الأربعاء، 21 ديسمبر 2016

اللعنة




قصة رعب بعنوان ... (اللعنة – الجزء الأول)
اسمي (حسام)، أعيش في منزل العائلة بمفردي في قريتي التي أعمل بها أيضا كمدرس لمادة العلوم بمدرستها الإبتدائية، أمتلك مزرعة فاكهة صغيرة لا تزيد مساحتها على النصف فدان، تبعد عن قريتي عدة أميال، هي ميراثي عن أبي (رحمة الله عليه) ... لم أفكر يوما في بيعها أو الاستغناء عنها رغم ضيق الحال، لم يكن ذلك بسبب زهد الناس في شرائها لقلة خصوبة تربتها والتي لا يكفي حصادها الضئيل من الثمار والفاكهة  إلا لتغطية تكلفة زراعتها وأحيانا لا يفعل ... نصحني الكثيرون بالتخلص منها، أو بانتزاع أشجارها الهزيلة، الخائرة وتحويلها إلى شئ آخر يدر علي أموالا أكثر بجهد أقل، ولكنني لم استمع لهم ... كان السبب الحقيقي في احتفاظي بتلك الأرض كل تلك السنوات كما فعل أبي من قبلي حتى آخر يوم في عمره، هو وصية جدي له بأن يحتفظ بهذه الأرض، لآن في باطنها كنز كبير، وأنه استخرج جزء بسيط منه في شبابه، جرة مملوءة بالعملات الذهبية، فباعها ومن ثمنها صنع ثروته الهائلة التي بددها أبناءه وأحفاده من بعده فلم يبق منها إلا أصلها ... هذه الأرض.
أخبرني والدي أنه بحث كثيرا عن ذلك الكنز فلم يجده، ولكنه يعلم يقينا أن ذلك الكنز سيظهر ويعلن عن نفسه في الوقت المقدر لذلك، وأوصاني بألا أبيع تلك الأرض أبدا ... أتذكر في صغري عندما قرر والدي إزاله السور القديم المصنوع من الطين والغاب، واستبداله بسور آخر من الأحجار، فعثر العمال أسفله على صندوق مغطى بنسيج من الكتان، أتذكر تلك النشوى التي رأيتها في عيني أبي وهو يزيح النسيج ويفتح الصندوق، وأتذكر أيضا ذلك الإحباط الذي ارتسم على وجهه عندما لم يعثر داخل الصندوق إلا على مطرحه من الخشب من تلك التي تستخدم في فرد عجين الخبز وفأس قديمة صدئة!
.
هناك أسطورة أخرى عن تلك الأرض، يتحدث بها أهل قريتنا، فهم يتهامسون في ليالي الصيف الدافئة أو الشتاء الباردة، ويحكون في وجل حكاية القرية التي كانت حاضرة في هذا المكان وهجرها أهلها أو من بقي منهم بعد أن أحرقتها عائلة من الجن، قتل أحد أفرادها على يد رجل من أهل القرية، عندما أرداه بعد أن تمثل له في صورة ذئب شديد السواد ... خرافات يتناولها العجائز وينقلونها إلى أبنائهم فيضيفون إليها وينقلونها بدورهم  إلى أبنائهم وهكذا حتى ألبسوا تلك الخرافة ثوب الحقيقة التي لا يمكن دحضها أو إنكارها، حتى أنني أجد صعوبة في إقناع أهل القرية بالعمل في أرضي، بل أن بعضهم عندما يمرون عليها أو بجوارها يبسملون ويحوقلون ويسرعون الخطى وكأن مردة الجن سيخرجون لهم من تلك الأرض في أي لحظة ويطاردونهم ... يقول البعض أن أصل ذلك الكنز هو أموال أهل القرية ومحفوظاتهم الثمينة التي تركوها وراءهم وهم يهجرون القرية على عجل، فجمعها الجن واحتفظوا بها في باطن الأرض ... أنا شخص متعلم، ومثقف، ولا أصدق كل هذه الخرافات، إلا أنني كثيرا ما أتمنى بأن يكون هناك جزء منها حقيقيا، وأن تكون تلك الأرض تحوي بالفعل في باطنها كنزا، وأنني سأعثر عليه في يوم من الأيام.
***
خرجت في الصباح بسيارتي قاصدا المزرعة لأفتح بوابتها للعمال القادمين لجني الثمار، أنا في العادة أقوم بزراعتها ومتابعتها بنفسي ولا ألجأ لمساعدة العمال الذين أجلبهم من قريتي أو من قرى قريبة إلا في مواسم بعينها كموسم الحصاد الحالي ... عند وصولي للمزرعة وجدتهم هناك ينتظرون في قلق ففتحت لهم البوابة وأدخلتهم ... لفت انتباهي وجود (رفاعي) غفير مزرعة الدجاج القديمة التي تجاور أرضي بينهم ... ومزرعة الدجاج تلك هي الجيرة الوحيدة التي حصلت عليها في تلك المنطقة المنعزلة ... رفع يده لتحيتي فرددت له التحية بمثلها ... عجيب أمر هذا الرجل فرغم أنه قد بلغ من العمر عتيا، حتى أظن أنه قد جاوز القرن من العمر، إلا أنه كان في قمة النشاط والحيوية، تجده دائما هناك في مكان عمله يقف متيقظا، منتبها .. وكان (رفاعي) دائما ما يعرج علي عندما آتي إلى المزرعة ويعرض علي خدماته، التي أقبلها في بعض الأحيان، وأوصيه دائما بأن ينتبه للمزرعة وأجزيه على ذلك مبلغ ضئيل ولكنه يسعد به.
.
ومزرعتي تقع في منطقة بعيدة عن الطريق الأسفلتي، ويربطها بالقرية طريق ترابي قديم أقصر بمرتين من الطريق الأسفلتي، ولكن لا يلجأ له الناس في العادة بسبب وجود المواصلات والحياة على الطريق الأسفلتي، وبسبب خوفهم أيضا من القصص التي تحكى عن هذه الأرض ... والمنطقة لا يصل إليها التيار الكهربي وبهذا تتحول في الليل إلى كتلة من الظلام والحلكة، وحتى مزرعة الدجاج تعمل بمولدات خاصة في العنابر، ولطالما سألت كيف يقضي (رفاعي) لياليه هنا في هذه الظلمة.
مر الوقت سريعا وأنا جالس على مقعد من الخشب أتابع عمل العمال بغير انتباه، فقد كان عقلي يسرح في عوالم أخرى بعيدة ... انتبهت إلى أحد العمال يخبرني بأن وقت الظهيرة قد جاء وأن العمال سيحصلون على قسط من الراحة وأنهم سيرسلون واحدا منهم على دراجة ليجلب الطعام من القرية، وسألني إذا كنت أريد شيئا من هناك فشكرته، وطلبت منه ألا تطول فترة الراحة لآن أمامهم الكثير من العمل لإنجازه اليوم ... ذهب العمال لراحتهم وعدت أنا مرة أخرى لأسرح بمخيلتي ... تذكرت قصة أبي وما وجده عند بناء السور الحجري وقلت لنفسي ماذا إذا كان هناك صناديق أخرى أو جرار في نفس المكان ولم يعثر عليها أبي، صناديق لا تحتوي فقط على مطرحة خشبية وفأس صدئ، بل تحتوي على كنز كبير من الذهب والفضة ... أجفلت فجأة عندما شعرت بتلك اليد توضع على كتفي، فنظرت للخلف، فطالعني وجه (رفاعي) المتغضن الذي اختفت ملامحه أسفل التجاعيد، وبادرني بفم خال تماما من الأسنان:
-          كيف حالك يا (بيه)؟
-          الحمد لله يا (رفاعي)، أخبارك أيه يا رجل يا طيب؟
-          بخير ولله الحمد، كيف حال جدك؟
-          حاله عند ربه!.. لقد توفى قبل أن أولد.
نظر لي بدهشة وهو يحك ذقنه الخشنة بسبابته، قبل أن يقول متنهدا:
-          عذرا، فقد أصبت بالخرف بسبب السن ... هل تعلم أنني كنت معه حين عثر على جرة الذهب.
قلت بدهشة حقيقية:
-          حقا.
كنت أفكر في تلك اللحظة، كيف علم هذا الرجل بتلك القصة، فهي سر من أسرار العائلة، نقله جدي إلى أبي وأوصاه بألا يخبر به أحدا ألا أكبر أبنائه عندما يحين الوقت المناسب لذلك، ونقله أبي لي وأوصاني بالمثل، فكتمته ولم أخبر به أحدا!.. حتى والدتي نفسها لم تعرف بهذا السر حتى موتها ... لا يمكن لهذا الرجل أن يحيط بهذا السر علما إلا إن كان حاضرا بالفعل أو أخبره جدي أو أبي عنه ... سألته بحذر:
-          وأين عثر عليها؟
أشار بأصبع ملتوي بفعل (الروماتويد) وهو يقول:
-          لقد وجدها هناك بالقرب من باب الحجرة الطينية.
قبل أن يردف:
-          لقد وجد أشياء أخرى معها، ولكنه أعادها إلى الحفرة، وردم عليها وأخذ الجرة فقط.
قالها ثم ابتعد ناحية البوابة وهو يقول:
-          احفر اسفل عتبتها تماما، ستجد هناك ضالتك.
اختفى خلف البوابة وتركني في حالة شديدة من الذهول، أضرب أخماس في أسداس ... قاطع تفكيري وصول العمال ليكملوا عملهم.
***
لم أكن منتبها في باقي اليوم لما يفعله العمال، فقد كان كل تفكيري منصبا على ما قاله (رفاعي) ... انتظرت حتى رحل العمال وكان الليل قد أقبل وبدأ الظلام يرخي أسداله على المكان ... أدخلت سيارتي من البوابة وأضأت مصابيحها لتنير المكان أمام الحجرة الطينية ... جلبت رفشا، وبدأت الحفر في المكان الذي أشار إليه (رفاعي) ... لم يطل الوقت كثيرا فسرعان ما أصطدم الرفش بشيء صلب، شعرت بالأثارة، وإن لم يغب عن ذهني ملامح الإحباط التي علت وجه أبي عندما ظن انه عثر على الكنز قبل ان يكتشف أنه عثر على مطرحة وفأس صدئ ... بدأت أزيح التراب عنه ذلك الشئ الصلب فبدا كصندوق قديم من الخشب ... فجأه لمحت شبحا يدخل من بوابة المزرعة ويقترب مني بخطوات سريعة، تملكني الرعب للحظه فتجمدت في مكاني ... بادرني الشبح قائلا:
-          السلام عليكم، يا (حسام) باشا.
كان ذلك أحد العاملين، قبل أن يردف قائلا:
-          لقد تأخرت على غير عادتك ... لقد حل الظلام!
-          مالك أنت ... لماذا عدت؟
-          نسيت حقيبتي.
ثم تلفت حوله، قبل أن يشير بظفر وهو يقول:
-          إنها هناك.
قلت له بجفاء:
-          خذها، وارحل.
كانت عينه مركزه على الحفرة والصندوق الذي أحاول إخفاؤه بجسدي ويداي فيها حتى لايراه، فقلت بسرعة:
-          كنت أحفر حفرة لزراعة شجرة.
-          هل تريد المساعدة؟
-          لا، شكرا ... اذهب الآن!
رحل ولا أظنه قد صدق كذبتي، انتظرت حتى غاب، ثم عدت إلى الحفرة فأزحت التراب عن الصندوق ورفعته، ووضعته في حقيبة السيارة، وأهلت التراب على الحفرة مجددا فردمتها ... توجهت إلى السيارة وغادرت المزرعة عائدا إلى المنزل ... طوال الطريق للمنزل شعرت بأن هناك من يراقبني، أرى خيالات تعدو في الظلام عن يميني وعن يساري، بل أني أشعر بأن هناك من يجلس معي داخل السيارة في المقعد الخلفي، فإذا التفت أو نظرت في المرآة لم أجد أحدا ... شعرت بالراحة عندما وصلت للقرية ... تأكدت من خلو الطريق من الناس، قبل أن أخرج الصندوق من حقيبة السيارة وأدخله إلى المنزل بسرعة ... أغلقت كل الشبابيك والأبواب وبدأت اتفحص الصندوق ... كان الصندوق قديما للغاية ومصنوع من الخشب وعليه بعض الرسوم الملونة التي بدت كرموز فرعونية وإن حال لونها بفعل الزمن ... فتحت الصندوق الذي لم يكن مغلقا بأي قفل، فوجدت داخله قطعة من القماش الرث تحتها بعض الكتب والصحائف المكتوبة بلغات مختلفة لا أعرف معظمها! ومن بينها كتاب عتيق باللغة العربية بعض صفحاته ممزقة وغلافه منزوع ... تركت الكتب جانبا حين لمحت صندوق فضي صغير داخل الصندوق الخشبي، فتحته فوجدت داخله عقد غليظ من الذهب مرصع بمجموعة من الأحجار الكريمة والجواهر تبرق بألوان مختلفة ... أخيراُ تحققت أمنيتي وجدت الكنز الموعود.
***
لم استطع النوم ليلتها من شدة السعادة، ظللت أتفحص العقد الذهبي لساعات طويلة، كان بحق تحفة رائعة، لم أر له مثيلا من قبل، بالتأكيد لن يقل ثمن العقد عن بضعة من الملايين ... ولكن كيف سأبيعه، بالتأكيد لن يكون هذا شيئا ميسرا، على أن أحسن إخفاؤه أولا، حتى أعثر على المشتري المناسب ... أعدت العقد لصندوقه ووضعته في خزانة جدي السرية المخفية خلف الجدار ... عدت مرة أخرى لتفحص الكتب فأمسكت بالكتاب المكتوب باللغة العربية وأخذت أقرأ عناوين صفحاته بصوت مرتفع:
-          التفريق بين الأزواج، جلب الحبيب، سحر الجوارح، التولة للمحبة.
ما هذا إنه كتاب في السحر!؟.. فكرت قليلا وقلت لنفسي لو كان ما في هذا الكتاب صحيحا فقد يضع بين يدي قوة وثروة تفوق الذهب والفضة ... انتابني الفضول لتجربة إحدى التعويذات فقررت البدء بتعويذه جلب الحبيب ... مكتوب هنا أن أحضر زيتا عطريا وأقرأ عليه بعض الكلمات المكتوبة بحروف عربية أو فارسية، قرأتها فلم أفهم كلمة من معا نيها ... نفذت التعويذة وجهزت الزيت، وكانت الخطوة التالية أن أدهن به مكانا سيلمسه الحبيب ... فكرت في جارتي الجميلة التي تعيش في المنزل المجاور، فتحركت قبل الفجر بساعة قاصدا منزلها وانا أتلفت حولي في جزع، قبل ان أدهن مقبض باب منزلها بالزيت، وأعود إلى منزلي بسرعة وأنا الهث بفعل تلك المغامرة الليلة المثيرة.
***
عدت للمنزل، غيرت ثيابي بسرعة ودلفت إلى الفراش فقد كنت مرهقا للغاية من أحداث الأمس، تمددت على ظهري وأخذت أفكر في الحظ الذي فتح لي أبوابه أخيرا، والفرص السانحة أمامي والتي ستصل بي إلى القمة لو أحسنت استغلالها ... فجأة وصل إلى مسامعي دقات خافتة على الباب، فنهضت عن فراشي وأنا أصيح بصوت مرتفع:
-          من؟
لم أتلق إجابة ... كررت السؤال مرة أخرى فلم أتلق إجابة أيضا ... تحركت ناحية الباب وكثير من الأفكار تعترك داخل ذهني حول ماهية هذا الطارق الغامض، وقفت أمام الباب، ترددت لحظة في فتحه، قبل أن أتذكر تعويذة جلب الحبيب التي أطلقتها منذ ساعة، فوضعت يدي على المقبض وفتحت الباب بسرعة ولهفة وأنا أردد:
-          من؟
نظرت في وجه الطارق ... قبل أن تنطلق صرختي عالية، مدوية، لتضع نهاية لتلك الليلة المليئة بالأحداث والمفاجآت.
.. (انتهى الجزء الأول ويليه الجزء الثاني) ..


قصة رعب بعنوان ... (اللعنة – الجزء الثاني)
ملخص ما سبق ... يخشى الناس مزرعتي التي ورثتها عن أبي وجدي ويصفونها بأن عليها لعنة من الجن، وهو شئ لم أرى عليه أي علامة في الماضي ... نصحني البعض بالتخلص من تلك الأرض فقيرة الثمار ولكنني لم أفعل، فقد تذكرت وصية أبي لي، والسر الذي أخبره به أبيه وجدي من قبل عن أن تلك الأرض تحوي في باطنها كنز كبير من الذهب والفضة ... وأخيرا ابتسم لي الحظ وكافأني على صبري، فعثرت فيها على ذلك الصندوق الأثري الذي يحوي بداخلة مجموعة من كتب السحر، وعقد ثمين من الذهب المرصع بأنقى الجواهر ... جربت تعويذة من أحد الكتب لجلب الحبيب! وها هو شخص ما يطرق باب منزلي قبل الفجر بنصف ساعة، فتحت الباب في فضول قبل ان تنطلق صرختي فزعة، مدوية...
.
انطلقت صرختي فزعة، مدوية فقاطعها ذلك الصوت الذي يحوي الكثير من الأنوثة والدلال وهو يقول:
-          لماذا تصرخ؟
نظرت إلى تلك المرأة التي تقف وراء الباب بشعرها الأسود الغجري المنسدل على كتفيها وجمالها وأنوثتها اللذان يزيدهما ذلك الغموض الذي تصنعه ألوان المكياج القاتمة التي تستخدمها، وطلاء الأظافر أسود الذي يغطي أظافر يديها وقدميها الحافيتين بلا حذاء! وثوبها الأسود اللامع الذي يمتد إلى ما دون ركبتيها ... تنحنحت بحرج وأنا أقول معتذرا:
-          آسف ... لا أدري ... قد تكون المفاجأة!
في الواقع كنت أعرف السبب الذي جعلني أطلق تلك الصرخات؛ ففي اللحظة التي فتحت فيها الباب، خيل لي أنني أرى أمامي مخلوق مرعب بجسد إمرأة، ورأس كالسنوريات المفترسة، يشبه رأس ذلك الفهد الأسود النادر الذي يعيش في غابات القارة الأمريكية الجنوبية، كان ينظر لي بعينين مشقوقتين طوليا نظرات مرعبة، ألقت الرعب في روعي وجعلتني أصرخ تلك الصرخات ... الغريب أنه ما أن رمشت عيناي حتى تحول ذلك المخلوق إلى تلك المرأة فائقة الأنوثة التي تقف أمامي الآن، تنظر لي نظرات ناعمة، مغوية وهي تقول:
-          ألن تدعوني للدخول؟ ... لقد جئت ملبية لدعوتك.
ترددت للحظة، فقد كان جسدي مازال يرتعد من أثر المفاجأة، ولكنني وجدت نفسي أتراجع للخلف وهي تلاحقني للداخل وتقترب مني في خطوات مغوية، قبل ان تلقي بجسدها الرقيق في حضني وتحوطني بذراعيها بنشوة ... فكرت أن أخبرها بأنني لم أدعها ولكنني دعوت جارتي الطيبة التي أحبها ولكنها لا تعيرني اهتماما، ولكن دفء جسدها في جسدي البارد جعلني أكتم تلك الكلمات وأتراجع عن قول أي شئ يخرجني من تلك اللحظة ... فجأة وقعت عيناي على المرآة الموجودة في الناحية الأخرى من الغرفة، فاجتاحني رعب هائل أطلق فيض من القشعريرة في جسدي، فانتصب شعر رأسي وساعداي وشعرت بأن روحي على وشك أن تقفز من حلقي؛ فأمامي في المرآة كانت صورتي وأنا احتضن في بلاهة ذلك المخلوق المرعب ذو الرأس السنوري والجسد البشري المغطى بالفراء الأسود، يحوطني بيدين تنتهيان بمخالب بارزة ومرعبة، فصرخت في فزع وأنا أحاول دفعه أو دفعها بعيدا عني وأنا اقول في صوت مرتعد:
-          ابتعدي عني ياملعونة.
ولكنها لم تبتعد، بل قبضت بمخالبها على ذراعي وبقوة كبيرة آلمتني وجعلتني أصرخ صرخات طويلة مستغيثة، قبل أن استيقظ من النوم، لأجد نفسي في فراشي وغرفة نومي ... هل كان هذا كله حلما أو كابوسا مرعبا؟ ... ولكنه كان شديد الوضوح بدرجة مخيفة ... أضأت مصباح الفراش والتقطت زجاجة المياة التي أضعها دائما إلى جوار فراشي، وأخذت أتجرع منها في نهم، فقد كنت اشعر بعطش هائل وبأن حلقي قد تحول إلى صخرة جافة، رغم ذلك العرق البارد الذي يغطي جسدي وثوبي ... شعرت بآلام في ذراعي، فرفعت كم منامتي، فهالني رؤية تلك الآثار على ذراعي ... آثار احتراق خماسية تبدو كالأصابع على كلا الذراعين، تؤلمني وبشدة ... شعرت بفزع شديد، ووجدت نفسي أقول بصوت مرتجف:
-          اللعنة ... ما الذي يحدث لي؟
***
قبل مائة عام من الآن ... في العقد الثاني تحديدا من القرن العشرين، حيث تفوح رائحة الظلم والثورات في كل مكان ... نظر ذلك الخولي غليظ الملامح إلى مجموعة من الفلاحين من أهل القرية يعملون في أرض (الباشا) مقابل أجر زهيد لا يقيم أودهم، ولا يضمن لعائلاتهم كفاف الحياة ... وقال لهم بحدة:
-          لماذا توقفتم عن العمل؟
أجاب شاب متحمس من بينهم:
-          الجو حار، والشمس حارقة ... كنا نرتاح لدقيقة من إرهاق العمل.
-          لا توقف إلا بأوامري.
رغم أن ذلك الخولي كان من أهل القرية، وكان حاله كحالهم من سنوات ليست بالبعيدة، إلا أن عمله لدى (الباشا) في هذا المنصب، وشعوره بانه يتحكم في أرزاقهم جعله أكثر قسوة وغلظة من (الباشا) نفسه ... فحدق الخولي في الشاب بنظرة كريهة وهو يردف:
-          ومن لا يعجبه هذا فليرحل من هنا ... (الباب يفوت جمل).
ارتسم الذعر على وجوه الفلاحين من هذا التهديد، فتراجعوا للعمل واحدا وراء الآخر، ماعدا هذا الشاب المتحمس الذي أخذ ينظر للخولي نظرات متحدية، فبادره الأخير قائلا:
-          من الواضح أن كلامي لا يعجبك يا (شرقاوي).
فأجاب الشاب:
-          دقيقة من الراحة لن تضر أحدا.
واستدار ببطء موليا ظهره للخولي، ومتجها بخطوات ثقيلة عائدا إلى العمل، فوصله صوت الخولي وهو يقول بحدة:
-          لا يعجبك كلامي ... هه ... كنت أعرف من البداية أن عائلة (الشرقاوي) لا يأتي منها غير المشاكل ومع ذلك سمحت لك بالعمل.
نظر له الشاب بتحد، وهو يقول بصوت أكثر حدة:
-          ومالها عائلة (الشرقاوي)؟
ارتسم الخوف على وجه الخولي من ثورة الشاب، فقال بصوت خافت:
-          لاشئ ... ولكنك لن تعمل في أرض (الباشا) مرة أخرى ... هيا ارحل من هنا.
عبث الغضب والشعور بالظلم بروح الشاب الثائرة المتحمسة، فوجد نفسه يندفع ويهجم على الخولي الظالم، وهو يمسك بخناقتيه، ويطلق في وجهه فيضا من السباب ... أخذ الخولي يرتعد وهو يحاول تخليص نفسه من قبضتي الشاب القويتين، وهو يستغيث بالحضور، الذين تدخلوا لإنقاذه من براثن الشاب الغاضب، الثائر ... صرخ الشاب وهو يدفعه بعيدا وهو يقول:
-          الله الغني عن هذا العمل المذل ... سأترك لك أرض (الباشا) لتمرح فيها، بل سأترك لك القرية كلها فأرض الله واسعة.
ابتعد الشاب وسط حالة من الصمت والوجوم، وما أن اختفى حتى تبدلت نظرة الذعر على عيني الخولي وعاد إليهما نظرته القاسية وهو يأمر الجمع بالعودة للعمل، فعادوا صاغرين!
***
-          الأستاذ (حسام الشرقاوي) تليفون في مكتب الناظر.
نظر (حسام) إلى الأطفال الذين اكتظ بهم الفصل الدراسي، وإلى نظرتي الغباء والحيرة المرتسمتين على الوجوه، علامة على أنهم لم يفهموا أي شئ مما بح صوته وهو يشرحه لهم في الساعة الأخيرة، كالعادة! ... التفت إلى الفراش الذي جاء ليخبره بوجود مكالمة تليفونية في انتظاره في مكتب الناظر وهو يومئ له برأسه بأنه قادم ... تبدلت النظرة على وجوده الأطفال بنظرة سعادة وشقاوة لاستراحتهم لدقائق ذلك الدرس السمج، فاشار لهم (حسام) بسبابته متوعدا وهو يقول:
-          سأعود بعد دقيقة، لو سمعت صوت واحد، تعرفون ما سأفعله.
وصل (حسام) إلى مكتب الناظر وهو يتحسس هاتفه المحمول، متسائلا في داخله، لماذا لم يكلمه المتصل على هاتفه المحمول، بدلا من أن يتصل به على تليفون المدرسة؟ ... أمسك (حسام) بالسماعة متجاهلا نظرات الناظر المهددة، المتوعدة دون أي سبب يدعو لذلك وكأنها جزء اساسي من شخصية ناظر المدرسة التقليدية ... قال (حسام) مخاطبا محدثه:
-          من؟
فأجابه المتصل من الطرف الآخر:
-          أنا أتحدث إليك من مزرعة الدجاج المجاورة لأرضك.
شعر (حسام) بالقلق، فسأله بصوت متوتر:
-          خير ... هل هناك مشكلة؟
-          أجل يا (باشا)، لقد اشتعلت النيران في بعض شجيرات الفاكهة!
***
عندما غادر الشاب (الشرقاوي) القرية يحمل القليل مما يملكه من المتاع كان يعرف إلى أين سيتوجه تحديدا ... هو لن يبتعد كثيرا، فقط بضعة أميال إلى تلك الأرض المهجورة التي يخشاها أهل القرية ويتناقلون بينهم الأخبار عن لعنة الجن التي أصابتها ... هو بروحه الثائرة، المتمردة لا يخشى اللعنة وكثيرا ما جاء إليها ليقضي فيها بعض الساعات وحيدا بعيدا عن الجميع متناسيا هموم حياته القاسية، لم يرى فيها جن ولم تصبه منها لعنة، وكثيرا ما سخر من حمق أهل القرية لنبذهم لتلك الأرض وزهدهم فيها لمجرد أساطير وقصص لا دليل على صحتها، وذلك رغم كونها أرض صالحة للزراعة وبها مصدر للمياة يصلح لريها لمواسم عديدة، ذلك البئر المتدفق بالمياة العذبة في منتصفها، حتى أن بعض النباتات والشجيرات نمت فيها بالفعل وأثمرت دون وجود من يرعاها، فما بالك لو رعاها وولاها فلاح خبير مثله، من نسل فلاحين يمتد إلى عشرات الأجيال ...
تحققت مساعي (الشرقاوي) ونجحت خطته، ووجوده على مسافة ليست بالعيدة عن قريته سهل من مهمته بشكل كبير ... فبعد شهور قلية كان قد نجح في حرث الأرض وتقسيمها وبذر البذور بها، تلك البذور التي بدأت بالفعل تنبت طلعا يعد بمحصول جيد ... شئ واحد أثار ريبته في تلك الأرض، هو ذلك الذئب شديد السواد الذي يراقبه من مسافة قريبة بعينين لا ترمشان ... في المرة الأولى التي رآه فيها شعر بالخوف الشديد وهرب من الأرض موليا، فلم يتبعه الذئب، ولكنه شعر بالندم من جبنه فعاد مرة أخرى إليها بإصرار وهو يحمل في يده عصا غليظة، وعندما ظهر الذئب قرر مواجهته وهدده بالعصا، فلم يبد أن الذئب يخاف منه أو من العصا وهو يراقبه بنفس الطريقة وبنفس العينين الحادتين ... رمى (الشرقاوي) العصا جانبا، وألقى للذئب ببعض اللقيمات فلم يقترب منها وبقى على حاله ... عندها عرف (الشرقاوي) أن هناك مايريب بخصوص هذا الذئب، ولكن مادام لا يفعل شيئا أكثر من مراقبته فلا ضير من ذلك، وبهذا اعتاد (الشرقاوي) وجود الذئب وأصبح يشعر بالغرابة إذا مر يوم أو يومان دون ظهوره.
كان المحصول الأول جيدا، شعر (الشرقاوي) بالسعادة الهائلة وهو يحصد المحصول بيده ... للمرة الأولى يعمل في أرضه هو، ويكون حصادها له هو وحده وليس (لباشا) من الباشوات، ودون مضايقة من خادميهم كالخولي وأمثاله ... يشعر أنه قد مزق قيد العبودية ويتذوق حلاوة الحرية وحده، ليت قومه يتذوقونها مثله ... لم يخبر أحدا بما يفعله، كان يعرف أن السر لو ذاع وانتشر بين الناس سيصل إلى أصحاب النفوذ، الذين سيضعون حتما إيديهم على أرضه، فيعود هو أجيرا فيها، ويتحكمون هم في حياته ومصيره من جديد ... لهذا كانت مفاجأة له في ذلك النهار عندما وصل إلى مسامعه صوتا يقول:
-          السلام عليكم.
كان ذلك الصوت لشاب غريب عن المنطقة، تبدو من ثيابه الرثة وبشرته التي لفحتها الشمس بسمرتها، وبكفيه الخشنتين أنه فلاح فقير مثله تماما ... فسأله بقلق:
-          من أنت؟ وماذا تفعل هنا؟
-          أنا عبد فقير، أبحث عن مأوى وعمل؟
-          وما اسمك؟
-          (رفاعي).
كان (الشرقاوي) يحدجه بنظرات متفحصه من رأسه حتى أخمص قدميه، ولمح في عينيه ذلك الذعر الذي يعرفه تماما، فسأله:
-          ومما تفر يا (رفاعي)؟
فوجئ (رفاعي) بهذا السؤال، ولكنه أجاب بسرعة:
-          من الظلم.
كانت تلك الكلمة وحالة (رفاعي) البائسة التي ذكرت (الشرقاوي) بنفسه، هما اللتان جعلتاه يوافق على السماح (لرفاعي) بالعمل معه في الأرض مقابل نسبة من ثمار الحصاد، رغم أنه يشعر في قرارة نفسه بأن هناك شئ غير مريح ومريب بخصوص (رفاعي) هذا!
في موسم الحصاد التالي كان الحصاد أجزى وأكثر بمساعدة (رفاعي) المجتهد في الزراعة ... لم يختلف (رفاعي) كثيرا بصمته وإقلاله في الحديث ورفضه للتحدث عن ماضيه، عن ذلك الذئب الذي ظل على حاله يراقب (الشرقاوي) بعينين لا ترمشان، ولكن هناك شئ في (رفاعي) ونظراته الزائغة، القلقة، التي تنبأ بأنه يبحث عن شئ ما أو ينتظر قدوم شئ جعل (الشرقاوي) لا يشعر بالراحة ... ولكن (الشرقاوي) اعتاد على الحياة معهما ووجدها حياة جميلة إذا قارنها بحياته الماضية، حتى جاء ذلك اليوم الذي اصطدم فأس (الشرقاوي) فيه بجسم صلب وهو يغرس شجيرة كما اعتاد كل فترة على أمل أن تنمو وتثمر بالفاكهة ويصبح لديه حديقة للفاكهة بعد سنوات ... في البداية ظن أنها صخرة قاسية ولكن عندما حفر ظهرت له تلك الجرة الفخارية، أخرجها بلهفة بعد أن انضم له (رفاعي) الذي تغيرت ملامحه واكتست بإمارات الشهوة والظفرة ... عندما عادا إلى الغرفة الطينية التي بناها (الشرقاوي) لإقامتهما، وكسر الجرة فسقط منها عدد كبير من العملات الذهبية المدموغة التي تعود لعصر قديم عليها صورة رجل يرتدي عمامة كبيرة، وسقط أيضا من الجرة صندوق صغير من الفضة فتحه (الشرقاوي) فوجد فيه عقد من الذهب مرصع بالأحجار الكريمة تبرق بألوان مختلفة.
شعور رائع اعترى (الشرقاوي) وحالة من النشوى تملكته بفعل هذه الثروة الهائلة التي أصبحت بين يديه، إنها أموال كثيرة لا يستطيع عقله أن يحيط بها علما، أو أن يتخيل ما الذي يمكن أن يفعله بها! فهو في عمره كله لم يدخر يوما مبلغ يزيد عن القروش الخمسة ...نام (الشرقاوي) في تلك الليلة والأحلام الجميلة والخيالات العذبة تداعب ذهنة، ولكنه عندما صحا في اليوم التالي اكتشف أن (رفاعي) قد رحل وأخذ معه تلك العلبة الفضية والعقد المرصع الذي كان فيها، وترك وراءه الجرة بكل ماكان فيها من عملات ذهبية ... وقبل أن يعتزم التحرك في أثر (رفاعي) واللحاق به واستعادة ثروته التي سرقها، اشتعلت النار في الأرض ... انتشرت بشكل غريب غير مفهوم في أماكن متفرقة، ثم بدأت تمتد حتى حاصرت (الشرقاوي) في مركزها وأخذت تقترب منه.
شعر (الشرقاوي) أن نهايته قد اقتربت فكل محاولته الفاشلة الهزيلة لإيقاف اقتراب دائرة النار منه أو تجاوزها فشلت تماما، وبدأت النار المشتعلة تلهب وجه وجسده زهي تقترب منه في نهم... وفجأة ومن وسط تلك النيران ظهر ذلك الذئب الأسود، وعبرها ببساطة وهدوء دون أن تؤذيه، واقترب من (الشرقاوي) الذي أقعى على ركبتيه بعد أن أجهدته النيران وغياب الهواء عن صدره ... اقترب الذئب منه حتى صار على بعد خطوة واحدة منه، وهي المرة الأولى التي يقترب منه إلى هذا الحد، نظر إليه (الشرقاوي) بعينين زائغتين تهتز أمامهم الموجودات، للحظات ظل الذئب يرمقه دون أي انفعالات، فقال (الشرقاوي) بصوت ضعيف خائر:
-          ماذا تريد مني؟
فجأة، بدأ جسد الذئب يستطيل ويتضخم، قبل أن ينتصب على قدميه ويتحول إلى صورة أخرى ... صورة مرعبة للغاية ...
.. (انتهى الجزء الثاني ويليه الجزء الثالث) ..


قصة رعب بعنوان ... (اللعنة – الجزء الثالث)
ملخص ما سبق ... أعثر في باطن مزرعتي على صندوق خشبي أثري يحتوي على عقد ذهبي مرصع بالأحجار الكريمة، يلي ذلك حدوث بعض الظواهر الغريبة، آخرها اشتعال النيران في بعض أشجار الفاكهة في المزرعة دون سبب واضح ... هذه المزرعة التي لجأ إليها جدي من مائة عام هربا من الظلم، وأقام بها، وقام باستصلاحها وزراعتها بنفسه، قبل أن يعثر فيها هو أيضا على جرة تحوي عملات ذهبية ونفس العقد الغامض!.. يستيقظ جدي في اليوم التالي على اختفاء مساعده ومعه العقد، وقبل أن يتحرك جدي في أثره تشتعل النيران في الأرض وتمتد لتحاصره حتى ظن أنه موشك على الموت، وفجأة يظهر  له ذلك الذئب الشديد السواد، ويقترب منه قبل أن ينتصب على قدميه، ويستطيل جسده متحولا إلى شئ آخر ... شئ مرعب!
.
شهدت بدايات  القرن السادس عشر الميلادي انتصار العثمانيين على المماليك فى موقعة (مرج دابق)، وقتلوا الحاكم (قنسوة الغوري) ... فبايع المماليك نائبه (تومان باي) الذي جهز جيشه، وخرج لمقابلة العثمانين خارج القاهرة فى منطقة (الريدانية) ... قام (تومان باي) بتحصين الموقع، وحفر الخنادق استعدادا للقاء العثمانيين ... وعندما أدرك العثمانيون خطته، تحاشوا (الريدانية)، وتوجهوا نحو (القاهرة) مباشرة، فتبعهم (تومان باي) بجيشه حتى قابلهم فى معركة طاحنة، انتصر فيها العثمانيون رغم مقتل قائدهم (سنان) باشا ... دخل العثمانيون القاهرة، وبدأت حرب الشوارع فى طرقات المدينة، قبل أن تنتهي بنصر العثمانين، ومقتل ما يزيد عن خمسين ألف جندي، بعد أن أمطروهم برصاص البنادق من أعلى مآذن مدينة الألف مأذنه (القاهرة)، وأعدم (تومان باي) شنقا على باب زويلة.
أمر قائد السارية الثمانية وعشرون جنديا الذي تبقوا بعد مقتل أكثر من سبعين آخرين على يد العثمانيين بالانسحاب نحو الجنوب، على أمل النجاة من أتون تلك المعركة التي أتت على معظم جيش المماليك ... ساروا لمدة يومين كاملين دون توقف بمحاذات نهر النيل حتى قابلوا قرية صغيرة فى وسط الصحراء أهلها من الغجر الذين استوطنوا المنطقة على غير عادات الغجر المعروفة بدوام الترحال ... دخلوا القرية ففر أهلها إلى بيوتهم، فنادى القائد على كبيرهم ليتحدث إليه وآمنه على نفسه ... خرجت له إمرأة في العقد الخامس من العمر على درجة من الجمال ترتدي قرطا مفردا في أنفها، تضع على رأسها وشاح ملون يغطي نصف شعرها الذهبي، نظرت للقائد بعينين زرقاوين تحملان تأثيرا قويا، وهي تقول:
-          أنا كبيرة هذه القرية، ما الذي جاء بجند السلطان إلى قريتنا؟
قال لها القائد بصوت قوي:
-          جئنا قاصدين الإقامة هنا لأيام ثم نرحل، تقدمون فيها لنا الطعام و الشراب.
نظرت المرأة إلى من حولها من أهل القرية من الرجال والنساء، الذين بدؤا يخرجون من بيوتهم وخيامهم ويتراصون خلفها، ثم تحولت إلى القائد وهي تقول:
-          وما المقابل؟.. نحن لا نقدم شيئا بالمجان فى قريتنا، هذا هو عرف الغجر.
اقترب القائد منها، ثم استل سيفه بسرعة ووضعه على رقبتها وهو يقول:
-          حياتك، وحياة أهل القرية ... هذا هو المقابل.
دفعت المرأة حد السيف عن رقبتها في لامبالاة وهي تقول بنفس القوة:
-          تدفع المال تحصل على الطعام ... لا تفعل، لا تحصل على شئ.
ارتج على القائد من جرأة الغجرية، فنظر إلى جنوده المنهكين، خائري القوة، قبل أن يقول وهو يشيح بكلتا يديه في غضب:
-          حسنا ... سنفعل.
ثم أخرج من ثوبه صرة وألقاها إليها، فالتقطتها المرأة ببراعة، وفتحتها لتحصي العملات الذهبية التي فيها، قبل أن تنظر إلى قومها وتومئ لهم بابتسامة ظافرة، فعلا الارتياح وجه الجميع ... توجهت المرأة الغجرية إلى بيتها، وبدأ أهل القرية يجلبون الحصير ويفرشونها ويضعون عليها صحف تحمل بعض الخبز والجبن والعسل واللبن، ودعوا الجند للأكل، فانقضوا على الطعام والشراب في نهم ... تنبه القائد إلى أن من يجلبون الطعام من الذكور، أما النساء فقد عدن جميعا إلى البيوت، نادى القائد على أحد الرجال تبدو عليه الضخامة والحمق وسأله:
-          لماذا لا تخدمنا النساء؟
فنظر له الضخم نظرة مستنكرة وهو يجيب بصوت خافت:
-          نساؤنا لا يخدمن أحد، السلطة هنا في قريتنا لهن، وللأم التي تحمينا بقدراتها وبصلاتها.
-          هل هي ساحرة؟
-          كلهن كذلك!
كان الجنود قد انتهوا من الطعام، فنهض القائد ودعاهم للنهوض، ثم وجه حديثه للغجري الضخم:
-          قل لتلك المرأة المخبولة، أننا سنقيم خيامنا خارج قريتكم لأيام قليلة، وعليها أن تجلب لنا الطعام والشراب، في الصباح والمساء.
***
عدت إلى منزلي وأنا أشعر بالضيق، كنت قبل ساعات قد هرعت إلى المزرعة بعد أن أخبروني بأن النيران تشتعل في أشجارها، وعندما وصلت إلى هناك كان عمال مزرعة الدجاج المجاورة قد نجحوا في إخماد النيران بعد أن أتت على ثلاثة من أشجار الفاكهة، تلك الأشجار التي يزيد عمرها على عمري، غرسها جدي (الشرقاوي) الكبير من سنوات طويلة وأضاف عليها أبي ... أنا أعرفها شجرة شجرة، بل أنني كنت أدعوها بأسماء تخيلية عندما كنت طفلا صغيرا ... أشعر بحزن، وكأنني فقد فردا من أفراد عائلتي ... الغريب أن الثلاثة أشجار كانت على مسافات بعيدة من بعضها البعض، ومن الصعب أن تكون شرارة النار قد انتقلت من واحدة منها إلى الأخرى متجاوزة عشرات الأشجار فيما بينها ... يقول عمال مزرعة الدجاج أن النار اشتعلت في الأولى وما أن أخمدوها حتى شبت في أخرى على مسافة كبيرة من الأولى، وعندما أخمدوها انتقلت للثالثة!.. أي جنون هذا؟ ... بالتأكيد هذا الأمر بفعل فاعل ... من الأفضل أن أطلب من (رفاعي) ملاحظة المزرعة بشكل جيد في الفترة القادمة، المشكلة أنني عندما سألت عليه عمال مزرعة الدجاج، أخبروني جميعا بأنهم لا يعرفون شخصا بهذا الاسم، من الواضح أنهم عمال جدد! ... المزيد من الغموض والغرابة ... ما الذي يحدث بحق؟
كنت أجلس على مقعد خشبي أمام الطاولة الملقى عليها كتب السحر التي أخرجتها من الصندوق بالأمس، جمعت الكتب وقمت بإعادتها للصندوق، وأنا أتمتم متذكرا تجربة الأمس التي مازالت آثارها على ذراعي:
-          السحر شئ خطر، وخصوصا إذا قام به الحمقى أمثالي.
فجأة، سقطت من أحد الكتب بضعة وريقات صفراء عتيقة كانت مطوية داخله، التقطتها فوجدتها خطاب من عدة أوراق تبدء أولها بتوجيه (إلى إبني الحبيب وأحفادي من بعده) ... وتنتهي آخرها بتلك الكلمات (وهكذا استعدت السر، وأعدته إلى مكانه حتى لا تنطلق اللعنة من عقالها فتأتي على الأخضر واليابس ... هكذا يابني أنقل إليك السر، وعليك أن تحفظ العهد وتمنع اللعنة من الانطلاق مجددا وعليك أن توصي أولادك بذلك، وليفعلوا مثلك مع أولادهم، فقد حملنا الأمانة وعلينا أن نحملها ... أباك المحب) ... ويلي ذلك توقيع جدي باسمه.
للحظات أمسكت بتلك الوريقات بأصابع مرتعدة ... تلك الوريقات تحوي بين سطورها القصة والسر، علي أن أقرأها، ولكنني أشعر بالخوف، اشتاق لفعل ذلك ويدفعني الفضول، ولكن هناك في مؤخرة عقلي خلايا عاقلة تحاول تحذيري من قرائتها ... عزمت أمري في النهاية وقررت أن أعرف السر وأقرأ الخطاب.
***
صحا قائد سارية المماليك على صياح الجنود، قبل أن يدلف أحدهم  إلى خيمته ليخبره أن رجل عجوز من الغجر يريد مقابلته ... خرج القائد من خيمته بعد أن ارتدى ثيابه ليقابل رجل عجوز يرتدي أثمالا بالية، يقف منحنيا، ومن ورائه حماره الذي يحمل على ظهره بعض المؤن والمعدات ...  قال أحد الجنود بغلظة:
-          حسبناه يقصد القرية و لكنه جاوزها إلى معسكرنا وطلب لقاءكم.
نظر القائد في استهانة إلى العجوز وهو يقول:
-          ماذا تريد؟
أجابه العجوز بصوت ناعم خبيث كحفيف الثعبان:
-          أنا لا أريد ... ولكنني أحمل معي شيئا تريدونه؟
أطلق القائد ضحكة متهكمة وهو يتساءل:
-          وماذا تحمل أيها العجوز ... أنت عاجز حتى عن حمل ثيابك فوق جسدك؟
-          سر ... سر القوة ... سر من يعرفه يكون أقوى إنسان في هذه الأرض.
ثم أشار بسبابته ناحية قرية الغجر وهو يقول:
-          سر دفنته ساحرة القرية اللعينة أسفل بيتها.
كان كلام العجوز وطريقته مغويتان، حتى أن القائد والجنود انتبهوا لكلامه وبدأ الفضول والطمع يلتمعان في عيونهم، قبل أن يقول القائد:
-          ومن أنت لتعرف أسرارهم؟
فأجاب العجوز ببساطة:
-          كنت منهم حتى طردتني تلك اللعينة وأخذت بيتي وأموالي.
-          وهل ستفشي السر بهذه البساطة؟
-          أجل، إنها تستحق، بل جميعهم يستحقون.
فكر القائد للحظة، ثم قال:
-          وما هو هذا السر الذي يجعل صاحبه الأقوى؟
صمت العجوز لثوان ليثير فضول الحاضرين، ثم توجه ببصره ناحية الأفق، وقال بنفس الصوت المنوم، المغوي:
-          سكن البشر تلك الأرض من آلاف السنين، ولكنها كانت مسكونه قبل ذلك بفترة طويلة، كانت مسكونة حتى قبل أن يخلق البشر ويستعمروا الأرض!.. سكنتها خمس عائلات من الجن، استعرت الحرب بينهم لدهور طويلة، كل عائلة تبغي الملك والغلبة على العائلات الأخرى، وفي سبيل ذلك سالت الدماء أنهارا  لآلاف السنين، ثم جاء الحكيم وصنع عقدا من الذهب وجعل كل عائلة تجلب حجرا ثمينا هو أثمن ما تملك، حجر يملك قدرة هائلة في حد ذاته، ثم جمعها جميعا في ذلك العقد الذي يحوي قوة الخمس عائلات،(عقد القوة) ، ودفنه في تلك الأرض وألقى عليه لعنة بأن لا يستطيع أحدهم أن يحصل على القوة وحده، وهكذا طالما ظل هذا العقد مدفونا سيعم السلام بين تلك العائلات...
بدا عدم التصديق على وجه القائد وهو يقول:
-          إذا كان أحد لا يستطيع الحصول على العقد ... فما الفائدة من إخبارك لي بكل هذا؟
أجاب العجوز:
-          هذا كان قبل أن يصل البشر إلى الأرض ... ولكن ما عرفته عائلات الجن بعدها أن هذه اللعنة لا تسري على البشر، حيث يستطيع أي إنسان من بني آدم استخراج العقد وارتداؤه لتكون له قوة هائلة تفوق البحر والجبال مجتمعين، قوة خمس عائلات من الجن.
ازدرد القائد ريقه وهو يتسائل:
-          وهل فعلها بشري من قبل؟
بدت نظرة شهوة عابرة في عيني العجوز الذابلتين، قبل أن يخفيها بسرعة وهو يقول:
-          ستكون أنت الأول ياسيدي.
تذكر القائد شيئا، فانعقد حاجباه وهو يقول:
-          إذا كان العقد في حوزة الغجر فلماذا لا يستخدمون قوته لمصلحتهم.
أجاب العجوز بسرعة:
-          بسبب العهد.
-          العهد.
-          أجل ... هناك عهد بين عائلات الجن ونسل من البشر لحماية العقد والحفاظ عليه، وألا يمنحوه لأي عائلة منفردة حتى يظل السلام بينهم ... في مقابل هذا العهد الذي قطعه هؤلاء البشر على أنفسهم لا يمكن لهم أن يتملكوا تلك القوة ... ولكن يمكن ذلك لغيرهم.
بدا التفكير العميق على وجه القائد وهو يقلب كلمات العجوز في عقله، فاقترب العجوز منه ووسوس في أذنيه:
-          ستكون أنت ياسيدي أول بشري يمتلك كل تلك القوة ... سيخضع لك الملوك والسلاطين ويركعون تحت قدميك، ستدين لك المدائن والبلاد والعباد.
تبدلت ملامح القائد، واكتسى وجهه بإمارات الشهوة والطمع، قبل أن يتحول إلى العجوز قائلا:
-          إذا ستدلنا على مكان ذلك العقد ... يا ... ما اسمك؟
-          (رفاعي) يا سيدي ... اسمي (رفاعي).
***
أمسكت بالوريقات وبدأت في قراءتها، ومع كل سطر أقرؤه من قصة جدي تتكشف لي الحقيقة تدريجيا، فيرتعد جسدي وأشعر بالخوف أكثر وأكثر، كنت أقول أنني شاب مثقف ولا أصدق في قصص الجن والأشباح، من الواضح انني منغمس في إحداها الآن، وما حدث في الأيام الماضية كان مجرد إرهاصات ومؤشرات لما أنا مقدم عليه ... كنت قد وصلت إلى ذلك الجزء الذي حاصرت النار فيه جدي واقترب منه الذئب وتغيرت هيئته إلى هيئة أخرى مرعبة ... ما هو الشئ المرعب أكثر من ذئب شديد السواد يفصله عن جدي بضعة أقدام!؟ .. يحكي جدي أن جسد ذلك الذئب استطال وتضخم وهو ينتصب واقفا على قدمية ليتحول إلى مخلوق يشبه البشر، يترفل في حرملة سوداء، بشرته رمادية بلون التراب، ورأسه صلعاء مدببة كأذنيه، أما عيناه فكانتا بلون الفحم إلا من شق طولي أبيض في منتصفهما في مكان البؤبؤ، أما أصابع يديه وقدميه فكانت تنتهي بمخالب معقوفة كالجوارح ... اقترب منه هذا المخلوق وأشار بيده إلى النار المتضرمة فانطفأت على الفور، ثم تحدث إليه بصوت قادم من أعماق الجحيم ... يقول جدي أن صوته وحده كان يكفي ليشيب شعر الرضيع .
***
قال المخلوق:
-          لقد خنت العهد يابن آدم.
فأجاب (الشرقاوي) بصوت مرتعد، خائر:
-          أي عهد؟ ... أنا لم أفعل شيئا.
اقترب المخلوق أكثر، فعادت الحرارة تلفح جسد (الشرقاوي)، قبل أن يقول:
-          عهد الدم ... أجدادك عاهدوا قومي على أن يحافظوا على (عقد القوة) بحياتهم ... لهذا سمحنا لك بأن تعيش هنا في هذه الأرض بالقرب منه ... وها أنت تخون العهد.
كان (الشرقاوي) يتلفت حوله كفأر واقع في مصيدة، قبل أن يقول:
-          هل تقصد جرة الذهب ... إنها في الداخل.
-          لا.
صرخ بها المخلوق بصوت قوي، متضخم، فأجفل (الشرقاوي) وانبطح على الأرض من الذعر، فأردف المخلوق:
-          (عقد القوة)،  ذو الأحجار الخمس.
-          أجل ... أجل ... لقد كان معي ولكن مساعدي سرقه وهرب ... كنت سأذهب في أثره ... قبل أن ... قبل أن.
أخذ (الشرقاوي) يتأتأ لثوان وهو يكرر الجملة الأخيرة، فصرخ فيه المخلوق:
-          وهل منحته العقد راضيا.
-          لا ... أقسم لك ... لقد سرقه.
صمت المخلوق للحظة، وبدا كأنه ارتاح لما قاله (الشرقاوي)، قبل أن يقول:
-          إذا أذهب في أثره، وسترجع حتما بالعقد ... رده حينها إلى مكانه، وحافظ عليه بحياتك وانقل العهد إلى أبناء دمك.
تنحنح (الشرقاوي) وقد استعاد روعه وهو يقول:
-          وماذا عن جرة الذهب؟
-          هي لك ... ولأبنائك من بعدك مثلها، ما حافظوا هم أيضا على العهد.
وما أن نطق المخلوق كلمته الأخيرة حتى تحور جسده من جديد إلى هيئة الذئب، قبل أن يولي (الشرقاوي) ظهرة وينطلق ليعدو مختفيا في الظلام.
***
توقفت عند ذلك السطر من الخطاب، كان جسدي متعرقا، وكنت ألهث من فرط الانفعال، ما زالت أمامي صفحة أخيرة لأقرأها وأعرف ما فعله جدي، وكيف استعاد العقد؟.. فجأة رن جرس الباب، فدسست الورقة الأخيرة في جيبي، ونهضت مسرعا لأفتح الباب لأرى القادم ... فتحت الباب، تلى ذلك لحظات عجزت فيها عن النطق وأنا أحدق في القادم، قبل أن أصرخ فيه بصوت حاد يختلط فيه الدهشة بالوجل:
-          (رفاعي) ... ما الذي جاء بك إلى هنا؟

 .. (انتهى الجزء الثالث ويليه الجزء الرابع والأخير) ..



قصة رعب بعنوان ... (اللعنة – الجزء الرابع والأخير)
ملخص ما سبق ... أرض ملعونة وعقد ذو خمس جواهر كريمة، يعطي لصاحبه قوة هائلة تجعل له قدرة فوق كل الجن والبشر، قوة تعادل قوة خمس عائلات من الجن مجتمعة!... قصة تبدء من قبل استعمار البشر للأرض، وتمتد خيوطها من عصر المماليك، وتنعقد أكثر في بدايات هذا القرن حيث ساد الظلم واندلعت  الثورات، حتى تصل إلى عصرنا الحالي، خيوط جميعها تنتهي إلى شخص واحد غامض اسمه (رفاعي)، شخص يغري قائد سارية المماليك بسلب (عقد القوة) من الغجر، وهو نفسه يسرق نفس العقد من (الشرقاوي)، ثم يعود في العصر الحالي ليخبر حفيد (الشرقاوي) بمكان العقد، ويفاجأة في منزله بغير موعد.
.
انطلقت سارية المماليك مع الأشعة الأولى للشمس نحو قرية الغجر وبصحبتهم (رفاعي) الثعبان العجوز ...  توجهوا مباشرة إلى بيت الساحرة الأم، حطم الجنود الباب بسهولة، فانطلقت الصرخات المستغيثة من نساء البيت، وحاول بعض الخدم من الذكور التصدي لهم، فذبحوهم ... كانت الأوامر واضحة من القائد، يجب أن نحصل على (عقد القوة) حتى لو سالت الدماء أنهارا ... وصلت أصوات الصرخات إلى أهالي القرية، فهبوا لنجدة زعيمتهم دون سلاح، فقابلهم الجنود بالسيوف والبنادق، فكانت المجزرة، وقتلوا عدد كبير منهم وفرت البقية بحياتهم إلى خارج القرية ... وقف قائد السارية خارج بيت الساحرة الأم، وسط بقعة كبيرة من دماء أهل القرية التي سفكت في الدقائق الأخيرة، وإلى جانبه وقف (رفاعي) يحاول إخفاء ابتسامته الشيطانية وسعادته بما يحدث ... دخل الجنود إلى البيت، ثم عادوا بعد ثوان وهم يدفعون الساحرة الأم، وقد تمزقت ثيابها وامتلأ جسدها بالكدمات والجروح الدامية، وألقوا بها تحت أقدام القائد ... كانت عيناها تفيضان بقدر هائل من الكراهية والاحتقار، وهي توجههما بإصرار وكبرياء إلى عيني القائد، الذي اقترب منها في خطوات واثقة وهو يقول:
-          أين العقد؟
بصقت في وجهه، فركلها بقدمة ركلة قوية، فانكفأت على وجهها، فأمسك بشعرها بقسوة وهو يجذبها نحوه مهددا:
-          أين العقد أيتها اللعينة؟
اقترب (رفاعي) من القائد، وهو يقول بصوت كالفحيح:
-          لا داعي لذلك ياسيدي ... مكان العقد معروف وأنا سأدلكم عليه.
صرخت الساحرة الأم:
-          أنت ... أنت أنا أعرفك.
ثم تحولت إلى قائد السارية وهي تصرخ:
-          ستصيبكم اللعنة جميعا بسببه ... ستصيبكم اللعنة.
نظر القائد إلى (رفاعي) فأشار له الأخير بحركة مرر فيها سبابته أسفل رقبته، فأشار القائد لأحد الجنود الذي هجم على الساحرة الأم، وجز رقبتها بسكين حاد، فانقطعت صرخاتها الهستيرية، وكان آخر ما قالته:
-          ستصيبكم اللعنة...
سقطت الساحرة الأم وغرقت في لجة من دمائها بعد أن صمتت إلى الأبد ... تخطى (رفاعي) جسدها وتوجه إلى داخل البيت وتبعه القائد والجنود، حتى وصل إلى بقعه محددة داخل البيت، وقال موجها حديثه للقائد:
-          احفروا هنا.
***
-          (رفاعي) ... ما الذي جاء بك إلى هنا؟
تلاقت عيني بعيني (رفاعي) في نظرات طويلة متفحصة، قبل أن انتبه إلى أن هناك شئ مختلف بخصوص (رفاعي)، هل هي تلك الحياة والثقة في ناظرية، وقد حلت محل الضعف وانهاك السنين؟ أم هو جذعه الذي صار معتدلا بعد أن كان منحنيا، عاجزا؟ ... قال (رفاعي) بصوت قوي يختلف عن صوته المعتل، الضعيف:
-          ألن تدعوني للدخول؟
-          تفضل.
دخلت المنزل ومن خلفي (رفاعي)، فوقعت عيناه على الصندوق الأثري فوق الطاولة، فقال:
-          إذا فقد وجدت الكنز.
شعرت بالقلق والتوتر وأنا أجيب:
-          وجدت هذا الصندوق فقط ... ليس فيه إلا بعض كتب السحر العتيقة.
أطلق (رفاعي) ضحكة ساخرة وهو يقول:
-          إنها كتب جدك ... هل تعلم السبب الذي دفع جدك لتعلم السحر؟
-          لا.
قال (رفاعي) بصوت مخيف:
-          كان يظن أننا سنتقابل مرة ثانية.
شعرت بحضور (رفاعي) الثقيل يجثم على صدري وتمنيت أن يرحل، فقلت له بصوت خرج دون إرادتي خافت، متردد:
-          ماذا تريد يا (رفاعي)؟ هل هناك مشكلة بخصوص المزرعة؟
رمقني  (رفاعي) بنظرات حادة، أحسست بها تخترق جسدي، ثم قال وقد علا ثغره ابتسامة خبيثة:
-          أنت تعرف ماذا أريد؟
-          وماذا تريد؟
-          العقد.
ألجمتني تلك الصراحة الفجة فلم أدر بماذا أجيب؟.. فبادرني قائلا:
-          من الواضح أن الكروت قد صارت مكشوفة، ولكن مازال لدي كارت ومفاجأة أخيرة.
-          وما هي؟
***
ضربات هينة بالفؤوس في الأرض الطينية، أخرج بعدها الجنود العلبة الفضية، وناولها أحدهم إلى القائد الذي التقفها منه في شهوة، أما (رفاعي) فقد تراجع خطوات للخلف، وعلى وجهه ارتسمت أبشع آيات الظفر والقسوة ... فتح قائد سارية المماليك العلبة، وأخرج منها العقد الذهبي، فالتمعت أحجاره الخمس بألوان مختلفة، أزاغت عينه وأعين الجنود الذين تحلقوا حوله ... رفع القائد العقد وأدناه من رأسه ليضعه حول عنقه، ولكن سبقه إلى عنقه ضربة سيف أطاحت برأسه لأمتار عديدة، ذهل الجنود من المفاجأة، فقد جاءت الضربة من الرجل الثاني في السارية وأعلاهم رتبة، وأكثرهم ولاء للقائد!.. قبل أن ينقض على جسد القائد المسجى على الأرض، ليخطف العقد من يده وعلى وجهه ظهرت إمارات الجنون، حاول أحد الجنود منعه فغرس (سنكي) البندقية في صدره ... تراجع (رفاعي) أكثر وقد اشتعلت عيناة بنيران ملتهبة وهو يراقب الجنود وهم يتقاتلون على ذلك العقد، فيقتلون بعضهم بعضا، وقد صار الجنون والعنف سيدا الموقف ... دقائق وكان الجنود قد قتلوا جميعا، وسالت دماؤهم فأغرقت المكان واختلطت بدماء قتلاهم من أهل القرية ... أمسك الجندي الأخير العقد وقد سالت دماؤه من أثر الطعان فأغرقت ثيابه، تلفت حوله للحظة، وتأكد أن الجميع قد فارقوا الحياة، ثم ارتدى العقد حول عنقه بسرعة، قبل أن تنطلق صرخته عالية مدوية من الألم بعد أن اشتعلت النار في جسده، خلع العقد بسرعة وألقاه على الأرض فسقط تحت أقدام (رفاعي)، ولكن ذلك لم يخمد النيرات التي التهبت بشكل أكثر، أخذ الجندي يتقلب على الأرض محاولا إطفائها وسط صرخاته المتألمة، العاجزة، ولكن ذلك لم يفلح، وسرعان ماخمدت حركته وخمدت النيران واستلقى إلى جوار أصحابه جسدا متفحما بعد أن فارقته الحياة.
انحنى (رفاعي) والتقط العقد وهو يقول في ظفر:
-          أخيرا.
ثم أمسك العقد وأخذ يتأمل أحجاره الكريمة التي تتلألأ في ضوء الشمس ثم طوق به عنقه، فانبعث من المكان صوت انفجار هائل، واختفى (رفاعي) في لحظة من المكان، وسقط العقد على الأرض ... مرت ساعات على تلك الحادثة وقد خيم الصمت والسكون على المكان، ثم ظهرت طفلة مراهقة من فتيات الغجر اقتربت من العقد والتقطته، وتلفتت حولها حتى لمحت علبته الفضية، فجرت نحوها والتقطتها أيضا ووضعت فيها العقد بحرص، ثم توجهت إلى مكان الحفرة الأولى فدفنت فيها العلبة وأهالت عليها التراب وردمتها من جديد ... في تلك اللحظة بدأ أهل القرية من الغجر يعودون إليها من الأماكن المتفرقة التي فروا إليها بحياتهم، وتحلقوا حول الفتاة، التي نظرت إليهم وهي تقول بحزن:
-          السر عاد لمكانه، والعهد مصان.
***
كنت أتحسس الورقة الأخيرة من خطاب جدي التي وضعتها في جيبي، وأنا أراقب (رفاعي) الذي يتحرك حولي بخطوات عرجاء كالعقرب ... وددت لو أني أنهيت هذا الخطاب وعرفت السر كاملا قبل وصول هذا الملعون ... ولكن ماأعرفه الآن غير كاف، وعلي أن أنتظر ما سيفعله ذلك الغراب ... قال (رفاعي):
-          أيا كان ما عرفته عن جدك وعني، فما زال هناك أشياء خفية لم يعرفها حتى جدك.
ثم جلس على مقعد خشبي، وهو يردف:
-          لكن قبل أن أخبرك بها، سأسمح لك بذلك.
-          بماذا؟
-          بأن تقرأ باقي الخطاب الذي في جيبك ... أليس هذا ماتفكر فيه الآن؟
شعرت بالذعر والقشعريرة تسري في جسدي، كيف عرف هذا اللعين بما أفكر فيه؟ وقبل أن أسأله، بادرني:
-          هيا لا تضيع الفرصة، وسأخبرك بعدها بما خفي عنك.
مددت يدي المرتعشة إلى جيبي وأخرجت الورقة الأخيرة من الخطاب ثم جلست في مقعد مواجه (لرفاعي) وشرعت في قرائتها.
***
انطلق (الشرقاوي) في أثر (رفاعي)، كان يشعر أن مواجهته مع ذلك المخلوق قد غيرت شيئا في باطنه، هو الآن يجوب القرى والمدائن، يسير في اتجاه هدف معين يقوده إليه جسده دون إراده منه ... حتى هبط عليه الليل وهو في منطقة جبلية، فقررالمبيت تحت صخرة كبيرة وأشعل النار، وقبل أن ينسدل جفنيه ويذهب في النوم وصل إلى مسامعه ذلك الصوت الذي ينادي باسمه بصوت طويل مبحوح ... نهض في فزع وهو يتلفت حوله، فمصدر الصوت لم يكن بعيدا، بل هو يأتي من ذلك الاتجاه تحديدا ... كان الصوت قد توقف ولكن (الشرقاوي) كان قد قرر التحرك في اتجاه مصدر الصوت ... وبعد دقائق واجهته تلة صخرية تنتهي صعودا بكهف يشع من مدخله ضوء متذبذب، من الواضح أن هناك من يشعل نارا داخل الكهف.
صعد (الشرقاوي) التلة ودخل الكهف الذي كان مضاء بالفعل بنار كبيرة مشتعلة في صفحة من المعدن محاطة بالصخور، يجلس وراءها رجل اختفت ملامحه خلف النار، ولكن (الشرقاوي) كان يعرف يقينا أن هذا الرجل هو (رفاعي)، فنادى عليه:
-          (رفاعي) هل هذا أنت؟
نهض الرجل من خلف النار وتقدم ناحية (الشرقاوي)، كان بالفعل هو (رفاعي) وأن تغيرت ملامحه قليلا وبدا أكبر سنا، كما أنه يرتدي ثوبا أنيقا كثياب الملوك ... قال (رفاعي):
-          تفضل يا صديقي ... كنت انتظرك منذ فترة طويلة.
قال (الشرقاوي) بحدة:
-          أين العقد يا (رفاعي)؟
أخرج (رفاعي) العلبة الفضية من جعبته ببساطة، وناولها إلى (الشرقاوي) الذي فاجأته السهولة التي منحه بها (رفاعي) العقد ... ولكنه استدار وقد عزم على أن يغادر المكان بعد أن تأكد من وجود العقد داخل العلبة، وفي عقلة أن ذلك الخائن لا يستحق المزيد من الجدال والعراك ... وقبل أن يبتعد (الشرقاوي) خطوة واحدة انطلق صوت (رفاعي) بصوت قوي مجسم كأنه خارج من بئر عميق وهو يقول:
-          إلى أين أنت ذاهب؟
ثم أشار ناحية (الشرقاوي) بيمناه وقد فرق ما بين أصابعه الخمسة، فشعر (الشرقاوي) كأن ثور عملاق نطحه وأطاح بجسده ليرتطم بقوة في جدار الكهف ويسقط على الأرض وهو يشعر بأن عظامه قد تحولت إلى طحين ... اقترب (رفاعي) خطوة من (الشرقاوي) الملقى على ظهره وأشار بيده من جديد، فشعر الأخير بأنه ينسحق تحت أطنان من الصخور تكاد تزهق روحه، فقال بصوت ضعيف متألم:
-          ماذا تريد مني أيها اللعين؟
قال (رفاعي):
-          عليك أن تعطيني العقد بنفسك ... لن أكرر الخطأ مرة أخرى وأحاول انتزاعه من حامل العهد عنوة ... عليك أن تعطيني إياه بنفسك.
تأوه (الشرقاوي) وهو يقول:
-          أنا لا أفهم شيئا مما تقوله، ولكن لن أعطيك شيئا.
ابتسم (رفاعي) وهو يقترب أكثر وينحني حتى أصبح وجهه مواجها (للشرقاوي) وهو يقول بابتسامة مخيفة:
-          صدقني ستفعل ... إما الآن برغبتك أو مجبرا بعد أن أذيقك صنوف العذاب ... أنت لا تعرف قوتي.
