيا واحتجت لمزيد من الجهد حتى أدفع القارب عبره، حتى وصلت إلى ذلك الجدار من الأمواج، الذي صدمني صدمة هائلة ألقت بي أنا والقارب بعنف ناحية الشاطئ، وأنا أشعر أن كل عظمة في جسدي قد تفتت.
لم تختلف المرة الثانية عن الأولى ... أما الثالثة فكانت كارثية، وكأن البحر قد غضب من المحاولتين السابقتين فأطاح موجه بي نحو الشاطئ بقوة هائلة، فاصطدمت رأسي بعارضة القارب، وغامت المرئيات أمام عيني، وغبت عن الوعي لفترة ... عندما أفقت كانت رأسي مازالت تؤلمني واحتجت لوقت طويل حتى استوعب الموقف الذي أنا فيه، عندها أدركت أن الليل قد حل وأن كل مخاوفي على وشك التحقق ... فكرت بسرعة هل أهرب مرة أخرى إلى داخل الجزيرة، أو أحاول من جديد مع القارب ... يبدو أن أثر الارتجاج والضربة التي تلقيتها على رأسي يمنعاني من التفكير المنطقي، فوجدت نفسي ألقي بالقارب الذي لم يتحطم لحسن الحظ رغم كل تلك الضربات في الماء من جديد، واصعد على متنه، واستخدم المجداف في محاولة يائسة أخيرة.
كنت قد وصلت إلى منتصف الطريق نحو جدار الأمواج عندما أمسكت اليد السوداء الأولى بحافة القارب ولحقتها أياد أخرى، ثم بدأ أصحابها في الصعود للقارب ... عندها بدأت تلك الصرخات المفزعة تنطلق في المكان مختلطة بصرخات الرعب التي انطلقت من فمي ... صعد أول تلك المخلوقات على القارب فضربته بالمجداف، فسقط في الماء، لم انتبه إلى أن اثنان غيره نجحا في الصعود من خلفي، قبل أن يمسكا بي ويسقطاني عن القارب ... شعور غريب ذلك الذي اعتراني في اللحظات التالية، وكأني أشاهد فيلم يعرض بالتصوير البطئ ... كنت أسقط عن القارب يحوطني إثنان من تلك المخلوقات المرعبة، وعشرات غيرها في المكان، بعضها يحاول اعتلاء القارب والبعض الآخر يأتي عدوا من ناحية الشاطئ وهو يطلق تلك الصرخات المروعة ... حاولت المقاومة للحظات ولكن تلك المخلوقات كانت قوية للغاية وهي تجذبني نحو القاع، شعرت أن تلك هي نهايتي، فكيف يمكنني أن أواجه العشرات من تلك المحلوقات الملعونة وحدي ... للحظات طالبني عقلي المجهد بالاستسلام للمصير المحتوم.
فجأة ظهر ذلك المخلوق من العدم ودفع عني المخلوقين اللذان كانا يحوطاني، ثم صعد بي نحو السطح ... عرفت في هذا المخلوق صديقي (نادر) رغم خلقته المرعبة التي كان عليها ... عندما وصلت إلى السطح أخذت أعب الهواء بجنون إلى صدري، فبادرني ذلك المخلوق بصوت مرعب:
-          اصعد.
ثم أعانني على الصعود إلى القارب ولحق بي وهو يصرخ:
-          هيا جدف بكل قوتك ... حياتك تعتمد على ذلك.
كنت أجدف بكل قوتي متجها بالقارب نحو جدار الأمواج ... تتعالى من خلفي صرخات تلك المخلوقات الغاضبة ... يحاول أحدها الصعود إلى القارب فيدفعه صديقي، يصعد آخر بالفعل من الناحية الأخرى ويحاول الإمساك بي فيهجم عليه صديقي ويدفعه ويسقط معه في البحر ... كانت مقدمة القارب قد ارتفعت فوق جدار الأمواج، أرى صديقي من خلفي يتقاتل مع العشرات من المخلوقات التي على شاكلته في محاولة لتعطيلها حتى لا تصل إلى.
أطلقت صرخات طويلة دفعت الطاقة في عروقي، أضرب بالمجداف بقوة وسرعة هائلتين، للحظات توقف الزمن وتوقف القارب فوق جدار المواج حتى حسبت أنه سيعود به نحو الشاطئ مرة أخرى، ولكن ضربة واحدة إضافية من المجداف جعلت القارب ينزلق عن الجدار ويهبط في الناحية الأخرى بعيدا عن الجزيرة الملعونة ... لم أتوقف، وأخذت أجدف مبتعدا وكأن الشياطين تلاحقني وهذا ليس تعبيرا مجازيا فقد كانت تلاحقني بالفعل وكادت تلحق بي من لحظات قليلة، لولا صديقي الوفي ... لم التفت خلفي إلا بعد أن أصبحت على مسافة كبيرة من الجزيرة، وعندما خفتت تلك الصرخات الغاضبة وماعادت تصل إلى مسامعي، حينها نظرت للجزيرة فوجدتها اختفت! كأن لم تكن من قبل ... أين ذهبت تلك الجزيرة الملعونة؟ هل هذا كله كان حلم بغيض أو كابوس؟ ... لا لقد كان واقع مرعب يفوق كل الكوابيس.
لم تكن معاناتي قد انتهت عند هذا الحد ... فقد قضيت يومين هائما في البحر على سطح  ذلك القارب، أدعو أن التقي بمن ينتشلني، ولكن ذلك تأخر كثيرا، لم يكن معي طعام ولا شراب، وكنت أصارع المياة التي أخذت تفيض إلى داخل القارب عبر الثقوب التي زال غراؤها وعبر الفجوات بين الأخشاب المهترئة ... عندها رأيت تلك السفينة تتحرك كنقطة سوداء فوق خط الأفق، ويبدو أنها رأتني فقد أطلقت تلك الصفارات المنبهة، وبدأت تقترب مني ... يبدو أنني نجوت في النهاية، وكان حظي أفضل من صديقي (نادر) ذلك الذي كان وفيا لي في حياته وبعدها ... شئ واحد يجول في ذهني في تلك اللحظة وأنا أصعد إلى السفينة يتلقفني بحارتها بعد أن أصابني الأعياء ... تلك الصورة التي رأيتها على أعمدة الهيكل الصخري، هل هناك حقا وسيلة للخلاص من تلك اللعنة؟ هل يمكنني أن أعود إلى تلك الجزيرة مرة أخرى لأخلص روح صديقي من تلك اللعنة ... هل يمكنني ذلك؟
.. (تمت) ..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق