الأربعاء، 4 يناير 2017

لديك 5 رسائل من شخص ميت


قصة رعب بعنوان ... (لديك 5 رسائل من شخص ميت – الجزء الأول)
قامت (شيرين) بإدخال بيانات بطاقة الائتمان الخاصة بها، ثم ضغطت زر إرسال ... انتظرت في قلق حتى ظهرت رسالة إعلامية على شاشة الحاسوب، قرأتها بصوت خافت:
-          سيتم خصم عشرة دولارات من حساب البطاقة ... هل تريد المتابعة؟
ضغطت زر الموافقة بسرعة، وتضاعفت حدة قلقها وهي تتابع تلك الساعة الرملية اللعينة وهي تدور حول محورها على شاشة الحاسوب ...  تنهدت بارتياح عندما اختفت الساعة الرملية وانتقلت الشاشة إلى أخرى مقسمة إلى قسمين أفقيين، وفي وسطهما ظهر ذلك الرقم باللون الأسود (100) ثم تغير إلى (99) ثم إلى (98)، ففهمت أن هذا هو المؤقت الذي يحدد مدة الاتصال المسموح بها ... ضغطت الأزرار بعصبية لتكتب رسالة ظهرت في القسم الأسفل من الشاشة:
-          أمي ... هل أنت هنا؟
جاءتها الإجابة لحظية برسالة في القسم الأعلى:
-          أجل.
خالجتها مشاعر مختلطة بين الشك والرغبة، فكتبت بسرعة باستخدام لوحة المفاتيح:
-          هل أنت حقا؟
-          أجل يا حبيبتي؟
-          هل أنت بخير؟
تأخر الرد للحظة ثم جاءت الرسالة:
-          دعينا نتحدث عنك أنت ... هل أنت بخير؟
-          أجل ... ولكنني أريد شيئا منك.
-          ما هو ياحبيبتي
-          أريد التأكد.
تأخر الرد لثانية ثم جاء:
-          هل تذكرين آخر ما قلته لك عندما كنا وحدنا قبل أن ....
-          أجل، أتذكر.
-          لقد قلت لك أنني سأكون دائما إلى جوارك.
تجمعت الدموع في مقلتيها، وشعرت بقلبها يدق بقوة، فكتبت:
-          أتذكرين أول هدية عيد أم جلبتها لك.
-          بالطبع، وكيف يمكن أن أنسى تلك الوردة الحمراء الجميلة التي رسمتها لي ... أتعلمين؟ لقد احتفظت بها حتى النهاية ... ستجدينها في صندوقي العاجي، هي وأشياء أخرى احتفظت بها تذكرني بمراحل عمرك المختلفة.
كانت (شيرين) تعلم ذلك، وقد أذهلها تلك الأشياء التي تخصها وكانت أمها تحتفظ بها في صندوقها العاجي، صور، شهادات تكريم،  أول سن لبنية فقدتها، حلق أذنها وهي طفلة، خطابات حب طفولية منها لأمها وأبيها، أوراق ثبوتية، وغيرها ... فكتبت بيد مرتعشة:
-          أعلم.
  كانت الدموع تتقاطر على وجهها من عينيها وأنفها، فأخذت تمسحهما بسرعة، حتى تتمكن من متابعة المحادثة ...
-          ستنتهي المحادثة سريعا، هل تريدين أن تخبريني بشئ؟
-          أجل ... أنا مازلت أحبك.
علا صوت بكائها، وسالت الدموع على خديها، وعجزت أن ترى مفاتيح الحاسوب أو أن ترد على الرسالة الأخيرة، وهي تلمح لون المؤقت قد تغير إلى الأحمر (5، 4، 3، 2، 1 .... انقطع الاتصال)... وضعت الحاسوب جانبا وألقت بنفسها على الفراش وواصلت البكاء والنحيب لساعة أخرى، قبل أن تتمالك نفسها أخيرا وتنهض عن الفراش وتتوجه إلى تلك الصورة المعلقة على الجدار والتي تحمل شريط مائلا باللون الأسود على زاويتها ... صورة أمها ... أمها التي فارقت الحياة منذ شهور.
***
نظرت (شيرين) إلى وجهها في المرآة وعينيها المنتفختين، الحمراوين كحبتي طماطم، وتعجبت! لم تعرف قبل الآن أنها تكبت في باطنها كل تلك المشاعر المحتقنة والتي كانت تنتظر اللحظة المناسبة حتى تنفجر ... هي كانت دائما عقلانية، تحكم عقلها قبل قلبها في كافة المواقف، وعندما فقدت أمها، نصحها الجميع بأن تبكي ولكنها لم تفعل، ورغم أن أمها كانت آخر من تبقى لها من أسرتها، ورغم أن أمها كانت أيضا صديقتها المقربة، وكاتمة أسرارها، وناصحتها الأمينة، إلا أنها لم تبك وظلت تتظاهر بالتماسك كل ذلك الوقت، وها هي الآن تنهار وتخرج ما في باطنها ...
هي الآن تشعر بالخجل من نفسها، بعد أن سخرت من زميلتها في الجريدة (غادة)، والتي عرفتها على ذلك الموقع الغريب الذي يمكن أن تتواصل من خلاله مع الأموات، وها هي الآن تصدق في ذلك كله إلى الدرجة التي تجعلها تنهار بعد تجربتها على ذلك الموقع التي لم تتجاوز الدقيقتين ...  كانت (غادة) واثقة من هذا الموقع وتدعي أنها تواصلت عليه مع جديها، وبعض أقاربها، وتواصلت أيضا مع بعض المشاهير، بل أنها بالأمس فقط استخدمت الموقع مرتين، الأولى للتواصل مع عمها المتوفى، الذي كان مرحا، لطيفا  وأخذ يذكرها بأشياء من طفولتها، تقول (غادة) أنها كانت قد نست تلك الأشياء بالفعل حتى ذكرها بها عمها في هذه المحادثة ... أما الثانية فقد كانت مع رجل بإسم (ناصر نصار)، وهو اسم اختارته (غادة) بشكل عشوائي، ولكن تلك المرة كانت التجربة سيئة، فقد كان ذلك المتوفى سليط اللسان، أخذ يسب (غادة) بأقذع الألفاظ ويتوعدها بأنه سيلاحقها وعندما يصل إليها سيخنقها بكلتا يديه، حتى أن (غادة) أغلقت المحادثة قبل انتهاء مدتها.
قاطع تلك الأفكار الرنين المكتوم لهاتفها المحمول، فأخرجته (شيرين) من حقيبة يدها ولمحت اسم (أمير) زميلها في العمل على شاشته، ففتحت الاتصال وردت بصوت متحفظ:
-          ألو.
جاءها صوت (أمير) من الناحية الأخرى،  وهو يصرخ:
-          لقد قتلت (غادة).
لم تستوعب (شيرين) ما قاله (أمير) فقالت متسائلة بصوت بارد:
-          (غادة) ... من؟
علا صراخ (أمير) أكثر:
-          (غادة) زميلتنا في العمل.
انتبهت (شيرين) هذه المرة، فقالت بصوت ملتاع:
-          كيف حدث هذا ومتى؟
-          عثروا على جثتها مخنوقة وملقاة في أرض خربة بالقرب من منزلها ... يقولون أن هذا حدث بالأمس أثناء عودتها.
ارتفع ضغط دم (شيرين) وشعرت بانفجارات داخل مؤخرة رأسها، وبأنه هناك من يسحق مخها سحقا، وعجزت تماما أن تسمع ما يقوله (أمير) وهو يستطرد:
-          عندما تأخرت في العودة، أبلغ والدها الشرطة، فعثروا على جثتها في الصباح وهي على تلك الحالة...
***
(أمير) هو زميل (شيرين) في العمل وأكثرهم قربا من نفسها لصفاته الطيبة الأصيلة، وشهامته القروية ...  هي تعلم أنه يحبها ويحاول جاهدا أن يعبر لها عن مشاعره، ولكنها تتظاهر بعدم الملاحظة ... هي لا تصده ولا تحاول تعذيبه، فهي بحق لا تعلم حقيقة مشاعرها ناحيته، فبعد صدمة فقدان أمها، اختلطت كل الأمور في عقلها وقلبها وهي الآن عاجزة، وخائفة من أن تندفع في طريق يؤدي بها إلى صدمة أخرى ... إذا الأفضل أن تنتظر وتترك باب قلبها مواربا عسى أن يأتي المستقبل بشئ جديد ...
***
في اليوم التالي، قالت (شيرين) (لأمير) وهي تنظر لتلك اللوحة النحاسية الصغيرة المكتوب عليها بحروف ملونة وغائرة (شركة العلامة للبرمجيات):
-          هل هذا هو المكان؟.
رن (أمير) جرس الباب وهو يومئ برأسه:
-          أجل.
-          كنت أظن أن شركات البرمجيات هي شركات عملاقة ، مباني فاخرة، مكاتب زجاجية، حلل أنيقة، أفرع في كل بلاد العالم، وليست مكتب حقير في بناية متهالكة في منطقة شعبية.
قال (أمير) ساخرا من اسم الشركة:
-          اعتقد أن هذه علامة ... وعلينا أن نرحل قبل أن يفتح لنا الباب غول أو عفريت.
فتحت الباب فتاة محجبة غليظة الملامح، حدقت فيهما بنظرات حادة وقاسية، قبل أن تسألهما بصوت رجولي، أجش:
-          ماذا تريدان؟
بادلت (شيرين) صاحبها ابتسامة خاصة، وهي تلتفت إلى الفتاة، قائلة:
-          نريد أن نقابل صاحب الشركة.
ضيقت الفتاة عينيها وقالت بغلظة:
-          ولماذا تريدان مقابلة (الباشمهندس)؟
-          نحن صحفيان، نريد أن نجري معه مقابلة.
همت (شيرين) بالدخول فمنعتها الفتاة وهي تسد الباب بجسدها، وهي تسأل:
-          وهل هناك موعد؟
وقبل أن ترد (شيرين)، جاء الصوت من الداخل:
-          دعيهما يدخلان يا (نجفة).
ومن خلفها ظهر ذلك الشاب الذي لا يزيد عمره عن الثلاثين عام مرحبا، وهو يقول:
-          تفضلا، نحن نرحب دائما بالصحافة... أنا المهندس (حجاوي) صاحب الشركة، والمبرمج الوحيد بها حاليا.
وتقدمهما إلى مكتبة، وهو يعتذر قائلا:
-          أعذرا مساعدتي (نجفة) هي تنفذ أوامري حرفيا،لقد طلبت منها ألا يزعجني أحد.
لحق(أمير) بالشاب وتبعته (شيرين)، وهي تتابع نظرات (نجفة) المغتاظة، الضائقة.
***
-          لقد أخطأت زميلتك خطأ فادحا، كلفها حياتها.
قالها المهندس (حجاوي)، ثم أردف:
-          كان يجب عليها أن تقرأ اتفاق الاستخدام، كانت ستعرف المحاذير والمخاطر التي يمكن أن تتعرض لها.
قالت (شيرين) بعصبية:
-          محاذير، مخاطر ... أنت تتحدث عن حياة إنسانة، وليس لعبة أو برنامج للطهو!
قال المهندس (حجاوي) بهدوء:
-          لهذا كان عليها أن تقرأ اتفاق الاستخدام قبل أن تستخدم الموقع.
أشاح (أمير) بيديه وهو يقول:
-          لا أحد يفعل ذلك.
رمقت (شيرين) المهندس (حجاوي) بنظرة غاضبة، وهي تقول:
-          أتعلم أنا لا أصدق أن لموقعك علاقة بموت (غادة) ... فالموقع ليس أكثر من خدعة بارعة.
ابتسم المهندس (حجاوي) وهو يومئ برأسه:
-          بالفعل، الموقع ليس أكثر من وسيلة للتواصل، مثله مثل (الويجا) أو (السلة) أو (الوسيط) أو أي طريقة أخرى للتواصل مع العالم الآخر.
زادت عصبية (شيرين) وهي تقول:
-          أنا لا أصدق أن هناك تواصل مع العالم الآخر من الأساس.
اكتست ابتسامة المهندس (حجاوي) بخبث الثعالب وهو يقول:
-          إذا لماذا استخدمت الموقع للتواصل مع والدتك الليلة الماضية؟
بدت الدهشة على وجه (شيرين) و (أمير)، قبل أن تقول (شيرين) بلهجة غاضبة:
-          كيف عرفت، هل تتجسس على مستخدمي الموقع؟
كان (أمير ) يحدق في وجه (شيرين) وهو يحرك فمه بصوت خافت:
-          كيف فعلت ذلك؟
تجاهلت (شيرين) الرد عليه، وهي تكرر اتهامها للمهندس (حجاوي)، فأجابها الأخير:
-          في الواقع، عدد مستخدمي الموقع قليل جدا، فهو في طور التجريب حتى الآن، لهذا قرأت التقرير المالي صباح اليوم وكان اسمك من بين المستخدمين... و ...
قاطعته (شيرين) بصوت عالي:
-          أنت تكذب ... أنا لم أقدم نفسي لك الآن سوى بإسمي الأول ... وبالتأكيد يوجد الآلاف ممن يحملن نفس الاسم.
استقبل المهندس (حجاوي) ذلك الاتهام بابتسامة ثعبانية، وهو يستمع (لشيرين) وهي تردف:
-          هناك شئ غامض بخصوصك ... شئ غير مريح وأنا سأكتشفه ...
ثم نهضت واقتربت منه وحدقت في عينيه بنظرة متحدية:
-          ولو اكتشفت أن لك دخلا بمقتل المسكينة (غادة)، فلن أرحمك.
ثم غادرت المكتب وصكت الباب وراءها بعنف، ولحق بها (أمير) في حرج، وهو يومئ للمهندس (حجاوي) برأسه معتذرا ... نادى المهندس (حجاوي) على مساعدته الغير حسناء (نجفة)، وقال لها بصوت غاضب، وقد اكتست ملامحه بالتوحش والشراسة:
-          واحدة أخرى تفتش وراءنا، ونحن لم نستعد بعد ... يجب التخلص منها، تعرفين ما عليك فعله.
.. (انتهى الجزء الأول ويليه الجزء الثاني) ..


قصة رعب بعنوان ... (لديك 5 رسائل من شخص ميت – الجزء الثاني)

ملخص ما سبق ... (شيرين) شابة متحمسة، تخبرها زميلتها في الجريدة عن موقع على الشبكة العنكبوتية للتواصل مع عالم الموتى، فتخوض تجربة قاسية تفجر المشاعر المكبوتة في باطنها تتواصل فيها مع أمها المتوفاة منذ شهور قليلة، قبل أن تصعق لمقتل زميلتها في اليوم التالي بعد أن قامت الأخيرة بتجربة غير محسوبة العواقب، تواصلت فيها مع أحد الأرواح الغاضبة ... تحاول (شيرين) ملاحقة المهندس المسئول عن هذا الموقع وتشعر بأن هناك شئ غامض بخصوصه ...

***
كانت (شيرين) مازالت غاضبة بعد مقابلتها الأخيرة مع المهندس (حجاوي) والتي انتهت بتهديدها له، وقبول ذلك الأخير التهديد بابتسامة سمجة تبطن أكثر مما تظهر ... كان (أمير) يحاول تهدئتها، فدعاها للمقهى المقابل للجريدة التي يعملان بها، وأشار (للجرسون) بجلب كوبين من عصير الليمون، قبل أن يسألها:
-          لماذا أنت غاضبة إلى هذا الحد؟
-          هذا الرجل به شئ غامض يثير غضبي وتوتري.
-          معك حق.
ثم صمت هنيهة، قبل أن يردف:
-          على الرغم أن ما قاله كان منطقيا إلى حد ما ... فالرجل يتحدث عن أنه غير مسئول عن خدمة التواصل مع الموتى، وأن تلك الخدمة موجودة على الشبكة منذ فترة طويلة توفرها شركة روسية غامضة، وما قام به هو توفير واجهة وموقع باللغة العربية يستطيع المستخدم العربي الوصول من خلاله إلى تلك الخدمة في مقابل نسبة ضئيلة من الأرباح ... وهو شخصيا يظن أنها ليست أكثر من مجرد لعبة بارعة أو خدعة محكمة.
كانت تعلم أن ما يقوله (أمير) صحيح، ولكنها مازالت تشعر بالغضب، قد يكون بسبب أن ذلك المهندس اتهم زميلتها (غادة) بأنها المسئولة عما حدث لها، لأنها لم تقرأ اتفاق الاستخدام قبل الدخول للموقع، أي عبث هذا!.. فرغم تجربتها القاسية التي تواصلت فيها مع أمها إلا أنها لا تصدق أن من قتل (غادة) هو روح غاضبة عبثت معها عبر ذلك الموقع ... هناك خدعة ما، وعليها أن تكتشفها! ... رمقت (أمير) بابتسامة خاصة تستخدمها دائما عندما تنتوي أن تطلب منه شيئا ... فقال لها متشككا:
-          ماذا تريدين؟
فأجابت وهي تضم يديها في أشارة أنها مجرد أشياء بسيطة:
-          أريد بعض المعلومات عن هذا الرجل، مكان سكنه،أسرته ، ممتلكاته، دراسته ... ببساطة أريد تاريخ موجز عن حياته منذ ولادته وحتى اليوم.
كانت تعرف إن (لأمير) صديق يعمل في الشرطة يساعده دائما في مثل هذه الأمور، لذا لن يعارض ما طلبته منه ... ابتسم (أمير) وهو يسألها ساخرا:
-          وكم ستدفعين لي؟
-          سأكون راضية عنك، ألا يكفي هذا؟
لمعت عينا (أمير) وبدت تلك الملامح لى وجهه، والتي تعلمها (شيرين) جيدا وتعرف ما سيأتي بعدها، فقالت بسرعة وهي تنهض لتغادر المكان مقاطعة أي محاولة منه لبثها مشاعره:
-          أخ، لقد تأخرنا عن الجريدة، سأسبقك ... أدفع ثمن الليمون وألحق بي، المرة القادمة الحساب علي.
ثم خرجت من المقهى في خطوات مسرعة دون أن تولي، وهي تشعر بغصة في حلقها وضيق من هروبها الدائم من كل محاولة يقوم بها (أمير) للتعبير فيها عن مشاعره لها، فتمتمت بصوت هامس لا يسمعه سواها:
-          غبية!
***
في نفس المساء، تلقت (شيرين) مكالمة هاتفية من (أمير) في منزلها أخبرها أنه قد حصل بالفعل على المعلومات التي طلبتها منه عن ذلك المهندس المدعو (حجاوي)، وأنه أرسلها لها عبر البريد الإلكتروني ... وأخبرها أيضا أنه الآن بصحبة صديقه (زهران)!...  و(زهران) هو صديق (أمير) المقرب، وهو أيضا خبير في البرمجيات، ويعمل في شركة مختصة لبرامج الحماية ومضادات فيروسات البرامج ... إلى جانب ذلك (فزهران) يحمل هوية سرية يخفيها عن الجميع ما عدا (أمير) لطبيعة علاقتهما، وهي أن (زهران) واحد من أبرع (الهاكرز) ومخترقي المواقع ... فسألته (شيرين) وهي لا تدرك قدرات (زهران) الحقيقة في هذا المجال:
-          هل يستطيع (زهران) مساعدتنا في معرفة أشياء بخصوص موقع التواصل مع الموتى.
-          بالتأكيد ... أنا معه الآن ولن أتركه حتى نحصل على معلومات كاملة عن ذلك الموقع.
قالت (شيرين) بانفعال:
-          أنت رائع.
فجاءها صوت (أمير) متهدجا:
-          حقا.
فتجاهلت تلك النبرة في صوته وهي تجيب:
-          أجل ... ولو نجحتما سيكون لك عندي جائزة.
سألها أمير بنفس النبرة:
-          وما هي؟
-          وجبة في مطعم الفول والفلافل الذي تفضله.
ثم ألقت تحية المساء بسرعة وأغلقت الهاتف، قبل أن يرد عليها (أمير) ... تعلم أنها تحاول الهروب كعادتها وتواصل كبت مشاعرها، ولكن الحقيقة التي بدات تدركها مع الوقت، هي أنها تكن مشاعر خاصة (لأمير)، مشاعر تفوق مشاعر الصداقة المعتادة، مشاعر مختلفة، وما يخيفها أكثر أن تلك المشاعر تزداد قوة وتصير أكثر حدة يوما بعد الآخر ... هل حقا ستفعلها؟
***
قرأت (شيرين) البريد الإلكتروني الذي يحوي معلومات عن المهندس (حجاوي)، كان أكثر ما لفت نظرها، حالته المادية، وثروته التي ورثها عن أبيه الذي سافر إلى الخارج وهو شاب وتزوج هناك من أمه الفرنسية، والتي توفت وهو طفل صغير، فقرر أبوه أن يعود به إلى البلاد، صاحبا معه ثروة كبيرة لا يعرف أحد مصدرها، قبل أن يرحل هو أيضا ويلحق بأمه، تاركا له تلك الثروة الضخمة، ومنها ذلك القصر الذي يعيش فيه المهندس (حجاوي) منفردا في منطقة منعزلة في الضواحي ... السؤال هنا، إذا كان ثريا بتلك الطريقة، فلماذا اختار ذلك المكتب الفقير في تلك المنطقة الشعبية ليكون مقرا لعمله؟.. مرة أخرى هناك علامات ودلائل على أن هذا الرجل يخفي أشياء غامضة ومريبة.
كعادتها، في تلك الليالي الصيفية الحارة، عندما تهاجمها الأفكار ويحاصرها الأرق، كانت (شيرين) تصنع لنفسها مشروبا، ثم تصعد إلى سطح البناية، لتقضي ساعات وهي تراقب فيها الليل والقمر، والمدينة التي صمتت أخيرا بعد يوم كامل من الصراخ والضجيج ... كانت (شيرين) تستند على السور الحجري تنظر بلا مبالاة إلى الشارع الخالي، وعقلها يفكر في ذلك المهندس الغامض (حجاوي) وموقعه اللعين ... فجأة وقعت عيناها على شئ جعل شعرها ينتصب والقشعريرة الباردة تسري في جسدها، وشعرت بأن أمعائها توشك على القفز نحو فمها من فرط الرعب! فأمامها كان ذلك الكائن الأسود الغير واضح المعالم، والذي يناهز حجمه حجم الجسد البشري، يزحف كالبرص على جدار المبنى وينساب عليه بسهولة ... كانت الطريقة التي يزحف بها على الجدار القائم للمبنى بحجمه الضخم كافيا ليذهب عقلها، ولكن ما جعلها توشك أن تفقد وعيها من الفزع، هو أن ذلك الكائن توجه مباشرة نحو شقتها وقفز إلى شرفتها قبل أن يغيب داخلها.
أقعت (شيرين) على ركبتيها، وأخذ جسدها يرتجف في هستيرية ... وهي تفكر في المصير الذي كان سيطالها، لو بقت في الشقة ولم تقرر الصعود لسطح البناية، حينها كانت ستجدنفسها وحدها في مواجهة ذلك الكائن المرعب ... خطرت لها فكرة مرعبة أخرى ... ماذا لو قرر ذلك الكائن الصعود لسطح البناية للبحث عنها بعد أن وجد شقتها خالية؟ ... ماذا ستفعل حينها؟.. و بآلية التقطت هاتفها المحمول الذي كانت تحمله معها طول الوقت، واتصلت (بأمير)، وما أن جاءها صوته من الطرف الآخر، حتى صرخت فيه:
-          ألحقني يا (أمير) ...
جاءها صوته ملتاعا:
-          ماذا بك؟
-          أنا لست بخير ... أنا فوق سطح البناية ... وهناك شئ ما في شقتي، شئ مرعب!
-          أنا قادم إليك الآن.
***
ترك (أمير) صديقه (زهران) وانطلق بسرعة إلى منزل (شيرين) مستجيبا لاستغاثتها ... لم يهتم (زهران) بسؤاله عن سبب مغادرته بهذه السرعة، فقد كان مستغرقا تماما في محاولاته لاختراق موقع الاتصال بالموتى ... كانت يداه تعبثان بلوحة المفاتيح بسرعة هائلة وعيناه تتابعان البيانات التي تعرض على عدد من الشاشات أمامه ... كان (زهران) قد كشف من اللحظات الأولى كذبة المهندس (حجاوي)، عندما ادعى بأن تلك الخدمة مصدرها شركة روسية، فمصدر تلك الخدمة كما يشير العنوان الإلكتروني للموقع يأتي من داخل البلاد ... أطلق (زهران) فيضا من السباب عندما فشلت محاولة جديدة من محاولاته في اختراق ذلك الموقع، فرغم السطحية التي يبدو عليها ظاهر الموقع، وتوحي بسهولة اقتحامه، إلا أن (زهران) سرعان ما اكتشف جدران الحماية القوية التي تأتي أسفل هذا المظهر البسيط، وهو شئ غير معتاد مع تلك النوعية من المواقع، وهو ما استفز طاقات (زهران) وجعله ويقبل أكثر على محاولة اقتحامه ... خمس عشرة دقيقة أخرى وعدة محاولات فاشلة جديدة، أطلق بعدها (زهران) صيحة الانتصار وهو يضم قبضته ... لقد فعلها ونجح في اقتحام الموقع أخيرا ... عليه الآن أن يعرف الشئ الذي يخفيه هؤلاء على ذلك الموقع ويجعلهم يضعون كل تلك الجدران لحمايته.
كان (زهران) يعرف أن عليه أن ينسخ الملفات الهامة بسرعة ثم يقوم بالخروج بسرعة قبل أن تستعيد آليات الحماية فعاليتها ... لفت نظره عدد كبير من الملفات المضغوطة والمحمية بكلمة سر بدائية، وهو شئ لن يشكل عائقا أمام (زهران)، ولكنه يشير إلى أن تلك الملفات تحوي شيئا هاما ... فتح (زهران) أول الملفات وكان يمثل مجلدا يحوي مجموعة من الصور، فتح (زهران) أول الصور ... في البداية لم ينتبه للشئ الموجود بها، ولكن بعد التدقيق، شعر برعب هائل وهو يصرخ:
-          اللعنة.
انتقل للصورة التالية وعاد يسب من جديد ... كانت هناك عشرات بل مئات الصور تعرض تلك المشاهد المرعبة والفظيعة ... للحظات عجز (زهران) عن التفكير في رد فعل مناسب، ثم قررالاتصال (بأمير) ... وضع (زهران) هاتفه المحمول على أذنه واخذ يستمع إلى صوت رنين هاتف (أمير)، ولكنه لم يتلق ردا، بيد مرتعشة حاول مرة ثانية وثالثة، ولكنهما لم تكونا أفضل من الأولى ... عاد (زهران) بناظريه إلى شاشة الحاسوب وأعاد تفحص تلك الصور فتضاعف ذعره ... فجأة سقط عليه ظل ذلك الجسد العملاق الذي يقف أمامه ويحجب عنه ضوء المصباح، فرفع رأسه ببطأ وتوجس نحو صاحب ذلك الظل، ثم انطلقت صرخته عالية، يائسة، لتشق سكون الليل.
***
 وصل (أمير) إلى البناية التي تقطن فيها (شيرين)، صف سيارته أمامها بشكل عشوائي، وقفز منها نحو مدخل البناية، وصعد السلم في قفزات طويلة سريعة متجها نحو سطح البناية ... كان يشعر بخوف شديد على (شيرين) فهو لم يرها في تلك الحالة من الذعر من قبل، يعرف أنها تتهرب منه أحيانا، وتمنعه من أن يعبر لها عن حبه، ولكنه يعلم ايضا أنه وراء ذلك الجدار الثلجي قلب دافئ حنون، وهو سيصبر مهما طال الوقت حتى يذوب ذلك الثلج، ويستطيع أن يتواصل مع قلبها ... وصل (أمير) إلى سطح البناية فدفع بابه الخشبي المهترئ، وهو ينادي بلهفة على (شيرين)، فأجابته من مكمنها في ركن مظلم خلف بعض قطع الأثاث المتهالك:
-          (أمير) ... الحمد لله ... أنا هنا.
ثم اندفعت نحوه وكادت تلقي برأسها في صدره، وتمنى لو فعلتها ... ولكنها توقفت في اللحظة الأخيرة، ثم بدأت تصرخ في وجهه بكلمات عصبية، وهي تحكي له  بانفعال عما رأته في النصف ساعة السابقة ... قام بتهدئتها وطالبها بأن تحكي له بهدوء ... لدقائق أخذ يستمع لها وهو يحاول طمأنتها بأن ما رأته قد يكون مجرد خداع بصري، أو انعكاس ضوئي لشئ ما كان يتحرك في الشارع، وأشياء أخرى رفضتها جميعا، فقد كانت واثقة مما رأت ... وضع (أمير) هاتفه المحمول على الوضع الصامت، ثم التفت لها وهو يقول:
-          إذا علينا أن نفتش الشقة.
صرخت:
-          لا.
ابتسم وهو يقول:
-          المبيت هنا ليس مناسبا ... ولا تقلقي فسأكون معك.
***
فتح (أمير) باب الشقة ودخلها متحسبا، ومن خلفه (شيرين) تلتصق بظهره، وتقبض على كتفيه بيدين مرتعشتين، لم يكن يشعر بالخوف ولا بالتوتر، بل كان يشعر بالسعادة، فهذا الموقف نجح في تقريبه من (شيرين) أكثر من أي وقت سبق ... دخل (أمير) غرفة وراء الأخرى، وكان يفتش كل غرفة بدقة لطمأنة (شيرين) قبل أن يقول:
-          المكان هنا آمن.
حتى وصلا إلى غرفة نومها، وكان بابها مغلقا، فهمست (شيرين) في أذنه:
-          لقد تركت الباب مفتوحا.
أوما لها (أمير) برأسه متفهما، ووضع يده على مقبض الباب، ولكن قبل أن يحركه، وصل إلى مسامعهما صوت الحفيف الذي ينبعث من غرفة النوم، تبادلا نظرات قلقة، حاولت (شيرين) التراجع، فشجعها (أمير) ثم فتح باب الغرفة دفعة واحدة...
.. (انتهى الجزء الثاني ويليه الجزء الثالث) ..



قصة رعب بعنوان ... (لديك 5 رسائل من شخص ميت – الجزء الثالث)
ملخص ما سبق ... يزداد الغموض المرتبط بموقع التواصل مع الموتى وصاحبه المهندس (حجاوي) ... تستمر (شيرين) في ملاحقتها له وتطالب صاحبها بجلب بعض المعلومات عنه ...  ولكنها تفاجأ في نفس الليلة بشئ مرعب من عالم الماورائيات يهاجم منزلها، ولحسن حظها كانت في ذلك الوقت فوق سطح البناية كعادتها في بعض ليالي الصيف الدافئة ...  تستغيث (بأمير) فيهرع لنجدتها، ويفتشان معا الشقة فلا يجدان بها شيئا، وتتبقى غرفة النوم التي ينبعث منها صوت حفيف غامض ... في نفس الوقت ينجح مخترق المواقع (زهران) في اختراق دفاعات الموقع الحصينة، ويهاله ما يجد عليه من صور فظيعة، قبل أن تنطلق صرخته مستغيثة، يائسة، لتشق سكون الليل...
.
وصلت (شيرين) متأخرة إلى الجريدة وهي تحمل عينين حمراوين، منتفختين، فهي لم تذق طعم النوم في الليلة الماضية إلا بعدما طلعت شمس الصباح بساعة ... أسرعت لإعداد كوبا من (النسكافيه) في مطبخ الجريدة وضاعفت الكمية على أمل أن يزول ذلك التشويش عن عقلها والذي يصحبه صفيرا في أذنيها ... توجهت إلى مكتب (أمير) فلم تجده، وهو شئ متوقع بعد أحداث الليلة الماضية ... فكرت أن تتصل به، ولكنها آثرت أن تتركه ليرتاح قليلا، بالتأكيد سيتصل هو بها عندما يستيقظ ... عليها فقط أن تغطي غيابه، إذا سأل عنه رئيس التحرير.
تذكرت (شيرين) أحداث الأمس، والرعب الرهيب الذي شعرت به، ولحظة الترقب التي فتح فيها (أمير) باب غرفة النوم التي كان ينبعث من داخلها صوت حفيف غامض ... كانت تتوقع أن تجد فيها شبحا أو وحشا مرعبا، لا تعرف لماذا توقعت أن يكون على هيئة (الميدوزا) بجسدها الثعباني الطويل، قد يكون ذلك بسبب الطريقة التي رأته يزحف بها منذ قليل على جدار البناية ... فتح (أمير) باب الغرفة، ثم قفز إلى داخلها بجرأة يحسد عليها، ثم انبعثت ضحكته الساخرة، تبعته (شيرين) بحذر وهي تتفحص أركان الغرفة، قبل أن تقع عيناها على باب الشرفة الزجاجي المفتوح، والستارة التي يحركها الهواء فتحتك به مصدره صوت الحفيف الذي أرعبها منذ لحظات ... قال (أمير) بلهجة لم تخل من السخرية:
-          المكان هنا آمن أيضا.
أجابته (شيرين) بصوت مرتعد:
-          من الذي فتح باب الشرفة الزجاجي !؟
-          قد يكون الهواء.
لم تقتنع (شيرين) بإجابة (أمير)، الذي توجه نحو باب الشقة وهو يقول:
-          الشقة كلها آمنة ... أغلقي الأبواب ورائي جيدا، وستكونين بخير.
كانت ملامح الرعب على وجه (شيرين) وفمها المفتوح، العاجز عن أن يطلب من (أمير) البقاء، دليلان على أنها لم تتجاوز حالة الرعب التي عاشتها الليلة ... فقال لها (أمير) مطمئنا:
-          أنا لن أذهب بعيدا ... سأكون في سيارتي أسفل البناية حتى الصباح، إذا شعرت بشئ مريب، اتصلي بي وسأكون عندك في ثوان ... لا تخافي.
نظرت له (شيرين) بامتنان وهو تقول:
-          شكرا لك.
***
كان النهار قد انتصف، ولم يكن (أمير) قد وصل إلى الجريدة بعد ... شعرت (شيرين) ببعض القلق فحاولت الاتصال به أكثر من مرة دون إجابة ... مرت ساعة أخرى وعشرون محاولة للاتصال به دون جدوى، فكرت أن تطلب من أحد زملائه الذكور أن يذهب إلى منزله للسؤال عنه، ولكنها شعرت بالحرج، وخافت من أن يفسر البعض قلقها عليه بشكل خاطئ ... كانت الساعة قد تجاوزت الثانية عصرا، وكانت أعصاب (شيرين) قد احترقت تماما، حتى إنها عزمت على أن تقود سيارتها إلى منزل (أمير) لتطمئن عليه بنفسها!.. ولكن قبل أن تتحرك خطوة ظهر (أمير) عند الباب ... ظهر وقد أكفهر وجهه، وعلته ملامح مرهقة، حزينة ... توجهت إليه (شيرين) بسرعة، وسألته بلهفة حقيقية، لم تحاول إخفاءها:
-          أين كنت؟.. لقد شعرت بالقلق عليك.
جاءتها إجابة (أمير) باردة، فاترة، على غير عادته:
-          لقد كنت في منزل صديقي (زهران).
تضايقت (شيرين) من مقابلة (أمير) لهفتها بهذا البرود، فقالت بصوت متحفظ:
-          وكيف حال (زهران)؟
نظر لها (أمير) نظرة مطولة، ثم بدت دمعة تترقرق في زاوية عينه، وهو يقول:
-          لقد مات ... يقولون أنه انتحر.
أصيبت (شيرين) بحالة من الذهول جمدتها لدقيقة ... تجاوزها (أمير) وهو يسير بخطوات ثقيلة وبظهر منحني، ثم جلس على المقعد المواجه لمكتبها ... فلحقت به (شيرين) وهي لا تعرف ماذا تقول؟ ولا كيف تواسيه؟ فخرجت منها الكلمات خافتة متأتأة:
-          كيف حدث هذا؟ ومتى؟
نظر لها (أمير)، وبدا في صوته نبرة من العتاب وهو يقول:
-          لقد حدث ذلك بالأمس، بعد أن تركته بنصف ساعة، تقول الشرطة أنه أصيب بنوبة من الجنون، حطم فيها كل أجهزة الحواسيب الخاصة به، ثم قفز من الشرفة ... من الدور الرابع.
مرة أخرى لم تدر (شيرين) ماذا تقول أو تفعل؟ فوضعت يدها على كتف (أمير)، ونظرت في عينيه، فنطقت عيناها بالكثير من الكلمات التي عجز لسانها على أن ينطق بها ... أردف (أمير) وقد تبدلت ملامحه وحل عليها الغضب:
-          ولكنني متأكد أن (زهران) لا يمكن أن يقوم بهذا الفعل ... لقد قتل ... أعرف ذلك يقينا، لقد قتله من قام بقتل (غادة).
أومأت (شيرين) برأسها موافقة، وهي تقول:
-          أصدقك ...
-          لقد حاول الاتصال بي بالأمس عدة مرات قبل أن يقتل بثوان، وللأسف كان هاتفي على الوضع الصامت بسبب ...
توقف عن الحديث، ولم يكمل الجملة، ولكن (شيرين) فهمت أن ذلك كان بسببها، فلو لم تستغث به بالأمس وجاء إليها، لبقى مع صاحبه، ولكانت النتيجة مختلفة، قالت (شيرين) بأسى:
-          أنا آسفة ... إنها غلطتي.
ثم انطلقت في نوبة بكاء حادة، وشعرت أن (أمير) سيكرهها بسبب ذلك، ويحملها مسئولية مقتل صديقه، ولكن (أمير) أمسك بيدها برفق وهو يقول:
-          أرجوك لا تبك ... أنت لا تعلمين ما يفعله بي بكائك.
ثم تنهد وهو يردف:
-          أريدك أن تعديني بشئ واحد.
فتوقفت عن البكاء، وسألته بعينين محتقنتين بالدموع:
-          ما هو؟
-          أن تساعديني لنصل إلى قاتل (زهران) و (غادة)، وننتقم لهما.
***
أزال (أمير) علامات اللاصق الأصفر من على باب منزل (زهران)، فصاحت به (شيرين):
-          هل هذا قانوني؟
-          لا.
ثم فتح الباب بنسخة من المفتاح، كان (زهران) قد أعطاها إياه في الماضي ... كانت شقة (زهران) عبارة عن (ستوديو) صغير من غرفة واحدة، ملحق بها مطبخ مفتوح، وحمام، وفي أحد أطرافها فراش ودولاب وكمود صغير، وفي الطرف الآخر مكتب عتيق من الخشب، ومكتبة معدنية معلقة عليها صف من الكتب، أما باقي المساحة فقد انتشرت فيها قطع الحواسيب والأجهزة الإلكترونية ... هذا ما كانت عليه الشقة بالأمس، أما ما آلت إليه اليوم، فقد جعل (شيرين) تصرخ بانفعال وهي تنظر إلى كل تلك الفوضى التي حلت بالمكان، وكأن إعصار مدمر قد مر من هنا، فالحواسيب محطمة وبعض أجزائها مسحوق كأن هناك من داس عليه بقدمه، والمكتب منكفأ على جانبه وكل ما كان عليه ملقا على الأرض، محطما أو ممزقا، حتى مرتبة السرير وفرشه ومحتويات الدولاب والكمود، كلها ملقاة على الأرض ... أشار (أمير) إلى علامات غائرة في الحائط، فاقتربت (شيرين) وهي تتفحصها، ثم انحنت والتقطت جزء من صحن طعام خزفي، قبل أن تقول:
-          هناك من كان يلقي بالأثاث عرض الحائط.
ثم أخذت تجول بناظريها في المكان، قبل أن تتنهد بإحباط:
-          لا اعتقد أنه يمكنا العثور على أي دليل وسط كل تلك الفوضى.
-          لا ... هناك دليل.
قالها (أمير) ثم توجه إلى المكتبة المعدنية المعلقة التي بقت في مكانها، قبل أن يزيح الكتب التي فيها ويخرج من ورائها جهاز كروي الشكل، فسألت (شيرين) بفضول:
-          ما هذا؟
-          هذا ما جئت من أجله؟
-          وما هو؟
أدار (أمير) الجهاز فانفصل إلى نصفين، ثم أخرج منه قطعه بلاستيكية صغيرة وهو يقول:
-          إنها (كاميرا) مراقبة بسيطة، تصور كل ما يحدث في الشقة في الأربعة وعشرين ساعة السابقة، ثم تخزنه على (كارت) ذاكرة صغير ... ألم تشاهدي فيلم (ظواهر خارقة).
-          شاهدته!
-          لقد كان (زهران) رحمه الله مولعا بفكرة تصوير المكان سواء في حضوره أو في غيابه!.. لذا قام بإعداد تلك (الكاميرا) ووضعها في هذا المكان لتقوم بذلك بشكل آلي ودوري.
قالت (شيرين) وقد بدا على وجهها إمارات الفهم:
-          هل تقصد أن هذا (الكارت) مسجل عليه كل ماحدث بالأمس.
-          أجل ... يمكننا الآن، أن نتعرف على قاتل (زهران).
***
كانت (شيرين) تشعر بفضول شديد لمشاهدة محتوى (كارت) الذاكرة، فجلست بجوار (أمير) على ذلك المقهى المقابل للجريدة، والذي أصبح مكانا لاجتماعاتهما مؤخرا ... فتحت حاسبها اللوحي ثم أولجت (كارت) الذاكرة في القابس، فتعرف عليه الحاسب، ثم قامت بنسخ الملفات منه على جهازها ... كانت الملفات عبارة عن مجموعة من (الفيديوهات) يزيد عددها على المائتين، كل منها يحمل اسم يمثل بداية ونهاية وقت التسجيل (فيديو 1 من 00:00 إلى 00:10) وكل منها يحوي تسجيلا تتراوح مدته من عشر إلى خمس عشرة دقيقة ... أشار (أمير) إلى إحداها وهو يقول بانفعال:
-          هذا هو (الفيديو) الذي يسجل وقت الجريمة.
قامت (شيرين) بضغط أيقونة (الفيديو)، فبدء العرض ... كان (الفيديو) يصور من زاوية ضيقة، وبدون صوت وبجودة منخفضة، اللحظات التي حاول فيها (زهران) اقتحام الموقع، واللحظة التي نجح فيها في ذلك، ثم رعبه وفزعه مما اكتشفه داخل الموقع، ومحاولاته للاتصال (بأمير)، قبل أن يظهر له فجأة ذلك المخلوق المعتم الذي يشبه الظل ويقف أمامه في منتصف الشاشة تماما!.. مخلوق عملاق يناهز طوله المترين، حجب عنه ضوء المصباح ... كان المخلوق يحلق على ارتفاع بوصات من الأرض كشبح أو شيطان مريد، نظر (زهران) نحوه ثم بدأ في الصراخ ... كان المخلوق يبدو ككتلة مختلجة من العتمة، يمكنك أن تميز وسطها ما يشبه اليدين والقدمين والرأس ولكن دون ملامح واضحه يمكن وصفها، فقد اكتست جميعها بلون الظلام ... تواصلت صرخات (زهران)، فمد ذلك المخلوق يده وحركها لأعلى، فحلق جسد (زهران) في الهواء، وبدا كأنه يعاني آلام رهيبة ... ومع حركة واحدة من يد ذلك المخلوق تحطم عنق (زهران)، والتوى رأسه للخلف بشكل مرعب ... صرخت (شيرين) من الفزع وهي تغمض عينيها، وأطلق (أمير) سبة قبيحة، يفرغ بها مشاعر الغضب التي فجرها فيه هذا المشهد ... تحرك ذلك المخلوق وهو يدفع جسد (زهران) المحلق أمامه نحو الشرفة، حتى غابا عن زاوية التصوير ... وفجأة بدأت الأجهزة والصحون وأثاث المنزل تتطاير في الغرفة وترتطم ببعضها بعضا وبالجدران ...  واستمر هذا الجنون لثوان ... ثم هدأ كل شئ!
***
كانت الساعة قد جاوزت السادسة مساء عندما وصلت (شيرين) إلى منزلها ... كانت تحمل ثقلا هائلا على عاتقها، عليها الآن أن تواجه كل هذا الرعب وحدها وبمساعدة (أمير) فقط، وعليها أن تقتص للضحيتين من قاتلهما ... قاتلهما الذي يبدو كأنه مخلوق من عالم آخر ... أحكمت (شيرين) غلق الأبواب والنوافذ، ثم افترشت الفراش وفتحت حاسبها اللوحي وأعادت مشاهدة (الفيديو) أكثر من مرة، ثم استخدمت برنامج لمعالجة الصور لاختيار مشهد بعينه لذلك المخلوق وتكبيره وتقليل التشويش فيه لزيادة وضوح الصورة، ولكن كل ذلك لم يكن مجديا فصورة المخلوق ظلت كما هي بقعة من العتمة والظلام ... تساءلت، هل يكون ما يبرز من أصل رأسه قرنان، أم هما أذنان مدببتين، أم أنهما بقعتان من الظلام تحيطان برأسه ... لا يهم!
وقعت عينا (شيرين) على تلك (الكاميرا) التي جلبها (أمير) من منزل (زهران) ونسيها معها، فجاءتها فكرة مجنونة، فقامت بتثبيت (الكاميرا) على طاولة في جانب من الغرفة، وضبطتها على وضع التصوير، ثم ضغطت أزرار الحاسوب لتدخل إلى موقع التواصل مع الموتى ... كانت فكرتها هي أن تصور نفسها وهي تتواصل مع أمها المتوفاة ...  بدأ الاتصال:
-          أمي... (كيف حالك)؟
ظهرت إجابة أمها آنيا:
-          (شيرين) ماذا تفعلين؟ أنت في خطر محدق.
-          أي خطر؟
-          العبث مع تلك الأمور له عواقبه ... لقد استدعيت شيئا خطيرا.
توقفت (شيرين) عن الكتابة للحظة، كان المؤشر فيها يتناقص بسرعة معلنا قرب نهاية الاتصال، ثم كتبت:
-          الحقيقة أنني لا أصدق كل ذلك ... لا أصدق أنه يمكن لأحد التواصل مع عالم الموتى ... لا أصدق أن أمي الحبيبة تكلمني الآن من عالم آخر ... كل هذا كذب وخداع ...
لم تتلق (شيرين) ردا، وظل المؤشر يتناقص حتى انتهى الاتصال ... كانت (شيرين) تشعر بدفقة هائلة من المشاعر المختلطة تختلج في باطنها ولكنها تجاهلتها جميعا، ونهضت لتجلب (الكاميرا)، وأخرجت منها (كارت) الذاكرة وأولجته في الحاسوب، ثم بدأت تشاهد التسجيل، وكان ماشاهدته مفاجأ ... مفاجأ للغاية!
***
عندما عاد (أمير) إلى منزله، فعل ما فعلته (شيرين) بالضبط، وأخذ يعيد مشاهدة (الفيديو) مرات ومرات وهو يحاول تكبير صورة ذلك المخلوق وتوضيحها دون جدوى ... زفر بيأس ودفع الحاسوب جانبا، ونهض ليجلب شيئا ليأكله، فهو لم يتناول طعاما منذ الأمس ... عاد (أمير) وهو يحمل كوبا من العصير وشطيرة، نظر للحاسوب بضيق، قبل أن يضع الطعام جانبا ويقرر مشاهدة (الفيديو) مرة أخيرة ... في تلك المرة انتبه لذلك المشهد الذي لا يتجاوز الثانيتين، حينها توقف وأعاده مرة أخرى، وأخرى حتى تحقق منه ... كان المشهد يعرض تلك اللحظة التي حاول فيها (زهران) الاتصال به بالأمس ولم يفلح، انتبه (أمير) إلى أن (زهران) التقط في تلك اللحظة قلما وخط به شيئا بسرعة على وريقة صغيرة، بعدها ظهر له ذلك المخلوق القاتل ...  هذا ما يظهره (الفيديو)، بالتأكيد تحتوي تلك الوريقة على شئ هام، شئ قد يكون فيه حل اللغز!.. عليه الآن أن يعود مرة أخرى إلى شقة (زهران)، للبحث عن تلك الوريقة وسط كل تلك الفوضى والركام.
***
لا تعرف (شيرين) ما الذي دفعها لتصوير نفسها وهي تتواصل على ذلك الموقع اللعين، يبدو أنه عقلها الباطن يحاول أن يرشدها إلى الطريق الصحيح ... فعندما شاهدت (شيرين) (الفيديو) المسجل بدت لها الحقيقة واضحة!.. فالحقيقة أنه لا يوجد شخص يتواصل مع (شيرين) من العالم الآخر، لا أمها ولا أي شخص آخر ... إنها هي التي تتواصل مع نفسها!!!  لقد كانت تفعل ذلك تحت تأثير التنويم المغناطيسي ... يبدو أن شيئا ما في ذلك الموقع يسحر مستخدميه، وينومهم مغناطيسيا، قد تكون صور الواجهة أو تلك الساعة الرملية الدوارة اللعينة، بعدها تصبح الضحية منومة وجاهزة لتقبل الخدعة ... رأت شيرين نفسها تكتب لأمها في انفعال في البداية، ثم تنتابها تلك الحالة فتتجمد وتزوغ عيناها وهما تحدقان في الفراغ وتتحرك أصابعها على المفاتيح بآلية لتكتب رد أمها بنفسها، ثم تعود لحالتها الطبيعية فتقرأ الرد بانفعال وتجيب عليه، قبل أن تدخل في تلك الحالة مجددا وهكذا حتى ينتهي الاتصال ... لقد عرفت الآن لماذا كان الموتى يخبرون من يتواصلون معهم بأسرار لا يعرفها سواهم، لقد كانوا يكتبونها بأنفسهم ... لقد عرفت جزء من السر وعليها الآن أن تتصل (بأمير) لتخبره به.
***
في ذلك الوقت كان (أمير) يبحث في شقة (زهران) عن تلك الوريقة الغامضة، أزاح المكتب المنكفأ على الأرض وبدء يقلب في الأوراق أسفل منه ... وفجأة لمحتها عيناه، وريقة صغيرة في المكان الذي توقع وجودها فيه تماما ... نهض (أمير) وفتح الوريقة، وعلى الضوء الضعيف المتسلل من الشرفة، قرأ ما بها ... كان بها كلمة واحدة ... عليه الآن أن يتصل (بشيرين) بسرعة ليخبرها بما وصل إليه ... وفجأة شعر (أمير) بأن هناك من يقف خلفه... يقف خلفه مترصدا إياه في ظلام الغرفة.

.. (انتهى الجزء الثالث ويليه الجزء الرابع) ..
 


قصة رعب بعنوان ... (لديك 5 رسائل من شخص ميت – الجزء الرابع)
ملخص ما سبق ... مقتل (غادة)، ثم مقتل (زهران) بطريقة غامضة وبواسطة مخلوق شبحي، وكلاهما عبث بذلك الموقع الغامض للتواصل مع الموتى ... تواصل (شيرين) ومعها (أمير) محاولاتهما الجادة لحل ذلك اللغز، والوصول إلى القاتل، والانتقام لصديقيهما ... تكتشف (شيرين) سر الموقع والذي يعتمد على وسيلة سرية لتنويم رواده مغناطيسيا وجعلهم يتصورون أنهم يتواصلون مع الموتى من أهلهم، والحقيقة أنهم يتواصلون مع أنفسهم!.. ويعثر (أمير) على وريقة صغيرة في منزل (زهران) بها كلمة واحدة كتبها قبل موته بثوان، ولكنه يشعر فجأة بأن هناك من يقف خلفه متربصا به في ظلام الغرفة ....
.
-          من أنت؟ وماذا تفعل هنا؟
التفت (أمير) بذعر ليرى صاحب هذا الصوت الغليظ الذي يقف خلفه، فرأى رجلا قاسي الملامح، يختفي وجهه خلف شارب غليظ، يرتدي جلباب ويوشح رأسه (بكوفية) من القطن، تبدو عليه ملامح المخبرين التقليدية ... كرر الرجل سؤاله بصوت أكثر غلظة، فأجابه (أمير) مخادعا:
-          أنا صاحب هذا المكان.
وأشار له بمفتاح الشقة، فصرخ فيه الرجل:
-          كاذب ... صاحب هذا المكان ميت.
ثم قبض بكفه الغليظة على كتف (أمير)، وهو يردف:
-          ألا تعرف أن دخول هذا المكان جريمة؟
قال (أمير) بسرعة:
-          لا ... لا أعرف ... أنا صاحب صاحب هذا المكان، وكنت أقيم فيه معه أحيانا، وهذا مفتاح الشقة.
ثم أخرج محفظته الجلدية من جيبة، وتصنع أنه يبحث فيها، فأخرج منها في البداية بعض الأوراق النقدية، وناولها للرجل وهو يردف:
-          أمسك هذه.
ثم استكمل البحث في المحفظة، وأخرج منها صورة له مع (زهران)  وهو يردف:
-          أنظر ... هذه صورة لي معه.
نظر الرجل للصورة بعدم اكتراث، كانت عيناه تقيمان فئة الأوراق النقدية التي في يده، ولعابه يكاد يسيل عليها، فقال متصنعا الغضب وهو يكوم الأوراق ويدسها في جيب جلبابه:
-          عندك حق، أنت فعلا صاحبه ... إذا، أذهب قبل أن يقبض عليك ظلما ... وأياك أن تعود إلى هنا ثانية.
***
ليلة مليئة بالمفاجآت عاشتها (شيرين)، فبعد أن اتصل بها (أمير) وأخبرها بمغامرته الليلية في شقة (زهران)، كانت شديدة الفضول لمعرفة الكلمة التي خطها في الوريقة قبل موته، فأخبرها (أمير) إنها:
-          ق ص ر ... قصر.
فأجابت وهي تفكر:
-          قصر، بالتأكيد يتحدث عن القصر الذي يعيش فيه المهندس (حجاوي).
-          ليس بالضرورة ... قد يكون قد قصد أي قصر آخر، فالبلد مليئة بالقصور الأثرية، وقصور الإقطاعيين الجدد التي يعيشون فيها الآن بمعزل عن عامة الشعب.
صمت للحظة، ثم أردف:
-          أو يكون (قصر) بمعنى (القصير) في الطول أو قصير النظر.
ابتسمت (شيرين) وهي تجيب:
-          أنت تزيد الأمور تعقيدا، وتجعلنا نحيد عن التفسير البسيط وهو في العادة الأكثر احتمالية ... لو فعلت مثلك لافترضنا أيضا أن هذه الحروف الثلاثة جزء من كلمة أو اسم شخص، لم يسعف الوقت (زهران) المسكين لاستكماله، كاسم (قصراوي) مثلا.
-          محتمل.
-          لا ... أنا اعتقد إنه كان يقصد قصر المهندس (حجاوي) الذي يسكن فيه الآن، بالتأكيد يخفي فيه أسرار كثيرة.
تثائب (أمير) وهو يقول بآلية:
-          محتمل أيضا ... عموما، أنا مرهق للغاية الآن، ولم أنل أي قدر من النوم في اليومين الأخيرين، سأحاول أن أنال قسطا من الراحة حتى استطيع أن أفكر معك بمنطقية.
أغلقت (شيرين) الهاتف المحمول، ولكن قبل أن تضعه على الطاولة، ارتفع رنينه مجددا، لمحت الرقم على شاشة المحمول، فتساءلت بصوت خافت:
-          من المتصل يا ترى؟
ثم وضعت الهاتف المحمول على أذنيها وهي تجيب:
-          ألو.
-          كيف حالك يا أستاذة (شيرين) ...أتذكرينني؟
لم يكن الصوت غريبا على أذنيها، ولكنها عجزت عن أن تتعرف على صاحبه، فسألت بجدية:
-          من حضرتك؟
-          أنا المهندس (حجاوي).
كان المتصل هو آخر شخص يمكن أن تتوقعه (شيرين)، فتجمدت من الذهول ولم تستطع الرد، فأردف المهندس (حجاوي):
-          أنا أريد أن أعتذر لك عن تلك الطريقة المؤسفة التي بدأنا بها معرفتنا.
تمتمت (شيرين) وهي لم تخرج بعد من حالة الذهول:
-          أجل.
-          لذا ... فأنا أدعوك لحضور حفل الليلة في قصري ... هل تعرفين العنوان ؟
-          لا.
-          سأرسل لك الأحداثيات ... لا تتأخري سيبدء الحفل بعد ساعتين.
أغلقت (شيري) الهاتف، وهناك فيض هائل من الأفكار يعربد داخل رأسها ... ماذا تفعل؟.. هل تذهب؟.. إنها فرصة لتفحص المكان، ولا يجب أن تضيعها ... هل تطلب من (أمير) الذهاب معها؟.. لا داعي لذلك لقد كان مرهقا للغاية ... سترسل له رسالة على الهاتف المحمول احتياطيا ... إذا فالقرار هو أن تذهب إلى الحفل، وتحاول كشف المزيد من الخيوط ... قالت بصوت خافت مخاطبة نفسها:
-          حسنا ... سأذهب.
****
وصلت (شيرين) إلى ذلك القصر المهيب في تلك المنطقة المنعزلة، فصفت سيارتها أمامه، وترجلت منه وهي ترفل في فستان سهرة أخضر لامع، لا يريحها ... كان القصر عتيقا يحمل ذلك الطابع القوطي، تحيط به حديقة عالية الأشجار تشبه الأحراش، تماثيل حجرية، (جرجونات)، نافورات ماء معطلة، ممرات من الحجر المصقول ... هذا المكان كأنه خرج منذ لحظات من كتاب من كتب الرعب (الكلاسيكية) ... القصر نفسه يبدو كالوحش وهو يطل على المدينة من فوق الهضبة، وعلى مسافة أمتار قليلة سفح الهضبة، الذي يمكن أن يلقى إنسان من فوقه ليسقط مفتتا ... في الواقع هذا المكان صالح لارتكاب عشرات الجرائم وإخفائها دون أن يشعر بها أحد ... وهذا شئ لا يدعو للطمأنينة.
استقبل المهندس (حجاوي) (شيرين) لدى الباب الداخلي للقصر مرحبا، وبجانبه إمرأة غليظة الملامح ترتدي فستان سهرة أسود لامع يظهر من جسدها أكثر مما يخفي، شعرت (شيرين) أنها رأت تلك المرأة من قبل، رحبت بها الأخيرة بلهجة جافة، فتذكرتها (شيرين) على الفور، فقالت بدهشة:
-          آنسة (نجفة) !؟
تنحنح المهندس (حجاوي) وهو يقول:
-          بل، مدام ... نسيت أن أخبرك أن (نجفة) هي مساعدتي في العمل وزوجتي أيضا.
فاعتذرت له (شيرين) وهي تفكر أن المعلومات التي جلبها لها (أمير) لم تكن دقيقة، فهي لم تشر إلى أن المهندس (حجاوي) متزوج، قاطع المهندس (حجاوي) تلك الفكرة وهو يدعوها للدخول والاندماج بالحضور، وتقدمها بالفعل عدة خطوات، ثم أشار  لها مباعدا ما بين يديه بكف مفتوح علامة على الترحيب، رغم تلك الابتسامة الثعبانية التي لا تغادر وجهه أبدا، وهو يقول:
-          تفضلي ... البيت بيتك.
كانت قاعة الاستقبال واسعة رحبة، مليئة بالتحف الثمينة وأثاث القصور الكلاسيكي، كان هناك ما يقرب من ثلاثين مدعوا، من الرجال والنساء يتفرقون في مجموعات، ويتضاحكون، ويرقصون على الموسيقى الهادئة التي تسري من مكان ما، وفي الوسط هناك طاولة ضخمة حافلة بأطايب الطعام والشراب ... شعرت (شيرين) بالحرج فهي لا تعرف أحدا من الموجودين، ولا تعرف الطريقة المناسبة للاندماج بهم، عموماهي ستلتقط شيئا من طاولة الطعام التي أثارت حواس التذوق لديها من النظرة الأولى، وستنتظر اللحظة المناسبة لتنسل وتحاول أن تفتش أماكن أخرى من القصر، عسى أن تجد الدليل الذي تبحث عنه.
ملأت طبقا بالطعام وكوبا بالعصير، وبدأت تلوك الطعام في بطء وتلذذ وهي تراقب الحضور ... هناك شئ غريب بخصوصهم، فجميع الحضور من الشبان، بل إن بعضهم من المراهقين، وهناك شئ آخر؛ معظمهم يرتدي الملابس السوداء، ما عدا هي بفستانها الأخضر الغير مريح، وفتاة شابة أخرى ترتدي فستان أبيض ولا يتجاوز عمرها العشرون عاما، بصحبة شاب في مثل عمرها يرتدي حلة سوداء مثل البقية ... اقتربت منها (نجفة) وحاولت رسم ابتسامة على وجهها ففشلت فشلا ذريعا مع تلك الملامح الثقيلة التي تحملها على وجهه، فبدت ابتسامتها كتكشيرة أو كأنها تهدد (شيرين) وتتوعدها! ولكن (شيرين) فهمت أنها تحاول الابتسام، فبادلتها بابتسامة أخرى ... قالت (نجفة) وهي تصب كوبا من الشراب الأخضر من صحن كبير من الكريستال، وتناوله (لشيرين):
-          جربي هذا سيعجبك.
-          ما هذا؟
-          (سيتريجوس).
-          لا شكرا ... أنا لا أشرب الخمور.
فضحكت (نجفة) بقهقهة عالية، أفزعت (شيرين)، قبل أن تقول:
-          هذا ليس خمرا، إنه خليط من الحمضيات، سيعجبك كثيرا.
تناولته منها (شيرين) شاكرة، وما أن ابتعدت (نجفة)، حتى صبته مرة أخرى في الصحن، فهي لا تحب أن تشرب شيئا لا تعرفه، وخصوصا عندما تزكيه لها واحدة مثل تلك المرأة المريبة.
استمرت الحفلة لدقائق أخرى، وحينها قررت (شيرين) أن الوقت قد صار مناسبا لتتسلل، وخصوصا إن أحد لا ينظر إليها في تلك اللحظة ... ولكن فجأة توقفت الموسيقي، وارتفع صوت بوق عال مرعب، أزعج (شيرين) بشدة وجعلها ترتعد من الفزع، وهي تسد أذنيها بكفيها ... توقف الحضور عن كل ما كانوا يفعلونه، وبدؤا يتجمعون في مجموعتين، تحركت الأولى وأحاطت بالفتاة ذات الفستان الأبيض، وتحركت الأخرى لتتحلق حول (شيرين)، التي صرخت في فزع:
-          ما الذي يحدث؟.. ماذا تفعلون؟
لم تتلق (شيرين) أي إجابة من تلك الوجوه الشابة التي تحاصرها وتحدق فيها بنظرات جامدة، قاسية ... ارتفع صوت البوق مرة أخرى، فهجمت المجموعة على (شيرين) وقبضوا عليها، وحملوها، وتحركوا في اتجاه القبو ... كانت (شيرين) تحاول يائسة التخلص من تلك الأيدي التي تمسك بها بقسوة، وهي تصرخ ولكن دون جدوى ... وصل إلى مسامعها صرخات الفتاة الأخرى فعرفت أن حالها لا يختلف عنها كثيرا.
***
وصلت (شيرين) محمولة إلى القبو أسفل القصر، والذي الذي بدا متسعا كملعب كرة قدم، كان القبو مصنوعا من أحجار ضخمة عليها آثار العفن والترسبات الملحية وفعل السنين، ومضاء بمشاعل معلقة على الجدران، وفي منتصفه تمثال لصنم أسود ضخم له قرنين ووجه يشبه الخنزير ونصفه السفلي يبدو كطائر جارح، وتحته مذبح حجري تقف خلفه تلك المرأة المسماة (نجفة) توجه نظرات قوية، حادة، مخضعة ... بدت (نجفة) عما كانت عليه في السابق، في تلك اللحظات بدت شخصيتها قوية، مؤثرة، طاغية،  وإلى جانبها يقف المهندس (حجاوي) كقزم صغير، منزو، تابع، مقهور ... من الواضح أنه يلعب دور (الكومبارس) في هذا العمل الشنيع الذي تقوم ببطولته زوجته (نجفة)، التي صرخت في المدعوين بلهجة آمرة:
-          اجلبوا الأضحية الأولى.
تحركت المجموعة الثانية بالفتاة ذات الفستان الأبيض وألقوا بها على المذبح وقيدوها إليه، وهي ترجوهم أن يعفوا عنها، وتنادي بإسم صاحبها الذي جلبها إلى الحفل أن يحررها، ولكنه بدا أكثر قسوة من الآخرين وهو يقيدها إلى المذبح بخشونة ... أما (شيرين) فقادوها إلى ركن مظلم من القبو، وضموا ساعديها، وربطوهما بحبل ليفي خشن فوق رأسها إلى حلقة معدنية من الصلب ... كانت (شيرين) ما زالت تصرخ، وتقاوم، وتخمش من تصل إليه أظافرها، ولكن كل هذا بدا عديم الفعالية ... كيف أوقعت نفسها في هذا الفخ؟.. كان يجب عليها توقع حدوث كارثة، كم هي حمقاء، عنيدة.
تجمع المدعون في ثلاثة صفوف متتابعة، رفعوا أياديهم لأعلى بقبضة مضمومة، ثم بدؤا يلهجون بكلمة ويكررونها في حماس، لم تبد الكلمة واضحة (لشيرين) في البداية، إنهم يقولون (كارسوس .. كارسوس .. كارسوس) أو شيئا مثلها ... أشارت لهم (نجفة) بكفها، فساد الصمت، ثم اقتربت من الفتاة ذات الثوب الأبيض، ومررت كفها على جسد الفتاة، وهي تهمس بكلمات شيطانية غير مفهومة  في أذنها، والأخيرة تواصل الصراخ والاستغاثة دون جدوى ... فجأة، بدء جسد (نجفة) يتحور ويستطيل ويتخذ شكل ذلك المخلوق الأسود المعتم الذي رأته (شيرين) منذ ساعات على تسجيل (الفيديو) الخاص بقاتل (زهران) ... فصرخت (شيرين):
-          إنها هي تلك اللعينة ... إنها هي القاتلة!
تعالت الأصوات مرة أخرى هادرة (كارسوس .. كارسوس .. كارسوس)، وغابت خلفها صرخات الفتاة المستغيثة، قبل أن تستعيد (نجفة) هيئتها البشرية، وهي تشير للحضور حتى يعودوا للصمت ... انحنت (نجفة) على الأرض وجلبت خنجرا ذو نصل متعرج، ورفعت يدها التي تحمله فوق رأسها ... كانت (شيرين) تتوقع ما سيحدث بعدها، وتعرف أن مصيرها لن يختلف عن هذا كثيرا، أصبحت تعرف الآن شعور الفأر في المصيدة ... وقعت عيناها على وجه المهندس (حجاوي) في تلك اللحظة فلمحت فيهما ذعرا، وهو يتابع ما تفعله زوجته، لم تجد الوقت لتفسير ذلك، فقد غرزت (نجفة) الخنجر في صدر الفتاة، فسكنت صرخات المسكينة إلى الأبد، وانبسقت من صدرها نافورة من الدماء، وتعالت الصرخات المهتاجة من الحضور... رفعت (نجفة) الخنجر وغرزته في جسد الفتاة مرة ثانية وثالثة، حتى سال دمها وأغرق المذبح، ثم رفعت رأسها إلى الحضور ونطقت بتلك الكلمة اللعينة (كارسوس)، فبدؤا يتوافدون إلى المذبح، يملسون أيديهم ووجوههم بدم الفتاة ... فجأة، انطلقت موسيقى مرعبة في المكان، موسيقى تنبعث من آلات مزعجة، لم تسمع (شيرين) مثلها من قبل في حياتها، أصواتها تبدو كصرخات وآنات تصدر من قلب الجحيم ... انطلق الجميع في فاصل همجي، مجنون من الرقص على تلك الموسيقى البشعة بعد أن أغرقوا أجسادهم بدماء أضحيتهم ... في النصف ساعة التالية شاهدت (شيرين) بأعينها أبشع آيات الفجور والمجون، قامت بها تلك الطغمة من الشباب المخبول أسفل أقدام ذلك التمثال الذي يقدسونه وأمام كاهنتهم اللعينة، (نجفة)! ... لم تعبأ (شيرين) بكل ذلك، ولا بالسر الذي نجحت في السبر عنه أخيرا، فقد كانت تعلم أن دورها سيحين بعد قليل ... دورها كأضحية ثانية في تلك الليلة!

.. (انتهى الجزء الثالث ويليه الجزء الخامس والأخير) ..


قصة رعب بعنوان ... (لديك 5 رسائل من شخص ميت – الجزء الخامس والأخير)
**ملحوظة ... لمن لديه مشكلة في عرض النص كامل، تابع التعليقات الأولى**
ملخص ما سبق ... مغامرة مثيرة (لشيرين) الصحفية الشابة تحاول فيها الكشف عن سر موقع للتواصل مع الموتى، ولكنها تقودها إلى قصر قوطي في منطقة منعزلة، لتجد نفسها محاطة بمجموعة من الشباب المخبول يرتدون السواد ويقدسون شيطان مريد، وكاهنتهم التي تتحول إلى مخلوق مرعب كقطعة من ظلام الليل، وهي تشق صدر فتاة مسكينة بخنجر ذو نصل متعرج، ليسود الجنون والمجون المكان ... عرفت (شيرين) أن دورها سيكون تاليا.
.
ستعجز (شيرين) عن وصف ما شاهدته في ذلك القبو في تلك الليلة، لو قدر لها أن تعيش لليلة أخرى وطلب منها أن تصف ما رأته، فكل نوع من أنواع الفجور والفسق والرذيلة ارتكب في تلك الليلة، بواسطة طغمة من الشباب المخبول، ليلة اختلط فيها الخمر بدماء الفتاة المسكينة وسكب على تلك الأجساد التي تعرى بعضها، وهي ترقص بجنون على تلك الموسيقى الشيطانية، وتقف أمامهم كاهنتهم (نجفة) تشعر بالرضا والإنجاز، وإلى جانبها ذلك التابع، المهندس (حجاوي)، يقف عاجزا، مهموما.
تتخاذل قدما (شيرين) عن حملها، فينهار جسدها المعلق من كلتا يديه بذلك الحبل الليفي الخشن إلى حلقة معدنية في الجدار، قد يكون ذلك بسبب الخوف من المصير الذي ينتظرها، وقد يكون بسبب الآلام التي تنوء بها كل خلية من جسدها بعد جميع محاولاتها الفاشلة للتخلص من قيدها ... هي الآن تشعر باليأس وبعذاب انتظار المصير المحتوم، تفكر أن الأمر كان سيكون أكثر رحمة لو بدؤا بها قبل صاحبتها المسكينة ذات الفستان الأبيض التي خدعها عشيقها وجلبها إلى هنا كي تذبحها طائفته ... تهتز المشاهد أمام ناظريها ويتشوش عقلها وتشعر بأنها ستغيب عن الوعي ... ولكن فجأة يصل إلى مسامعها ذلك الصوت الهامس:
- لا تخافي ... أنا هنا لأنقذك.
- (أمير) ... هل هذا أنت؟
فهمس في أذنيها، محذرا:
- أرجوك أخفضي صوتك ... حتى لا يسمعنا أحدهم.
***
لم يرى (أمير) رسالة (شيرين) التي أرسلتها له على هاتفه المحمول سابقا في تلك الليلة، فقد كان نائما بأثر إرهاق أحداث اليومين السابقين، لو رآها لما سمح لها بالذهاب أبدا ... لحسن الحظ استيقظ بعد ساعات بسبب العطش، وألقى نظره على الهاتف المحمول، فصعق عندما رأى تلك الرسالة، وحاول الاتصال (بشيرين) أكثر من مرة، وعندما لم يتلق إجابة، عرف أنها في خطر محدق، لذا قرر الذهاب مباشرة إلى قصر (حجاوي)، لم يكن يعرف المكان تحديدا واحتاج إلى جهد ووقت حتى وصل إليه، ورأى سيارة شيرين مصفوفة أمامه ... كانت أبواب القصر مغلقة، ولا يوجد أي مظهر من مظاهر الاحتفال، فتأكد أكثر أنها بخطر، لذا قفز من فوق السور الخارجي، وتسلل إلى الداخل من أحد النوافذ المفتوحة ... كان المكان يغرق في ظلام دامس، فتضاعف ذعره وخوفه على (شيرين)، أخذ يبحث في المكان بجنون، وعندما مر إلى جوار باب القبو وصل إلى مسامعه صوت مكتوم يصدر من داخله، ففتح الباب بسرعة فأفزعه الصوت العالي المرعب الذي يصدر من داخل القبو، وفهم أن باب القبو وجدرانه مغطاة بألواح كاتمة للأصوات ... تسلل (أمير) للداخل وهناك رأى تلك الحفلة الماجنة، وهالة منظر (شيرين) وهي مقيدة بالجدار في ذلك الركن المظلم، فاقترب منها مستغلا ظلمة ذلك الجانب من القبو، وتشاغل الموجودين بما يفعلونه.
أخرج (أمير) من جيبه مطواة صغير، وأخذ يمزق بحدها ذلك الحبل الليفي بحذر حتى لا ينتبه أحد لوجوده ... كانت (شيرين) تهمس في أذنه بكلمات لا يسمع معظمها، حيث كان مركزا وبشدة على تمزيق ذلك القيد السميك ... وأخيرا نجح، فتخاذلت ساقا (شيرين) فتلقاها قبل أن تسقط على الأرض، وأسند ذراعها إلى كتفه، ثم أخذ يعاونها على التحرك بخطوات هادئة حذرة نحو باب القبو ... خطوات قليلة ويصلان إلى الباب، وفجأة انطلق ذلك البوق المزعج مجددا فأفزعهما، وتلاه صوت (نجفة) الرجولي الآمر:
- الحقوا بهما، إنهما يحاولان الهرب!
التفت الحضور كلهم إلى (أمير) و (شيرين) ثم اندفعوا ناحيتهم بشراسة ... كان يفصلهما عن الباب شابين وفتاة، أسند (أمير) صاحبته على الجدار، واستقبل أولهم بقبضة في وجهة أطاحت به، والثاني بركلة بين قدميه، لم ينتبه للفتاة التي تعلقت بظهره وأخذت تخمش في وجهه بأظافرها، وهي تصرخ مثل القطط الوحشية، قبل أن ينقطع صوتها مرة واحدة وتتخلى عنه وتتهاوى غائبة عن الوعي، وخلفها رأى (شيرين) وهي تشير له بقطعة الحجر التي ضربت بها الفتاة على رأسها، فبادرها وهو يقبض على كفها:
- هيا بنا.
ولكن تلك اللحظات كانت كافية لآن يتوافد عشرات الحضور ويتكالبون عليهما، أخذ أمير يضرب ويركل في الأجساد التي أحاطت، ثم بدأ يتلقى الضربات والركلات من عشرات الأيدي والأقدام، وسرعان ما انهار وسقط على الأرض، وهو يسمع (شيرين) وهي تنطق بإسمه، قبل أن ينتزعوها منه ويحملوها إلى المذبح ... نادى (أمير) عليها، وهو يتأوه بفعل الضربات التي يكيلها له الشباب المتحمس حتى غاب عن الوعي، فاستمروا في التنكيل به للحظات حتى خمدت حركته تماما ... انبعثت صرخة (شيرين) المتوسلة:
- أرجوكم كفى ... أنتم تقتلوه.
كانت عيناها تتابعان (أمير) في قلق، وتنتظر أن يأتي بأي حركة تنبأ بأنه على قيد الحياة، وبالفعل، شعرت بالراحة، وهي تراه يتأوه ويحرك ذراعه اليمنى، فسالت الدموع من عينيها، ولم تبد أي مقاومة وهم يحكمون قيدها إلى المذبح ... بدأت طقوس الأضحية الثانية لتلك الليلة، وكماحدث في المرة الأولى تماما، نفس الصفوف الثلاثة المتتابعة، وتلك الكلمة اللعينة التي يلهج بها الحاضرون (كارسوس)، والكاهنة (نجفة) وهي تقترب منها، وتتحسس جسدها، وهي ممسكة بالخنجر ذو الحد المتعرج، وتهمس في أذنها بتعاويذ شيطانية غير مفهومة ... همست (شيرين) بكلمات يائسة بدت متعارضة مع الموقف:
- تعقلي يا (نجفة)، كنت أظن أننا سنكون صديقتين.
ابتسمت (نجفة) تلك الابتسامة الغليظة التي تبدو كتكشيرة، فأردفت (شيرين):
- لماذا لا تضميني إلى ناديكم؟ سأكون عضوة رائعة.
اقتربت منها (نجفة) أكثر، وهي تهمس في أذنها:
- أتعلمين؟ أنا لا أحب من هم على شاكلتك ... ومن أول لحظة رأيتك فيها، وأنا انتظر أن أغمد خنجري في قلبك بتلك الطريقة.
قبل أن ترفع يدها بالخنجر فوق رأسها وتستعد لغرزه في صدر (شيرين) ... وفجأة انبعث صوت قوي آمر في المكان:
- لا أحد يتحرك.
قبل أن يندفع إلى القبو ظابط شرطة يحمل مسدسه مهددا، ومن خلفه مجموعة من الجنود انتشرت في المكان في لحظات ... حاولت (نجفة) غرز السكين في قلب(شيرين)، متجاهلة ذلك الأمر، فأصابها الضابط برصاصة محكمة في صدرها، فسقطت على الأرض هامدة في لجة من دمائها التي اختلطت بدماء الأضحية الأولى ... ساد الهرج، والمرج، وحاول البعض الهرب فانطلقت بعض الرصاصات في المكان وتمكنت الشرطة من السيطرة على تلك الطائفة المخبولة.
كان (أمير) قد نهض واقترب من المذبح وهو يحمل تحت زرقة الكدمات التي تغطي وجهه ابتسامة رضا ... قام بفك قيد (شيرين) للمرة الثانية في تلك الليلة، فاعتدلت وهي تنظر نحوه بنظرة شكر وامتنان وهي تقول:
- يبدو أن إنقاذ حياتي أصبح من عاداتك اليومية.
- حياتك هي أهم شئ عندي.
قاطعته (شيرين) كعادتها وهي تشير بسبابتها:
- انظر.
فنظر إلى حيث تشير، كان المهندس (حجاوي) يقف منتصبا أمام جسد (نجفة) الهامد، وعلى وجهه ابتسامة رضا.
***
ليلة أخرى بلا نوم ... ويوم طويل ومرهق من التحقيقات في قسم الشرطة ... وكشف العديد من الفضائح عن تلك الطائفة من الشباب التي تقدس ذلك الشيطان المريد (كارسوس)، وعن كاهنتهم اللعينة (نجفة) التي ترقد الآن في المشفى بين الحياة والموت، وعن طقوسهم الماجنة، وعن دور المهندس (حجاوي) وموقعه الذي كان يستخدم السحر في إغواء الشباب وضمهم إلى تلك الطائفة، الشباب المؤهل لذلك.
كان بطل الليلة السابقة هو (أمير) الذي نجح في الوصول في الوقت المناسب، والذي كان حكيما عندما قام بالاتصال بالشرطة مباشرة بعدما كشف ما كشفه، بل أنه صور مقطع فيديو باستخدام هاتفه المحمول للحفلة الماجنة قبل أن يحاول التدخل، وأرسله إلى صديقه الذي يعمل في الشرطة، ورجاه بأن يجلب قوة من الشرطة ويأتي على الفور ... لم ينتظر (أمير) وصول الشرطة، وحاول إنقاذ (شيرين) بنفسه، ولكنه لم ينجح في محاولته تلك ... المهم أن كلاهما بخير، وهما الآن في قسم الشرطة، يستمعان إلى اعترافات المهندس (حجاوي) الذي قال مخاطبا المحقق:
- تزوج والدي من أمي الفرنسية دون أن يعرف أنها من كهنة (كارسوس) ... ولكنه عرف بعد ذلك وانضم إلى تلك الطائفة، حتى ماتت أمي وأنا بعد طفل صغير ... فمنحته الطائفة مبلغ كبير من المال، وعاد إلى البلاد وأخفى السر عني، ولكنه ظل على اتصال بالطائفة حتى آخر يوم في عمره.
صمت المهندس (حجاوي) لثوان وعقد حاجبيه كأنه يسترجع بعض الذكريات الأليمة:
- كانت حياتي لتسير بشكل طبيعي لو لم أعثر على تلك الأوراق التي أخفاها أبي في قبو القصر ... منها عرفت القصة، ومنها عرفت حقيقة أمي وأبي.
بدا الندم على وجهه وهو يردف:
- لم أكن أحتاج شئ، كان لدي المال، والمهنة الكريمة ... ما الذي دفعني إلى أحياء تلك اللعنة؟
سأله المحقق:
- وكيف فعلت ذلك؟
- كانت من بين الأوراق ورقة تحوي طقوس تعميد كاهنة جديدة ... وكانت لدي تلك المساعدة التي تحبني وتطيعني على استعداد لآن تفعل أي شئ من أجلي، (نجفة) ... أقنعتها بأن تقوم هي بهذا الدور، وقمنا معا بالطقوس اللعينة، حينها اكتشفت الكارثة التي جلبتها لنفسي، فقد تبدلت مساعدتي في لحظة، وأصبحت إنسانة أخرى بل كائن آخر، شرير، قلبه حالك كالليل البهيم، شبق لكل صنوف الشرور ... حينها تبدلت الكراسي، وصارت هي القائدة وأنا التابع.
سأله المحقق ثانية:
- وماذا عن ذلك الموقع اللعين؟
- كان الموقع في مجال خبرتي، أما السحر فكان من فعل الكاهنة ... كان الموقع يسحر مستخدميه ويجعلهم يظنون أنهم يتواصلون مع الموتى، والأهم من ذلك هو اختيار أعضاء جدد للطائفة ... كانت الكاهنة ترغب في ضم عدد كبير للطائفة، حتى تستطيع القيام بالطقس الكبير.
- وما هو الطقس الكبير.
- استدعاء (كارسوس).
سأله المحقق:
- ولماذا قتلتم (غادة) و (زهران)؟ ... لدي أيضا قائمة أخرى من الضحايا في الأيام الأخيرة.
قال المهندس (حجاوي) بلهجة ضعيفة، منكسرة :
- أنا لم أفعلها ... هي فعلتها بتلك القدرات الملعونة التي اكتسبتها ... فقد كاد كلاهما أن يفضح مانفعله.
قال المحقق بحدة:
- ولكنك مشارك في كل الجرائم ... لا داعي للتنصل ... ستنال جزاءك.
قال المهندس (حجاوي) بصوت حزين:
- أجل ... أنا استحق.
غادرت (شيرين) القسم بصحبة (أمير) الذي قال لها:
- فستانك جميل.
ابتسمت وهي تقول:
- ولكنه غير مريح ... من حسن الحظ أنه فسد تماما وسأضطر لتحويله إلى خرق للمطبخ.
بدت على (أمير) تلك الملامح التي تعرفها (شيرين) جيدا، وهو يقول لها:
- هناك موضوع أريد أن أفاتحك فيه:
فابتسمت له ابتسامة تحمل التقدير والامتنان:
- ليس الآن ... سيأتي الوقت المناسب.
- ومتي هذا الوقت؟
- سأخبرك عندما يأتي.
***
في تلك الليلة، بعد أن جاوزت الساعة الواحدة صباحا ... زحف ذلك المخلوق الأسود المعتم على الجدار القائم للبناية حتى وصل إلى شرفة المنزل الذي تسكن فيه (شيرين) فحط فيها، ثم انسل من بين فراغات باب الشرفة الزجاجي كالدخان حتى أصبح داخل غرفة (شيرين) المظلمة ... كانت صاحبة الغرفة في الفراش، مغطاة بملاءة خفيفة، اقترب منها ذلك المخلوق، ينساب محلقا على ارتفاع بوصات من أرضية الغرفة، قبل أن يتحور شكله، ويتغير ليكتسب تلك الهيئة البشرية، هيئة (نجفة) وهي تقبض بيمينها على خنجرها المتعرج ... نظرت (نجفة) بكراهية إلى (شيرين) ثم غرزت الخنجر حتى مقبضه في جسدها، ورفعته بغل ثم غرزته فيه أكثر من مرة ... لم يصدر عن (شيرين) أي رد فعل وهي تتلقى كل تلك الضربات، ولم تغرق الدماء فراشها ... فأصابت الدهشة (نجفة)، قبل أن ترفع الملاءة في غضب لتجد تحتها وسادة طويل تمزقت بأثر الضربات وخرج القطن من باطنها ... (شيرين) ليست هنا.
***
في تلك اللحظة على سطح البناية، كانت (شيرين) تراقب على شاشة حاسبها اللوحي مايحدث في غرفتها، تصوره لها الكاميرا الخاصة (بزهران) التي ضبطتها على تصوير الغرفة وإرسال (الفيديو) الحي مباشرة إلى حاسبها اللوحي فوق سطح البناية ... كان (أمير) إلى جانبها يراقب معها ما يحدث بقلق وتوتر، قبل أن يقول بصوت خافت:
- لقد كنت محقة ... كيف توقعت أنها ستهرب وتأتي في أثرك.
- تلك القدرة التي رأيتها لدى تلك المرأة لا يحدها سجن ... وكراهيتها لي، ستجعلني أول من تفكر في الانتقام منه.
صمتت للحظة ثم قال بصوت عال:
- الآن يا (أمير).
ضغط (أمير) بيده زر الاتصال في هاتفه المحمول، فرن هاتف (شيرين) في غرفتها حيث تركته ... كان الهاتف متصل بجهاز صغير، أطلق شرارة ضعيفة مع الاتصال ... أمسكت تلك الشرارة في فتيل من القماش مبلل (بالبنزين) فاشتعل بالنار، وامتدت النار سريعا إلى مجموعة كبيرة من الزجاجات ممتلأة بالسائل القابل للاشتعال، انفجرت تلك الزجاجات بعنف وأرسلت السائل المشتعل في كل اتجاه، فأمسكت النار بسرعة في الستائر والفرش وأثاث الغرفة الذي كان كله مبللا (بالبنزين)، وفي لحظة واحدة تحولت الغرفة إلى محرقة ... أصابت دفقات السائل المشتعلة جسد (نجفة) في اللحظات الأولى للانفجار، وعندما حاولت الهرب حاصرتها نيران الأثاث المشتعل، وتحول جسدها إلى كتلة من النيران ... انطلقت صرخاتها مدوية متألمة، انطلقت بصوت عميق غليظ كأنه يأتي من قاع بئر ... قبل أن تعدو إلى الشرفة وتقفز من منها إلى الشارع لتصطدم برصيفه القاسي، ويهمد جسدها فوقه وتواصل النيران حرق ماتبقى منه، حتى أتت عليه تماما.
قال (أمير) بأسف:
- إنها العدالة الشعرية ... لقد ماتت بنفس الطريقة التي قتلت بها (زهران).
وافقته (شيرين) وهي تقول:
- والأغرب من ذلك أن جهاز المؤقت ذو الشرارة نزعناه من لعبة صنعها (زهران) بنفسه كهديه لك.
- فعلا، والوريقة والكاميرا... وكأن (زهران) انتقم لنفسه.
أومأت (شيرين) وهي تقول:
- (ولغادة) المسكينة.
خيم الصمت على المكان للحظات، قبل أن تقطعه (شيرين) وهي تقول:
- هذا هو الوقت.
أجابها (أمير) متسائلا:
- أي وقت؟
- الوقت المناسب.
ابتسم (أمير) وهو يقول:
- حسنا ... إذا كان قتل كاهنة شريرة وحرقها بالبنزين هو الوقت المناسب لك ... إذا لن أضيع الفرصة وسأصارحك بمشاعري نحوك بطريقة مباشرة.
مست (شيرين) فمه بيدها في إشارة له بالصمت وهي تقول:
- لا داعي لآن تخبرني بما تشعر به نحوي، فأنا أعرفه جيدا ... فأنا أيضا أحمل نفس المشاعر لك ... وأكثر.
.. (تمت) ..
للمزيد من القصص استعرض فهرس القصص من الرابط:
https://www.facebook.com/Kasharera/posts/280341045660023
 

هناك تعليق واحد:

  1. السلام عليكم انا احمد حسن مصور ومخرج مبتدا كنت عاوز احول القصة لفيلم قصير فكنت محتاج اتواصل مع الؤلف
    عندى كاست تمثيل كويس
    وامكانيات تصوير معقولة
    محتاج بس احولها لسيناريو وحوار
    فارجو التواصل مع المؤلف سريعاً

    ردحذف