حاول (الشرقاوي) المقاومة لساعات ولكن الألم كان يفوق قدرته على الاحتمال،  فحركات بسيطة من يد (رفاعي) كانت قادره على جعله يشعر بآلام رهيبة تمزق كل ذرة من جسده، وفي النهاية وجد نفسه يمد يده بعلبة العقد الفضية مستسلما نحو (رفاعي) الذي التقطها منه بشهوة، وأخرج منها العقد بسرعة ونفاذ صبر، ووضعه حول عنقه وهو يقول:
-          سأنجح هذه المرة بالتأكيد ... لقد صبرت كثي...ر!
وقبل أن يكمل جملته أنبعث صوت الانفجار واختفى (رفاعي) من المكان مجددا وسقط العقد وعلبته على الأرض إلى جوار (الشرقاوي) المنهك، خائر القوى.
***
ابتسمت دون إرادة مني، عندما انتهيت من قراءة الصفحة الأخيرة، ورغم الخوف الذي تزايد أكثر في باطني إلا أنني قلت (لرفاعي):
-          إذا فقد نجح جدي (الشرقاوي) في استعادة العقد منك.
-          أجل.
-          وتوقع عودتك بعدها لذا أخذ يدرس في كتب السحر ليحارب سحرك بسحر يناهزه.
لم يرد (رفاعي)، فأردف (حسام):
-          ولكنك لم تعد لسنوات طويلة، مات فيها جدي ومن بعده أبي، ثم جئتني الآن لحسن حظي لتطالبني بالعقد.
اعتدل (رفاعي) وهو يقول:
-          أجل، وستعطيني أياه.
كان الفضول لمعرفة كل الحقيقة يحركني في الدقائق الأخيرة، فقلت له:
-          لا مشكلة ولكن لدي سؤالين أولا ... لماذا لم تعد لتطالب جدي بالعقد؟ ولماذا أنت واثق بأنك ستنجح تلك المرةفيما فشلت فيه في السابق؟
عقد (رفاعي) حاجبيه للحظة مفكرا، ثم ابتسم وهو يقول:
-          الإجابة عن سؤاليك في هذا؟
وأمام عيني، بدأ جسد (رفاعي) يتحور ويستطيل ليتخذ تلك الهيئة المرعبة التي قرأت عنها في وصف جدي في خطابه، بشرة رمادية، عينين سوداوين مشقوتين طوليا، مخالب معقوفة، رأس أصلع مدبب ... شعرت بذعر هائل فتلعثمت وأنا أقول:
-          أنت ... أنت منهم.
تبدلت هيئة (رفاعي) مرة أخرى إلى هيئة الرجل العجوز وهو يقول:
-          أجل أنا منهم ... ولكن من مرتبة أقل ... قومي من العامة، لا يمتلكون قوة وسلطة العائلات الخمسة ... وهذا ما قررت أن أثور عليه وأغيره، عندما وقعت بين يداي مخطوطة الحكيم التي فيها سر عقد القوة، حينها قررت أن أكون أنا الملك وجميعهم تابعين لي ولقوتي.
كان رفاعي يتحدث بصوت قوي، غليظ، وجنون النشوة يتقافز في عينيه ... كان ما يحدث يفوق قدرة جهازي العصبي على الاحتمال، فانهرت في مقعدي وأنا أشعر بالعجز والضعف ... استرسل (رفاعي) قائلا:
-          حصلت على (عقد القوة) ولكنني أسأت فهم المخطوطة ولهذا أصابتني اللعنة ... مائة عام محبوس في جب عميق في باطن الأرض، وعندما خرجت حسبت أن كل تلك السنين كانت كافية لجعلي أفهم ما جاء في المخطوطة فكانت مواجهتي مع جدك والتي انتهت نفس النهاية السابقة ووجدت نفسي محبوسا من جديد في ذلك الجب ... حينها عرفت ما علي فعله.
كنت مازلت أحاول استجماع شتات ذهني، أفكر في طريقة للخروج من ذلك المأزق، تتقافز كلمات جدي أمام ذهني لتختلط بكلمات (رفاعي) الملعون، فأشعر بأن هناك ثقل يجسم على قلبي وعقلي، يعجزني عن التفكير بشكل سليم ... كان (رفاعي) يصرخ:
-          عليك أن تمنحني العقد راضيا ... بل عليك أن تلبسه لي بنفسك، وتنادي بي ملكا.
قال (حسام) بضعف:
-          ولماذا أنا؟
-          لآن في جسدك تسري دماء حملة العهد ... هيا انهض أجلب العقد وافعل ما آمرك به ... أنت تعرف ما استطيع فعله بك.
فكرت للحظات وأنا أوازن خياراتي وأقارنها ببعضها، و(رفاعي) يرمقني بنظرات نارية ... في النهاية قمت وتوجهت بركبتين خائرتين إلى خزانة جدي واستخرجت منها العلبة الفضية بيد مرتعشة، وعدت إليه، وناولته إياها، فبادرني ثائرا:
-          لا ... أخرج منها العقد بنفسك، وألبسه لي ... هيا أفعلها.
أفكار متداخلة تصارعت داخل عقلي، هل أطيع ذلك الملعون؟ أم أتمرد كما فعلها جدي في البداية قبل أن يسحقه التعذيب؟ هل أحاول الهرب أو المقاومة؟ ...  لم يمهلني (رفاعي) لأفكر فترة أطول، فقد ضم أصابعه حتى تلامست فشعرت بأن جسدي ينسحق ... آلام رهيبة فصرخت بفزع:
-          أرجوك ... سأفعل ما تأمر.
فتح (رفاعي) كفه المضمومة، فزال الألم في لحظة، وقال في نفاذ صبر:
-          هيا أفعلها.
أخرجت العقد من العلبة، وأمسكت به بكلتا يدي ومددتهما نحوه، فأمال رقبته حتى أطوقها بالعقد ... للحظة توقفت، وأنا أفكر في مصيري بعد أن يحصل هذا اللعين على مبتغاه، بالتأكيد سيقتلني ... جاءني صوته وهو يقول بغلظة:
-          هيا أفعلها.
وفي ثانية واحدة، أعدت يدي وابتعدت للخلف خطوة، وقبل أن يأتي (رفاعي) بأي رد فعل، طوقت عنقي بالعقد وارتديته ... شعرت بحرارة هائلة تنبعث من داخل جسدي وكأنني احترق حيا ... مع صرخة (رفاعي) اليائسة وهو يقول:
-          ماذا فعلت أيها المجنون؟
آلام رهيبة اجتاحت كياني، أخذت أصرخ صرخات طويلة متعذبة، وأنا أشعر أن كل ذرة في جسدي تشتعل بالنيران وتوشك على الأنفجار، وترقبت أن يأتي الموت ليضع كلمة النهاية في أي لحظة.
***
 الغريب أن الموت لم يأتي، ولكن الآلام بدأت تتناقص وبدأت أشعر بالتحسن، حتى أنني نهضت وأنا أتلفت حولي قائلا:
-          ماذا يحدث لي؟ هل أنا بخير؟
كانت ملامح الدهشة وعدم التصديق قد ارتسمت على وجه (رفاعي) بديلا عن الضيق والغضب وهو يقول:
-          أنت لم تمت ... كيف تحمل جسدك البشري تلك القوة؟
كانت آلام الاحتراق قد زالات تماما وشعرت بالعافية تعود إلي، وأشعر أنني أفضل حالا عما كنت عليه في أي وقت سابق في حياتي، أشعر بالقوة والطاقة، أشعر بالثقة ... حرك (رفاعي) يده وأصابعه في مواجهتي وأخذ يأتي بحركات سحرية، فلم أشعر بأي تأثير، بل على العكس تماما وجدت نفسي أشيح بيدي في وجهه، لا أعرف ما الذي دفعني للأتيان بهذه الحركة، فأخذ يصرخ من الألم وهو يتوسل:
-          أرجوك ... الرحمة.
أشعر بقوة هائلة، هذا العقد يغيرني، ويبدل عقلي وجسدي، ويجعلني أفهم وأرى أشياء لم يسبق لبشر أن رآها ولا شعر بها ، أشياء من زمن يسبق مجئ البشر إلى تلك الأرض... الآن أفهم كل شئ وأعرف كل شئ، لقد نطق العقد وخط في عقلي الإجابة عن كل الأسرار، أسرار القوة والسلطة، أعرف الآن كيف استخدم ذلك العقد، وأسيطر على تلك القوة، أفهم أن هذا اللعين ما كان مقدرا له ولا لأي من قومه أن يرتدي ذلك العقد أبدا، أعرف أن صانع العقد جعل قوة العقد تأتي فقط لمن يرتديه وهو لا يبحث عن القوة ... أشرت (لرفاعي) المقعى على ركبتيه من اليأس بسبابتي فاشتعلت النيران في جسده ... أخذ يصرخ صرخات طويلة مولولة، فأشرت مرة أخرى فاحترق حتى آخره إلى غبار متطاير في جو الغرفة.
***
اليوم أحفر من جديد في نفس المكان بمزرعتي أسفل عتبة الغرفة الطينية، ولكن هذه المرة بمشاعر وأحاسيس مختلفة ... لم أشعر بأي مفاجأة عندما وجدت داخل الحفرة جرة من الفخار، أعلم أن داخلها كنزا من العملات الذهبية المدموغة ... أخرجت الجرة ووضعتها جانبا، جلبت الصندوق الأثري من حقيبة سيارتي ووضعته داخل الحفرة ... الآن أعيد العقد إلى مكانه وأصون العهد وأحافظ عليه حتى آخر يوم في عمري، وسأخبر أبنائي ليفعلوا ذلك من بعدي ... ردمت الحفرة فوق الصندوق ونهضت وحملت مكافأتي، جرة الذهب، وتوجهت لسيارتي، وعلى مسافة بعيدة لمحت ذئب شديد السواد يراقبني باهتمام، فابتسمت وأومأت له برأسي ...


.. (تمت) ..



هناك 4 تعليقات: