قصة قصيرة بعنوان ... (الفيروس)
كنت في منزلي استمتع أخيرا بلحظات من الوحدة الممتعة، وذلك بعد
أن اقنعت زوجتي بقضاء ليلتها في بيت أبيها وأن
كنت أتابع قناتي المفضلة (الأسرة والطفل) وكانت تعرض في تلك اللحظة برنامج
حواري شائق، ،تصطحب معها الطفلين تلك الورقة التي
،يستضيف خبيرا في علم نفس الأطفال، يتحدث عن ورقته البحثية التي أحدثت هزة
في المنتديات العلمية قدمت بحثا تجريبيا يربط بين الرضاعة الطبيعية ونتيجة
الثانوية العامة!
قمت لإعداد بعض الشطائر وكوبا من العصير، رفعت صوت التلفاز على
آخره حتى التصق مؤشر الصوت بأقصى يمين الشاشة وذلك حتى استطيع متابعة الحوار من
المطبخ:
-
كانت
العينة الأولى تحتوي على مائة من السيدات اللاتي أرضعن مائة من الأطفال وكانت
العينة الثانية لأطفال وبعد دراسة علمية
متعمقة جائت النتائج بمفاجأة مذهلة. ، لم يتلقوا أي رضاعة طبيعية
انتظرت أن يلقي الخبير بمفاجئته ولكن هذا لم يحدث أبدا، فقد
إنقطع صوت التلفاز للحظات قبل أن يعود مع نغمة موسيقية رتيبة تتكرر بسماجة، ضايقني
ذلك بشدة، وتسائلت هل قام التلفاز خاصتي بحركته الدنيئة المعروفة وقام بتبديل
القناة من تلقاء نفسه، أم أن البرنامج توقف عن البث لأسباب فنية.
بالفعل كانت القناة قد تبدلت وتعرض الآن صورة شبحية ، أنهيت تجهيز الشطائر والعصير بسرعة وعدت
لغرفة الجلوس لشخص ما بتلك الطريقة التي تستخدمها بعض البرامج لعرض اعترافات
المجرمين أو لإجراء حوار مع بعض الأشخاص الذين لا يريدون لأحد التعرف عليهم؛ حيث
يتم عرض كل شئ باللونين الأصفر والأسود مع تداخل الحدود المادية لتشويه الصورة
وجعل التعرف على صاحبها ضربا من المستحيلات، وإن كنت بذكائي المعروف قد أدركت أن
من يتحدث هو رجل في العقد الخامس أو السادس من العمر، يتحدث بلهجة عميقة آسفة
وكأنه ارتكب جرما لا يغتفر:
-
أنا
اعتذر منكم بشدة، ولكنكم لم تتركوا لي بديلا، كان كل شئ ينهار أمام عيني وكان بيدي
الخلاص ودفعتموني لذلك بكراهيتكم التي تضمرونها لبعضكم البعض ورغبة كل فريق منكم
في التخلص من الفريق الآخر والسعي لذلك سعيه.
لم أكن مهتما بتلك النوعية من البرامج الملفقة التي ينكشف بعد
حين أن الشخص الذي يعترف بجريمته هو أخو المصور وأنه لا يوجد جريمة من الأساس، وأن
ما يحدث مجرد (سيناريو) تمثيلي أعده المخرج والمعد وشارك في بطولته المذيعة لذا
ضغطت على زر (عودة) في جهاز الاستقبال ،
التي ترسم على وجهها ببراعة أقصى علامات الدهشة والاستغراب لاستعادة قناتي
المفضلة، ففوجئت بأن البث الشبحي ما زال مستمرا:
-
قمت
بتكريس كل خبرتي العلمية واجتهادي في العمل، حتى بلغت مأربي وصنعته في النهاية،
صنعت ترياق الخلاص.
ضغطت على الزر مرات عديدة وتأكدت من أرقام القنوات في كل مرة،
كانت كل القنوات تبث ذات البث الشبحي عينه قمت بفصل الكهرباء عن جهاز الاستقبال
والتلفاز وأعدتها إليهما مرة أخرى، ودائما نفس البث الشبحي:
-
اعتذر
لكم مرة أخرى، وأتمنى أن تكون رسالتي قد وصلت إليكم أخيرا وأن تأخذوها على محمل
الجد، حتى لا ينالكم جزاء أفعالكم التي تقترفونها، لا يظن أحدكم أنني إرهابي أو
قاتل، أنا فقط رسول ورسالتي هي نشر المحبة ونبذ الكراهية بأي وسيلة حتى ولو بدت في
ناظريكم اليوم قاسية أو عنيفة فسيأتي يوما تدركون فيه قيمة وداعا، وأعدكم ألا
أزعجكم ثانية ففي اللحظة التي يتم فيها بث هذه الرسالة تكون مهمتي قد ،ما فعلته من أجلكم وأكون أنا قد فارقت الحياة بالفعل. ،انتهت
توقف الرجل عن الحديث واسودت الشاشة مرة أخرى وعادت تلك النغمة
الموسيقية الرتيبة، كانت جملته الأخيرة قد تأكدت أن جميع القنوات ما زالت
تعرض ، نجحت في جذب انتباهي، وتمنيت لو
انتبهت أكثر لما قاله هذا الرجل الغامض نفس الصورة قبل ان اندفع إلى صالة المنزل
لأحاول الاتصال ببعض أصدقائي لأعرف هل يتابعون نفس هذا البث كانت كل الخطوط
مشغولة، أغلقت سماعة الهاتف بعنف وتأففت في ضيق وعدت ،العجيب، ولكنني فشلت في ذلك تماما مرة أخرى
إلى غرفة الجلوس، انتبهت إلى أن الرجل الغامض قد عاد للحديث مرة أخرى:
-
تلك
رسالة مسجلة، أقوم ببثها عبر كافة القنوات الفضائية والأرضية وعبر المذياع أيضا، وسأكرر
ذلك مرات، ومرات حتى أتأكد إن كل مواطن من هذا الشعب قد وصلته الرسالة كاملة
وبوضوح.
77
تابعت رسالة الرجل حتى آخرها، وعندما انتهى منها، كان الشعر قد
انتصب على رأسي وساعداي من الذعر، شعرت بعدم القدرة على الحركة فتجمدت في مكاني
لدقائق عديدة، تابعت فيها الرسالة أكثر من مرة وفي النهاية استطعت أن أغلق التلفاز
وجلست أفكر فيما قاله الرجل، هل هي دعابة سمجة، هل هي محاولة من بعض الجهات
الإرهابية لترويع الناس، هل هي محاولة من تلك الجماعات الفوضوية لتحطيم الأنظمة
وتفتيتها، لقد أثبت الرجل قدرة هائلة بالفعل عندما استطاع اختراق موجات البث
المرسلة من القمر الصناعي وجعل رسالته هي الغالبة، بل أن كل التقنيين والفنيين
بأجهزتهم الحديثة فشلوا تماما في إيقاف بث رسالته مرة بعد مرة، هل يعني هذا أن ما
ادعاه في رسالته عن ذلك (الفيروس) الذي أطلقه في الجو منذ أسابيع كان صحيحا، وأن
كل منا قد صار الآن يحمل هذا (الفيروس)، وأن فترة حضانته تنتهي اليوم وسيبدأ مع
الغد في إظهار حضوره العنيف ومهاجمة حاضنيه.
-
ترررررررن.
كان ذلك هو صوت هاتفي المحمول، التقطته بسرعة، كانت شاشته تعرض
كنية أحد أصدقائي (الثرثار):
-
أين أنت،
هل شاهدت التلفاز؟
-
نعم.
-
وما
رأيك؟
-
لا أعلم،
ما رأيك أنت؟
-
هو فيه
حاجة اسمها (فيروس) ينتقي من دون الناس هؤلاء الذين يحملون مشاعر الكراهية والحقد
والغل، ده فيلم يا عمي، فيلم من (بتوع ذيلبرج) ... كيف يكون ذلك ممكنا بالله عليك؟
-
لا أعلم،
هو تحدث عن تغيرات فسيولجية مرتبطة بمن تغلب عليهم مشاعره الكراهية والغضب طيلة
الوقت، تلك التغيرات يتعامل معها الفيروس وتجعل من صاحبها هدفا لهجومه المميت.
-
هراء ...
لا يوجد مثل هذا الشئ، هذا الأحمق يطالبنا أن ننسى كل شئ وأن نبدأ مباشرة من الغد
في تبادل مشاعر الحب بين بعضنا البعض، وألا يشعر أحدنا بأي نذر من الكراهية تجاه
الآخر وإلا سيقضي عليه (الفيروس) في لحظتها، هراء بحق.
-
هو لم
يقل في لحظتها، هو تحدث عن أعراض تسبق ذلك، مثل ارتفاع درجة الحرارة وسرعة ضربات
القلب والتعرق، وأنه حتى إن بدأت تلك الأعراض يمكننا إيقاف هجوم (الفيروس) بنبذ
مشاعر الكراهية واستبادلها بأي مشاعر أخرى إيجابية.
-
هع هع هع
هع ... يبدو أنك تصدق تلك الخزعبلات.
-
لا، لا
أصدقها.
استمر صديقي (الثرثار) في الحديث لفترة طويلة، ساخرا من تلك
الرسالة وصاحبها، وقد نجح بالفعل في نقل حالته الشعورية تلك إلى بالتبعية، فبدأت
استشعر إن تلك الرسالة مجرد دعابة من شئ ما أو دعاية لشئ آخر، فتحت التلفاز، كان
البث العادي قد عاد لتوه إلى جميع القنوات، أخذت أقلب بينها منتظرا أي تعليق على
ما جرى، لكن يبدو أن الجميع يحاول تجاهل ماحدث ... قررت النزول للشارع واستطلاع
رأي الناس، قابلت الكثيرين وتحدثت معهم ، ووجدت الناس في غالبيتهم يتفقون على
الاستهانة بما حدث أو لا يتعاملون معه بالجدية الكافية، ولكني وجدت أناس آخرين
قلقين بالفعل من أن يكون ذلك حقيقيا، ووجدت أيضا من يتحدث عن أنه حتى لو كان هذا
(الفيروس )حقيقيا فلن يصيبه بضر فقلبه لم يشعر بالكراهية أبدا! وعندما عدت إلى
منزلي كان عقلي قد تشاغل بأشياء أخرى ولم أجد صعوبة، في أن أخلد إلى فراشي وأغيب
في النوم بعد كل هذا الجهد.
كان ذلك ما حدث بالفعل منذ خمسة أيام ... اليوم أعدو وحدي في
شوارع مدينتي، أبحث عن إنسان استطيع التحدث إليه فلا أجد، أجساد ملقاة في كل مكان،
مكدسة فوق بعضها البعض، أجساد تغطي الطرقات والأرصفة، وتملأ السيارات والحافلات
والحوانيت، أجساد هامدة، ساكنة، لا تأتي حراكا، بطارية هاتفي المحمول قد همدت
تماما هي الأخرى بعد أن كلت أناملي وأنا أحاول الاتصال بكل معارفي، لماذا لا
يردون، لا أعرف السبب، هل قاطعوني جميعا، هل هم غاضبون مني لأنهم موتى وأنا ما زلت
حيا، فقد عقلي القدرة على التفكير المنطقي منذ يومين، توقفت عن تناول الطعام
والشراب منذ الأمس تحولت فقط إلى آلة للعدو، أعدو ثم أعدو ثم أواصل العدو ولا
أتوقف ... السكون يخيم على كل الموجودات ... أين ذهب صانعوا كل تلك الضوضاء والصخب
الذي كان يملأ مدينتي بالأمس ... أشعر الآن بالحنين لهم وهم يتدافعون، يتحاجون،
يتشاحنون، وأحيانا يتقاتلون، أما اليوم فهم فقط يرقدون.
أعلم أنني لست وحيدا في هذا الكون، هناك طيور وحيوانات بل
وحشرات أيضا، فقط يغيب عن هذا الكون مخلوق واحد (الإنسان) .... أنا الآن أقف في
وسط هذا الميدان الشهير بعد أن عجزت قدماي عن أن تحملاني مترا واحدا إضافيا، خارت
قواي وسقطت على ركبتي وأخذت انظر إلى كل تلك الأجساد من حولي، انهمرت الدموع من
عيني ووجدت نفسي أصرخ فيهم موبخا:
-
أيها
الحمقى، لماذا لم تفهموا النذر؟ ولماذا استهنتم بها؟ وعندما استيقنتم من صدقها،
لماذا لم توقفوا كل تلك المشاعر البغيضة بداخلكم؟ لماذا أفنيتم أنفسكم وكل شئ
حولكم من أجل المزيد من الكراهية والحقد؟ أيها الجهلاء كم أكرهكم وأكره غبائكم،
وعدم قدرتكم على التعايش سويا أكرهكم بشدة،ليتكم تعودون إلى الحياة دقيقة واحدة
فقط حتى أقتلكم بيدي جميعا ... كم أكرهكم!
لماذا أشعر بتلك الحرارة تنبعث من جسدي، لماذا يتعرق جسدي بهذه
الطريقة، أشعر الآن بتسارع في ضربات قلبي:
-
كم
أكرهكم! أيها الحمقى.
.. (تمت) ..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق