قصة رعب بعنوان ... (سبعة أبواب –
الجزء الأول)
-
أين أنا؟
تمتمت بها في عدم تصديق، وأنا أتلفت
حولي في فزع ... كيف وصلت إلى هنا؟ وما الذي أتى بي إلى هذا المكان؟.. صداع شديد
يتملك رأسي ويكاد يمزق خلايا عقلي، ويزداد كلما حاولت تذكر ما حدث ... لقد محت
الساعات الأخيرة من ذاكرتي تماما ... اللعنة ... أقف في ظلام تلك الليلة، في تلك
البلدة التي تبدو كأنها خرجت لتوها من أحد أفلام (الأبيض والأسود)، والتي تظهر مدن
وقرى (أوروبا) في نهايات القرن التاسع عشر، بذلك الطريق المعبد بالأحجار المصقولة،
وتلك الأعمدة النحاسية المضاءة بقناديل زجاجية، سداسية الشكل، والذي يحوي كل منها
بداخله شمعة غليظة، ترسل ضوءا خافتا لا يكاد يضئ المكان، وبتلك البيوت الحجرية ذات
الطابق الواحد أو الطابقين، وأسفل كل منها بعض المحال التجارية التي أغلقت جميعها
الآن.
أقف وحدي في تلك البلدة الخالية تماما
من أي إنسان، عداي ... كأنها بلدة أشباح، المحال كلها مغلقة، وكذلك مداخل البيوت،
ومدعومة بسلاسل غليظة من الصلب القاسي، وحتى نوافذ البيوت مقساة بأطر وأسياخ
حديدية ... أين ذهب أهل تلك البلدة؟ ... يخبرني عقلي وتلك الأضواء الشاحبة التي
تنبعث من وراء
خصاص النوافذ، أن أهل البلدة لم يهجروها، ولكنهم
متحصنين داخل بيوتهم! ما السبب في ذلك ياترى؟..
تلمح عيناي الواجهة الزجاجية لأحد
المحال المغلقة، فاقتربت منها بفضول، إنها تعرض بعض القبعات والمعاطف عتيقة
الطراز، يفاجئني انعكاس صورتي على زجاج الواجهة، أنا ايضا أرتدي ثياب من نفس
النوع، ثياب من القرن التاسع عشر ... قربت وجهي أكثر من الواجهة، وحاولت النظر إلى
داخل المحل المظلم، لا شئ مختلف، مجرد محل للملابس العتيقة، يحوي المزيد من الثياب
المعلقة على حوامل معدنية، وبعض الأرفف التي تعرض بعض
(الأكسسوارات) والأدوات المثيرة للضحك، أشياء كانت تستعملها جدة جدتي في القرن قبل
الماضي، وفي صدر المكان هناك كرسي البائع وخزانة قديمة من الصلب ... وقعت
عيناي على روزنامة ورقية معلقة على الجدار تعرض تاريخ اليوم
... تزايدت حدة دهشتي وذعري، فأنا لست تائها فقط في مكان أجهله، ولكنني أيضا في
زمن يسبق حاضري بما يزيد عن القرن، فالروزنامة كانت تعرض تاريخ اليوم ... الثالث
من مارس ... ولكن العام! ... إنه عام (1893).
انتبهت إلى صوت طرقات قوية على الأرض الصلبة، فالتفت ناحية
الصوت، فلمحت حصان أسود يقترب مني بخطوات سريعة، وهو يدق الأرض بسنابكه وتحتك
حدوته الصلبة بالأرض القاسية فتصدر ذلك الصوت القوي، وعلى صهوته رجل يرتدي ثياب
شرطي تناسب هذا الزمان، وعلى رأسه قبعة نصف كروية من الجلد القاسي، وفي وسطها، رمز
لنسر نحاسي وعلى صدره الرقم ثلاثة ... بادرني الشرطي بصرخة قوية:
-
ماذا
تفعل هنا؟
***
في الزمن الحاضر ... وقفت تلك المرأة
التي جاوز عمرها الخمسين عاما، وقد بدت أكبر من ذلك بكثير بسبب الحزن الذي عانته مؤخرا،
في ركن الغرفة تراقب بعينين مغرورقتين بالدموع الطبيب وهو يراجع حالة إبنها الغائب
عن الوعي منذ فترة تجاوزت الشهر بعد الحادثة التي تعرض لها ... أجرى الطبيب بعض
الفحوص الروتينية، ثم تناول ملف الشاب المعلق في فراشه المعدني، والقى نظره عليه،
ثم أضاف بعض الكلمات إليه وأوعز إلى الممرضة التي تقف إلى جانبه ببعض الملاحظات والتعليمات
... اقتربت المرأة من الطبيب، وسألته بلهجة تحمل لهفة وأمل لم يفارقا صوتها في
المائة مرة الأخيرة التي سألت فيها الطبيب نفس السؤال:
-
طمئني يابني ... هل هو بخير؟
ابتسم في وجهها وهو يجيبها متعاطفا:
-
هو بخير ياأماه.
-
إذا لماذا لا يستيقظ؟
ثم أشارت بيمينها إلى أبنها الشاب النائم
في فراشه، فأجاب الطبيب:
-
لا يوجد سبب عضوي يمنع ذلك.
فاضت عينا المرأة بالدموع من جديد، في
مشهد اعتاد الطبيب أن يراه منها، منذ جاء إبنها مصابا إلى المستشفى، فقال لها
مواسيا:
-
لا تيأسي يا أماه من رحمة الله ... إبنك سليم جسديا
وسيفيق حتما من الغيبوبة، عندما يأذن الله بذلك.
ذهب الطبيب ... فاقتربت المرأة من فراش
إبنها الشاب، وتحسست جبهته بيدها في حنان، وهي تخاطبه:
-
(يوسف) ... هل تسمعني يابني؟ ... أنا أمك.
قبلت وجنته، ثم سحبت كرسي خشبي وجلست
بجانبه تحدثه كعادتها طوال الشهر الماضي، بعد تلك الحادثة اللعينة التي تعرض لها وألقت
به في هذا المستشفى بين الحياة والموت، قبل أن يتعافى جسده ولكن عقله ظل غائبا، ولم
يعد إلى الوعي حتى هذه اللحظة ... تذكرت ذلك فتمتمت بصوت خفيض:
-
الحمد لله.
عادت تتحدث إلى أبنها، تحكي له عن
حالها وعن حال الصحاب والجيران وحال البلاد، وتتفاعل بتعبيرات من وجهها وصوتها،
وكأنه إبنها يسمعها ويدرك ما تقوله!
***
-
ماذا تفعل هنا؟
قالها لي الشرطي من على صهوة حصانه الأسود
.... فتلجلجت، وانا أجيب بصوت ضعيف:
-
لا أعرف!
لم تكن لهجة الشرطي آمرة، مهددة،
ولكنها كانت قلقة، مرتعدة، وهو يقول:
-
هيا بسرعة أرحل من هنا، وعد إلى منزلك!
-
لا استطيع، فأنا ...
قاطعني صارخا:
-
هل أنت مجنون!؟ ألا تعرف أي ليلة تلك؟
ثم أشار إلى القمر الأحمر، العملاق،
المكتمل في وسط السماء، قبل أن يقول:
-
إنها ليلة الوحش!
لم يترك لي فرصة لأتسائل، وهو يردف:
-
هيا أذهب، واحتم في منزلك كالآخريين.
ثم لكز حصانه بكعبيه، وانطلق يعدو به
مبتعدا، تاركني وحدي في مكان أجهل كل شئ عنه!.. المعلومة الوحيدة التي أعرفها الآن،
أن هذه الليلة هي ليلة الوحش ... اللعنة، حظي الحسن يفعلها من جديد!.. انتبهت في
تلك اللحظة إلى كيس ورقي أمسكه بيميني، فتحته بفضول فوجدت فيه شطيرة تبدو شهية ...
جلست على الأرض واسندت ظهري إلى واجهة أحد المحال المغلقة، وأخذت أتناول الشطيرة،
وأنا أحاول التفكير فيما آل إليه حالي ... مر الوقت وأنا على نفس الحال، لفت
انتباهي انعكاس ضوئي يصدر من داخل زقاق مظلم بين بنايتين ... الزقاق رقم (33) كما
هو مكتوب على تلك اللوحة على مدخله ... تحركت نحوه في فضول وأنا أتسائل، هل هناك
شخص ما هناك؟
***
واصلت المرأة حديثها إلى إبنها الشاب الغائب في
غيبوبة، وهي تقول:
-
أتعلم يا (يوسف) ... ماذا جلبت لك اليوم؟.. جلبت لك بعضا
من الروايات التي تحبها.
صمتت لحظة، قبل أن تردف:
-
لا اعرف سر حبك لهذا النوع من الروايات ... الرعب ...
إنها تثير ذعري!.. أنت تعرف أنني لا احتمل هذا النوع من الروايات ... ولكن من أجلك
سأقرأ لك واحدة منها.
نهضت، وتوجهت إلى الكومود المواجهة
للفراش، والمصفوف فوقه مجموعة من الروايات، التقطت أولها ثم عادت إلى كرسيها، وهي
تنظر باشمئزاز إلى صورة الغلاف التي تصور وحش مرعب تقطر الدماء من أنيابه،
ومخالبه، قبل أن تقرأ اسم الرواية بصوت مسموع:
-
(الوحش) ... هذا هو اسم الرواية ... بالتأكيد أنت قرأتها
من قبل، ولكن دعني أذكرك بها.
فتحت الصفحة الأولى، ثم بدات تقرأ
لإبنها (يوسف) في غيبوبته، أحداث الرواية بصوت حزين.
***
توجهت إلى داخل الزقاق بخطوات متوترة،
وأنا أرفع صوتي بوجل، متسائلا:
-
هل هناك أحد هنا؟
تقدمت أكثر إلى داخل الزقاق، ووقفت في
وسط ظلمته لا أرى شيئا في البداية، حتى اعتادت عيناي الظلام ... كان الزقاق ينتهي
بجدار مسدود، يتناثر به بعض الصناديق الخشبية، والخردة المعدنية، وأكياس القمامة
... انبعث صوت حركة خافت من خلف أحد الصناديق، فاقتربت منه، وأنا أردد بصوت ضعيف،
متخاذل:
-
من؟.. من هناك؟
وفي الظلام لمحت عينان تلمعان بضوء
القمر الأحمر، تحدقان في دون أن ترمشان ... شعرت بالرعب، هل هذا الذي يحدق في إنسان
أم حيوان؟.. هل هو كلب، أم قط؟ ... قررت التراجع للخلف، ولكن قبل أن أخطو خطوة
واحدة، ارتفعت العينان إلى أعلى، واستطال معهما جسد صاحبهما، الذي انتصب واقفا على
بعد خطوة واحدة من موقعي ... عجزت عن النطق، وأنا احدق في ذلك الوحش، الذي يقف
أمامي منتصبا، ينظر لي في جشع، بجسد عملاق يتجاوز الثلاثة أمتار، ووجهة الذئبي،
وفرائة الفضي المنتفش، وأنيابه الحادة، المشرعة، وفمه الذي يسيل منه اللعاب في
شهوة ... تراجعت للخلف، معتزما الهرب، ولكن قبل ان أفعلها، أطلق الوحش زمجرة
مروعة، ووجه لي ضربة كالصاعقة بذراعه المخلبية أصابت كتفي وذراعي، فمزقتهما ...
شعرت بآلام هائلة وأنا أنظر إلى ذراعي الذي سقط متدليا عن جسدي، لا يربطه به إلا نذر
بسيط من جلد الكتف المتهتك، تفيض الدماء من جرحه كالشلال المنهمر، لقد قطع ذلك
الوحش ذراعي بضربة واحدة من مخالبة، فكرت، ليس هذا هو وقت البكاء على الذراع
المقطوع، يجب أن أهرب بسرعة قبل أن يفترسني ذلك الوحش، استدرت وأنا أعدو بسرعة إلى
خارج الزقاق، أحمل ذراعي المقطوع بذراعي الآخر!.. لا أعرف إلى أين أهرب؟ وإلى أين أتوجه؟
لم يلاحقني الوحش إلى خارج الزقاق، ابتعدت عن المكان وأنا أحمل آلاما لا تطاق
وجرحا تسيل منه الدماء كالصنبور ... لمحت فجوة، تبدو كشق غائر في جدار بناية،
توجهت إليها وأويت داخلها وأنا اتلفت ورائي خوفا من ظهور ذلك الوحش ... ولكن ذلك
لم يحدث!.. شعرت ببعض الاطمئنان، وحاولت التفكير فيما علي فعله بعد ذلك ... يجب
على أن أبحث بسرعة عن مستشفى أو طبيب لمداواة ذلك الجرح المريع.
فجأة سقط سائل على رقبتي، تحسسته، وأنا
انظر إلى أعلى بحثا عن مصدره، روعني منظر ذلك الوحش الذي يقف فوقي متعلقا بجدار
البناية، واللعاب يسيل من فمه ويسقط علي ... لم يمهلني الوحش لحظة لآتي بأي رد
فعل، فقد وثب علي مباشرة، وهو يغرز أنيابه ومخالبه في جسدي وينهش اللحم منه بشراهة
... الآن في تلك اللحظة أتذكر كل شئ ... الآن أعرف ما حدث، وما الذي أتى بي إلى
هذا المكان؟
.. (انتهى الجزء الأول ويليه الجزء
الثاني) ..
قصة رعب بعنوان ... (سبعة أبواب –
الجزء الثاني)
ملخص ما سبق ... شاب يجد نفسه في مكان
يجهله، وفي زمن يسبق زمنه الحاضر بأكثر من قرن، في ليلة تسمى ليلة الوحش ... لا
يعرف متى؟ ولا كيف جاء إلى هذا المكان؟...
وقبل أن يحاول كشف سر هذا الغموض، يهاجمه وحش مفترس ويفتك به بشراسة، ولكن
قبل أن يغيب عن الحياة، تعاوده ذكرياته الضائعة، ويتذكر سبب وجوده في هذا المكان؟
.
مرة أخرى أجد نفسي في مكان أجهله، وأنا فاقد للذاكرة بشكل كامل،
أنا لا أتذكر حتى ما هو اسمي!؟ مخي يتمزق ويحاول أن يقفز إلى خارج رأسي من فرط الصداع
الذي أشعر به ... أنا الآن في غابة وارفة كالأحراش، أشجارها عالية ومتشابكة، تكاد
تخفي ضوء هلال القمر النحيف ... شئ ما أراحني في كون القمر هلالا ... قفزت إلى ذهني
بعض الذكريات المختلطة، لم استطع أن أجد بينها رابطا، عن قمر مكتمل، أحمر ، وبلدة
أوروبية من القرن التاسع عشر، ووحش ذئبي عملاق يتربص بي! تحسست ذراعي في قلق، إنه
في مكانه! ما هذه الملاحظة الغريبة!؟ هل كنت أتوقع ألا أجد ذراعي في مكانه، متصل
بكتفي ... المزيد من الصداع، والمزيد من الصور تعبث بشقاوة داخل مخيلتي، عن غرفة
مكتب مؤثرة بأثاث فاخر، ومكتبة، وباب مغلق بمفتاح رقمي، ودهليز ينتهي بسبعة أبواب
... أشعر أن تلك الذكريات ليست بعيدة ويمكنني الأمساك بها وترتيبها في ذهني بقليل
من الجهد، ولكن ذلك الصداع يمنعني.
اتلفت حولي في قلق، يجب أن أجد طريقي إلى خارج تلك الأحراش، يجب
أن أصل إلى منطقة مأهولة بالبشر، فوجودي هنا وفي تلك الظلمة الحالكة، يزيدان شعوري
بالخطر، حينها قد أتمكن من تمالك نفسي، ودفع ذلك التشويش بعيدا عن عقلي، وتذكر كل
ما نسيته ... أخذت أفكر لثوان، ثم قررت السير في اتجاه بعينه، تخيلت أن كثافة
الأشجار والآجام تقل ناحيته، ولكن بعد دقائق من السير بدا لي إن تخيلي هذا كان
خاطئا، فحولت اتجاهي و بدأت أسير في اتجاه ثان، وثالث، من الواضح أنني اتحرك
بعشوائية وأنني لن أغادر تلك الغابة أبدا ... جلست على صخرة في محاولة لالتقاط بعض
الانفاس قبل مواصلة محاولاتي اليائسة ... فجأة وصل إلى مسامعي بعض الكلمات
المتناثرة محمولة مع نسمات المساء ... صرخت بفرح، هناك بشر يتحدثون! والصوت يأتي
من هذا الاتجاه.
عدوت بحماس متتبعا مصدر الصوت، وكلما اقتربت أكثر زاد وضوح
الصوت والكلمات، إنهم مجموعة من الرجال يتحدثون بأصوات خشنة، منفعلة، إنهم
يتجادلون حول شئ ما ... اقتربت أكثر من موقعهم بحذر، وأخذت أراقبهم من وراء جذع
شجرة غليظ ... إنهم خمسة من الرجال، يتحلقون حول نارا أشعلوها في منتصف فسحة متسعة
ما بين أشجار الغابة، يرتدون ملابس الصيادين، ويضع كل منهم أمامه بندقية وحقيبة جلدية
ضخمة، وقد خلعوا أحذيتهم وهم يتدفأون بالنار، ويشوون عليها بعض قطع اللحم المغروزة
في أسياخ خشبية، ومن خلفهم خمسة من الجياد المربوطة برثنها إلى الأشجار، وعربة
صغيرة من تلك التي تجرها الجياد، عليها قفص مسيج، وداخله فتاة صغيرة تبدو عليها
البراءة، والجزع، ترتدي فستان أبيض.
كانت حدة مناقشتهم قد هدأت، وبدأوا يتشاغلون بالطعام وبزجاجات
الشراب التي أخرجوها من حقائبهم، من الواضح أن هذا الشراب مسكر، فقد بدأ ياتي
بمفعوله بعد دقائق قليلة ... نهض أحدهم وهو يتمايل، وانتزع عودا مشتعل من النار،
وألقاه على تلك الفتاة المحبوسة داخل القفص، وبصق عليها، فتكومت بذعر في ركن من
القفص، قبل أن يعود ذلك الرجل إلى طعامه وشرابه ... شعرت بشفقة تجاه تلك المسكينة،
المرعوبة، الضعيفة، وقررت أن أنقذها من براثن هؤلاء الوحوش ... سأنتظر حتى يذهبون
في النوم، ثم سأسعى لتحريرها، والهروب بها منهم.
***
في الزمن الحاضر ... دخلت الممرضة إلى
غرفة ذلك المريض الشاب الغائب في غيبوبة منذ أكثر من شهر، ألقت بالتحية على أمه،
التي كانت تقرأ له في كتاب كعادتها، فوضعت المرأة الكتاب، وردت لها التحية بحرارة
وبابتسامة أمل لم تغادر ثغرها للحظة ... اقتربت الممرضة من الشاب وأخذت تدلك يديه
وقدميه، فبادرتها المرأة:
-
أنا أفعل ذلك كل ساعة كما نصحني الطبيب.
ابتسمت لها الممرضة مشجعة، وهي تقول:
-
حسنا فعلت ياسيدتي.
قبل أن تعود إلى ماكانت تفعله، ثم تعلق
محلول وريدي على حامل معدني، وتولج أنبوبه في محقن وريدي مثبت في ذراع الشاب ...
قامت بإخراج بعض (أنبولات) الدواء وحقنتها داخل المحلول لتسري مع السائل إلى جسد
الشاب المريض تدريجيا، قبل أن تلتفت إلى المرأة:
-
سأعود بعد ساعتين لإزالة المحلول ... هل تأمرين بشئ؟
-
شكرا لك يابنيتي ... بارك الله فيك ورزقك بابن الحلال.
ابتسمت الممرضة وهي تغادر الغرفة مؤمنة
على دعاء المرأة لها.
***
بعد عدة زجاجات من الشراب، وقطع لا
تحصى من لحم الشواء، ذهب الخمسة صيادين في النوم أخيرا، انتظرت لدقائق حتى تيقنت
تماما من أنهم غابوا في النوم ... تسللت بينهم بخطوات متحسسة، حتى وصلت إلى القفص
المحبوس فيه تلك الفتاة الصغيرة ذات الفستان الأبيض، التي ما أن رأتني حتى هبت من
ذلك الركن التي كانت متكومة فيه، واقتربت من باب القفص في أمل ... تفحصت باب
القفص، فوجدت عليه قفل بدائي من الصلب، نظرت للفتاة متسائلا، فأشارت إلى إحدى
الحقائب المتناثرة بين الرجال، فأومات لها برأسي، وتوجهت بحذر إلى تلك الحقيبة،
كان علي أن أعبر فوق أجسادهم النائمة، كنت اشعر بالتوتر، وقد بدأ العرق يتقاطر من
وجهي وجسدي، وبدأت عضلاتي تتقلص، وكنت كلما وطأت عودا خشبيا فتكسر مصدرا صوتا
خافتا، أشعر بجزع واتجمد في مكاني حتى أتأكد إن ذلك الصوت لم يوقظ أحدهم من نومه
... أخيرا وصلت إلى الحقيبة، ففتحها بهدوء وأخذت أفرغ ما بها حتى عثرت على ذلك
المفتاح الضخم المنحوت عليه رقم (5)، عدت إلى قفص الفتاة بنفس الحرص والحذر الذي
ذهبت بهما، أولجت المفتاح في القفل فانفتح مصدرا (تكة) معدنية عالية أوقظت أحد
الرجال، الذي تنبه بسرعة غير منطقية لما يحدث فصرخ بي:
-
ماذا تفعل أيها الملعون!؟
تجاهلته، وأنا أفتح القفص بسرعة لتقفز
الفتاة من داخله، فتلقفت يدها في يدي، وعدوت بها تجاه غابة الأشجار ... انطلقت
المزيد من الصرخات، من الواضح أن باقي الصيادين استيقظوا بسبب صرخة أولهم ... لن
أضيع الوقت في محاولة النظر إليهم أو التفاهم معهم، بالتأكيد هم يلتقطون بنادقهم
الآن وسيحاولون اللحاق بي ... أسرعت وأنا اقترب أكثر من حاجز الأشجار، والفتاة
تعدو بذعر إلى جانبي، ويدها الباردة تحتضن يدي ... انطلق صوت رصاصة مزعج في
المكان، وشعرت بها تمر بجوار أذني، وأخرى أصابت الأرض بين قدمي، من الواضح انهم لن
يحاولوا اللحاق بي كما توقعت، فخيارهم الأول كان قتلي مباشرة ... شعرت بألم هائل،
وعمود من النار يشتعل في كتفي مع صوت الرصاصة الثالثة، لقد أصبت، اللعنة، لن أتوقف
الآن، خطوتين إضافيتين واخترق حاجز الأشجار، لن يكون من السهل عليهم ملاحقتنا داخل
الأحراش.
***
عبرنا الحاجز، وانطلقنا بأقصى سرعة قدرت
عليها قدمانا، كنا نعدو في مسار ملتو بين الأشجار، نحاول أن نتخفى بينها، ونحن
نتسمع أصوات الصيادين التي تلاحقنا باللعنات ... ابتعدنا أكثر، فخفتت أصوات الصيادين،
من الواضح لحسن الحظ، أنهم لم يقرروا اللحاق بنا إلى داخل الأحراش، لن أتكل على
ذلك وسأواصل العدو لفترة أخرى حتى أتيقن تماما أنني قد صرت أنا وتلك الفتاة بعيدين
تماما عن منال هؤلاء الملاعين ... كنت أشعر بالخدر في كتفي، وبملابسي قد تبللت
بالدماء الدافئة التي تسيل من الجرح الذي صنعته الرصاصة ... توقفنا مرة واحدة
عندما وجدنا نفسينا أمام بحيرة صغيرة ... التفت إلى الفتاة، وأنا اقول لها مطمئنا:
-
لا تقلقي، لقد ابتعدنا عنهم.
أومأت لي برأسها، فأخذت بيدها حتى ماء
البحيرة، وأنا أقول:
-
سأغسل جرحي بالماء، ثم نواصل المسير ... يمكن أن تغتسلي
وتشربي أنت أيضا.
ضممت كفي وملأتهما بالماء، وألقيته على
وجهي وشعري، وأخذت أعب منه حتى ارتويت، ثم خلعت قميصي وأنا أتفحص الجرح، من الواضح
أن الرصاصة اخترقت كتفي وتجاوزته صانعة ثقب مرعب يفيض بالدماء، أخذت أحاول غسل
الجرح بالماء، وأنا أراقب انعكاس صورتي على سطح البحيرة على ضوء القمر الخافت ...
هنا شعرت بالرعب الهائل يجتاح باطني، وبالقشعريرة الباردة تعبث بجسدي، وبشعر رأسي
ينتصب ... إذا كانت تلك الفتاة تقف بجانبي، فلماذا يظهر انعكاس صورتي وحده على سطح
البحيرة؟ لماذا لا تنعكس صورتها عليه؟ ... نهضت ببطأ وأنا التفت إلى الفتاة التي
تقف بجواري، أتذكر الآن انها لم تنطق بكلمة واحدة طوال كل ذلك الوقت الذي كنا نهرب
فيه أنا وهي، وكفها البارد كالثلج يقبض على كفي ... طالعتني الفتاة بابتسامة كريهة،
وقد تبدل وجهها إلى ملامح شيطانية مرعبة، بعينين سوداوين مسحوبتين لأعلى وأنف حاد
كالسكين، وأنياب بارزة كالضواري ... تمتمت برعب، وانا أتراجع للخلف:
-
ما أنت؟
وقبل أن أفكر في الهرب، قفزت تلك
الشيطانة إلى صدري وهي تفتح فمها بطريقة غير بشرية، وتغرز أنيابها في عنقي ...
أخذت ادفعها بقوة ولكنها كانت قد التصقت بي كالمصير وهي تغرز أنيابها أكثر في
وريدي الوداجي، وتبدء في امتصاص سائل الحياة من داخل جسدي ... بدأت مقاومتي تضعف
تدريجيا، وأنا اشعر بالخدر يتسلل إلى جسدي، سقطت على الأرض وهي فوقي، تواصل امتصاص
الدماء من عنقي ... المرئيات تغيب تدريجيا من أمام ناظراي، قبل أن أغيب في الظلام
تماما.
***
وضعت المرأة الرواية التي كانت تقرأ
منها لإبنها الغائب عن الوعي على الكومود، وهي تتحدث إليه قائلة:
-
مصاصوا الدماء ... لا يوجد مثل هذه الأشياء في الحياة
الحقيقية ... لولا عشقك لذلك النوع من الروايات لما قرأتها أبدا.
صمتت للحظة، ثم نهضت لتجلب من الخزانة
زجاجة العطر وعلبة (البودرة) الطبية، وهي تعتزم أن تغير لإبنها ثيابه وتدلك جسده
بالعطر و(البودرة)، وهي تقول:
-
صدقني يابني الحياة فيها أشياء مرعبة أكثر، غير تلك
الخرافات التي تجدها في الكتب والأفلام الأمريكية الساذجة .. لو ذهبت إلى المتجر وسألت
عن سعر (كيلو) الأرز أو السكر أو العدس لشعرت بذعر أكبر بكثير عن مواجهة العشرات
من مصاصي الدماء.
***
أظلمت الدنيا أمام عيني، قبل أن يرتد
الضوء إليهما مرة واحدة لأجد نفسي جالس على ذلك الكرسي الوثير في تلك الغرفة
المؤثثة بمكتب فاخر من خشب الأبنوس، ومجموعة من المقاعد الجلدية الوثيرة، ومكتبة
بعرض الحائط مليئة بالكتب حتى آخرها، وفي الناحية الأخرى مدفأة جدارية تشتعل فيها
بعض الجذوع الخشبية فتطقطق، وترسل دفئها إلى جو الغرفة ... أنا أعرف هذا المكان
جيدا، وهذه ليست المرة الأولى التي أجد نفسي فيه ... المرة الأولى كانت في تلك
الليلة التي كنت عائد فيها بسيارتي على الطريق السريع بعد ليلتين دون نوم، كنت
أشعر بإرهاق هائل، وبأن جفناي ثقيلان، أعاني كثيرا لإبقائهما مرفوعتين، وبالفعل
غبت عن النوم لثانية واحدة، استيقظت بعدها بفزع على صوت آله التنبيه لتلك الشاحنة
القادمة في مواجهتي بسرعة كبيرة، دفعت المقود لليسار بقوة فانحرفت سيارتي متجاوزة
الشاحنة، وهي تنطلق بسرعة هائلة نحو عمود أنارة وتصطدم به بعنف ويصطدم رأسي
بالمقود بقوة، وأغيب عن الوعي لوقت لا يمكن إدراكه، قبل أن أفيق وأجد نفسي في هذا
المكان، أجلس على نفس الكرسي.
حينها شعرت بالرعب والدهشة وأنا أهب لأتفحص
المكان فأجد له مخرجين، أحدهما باب مغلق بقفل رقمي، حاولت تجربة بعض الأرقام العشوائية
فكان الضوء الأحمر ينبأني في كل مرة أن هذا ليس الرقم الصحيح لفتح الباب، المخرق
الآخر هو باب مفتوح على رواق، سرت فيه فقادني إلى دهليز مظلم ينتهي ببهو متسع له
سبعة أبواب متلاصقين وكأن جميعهم يفتحون نفس الغرفة ... فتحت الباب الأول فوجدت
خلفة عتمة وظلام، وما أن خطوت داخلهما حتى وجدت نفسي في بلدة أوربية من القرن
التاسع عشر في ليلة الوحش ليفترسني هذا الأخير، لأجد نفسي مرة أخرى في نفس الغرفة
على نفس الكرسي الوثير!.. جربت الباب الثاني فقادني إلى مصاصة الدماء التي امتصت
رحيق الحياة من داخل جسدي.
أفكر للحظة، هل مت في حادثة السيارة؟
وهذا هو جحيمي الخاص، أن أعذب بميتات مروعة وراء أبواب سبعة ... الأمل، ورغبة
الحياة يخبرانني أن النجاة موجودة وراء واحد من تلك الأبواب علي فقط أن أجرب بابا
آخر وآخر حتى أجدها...
.. (انتهى
الجزء الثاني ويليه الجزء الثالث) ..
قصة رعب بعنوان ... (سبعة أبواب –
الجزء الثالث)
ملخص ما سبق ... شاب يتعرض لحادثة تجعله يسقط في غيبوبة، تحتجز
عقله في حلم غريب داخل مكان يقوده دائما إلى سبعة أبواب ... يجرب الشاب الباب
الأول، فيجد نفسه مطاردا من وحش ذئبي مفترس في ليلة اكتمل فيها القمر، قبل أن
يفترسه هذا الأخير بشراسة وعنف، فيعيده هذا إلى نقطة البداية، فيقرر أن يجرب الباب
الثاني، فيجد نفسه في مواجهة مع مجموعة من الصيادين، ينجح في تحرير فتاة صغيرة من
أسرهم، قبل أن يصعق عندما يكتشف أن هذه الفتاة هي مصاصة دماء شريرة، ولكنه يكتشف
ذلك متأخرا عندما تقرر تلك الفتاة أن ترتشف رحيق الحياة من جسده حتى آخر قطرة،
عندها يقرر أن يجرب الباب الثالث ...
.
الباب الثالث...
أخطو خطوتين داخل الظلام الذي طالعني خلف الباب الثالث ... فأجد
نفسي ممددا على طاولة معدنية، وهناك ملاءة رقيقة تغطي جسدي ورأسي ... صداع وتشويش
خفيفان يعتملان في رأسي وذهني، ولكنني أتذكر في تلك المرة أن ما جاء بي إلى هنا هو
الباب الثالث ... هناك مساحات مظلمة في ذاكرتي، ولكن ما بقى منها جعلني أعرف أنني
خضت من قبل مغامرتين وراء بابين آخرين من الأبواب السبعة، وأن نهايتهما كانت مريعة
... أذكر أيضا أن اسمي هو (يوسف)، وأذكر وجه أمي الحنون وصوتها الذي يحمل شجنا
قادرا على إراحة روحي، ودفع القلق والتوتر عن باطني...
تزعجني رائحة الملاءة
الكريهة، فأزيحها بإشمئزاز، وأنا أنهض عن تلك الطاولة المعدنية ذات الإطارات من
تلك النوعية التي تستخدم في المستشفيات لنقل المرضى ... أتلفت حولي على إضاءة (النيون)
الخافتة التي يصدرها مصباحين في سقف المكان، فأجد نفسي في غرفة متسعة، مغلقة بباب
خشبي ... تخنقني رائحة المكان، خليط من المنظفات الصناعية، وشئ آخر حاد الرائحة
يحرق أنفي وعيني، قد يكون حمض أو مادة شديدة القلوية، أنا لم أكن يوما مغرما بمادة
الكيمياء أيام دراستي الثانوية ... يوجد طاولتين أخريين في المكان، إحداهما خالية،
والأخرى عليها شئ يبدو كجسد بشري مغطى بملاءة ... أنا أعرف ما هذا المكان، وهذا
يجعلني أشعر برعب هائل ... لقد قادني الباب الثالث مباشرة إلى مشرحة، وبصحبة جثة
بشرية.
نهضت بسرعة يحركني خوفي وذعري، وتوجهت إلى الباب الخشبي، لمحت
في طريقي مجموعة كبيرة من الثلاجات الجدارية المغلقة، عليها أرقام، الغريب أن
جميعها كانت تحمل الرقم (6)، من المؤكد أنها تكتظ من الداخل بجثث الموتى المتجمدة،
والمحفوظة لسبب واحد أعرفه يقينا؛ هو أن تخرج بعد قليل وتهاجمني، إنها لعنة
الأبواب السبعة مرة أخرى ... حاولت أن أفتح الباب الخشبي، فوجدته مغلقا من الخارج،
حاولت اقتحامه بجسدي، فلم أنجح سوى في إيلام كتفي وظهري، فالباب كان قويا، ثابتا،
عازما على أن يبقيني داخل المكان حتى النهاية ...
فجأة، وصل إلى مسامعي صوت حركة خافتة تصدر من خلفي، استدرت ببطأ
متوجس، متوقعا ما سأراه هناك، بالفعل كانت تلك الجثة تزيح الملاءة عنها وتنهض من
على الطاولة، قبل أن تتوجه ناحيتي بخطوات بطيئة، متمايلة ... كانت الجثة لرجل
أربعيني، عرفت ذلك مما تبقى من ملامح على وجهه المسحوق، ورأسه المتدلي على صدره
... يبدو أن هذا الرجل تعرض لحادثة سير، انتهت برأسه مسحوقا تحت عجلات شاحنة
وبعنقه محطم.
اقترب ذلك (الزومبي) مني بنفس الخطوات، المتمايلة، المتطوحة ...
الكارثة أن هناك أصوات طرقات عالية تنبعث من داخل الثلاجات الجدارية، وكأن هناك من
يحاول فتحها من الداخل بمطارق من الصلب، كما بدا عليها من انبعاجات تجاه الخارج،
قبل أن تتحطم أبواب الثلاجات وتتطاير في المكان، ويزحف خارجها مجموعة منتقاة من
الموتى الأحياء، جروح متقيحة، أطراف مبتورة، رؤوس مشجوجة، وأصحابها جميعا يلحقون
بأولهم ويسيرون بنفس طريقته، متوجهين نحوي ... ازداد التصاقي بالباب الخشبي، وأخذت
أدق عليه بكفي في جنون، كان ذعري قد وصل إلى أقصى مدى، حتى أنني بدأت أفقد الشعور
بأطرافي ...
في تلك اللحظة، وصل إلى مسامعي صوت مزلاج الباب الخشبي وهو
يتحرك، فتمتمت بنشوة:
-
هناك من
يفتح الباب من الخارج.
كان الموتى الأحياء يقتربون مني أكثر حتى صاروا على بعد مترين
من موقعي، سبقتهم إلى أنفي رائحة جروحهم المنتنة، فهيجت مشاعري أكثر، فأخذت أدق
بقوة أعلى الباب الخشبي، متوسلا لمن يفتحه من الخارج أن يفعل ذلك بسرعة أكبر، فقد
صار هؤلاء الموتى قريبون مني حتى أن أولهم لو مد يده لطالني ... هنا انفتح الباب
بعنف للخارج، فتأهبت للهرب بسرعة، قبل أن أصعق عندما وجدت نفسي في مواجهة العشرات
من الموتى الأحياء يقفون خارج الباب، يشبهون الموجودين في الداخل، ولكنهم أكثر
عددا، وقد نجح واحدا منهم في فتح المزلاج ...
شعرت بيد تمسك بكتفي، فقررت أن أندفع وسط الموتى الأحياء، في
محاولة يائسة للهرب، قبل أن أفشل وأسقط على الأرض في المنتصف بينهم، وأنا أراهم
يتكالبون على جسدي، ويشرعون في التهامي حيا!
***
انتقلت مرة أخرى إلى
ذلك الكرسي الجلدي الوثير، في تلك الغرفة اللعينة، أخذت أتحسس جسدي في فزع، ما زلت
أشعر بقضمات الموتى الأحياء وأنيابهم وقواطعهم وهي تنتزع اللحم من جسديى ... تجربة
موت شنيعة أخرى وراء باب آخر من الأبواب الملعونة، وللأسف احمل ذكرى كل لحظة من
لحظات تلك التجربة داخل ثنايا عقلي، لو لم أجد الباب الرابح بسرعة وأخرج نفسي من
هذا السجن سأصاب بالجنون حتما ... فكرت أن ارتاح قليلا من اثر التجربة السابقة،
قبل أن أجرب الباب الرابع، فوجدت نفسي متوجها إلى الدهليز، وعازما على فتح الباب
الرابع الآن ... ودون تأخير.
***
الباب الرابع ...
أنا الآن في ردهة إحدى المستشفيات، أعرف ذلك من ملابس الأطباء والممرضات
والعمال الذين يتحركون كعاملات خلية نحل في المكان ... إنهم يتكلمون لغتي وبلهجتي،
كما أن التجهيزات الحديثة، العصرية تنبأ بأننا في زمني المعاصر ... الشئ الإيجابي
في هذه المرة، أنه لا يوجد صداع ولا تشويش، كما أنني أحمل ذكرياتي كاملة عن حياتي
السابقة وعن رحلاتي الثلاث خلف أبواب الموت، من الواضح أن عقلي قد اعتاد تلك
الرحلات، وقد يكون هذا في صالحي ... الآن أعرف أن موتا شنيعا ينتظرني في هذا
المكان ... قد يكون الهرب منه، أو النجاة لأطول فترة ممكنة، هما مفتاحا الخروج من
سجني العبثي.
-
عذرا ...
تحدثت بها، وأنا أقترب من إحدى الممرضات، فتجاهلتني وهي تبتعد
لتكمل عملها ... توجهت إلى موظفة الاستقبال، ووقفت خلف الواجهة الرخامية، وسألتها:
-
عذرا ...
كنت أريد أن أسأل عن هذا المستشفى.
لم ترد علي! وتشاغلت ببعض الأوراق أمامها، فكررت سؤالي بصوت
أعلى، وبلهجة أكثر غلظة، ولكنها لم تجب أيضا في تلك المرة، فصرخت بها:
-
هل أنت
صماء !؟
فأجابت:
-
أهلا
(يافندم) ... كيف استطيع مساعدتك؟
فكرت أن البعض لا يستجيب إلا بالمعاملة الخشنة، وقبل أن أعيد
عليها سؤالي، انتبهت إلى أنها لم تكن تتحدث إلي، ولكنها كانت تتحدث إلى ذلك الرجل
الذي وصل لتوه، ويسألها عن رقم غرفة مريض بعينه، وهي تجيبه بأدب جم، حتى انتهى
الرجل من حاجته وذهب ... صرخت فيها من جديد:
-
لماذا
تتجاهلينني أيتها الشمطاء؟
لم ترد، وواصلت مراجعة الأوراق المكدسة أمامها ... جاء أحد
الأطباء إلى المكان وأخذ يتحدث إليها، فاقتربت منه ووضعت يدي على كتفه وأنا اقول:
-
سيدي ...
قبل أن تتجمد الكلمات على لساني، بعدما مرت يدي عبر جسد الطبيب
كأنه صورة (هولغرافية) ثلاثية الأبعاد! سحبت يدي كالملسوع، ثم عدت أتحسس بها وجهه
فمرت أصابعي عبر رأسه، بدأ الطبيب في التحرك مبتعدا، فاعترضت طريقة، فمر عبر جسدي
ببساطة، وواصل طريقه ... اللعنة ... ما الذي يحدث؟ ... توجهت إلى أحد العمال كان
يمسح الأرض بفرشاة نظافة، حاولت التحدث إليه في البداية، وعندما لم أتلق منه
إجابة، مددت يدا مرتعشة نحو صدره، فاخترقته!.. صرخت في فزع، وأخذت أعدو بين رواد
المكان محاولا التواصل معهم دون فائدة.
-
إنهم لا
يرونك ... ولا يشعرون بك.
قالها شاب في مثل عمري، كان يجلس في زاوية المكان يراقبني في
فضول منذ اللحظة الأولى ... فنظرت إليه بأمل وأنا اتسائل:
-
هل تتحدث
لي؟
-
أجل؟
فأشرت بيدي إلى الناس حولي، وانا أساله:
-
هل
تحولوا جميعا إلى اشباح؟
فأجاب ببساطة:
-
ليس هم.
أومأت براسي متفهما، وأنا أقول بحيرة:
-
وهل أنت
مثلي؟
-
تقريبا
... نحن من يسمونهم أشباح ... لم أتعرف عليك.
-
اسمي
(يوسف).
عرفني الشاب بنفسه، وأخذ يقص علي قصته، وعن إصابته بالسرطان في
المعدة، ومعاناته الطويلة مع هذا المرض، حتى جيئ به في أيامه الأخيرة إلى هذه
المستشفى ... ثم تلك الحالة الشبحية التي وجد نفسه عليها لسنوات، عرف فيها أن هناك
آخرون مثله، حالات نادرة يقاسي أصحابها قبل موتهم، فتجعلهم يهيمون في مكان موتهم
على تلك الصورة الشبحية ... سألته بفضول:
-
وهل
يبقون على تلك الحالة للأبد؟
-
حتى
يحصدهم (الحاصد).
-
ما هذا؟
نظر لي بفزع، وبعينين زائغتين، وهو يقول بصوت متهدج:
-
إنه الشئ
الوحيد الذي يمكن أن يخيفك وأنت على هذه الحالة ... إذا رأيته فعليك أن تهرب
وبسرعة حتى لا ينكل بك تنكيلا، ففي المرات القليلة التي رأيته فيها، ورأيت البعض
بين براثنه، كانوا يصرخون صرخات رهيبة يقشعر لها البدن من سكرات العذاب والألم
الذي يعانونه، وهو يفتت أرواحهم ويحصدها إلى كيانه ... شئ رهيب لا يمكن تخيله ...
لقد كنت حسن الحظ، واستطعت الاختفاء والهروب منه طوال الفترة الماضية.
كنا نتجول في المستشفى ونحن نواصل حديثنا، في تلك اللحظة كنا
نمر إلى جوار غرفة عليها الرقم (8)، شعرت بشئ ما يجذبني إلى تلك الغرفة، مددت يدي
بعفوية إلى مقبض الباب المغلق، فمرت يدي عبره، فابتسم صاحبي، وهو يقول:
-
نحن لا
نحتاج إلى مقابض لنعبر الأبواب ... ستعتاد ذلك سريعا.
ثم عبر بجسده الباب المغلق إلى داخل الغرفة، لحقت به إلى
داخلها، قبل أن تجمدني الدهشة، وأنا اتطلع إلى تلك المرأة التي تجلس على كرسي
خشبي، إلى جوار شاب غائب في النوم على فراشه، تقرأ له رواية باسم (حاصد الأرواح)
... لم يكن سبب دهشتي هو اسم الرواية، ولكن السبب هو أنني أعرف تلك المرأة، وأعرف
إبنها الشاب النائم في الفراش ... نظر صاحبي إلى الشاب، ثم حول نظره نحوي وهو يقول
متعجبا:
-
هذا
الشاب يشبهك كثيرا!.
فأجبته ببساطة:
-
لإنه
.... أنا.
ثم أشرت إلى المرأة، وأنا أقول:
-
وهذه أمي
... أمي الحبيبة.
فاضت عيناي بالدموع، وأنا أتوجه إلى أمي، وأجثو أمامها على
ركبتي، وأحاول تحسس وجهها الطيب بكفين شبحيتين، فتعجزان عن ذلك ... حاولت التحدث
إليها قائلا:
-
هذا أنا
يا أمي ... وحيدك (يوسف) ... أنا هنا إلى جوارك ... هل تسمعينني!
اقترب مني صاحبي، ووضع يده على كتفي مشفقا، وسحبني إلى خارج
الغرفة، قائلا:
-
هيا
ياصديقي ... لا جدوى من ذلك ... إنها لا تسمعك ... لا تزد عذابك.
كانت الدموع قد أغرقت وجهي، دفعت صاحبي، وأنا اعتزم العودة إلى داخل
الغرفة، لأمرغ وجهي أسفل قدميها، وأبقى هناك حتى آخر يوم في عمرها، حتى ولو ظللت
على تلك الحالة الشبحية ... فجأة، اختلجت الأضواء من كل مصابيح المكان مرة واحدة،
قبل أن يغرق المكان في ضوء أزرق شاحب، ويتصاعد ضباب من (اللامكان) حتى غطى ركبتينا،
شعرت ببرودة شديدة تجتاح باطني، صرخ صاحبي في جزع، وعلى وجهه أبشع إمارات الرعب:
-
إنه هو!
-
من؟
-
الحاصد.
في تلك اللحظة عبر الجدار المواجه لنا ظل أسود ضخم، وتمثل على
مسافة أمتار من موقعنا، بهيئته الدخانية المرعبة، وعينيه المشتعلتين كالجمر،
وحرملته السوداء التي ترفل خلفه، كأنه يقف وسط ريح عاصف، يمسك في يمينه عصا غليظة،
تنتهي بمنجل حاد يئز البرق بين طرفيه.
وقبل أن نتحرك، وجه الحاصد ضربة نجلاء نحو صدر صاحبي، فانغرس
فيه المنجل وخرج النصل من ظهره، أطلق صاحبي شهقة فزع وألم ... رفع الحاصد المنجل
وقربه من وجهه، وجسد صاحبي معلق فيه يصرخ صرخات رهيبة، وهو ينازع الألم بحركات من
يديه وقدميه ... أطبق الحاصد بيده الأخرى بمخالبها الطويلة البارزة على عنق صاحبي،
فانخنقت صرخاته في حلقه، وأخذ جسده يرتعش بسرعة جنونية، آخذة في التزايد مع زيادة
اشتعال البريق الناري الأحمر في عيني الحاصد، قبل أن ينفجر جسد صاحبي، مخلفا ذرات
من الرماد، اندمجت سريعا في جسد (الحاصد)، الذي التفت ناحيتي ووجه لي نظرة مرعبة.
استدرت على عقبي، وانطلقت لائذا بالفرار، أخذت اعدو في المكان
بعشوائية، اتلفت خلفي متحسبا أن يكون ذلك الحاصد في أثري، من حسن الحظ أنه لم يفعل
... اخترقت أحد الجدران فوجدت نفسي في غرفة خالية، مظلمة، استندت على الجدار وأنا
الهث يوشك قلبي على أن يقفز من حلقي من فرط الفزع والإجهاد ... انتظرت دقائق حتى
بدأت أهدء، وتستعيد أنفاسي انتظامها ... قررت الانتظار دقائق أخرى حتى أتأكد أن
الحاصد قد رحل عن المكان، فكرت بعدها أن أعود إلى غرفة أمي، لأملي عيني بوجهها
الصبوح، لقد أوحشتني بحق.
فجأة، شعرت بألم رهيب في ظهري، وصدري، ألم لا يمكن وصفه
بالكلمات، نظرت إلى موضع الألم فوجدت نصل منجل يبرز من جرح نافذ في صدري، ويئز
ببرق أزرق ... أخذت أصرخ من الألم، وزادت صرخاتي عندما ظهر الحاصد مخترقا الجدار
الذي كنت مستندا عليه، رفعني بمنجله، وقربني من وجهه، وقبض على عنقي بظفر وعيناه
تلمتعان كحبتين من الجمر ... ألم هائل يجتاح كل خلية من خلايا جسدي، كأن هناك من
يسلخ الروح عن كل خلية بذاتها، واحدة وارء الأخرى ... ألم رهيب ... ألم يعني شيئا
واحدا ... أن مغامرتي خلف الباب الرابع قد انتهت.
***
-
لا ...
صرخت بها مجددا بعد أن وجدت نفسي على ذلك
المقعد الوثير ... مازلت أشعر بآلام المغامرة الأخيرة، كانت آلامها تفوق بكثير
ماعانيته في المغامرتين السابقتين ... حينها قررت ألا أعود لتلك الأبواب التي لا
تحمل خلفها إلا الألم، سأبقى هنا وأفكر في طريقة أخرى للخروج ... في البداية جربت
بعض التوافيق الرقمية في ذلك الباب الخشبي المغلق بقفل رقمي، ففشلت جميعها، ثم
قررت أن أبحث في الكتب الموجودة في المكتبة، علي أمل أن أجد بين صفحاتها إجابة ...
أمسكت بالكتاب الأول، وفتحته، فوجدت صفحاته بيضاء خالية من الكلمات، نفس الشئ
وجدته في الكتاب الثاني والثالث، وجميع الكتب الأخرى، جميعها خالية كعقلي الذي لم
يعتد إلا قراءة روايات وقصص الرعب فقط ... وقعت عيناي على المدفأة المشتعلة
فجائتني فكرة بأن أشعل النار في الباب الخشبي ذو القفل الرقمي، قد يساعدني ذلك على
فتحه ... التقطت جذع مشتعل من المدفأة، ووضعته أسفل الباب الخشبي، وغطيته بأوراق
الكتب التي مزقتها، اشتعلت النار بسرعة، وفجأة تقافزت منها الشرارات وبدأت تشتعل
في أماكن أخرى من الغرفة ووجدت نفسي محاصرا بجدار من النيران!
***
حاصرتني النيران ودفعتني إلى المخرج
الوحيد المتبقي في تلك الغرفة، إلى ذلك الرواق الذي قادني إلى الدهليز الحجري ...
ما أثار دهشتي وعجبي، هو أن النيران طاردتني إلى داخل ذلك الدهليز!.. كيف تسري
النيران على الحجر الأصم، فلا تخمدها قسوته وجفافه؟.. هذه النيران لها إرادتها
الخاصة، كأنها كائن حي مستقل بذاته، وإرادتها هي أن تدفعني إلى آخر الدهليز نحو
ذلك البهو المتسع وأبوابه السبعة ... علي الآن أن أختار من بينها بابا آخر لأفتحه
وأعبر منه نحو مصيري الحتمي ... الموت ... الموت مع كل تلك الآلام الرهيبة!!
..
(انتهى الجزء الثالث ويليه الجزء الرابع والأخير) ..
قصة رعب بعنوان ... (سبعة أبواب –
الجزء الرابع والأخير)
ملخص ما سبق ... رغم جسده الغائب في
غيبوبة، يعيش (يوسف) تجربة خوارقية، محتجزا فيها داخل عقله وفي حلم غريب، عن غرفة
مكتب ذات أثاث وثير، ولها باب مغلق بقفل رقمي، ورواق يؤدي إلى دهليز ينتهي بأبواب
سبعة... يجرب (يوسف) أربعة أبواب منها، فيعيش خلف كل منها تجربة مرعبة، تنتهي
بمقتله بطريقة شنيعة، يحاول أن يمتنع عن تجربة الباب الخامس، فيكتشف أنه مجبر على
تجربة جميع الأبواب حتى آخرهم ...
.
الباب الخامس ...
أزحف على بطني، داخل نفق محفور في الأرض
الرملية، يتوجه هبوطا بزاوية حادة ... النفق يطبق على جسدي من كل ناحية، نفق ضيق
في رمال ساخنة، وهواء منعدم، وجو خانق يزهق الروح، يدفعني من الخلف شخص لا أعرفه،
وهو يصيح مشجعا:
-
هيا تحرك، لقد اقتربنا.
أدير رأسي بصعوبة كي اتمكن من رؤيته، برأسه
الصلعاء وملامحه الجادة، القاسية، ألمح من خلفه مدخل النفق يعلو موقعنا بعدة
أمتار، يمكن من خلالة رؤية السماء الصافية والقمر والنجوم التي تسبح فيها ...
دفعني صاحبي بخشونة، وهو يقول:
-
هيا ... لن تتوقف الآن.
أزحف لمتر آخر، وأنا أجاهد كي التقط
أنفاسي، أنظر أمامي فأرى كوة مفتوحة تقود إلى غرفة مضاء بضوء شاحب مهتز ... يدفع
ذلك في باطني بعض الطاقة، فأدفع جسدي للأمام لمترين إضافيين، قبل أن أتدحرج إلى
داخل الغرفة عبر الكوة، ويلحق بي صاحبي.
أخذت أتفحص الغرفة الضيقة ذات الجدران
الحجرية، والمضاءة بلهب شعلة ضعيف، معلق على الجدار ... كانت الغرفة على شكل مربع
طول ضلعه مترين ونصف، وسقفها لا يرتفع لأكثر من متر ونصف، وهذا يضطرك للوقوف
منحنيا أو جاثيا طوال الوقت، وفي منتصفها ناووس حجري مغطى بغطاء ثقيل، تتناثر في
جنباتها بعض التماثيل، والتحف، والمشغولات الذهبية والفضية ... أما جدرانها فمرسوم
عليها رموز (هيروغليفية) تحكي قصة شئ ما من العصر الفرعوني، لفت نظري ذلك الرمز
المتكرر والمرسوم على الجدران وعلى الناووس، لثعبان منحني حول نفسه فبدا كرقم (2)
باللغة الإنجليزية ... نحن داخل مقبرة فرعونية ... هذا شئ لا يحتاج للكثير من
الذكاء لإدراكه.
-
هيا ساعدني لنزيح الغطاء عن ذلك الناووس.
قالها صاحبي وتوجه نحو الناووس، وأخذ
يدفع غطاءه بعنت، فلم يتمكن من زحزحته، فاعتدل ورمقني بنظره حادة، قوية التأثير
... فتوجهت إليه وأخذت أدفع الغطاء معه، الذي بدء يستجيب، مع صرخات صاحبي المشجعة:
-
أدفع أكثر ... بقوة.
سقط غطاء الناووس فتحطم إلى قطعتين، مع
صوت صرختي وأنا أنظر إلى تلك المومياء الملفوفة بالكتان والمستقرة داخله، ويداها
معقودتين على صدرها، بوضع التحنيط الشهير عند الفراعنة ... انبعثت رائحة كريهة في
المكان، أخذت أسعل أنا وصاحبي بسبب الرائحة، وبسبب الجو الفاسد، الخانق، في المقبرة.
أخرج صاحبي من جعبته حقيبة من القماش،
ثم أخذ يلقي بداخلها، على عجل بعض التحف والمشغولات الذهبية، حتى امتلأت إلى
آخرها، ناولها لي وهو يقول:
-
هيا اصعد بهذه ... سنحتاج لعدة رحلات حتى نفرغ المكان
... وستكون رحلتنا الأخيرة لإخراج هذا المسخوط ... أنت لا تعرف الثمن الذي سيدفعه
فيه (الخواجات).
قالها، وأخرج كيسا آخر ليملأه، وعندما
وجدني واقفا بلا حراك، صرخ في:
-
هيا ...
تحركت نحو الكوة ... دفعت الكيس غلى
داخل النفق، ثم زحفت وراءه ثم بدأت أصعد لأعلى في رحلة عذاب تفوق رحلة الهبوط ...
كنت قد وصلت إلى نصف المسافة، وقد عزمت على أنني ما أن أصل إلى السطح سأهرب وأترك
هذا المكان، وهذا اللص المعتوه، ولن يجبرني شئ في هذا العالم على العودة للداخل
مرة أخرى.
هنا وصل إلى مسامعي صوت صراخ صاحبي ...
صوت صرخات مذعورة متألمة، متعذبة، وكأن صاحبها يتم سلخه حيا ... تواصلت الصرخات
لثوان أخرى قبل أن تنقطع مرة واحدة ... شعرت بالخوف، فناديت على صاحبي وأنا أحاول
النظر للخلف، رغم وضعي التشريحي الصعب، وأنا محشور داخل النفق:
-
هل أنت بخير؟
لم أتلق إجابه، ولكنني لمحت خياله على
ضوء المشعل، وهو يقترب من الكوة، فكررت سؤالي، عندها طالعني رأسه وهو يمدها إلى
داخل النفق عبر الكوة ... لا أتحدث هنا عن رأس صاحبي! أنا أتحدث عن رأس المومياء،
التي بدأ جسده يلحق برأسه إلى النفق ويزحف صعودا ليلحق بي ... من الواضح ان صاحبي
لم يعد موجودا، ومن الواضح أن تلك المومياء قد عادت للحياة، وهي غاضبة، شرسة، تريد
أن تفتك بمن أقلقوا راحتها.
صرخت في فزع وأنا أحاول أن أدفع جسدي
إلى أعلى يعوقني ذلك الكيس الذي يقدمني، اتلفت خلفي فأرى تلك المومياء تزحف بسرعة
وبراعة ... دفع الخوف المزيد من الطاقة في عروقي، فأخذت أقفز قفزات طويلة لأعلى، وأنا
أفرغ ما بالكيس وألق به خلفي في محاولة يائسة لإعاقة مطاردي، وفتح الطريق أمامي
نحو الأعلى ... عندها أحسست بيد المومياء تقبض على عقبي، قبل أن تهشمه كقطعه رقيقة
من الخبز الجاف، كانت الآلام لا تطاق، فأخذت أصرخ صرخات طويلة، وأنا أحاول دفع
جسدي العاجز إلى الأمام، أصوات تحطيم أخرى لعظام قدمي، والمزيد من الآلام التي
تفوق طاقة البشر ... أكاد أغيب عن الوعي، بل أتمنى أن أغيب عن الوعي فلا أشعر
بالمزيد من الآلام ... تقبض المومياء على ساقي، ولكنها لا تحطمها تلك المرة، بل
تجذب جسدي كله نحو الأسفل، بقوة هائلة، عائدة إلى المقبرة، من الواضح أنها تريد أن
تحتفل، ولن تجعل موتي سهلا ... استسلمت وأنا أسحب إلى الخلف بقوة لا طاقة لي بها
... من الواضح ان مغامرتي خلف الباب الخامس قد انتهت، وما تبقى منها هو المزيد من
الآلام والتعذيب ... ويتبعهما الموت.
***
الباب السادس ...
مرة أخرى وجدت نفسي داخل أحراش متشابكة
الأجام، تغطي سقفها فروع الأشجار العملاقة، والمتداخلة كشبكة عنكبوت هائلة، تخفي
ضوء الشمس، ولكنها لا تخفي حرارتها التي جعلت المكان أشبه (بساونا) طبيعية تمتد لآلاف
الهكتارات، فأضافت للمكان جحيما آخر، إضافة للبعوض والحشرات الهائمة التي تهاجم كل
جزء مكشوف من جسدك، وتقتحم فمك وأنفك وحتى عينيك ... هذه الأحراش تختلف عن سابقتها التي خضتها وراء
الباب الثاني، فهذه الأحراش مليئة بالحياة، أصوات قرود (الماكاك) والببغاوات
تتصارخ في المكان، وهناك طيور ترفرف بأجنحتها متنقلة من شجرة إلى أخرى، وزواحف
تسري تحت قدميك، وثدييات صغيرة تخرج من جحر وتعدو بأقصى سرعة لتختفي في جحر آخر
... وهناك ثعبان وطأته بقدمي في تلك اللحظة، اللعنة! فأصدر هسيسا غاضبا ثم غرز
أنيابه في حذائي الجلدي السميك، فالتصق به، أخذت أركل في الهواء، وأنا أطلق صرخات
مولولة في محاولة للتخلص من الثعبان المشتبك في حذائي بأنيابه، حتى طار لمسافة
أمتار، فهرولت مبتعدا عن المكان، قبل أن يفكر في العودة للانتقام ... من حسن حظي
أن حذائي الجلدي ذو الرقبة كان سميكا، والثعبان كان صغيرا فلم تصل أنيابه إلى جسدي
...
انتبهت إلى أنني ارتدي قميص وبنطال
كاكي اللون، وقبعة من قبعات المستكشفين من تلك التي يرتديها (أنديانا جونز) في
أفلامه التي تحمل في طياتها عنصرية قبيحة وبعض التبشير بالأفكار السامية! أحمل على
ظهري جربنده جلدية، وفي يدي سيف قصير معكوف أقطع به فروع الأشجار الكثيفة لأفسح
لنفسي طريقا للسير ... من الواضح أن عقلي لم يبخل علي بتجهيزات ومعدات لرحلة
ملعونة أخرى خلف الباب السادس من أبواب الموت السبعة.
وصلت إلى فسحة متسعة بين الأشجار
فتوقفت ثوان لالتقط أنفاسي، قبل أن انتبه إلى حركة خلف صف من الشجيرات المتلاصقة،
هناك شئ يتحرك داخل تلك الشجيرات، وهو في طريقه إلي ... تراجعت للخلف ببطأ وحذر،
كانت الحركة تتزايد والشجيرات تهتز بقوة أكبر، ووصل إلى أذني صوت أقدام ظفرية تدوس
العشب، هذا الشئ على وشك الظهور ... توترت عضلاتي، وانطلق دفق (الإدرينالين) في
جسدي، وأنا أوجه سيفي القصير تجاه مصدر الصوت ... ثوان، وظهر ذلك الخنزير البري
الكبير بنابيه المعقوفين، وهو يعدو خارجا من بين الشجيرات، قبل أن يتوقف بعد أن
فوجئ بمشاهدتي، أطلق قباعا مهددا، ثم هجم
علي!.. كان رد فعلي منطقي للغاية، فقد ألقيت بالسيف واستدرت، وأطلقت ساقي للريح
وأنا أطلق بعض الصرخات المذعورة ... كنت أعدو وذلك الخنزير في أثري، يطلق صيحات
متوعدة، وكان ذلك يدفع الدماء أكثر في عروقي ويجعلني أعدو بسرعة أكبر ... ألقيت
الجربندة في محاولة لأخفف أحمالي بعد أن شعرت أن مطاردي على وشك اللحاق بي، خاصة
وأن الأحراش صارت أكثر كثافة وأصبحت فروع الأشجار تعوق هربي، وهي تخمش جسدي ووجهي
وتجرحهما ... فجأة انطلقت صرخة ذلك الخنزير المتألمة، ثم توقف عن اللحاق بي، في
نفس اللحظة التي تعثرت فيها في جذع شجرة وسقطت على الأرض، وأنا أتدحرج ككرة جلدية
... التفت بسرعة ناحية الخنزير فوجته مسجا على الأرض وأقدامه إلى أعلى ... وهناك
حربة طويلة تبرز من جانبه والدماء تسيل من مكان اختراقها لجسده.
***
اقتربت من الخنزير البري، الذي كان يلفظ أنفاسه
الأخيرة ... فجأة ظهر من بين الأشجار مجموعة من الرجال، لهم بشرات قمحاوية، ويرتدون
مآزر طويلة مصبوغة بألوان وأشكال بدائية، جذوعهم عارية، وعلى رؤوسهم حلقات من
الريش وعظام الحيوانات، ويحملون في إيديهم أسلحة، حربات، أقواس وسهام، وبوصات من
تلك التي يبصق منها السهام ... شعرت بالقلق من نظراتهم القاسية ووجوههم الجامدة،
وهم يتفحصونني بدهشة ... اقترب أحدهم من الخنزير المتردي، فوطأه بقدمه ثم انتزع
الحربة من جسده بعنف، ثم بدأ يتحدث مع أصحابه بلغة غريبة، تعظم حرف القاف والكاف
وهم يشيرون نحوي ... هنا، أخبرني عقلي أن علي أن أهرب قبل أن تضيع الفرصة، فاستدرت
معتزما الفرار، ولكن قبل أن ابتعد خطوة واحدة شعرت، بلسعة في ساقي، فنظرت إليها،
فوجدت فيها سهم رفيع مغروس، التفت نحو الرجال، فوجدت أحدهم يضع في فمه تلك البوصة
ويوجهها نحوي مهددا ... قررت أن أواصل الهرب، ولكنني أشعر أن قدمي التي أصيبت
بالسهم قد أصابها الخدر، وصرت أفقد الشعور بها تدريجيا، حاولت الهرب وأنا أجرر
قدمي ورائي، فشعرت بسهم آخر يخترق ذراعي، وآخر يصيب ظهري ... عجيب أمر تلك الأسهم،
كل عضو تصيبه في جسدي ، يتخدر وحده دون باقي الأعضاء، في البداية أشعر باللسعة
مكان الأصابة، ثم تتحول إلى برودة كالثلج، ثم أشعر كأن العضو ينتفخ كالبالون، قبل
أن أفقد الشعور به ... سقطت على الأرض متأثر بأصاباتي، فاقترب مني الرجال وحملوني
على محفة، وحملوا أيضا الخنزير الذي أصطادوه على دعامة خشبية بعد أن ربطوا إليها
أقدامه، وحملها أثنان منهم، ثم بدأ الجمع يتحرك عائدا إلى المكان الذي جاءوا منه.
***
ساروا لمسافة طويلة حتى جاوزوا الغابة
إلى منطقة مفتوحة، كنت واعي تماما لما يحدث حولي، أحرك رأسي يمينا ويسارا لأعرف
الاتجاه الذي يسيرون إليه، فرأسي ورقبتي هما العضوان الوحيدان القابلان للحركة
الآن في جسدي المخدر كله، كانت عيناي تقعان على هذا الخنزير المسكين المحمول مثلي،
وأتساءل هل سيكون مصيرنا متشابها، فينتهي بنا الحال إلى بطون هؤلاء المتوحشين ...
أفكر أنهم لا يشبهون الهنود الحمر ببشرتهم القرمزية، ولا يشبهون أيضا الأفارقة
ببشرتهم السمراء العاجية، وملامحهم أيضا تختلف عن كليهما، إنهم يذكرونني بسكان
استراليا الأصليين كما نراهم في الأعمال التسجيلية ... يصل إلى أذني أصوات صياح
وتهليل، فانتبه إلى أننا على مشارف قريتهم، وأهل القرية، رجال، ونساء، وأطفال
يتجمعون من كل حدب وصوب ليروا صيد الرجال.
القرية ليست بدائية بل هي أقرب لمدينة
صغيرة ... بيوت حجرية من دور واحد، وأعمدة عليها صور بارزة لرجال ونساء مربعوا
الرأس، وهم يتضرعون للشمس، التي تمد إليهم أشعتها كأنها أذرع حانية ... ملابسهم
أيضا تدل على التحضر بألوانها المصبوغة، وزخارفها المبهرجة .... الأطفال يتحسسون
جسدي في فرح، وجسد الخنزير أيضا ... لا تقلقوا أيها الأطفال ستشبعون الليلة! سيفعلها
حظي السئ، وخيالي المريض.
ينفصل عنا الرجلان اللذان يحملان
الخنزير، ويسير الباقون بي محمولا إلى داخل المدينة ... صدرت عني شهقة دهشة، عندما
وقعت عيناي على هرم ضخم ذو أربعه أوجه، ومدرج صاعد على كل وجه منها، لم يكن هذا
الهرم بفخامة ولا عظمة أهرام مصر، ولكنه بناء عبقري وضخم، ومن بناه هو شعب امتلك
حضارة في يوم من الأيام ... أتذكر الآن شيئا عن أهرام الشمس التي بنتها شعوب عاشت
لأكثر من ثلاثة آلاف عام في منطقة أمريكا الوسطى، حتى أفنتها الجيوش الأسبانية
والبرتغالية في غزواتهم الاستعمارية إلى تلك البقاع، أتذكر أنني شاهدت أو قرأت شيئا
عن هذا ... وهناك شئ مرعب يعبث في أحد جوانب عقلي، شئ يخص تلك الشعوب، لا استطيع تذكره الآن.
وصل بي الرجال إلى قاعدة الهرم، ثم
بدءوا صعود الدرج، وقد اصطف الناس على الجانبين، وهم يغنون ويصدحون بأغاني وأهازيج
عذبة، من الواضح أنهم سعداء بمقدمي ... وصلنا إلى قمة الهرم المستوية، وهناك وجدت
عرش كبير من الذهب يجلس عليه رجل ذو كرش عملاق، مغطى من أعلى رأسه، وحتى إخمص قديه
بالذهب، وبجواره مقاعد فاخرة أخرى يجلس عليها أهل الحظوة والمقام من الرجال
والنساء ... ثبتني الرجال إلى مذبح حجري، وقيدوا أطرافي الأربعة بسلاسل من الحديد
... توقفت الأغاني والأهازيج ... كنت أحاول الحديث مع الرجال وزعيمهم، ولكن لا أحد
منهم يعبأ بالرد علي ... فجأة ظهر ذلك الرجل الخبيث الشكل والرائحة، يرتدي رداء
أحمر مزخرف عليه صورة الشمس، وعلى رأسه قبعة كبيرة من الريش على مقدمتها حلقة
بيضاوية تشبه الرقم (صفر) باللغة الإنجليزية، كانت تلمع في إشعة الشمس.
اقترب الرجل مني، وهو يصيح بكلمات منغومة،
ويجاويه الحضور بهتاف من كلمة واحدة:
-
هوووو...
خلع الرجل قميصي، وكشف عن صدري، كنت
الآن قد استعدت الشعور بأطرافي، أخذت أحاول تخليص نفسي، فعجزت عن ذلك، فقد كانت
القيود محكمة للغاية ... جلب الرجل سكين ذو حدين مبطط وله رأس منحني ... نظرت إلى
السكين بجزع، قبل أن أوجه كلامي إلى ذلك الرجل، الذي أخذ يشير للحضور بسكينه في
نشوة:
-
ماذا ستفعل أيها اللعين !؟
أخرج الرجل من جعبته قنينه صغيرة، ثم
صب ما بها على صدري، وهو يواصل كلماته اللعينة التي تثير الحضور وتحمسهم ... أتذكر
الآن ذلك الشئ المرعب الذي كان غائبا في ثنايا عقلي عن بعض طقوس تلك الشعوب، شئ
قرأته عن أن بعضهم كانوا يأكلون قلوب أعدائهم وهم أحياء، وهذا الطقس يزيد من قوتهم
ومنعتهم عليهم ... قرب الرجل السكين من صدري، فأغمصت عيناي في يأس، وجززت على
أسناني ... ازدادت حماسة الحضور وصيحاتهم، فتحت عيني ببطأ، فرأيت صدري مشقوقا
والدماء تسيل منه، وذلك الرجل يمسك شيئا ما فوقه بيده الغارقة في الدماء، شيئا أخرجه
لتوه من صدري، شيئا ينبض نبضاته الأخيرة
... يبتسم لي الرجل ابتسامة كريهة بأسنانة المهترأة، ثم ينحني بسرعة ويقضم قطعة من
قلبي بأسنانه، فيظلم الكون من حولي.
***
سقط الكتاب الذي يحمل عنوان (قبائل
المايا) من يد المرأة، عندما انبعث طنين محذر من الجهاز المتصل بجسد إبنها الشاب
(يوسف) الغائب في غيبوبته منذ أكثر من شهر ... قامت بسرعة وهي تتعثر، ألقت نظرة
سريعة على وجهه فلمحت عليه لونا أزرقا غير طبيعي، كما إن أنفاسه غير منتظمة، وكأنه
يجاهد كي يجذب ذرات الأوكسجين إلى رئتيه ... أسرعت المرأة بسرعة إلى جرس الطوارئ،
وأخذت تضغط عليه بقوة وكأن هذا سيجلب المساعدة بسرعة أكبر ... اندفع إلى المكان
طبيب شاب وتلحق به ممرضة مذعورة ... ألقى الطبيب نظرة سريعة على الجهاز، ثم تحرك
بسرعة إلى الكومود وفتحه وأخرج من قنينه ومحقن، وناولهما إلى الممرضة التي حقنتهما
بسرعة واحترافية في وريد الشاب ... كان الطبيب يتفحص حدقتي الشاب، ونبضه، قبل أن
يغطي وجهه بجهاز التنفس ليتدفق الأوكسجين النقي إلى صدره، وهو يهمس للممرضة بصوت
خافت:
-
أزمة قلبية.
سمعته المرأة وهي تقف في ركن قصي من
الغرفة تحتضن الجدار بفزع، وقد صار وجهها أكثر زرقة من زجه إبنها المريض، وهي تدعو
الله، وتهمس إلى إبنها بكلمات لا يسمعها:
-
لا تذهب يا (يوسف) لا تذهب ... ابق معي!
***
مرة أخرى أعود إلى تلك الغرفة وذلك
المقعد الوثير ... ست مغامرات، خلف ستة أبواب ملعونة، بحثا عن النجاة، فلم تحمل لي
أيها إلا الألم والموت ... باب واحد متبقي، لو كانت هناك نجاة من فخ الموت هذا،
فستكون خلفه ... وهذا شئ صرت أشك فيه الآن ... توجهت بخطوات مترددة نحو الباب
السابع وفتحته، ثم تقدمت إلى الظلام الذي طالعني خلفه.
***
الباب السابع ...
وجدت نفسي في المقعد الوثير في الغرفة
نفسها ... لقد أعادني الباب السابع إليها مرة أخرى، اللعنة، هل انتهت مغامرتي خلفه
بتلك السرعة!؟ هل كان الباب السابع بابا مخادعا، مجرد ممر للارتداد للخلف والعودة غلى
نقطة البداية ....انتبهت إلى صوت نقرات على سطح المكتب الخشبي، فوجهت نظري إلى
مصدرها، ففاجئني وجود ذلك الرجل الذي يجلس خلف المكتب، يقلب في كتاب أمامه بيد،
وينقر باليد الأخرى على سطح المكتب، نقرات مستفزة ... كان الرجل يرتدي عباءة سوداء، ويحمل على وجهه
قناع الموت الشهير بوجه غراب أسود ذو منقار طويل ... تمتمت بوجل:
-
من أنت؟
أجابني بصوت ناعم، ثعباني:
-
أنا صاحب هذا المكان.
صمت للحظة، ثم اردف:
-
وأنت ضيفي هنا.
قلت مستجديا:
-
ولكنني أريد الخروج من هنا.
أشار بسبابته بالرقم (1) وهو يقول:
-
سأمنحك دقيقة واحدة لتخرج من هنا ...
ثم نهض من وارء المكتب وتوجه نحوي ...
كهرباء استاتيكية انبعثت في المكان، وشعور هائل بالذعر والقشعريرة انبعث في جسدي
وعقلي، وتزايد مع كل خطوة يقترب فيها مني ... نهضت بقدمين مرتعشتين، وأنا أحدق في
وجهه وهو يقترب مني حتى صار في مواجهتي تماما، قبل أن يقبض بيمينه على كتفي، فشعرت
بأصابعه كجمرات تحرق جلدي، لحمي، فصرخت في ألم، وحاولت تخليص نفسي من قبضته، فاكتشفت
أنني قد صرت عاجز تماما عن الأتيان بأي حركة، وكأن جسدي قد اصابه الشلل التام ...
قرب وجهه من وجهي، ومد يده الأخرى ورفع القناع ليريني وجهه ... لا يمكن لكلمات أن
تصف مشاعر الرعب والألم التي شعرت بها في تلك اللحظة، عندما رأيت ملامحه الرهيبة،
إنه شئ يفوق هذا العالم، ويفوق القدرات البشرية المحدودة، كل الألم والرعب الذي
وجدته خلف الأبواب الست، يتضاءل الآن أمام ما اشعر به الآن، وأنا انظر مباشرة في
وجه الموت، الموت نفسه، والأسوء أنني عاجز عن الإتيان بأي فعل، عاجز حتى أن أغيب
عن الوعي ... ألقى القناع ثم قبض بيده الثانية على كتفي الأخرى، قبل أن يشتعل جسده
بالنيران المسعرة، وتمتد النيران إلى جسدي، لقد كنت أشوى حيا في تلك اللحظات ...
كان آخر ما سمعته منه قبل أن أغيب في الظلام:
-
أمامك دقيقة واحدة لتجد طريقك إلى الخارج ... وإلا ستصبح
ضيفي هنا إلى الأبد.
***
عدت مرة أخرى إلى غرفة المكتب وعلى
المقعد الوثير ... هناك تغيرات في المكان، هناك جدار يسد المخرج إلى دهليز الأبواب
السبعة ...لقد أغلقت الأبواب السبعة إلى الأبد، وهناك ساعة جدارية معلقة على
الجدار تحمل عقرب واحد، عقرب الثواني، الذي بدأ يتحرك في دورته الأخيرة ... دقيقة
واحدة وقد مضى منها خمس ثوان بالفعل، نهضت بفزع، وأخذت افكر في طريقة للخروج من
هذا المكان، وعيناي تتابعان عقرب الثوان الذي يتحرك بسرعة هائلة ... صرخت بجنون
هستيري:
-
كيف يمكنني الخروج من هنا؟ ... كيف؟
***
وصل إلى المكان مجموعة أخرى من الأطباء
وانضموا إلى الطبيب، والممرضة، وتكالبوا على جسد الشاب (يوسف) حتى أخفوه، وهم
يتحركون بسرعة في محاولة يائسة لإنعاشه ... تكومت أمه أكثر في ركن الغرفة وفاضت
عيناها بالدموع، وهي تشعر كأن هناك من يعتصر قلبها ...وصل إلى مسامعها بعض الكلمات
القلقة، التي يتبادلها اعضاء الفريق الطبي (اعطه جرعة إضافية، إننا نفقده، إبدء
إجراءات الإنعاش) ... وجهت المرأة وجهها إلى السماء وعلت ملامحها إمارات الرجاء
وتمتمت شفتاها بكلمات الدعاء ...
***
توجهت بسرعة إلى المخرج الوحيد
المتبقي، الباب الخشبي ذو القفل الرقمي ... أول ما خطر ببالي هو أن أجرب الضغط على
الرقم (7) سبع مرات، ولكن الضوء الأحمر الذي انبعث من الجهاز، كان دليلا على فشل
تلك الفكرة، جربت تاريخ ميلادي فحصلت على نفس النتيجة ... نظرت نحو الساعة فوجدت عقرب
الثواني قد قطع نصف المسافة حتى الدقيقة الكاملة، ذعر هائل اجتاح باطني في تلك
اللحظة، وشعرت ببرودة قاسية تسري على عمودي الفقري، بداية من رأسي وحتى أسفل ظهري
... أخذت أضغط الأرقام بصورة عشوائية فكنت أحصل على الضوء أحمر اللعين في كل مرة
... فجأة، انبعث ذلك الصوت داخل ثنايا عقلي، صوت أمي وهي تبكي وتناجيني:
-
(يوسف) ... لا تذهب ... ابق معي.
صرخت بقوة:
-
أمي ... أين أنت!؟
عدت مرة أخرى إلى القفل الرقمي، وقد
دفع صوت أمي الحماس والأمل في باطني، وأزال عني الأعراض التي كانت تعتريني ...
الآن وفي الثوان الخمس عشرة الأخيرة، استطيع أن أفكر بصفاء ذهن وتركيز عاليين ...
تمتمت بهدوء، وأنا أحلل ما يحدث بمنطقية للمرة الأولى:
-
بالتأكيد الشيفرة الرقمية لهذا القفل، كانت موجودة خلف
واحد من الأبواب السبعة.
توقفت لثانية ثم أردفت:
-
أو أنها كانت موجودة خلفهم جميعا.
في تلك اللحظة وكفيلم مصور، قفزت أمام
ذهني بعض الصور المتلاحقة من مغامراتي خلف الأبواب السبعة
... الباب الأول ...
صورة لرجل شرطي يرتدي قبعة
وفي وسطها، رمز لنسر نحاسي وعلى صدره الرقم
... (3)
... الباب الثاني ...
مفتاح قديم يفتح قفص تحتجز فيه مصاصة
دماء ملعونة، مرسوم عليه الرقم ... (5)
... الباب الثالث ...
ثلاجات لحفظ الموتى في مشرحة تحمل
جميعها الرقم ... (6)
... الباب الرابع...
غرفة بمستشفى يرقد داخلها جسدي الغائب
في غيبوبة يحمل الرقم (8)
... الباب الخامس ...
رمز فرعوني على جدار مقبرة فرعونية
لثعبان يلتف حول نفسه يشبه الرقم (2)
... الباب السادس ...
تاج من الريش يحمله على رأسه ساحر من (قبائل
المايا) المنقرضة يشبه الرقم (0)
... الباب السابع ...
فرصة أخيرة يمنحها لي الموت نفسه وهو
يشير بسبابته بالرقم (1)
التفتت مرة أخرى إلى الساعة الجدارية
... 5 ثوان ... 4 ثوان ... 3 ثوان ... ضغطت الشيفرة الرقمية بسرعة جنونية في سباق
مع عقرب الثواني ... (3568201) ... ثانيتين
... ثانية واحة ... فجأة، انبعث صوت تكة خفيفة، وأضئ مصباح القفل الرقمي بضوء
أخضر... سحبت مقبض الباب، فانفتح ببساطة، طالعني خلفه ضوء أبيض قوي، أغشى بصري،
تحركت ناحيته وأنا أحمي عيني بكفي، فابتلعني الضوء ...
***
انتظم صوت الأجهزة الطبية، وبدأ القلق
ينسحب من على وجوه أعضاء الفريق الطبي، وهم يتبادلون نظرات تحمل بعض الأريحية ...
اقتربت منهم المرأة، وهي تكفكف دموعها، وقد شعرت بأن الأزمة قد مرت، وسألت:
-
هل هو بخير؟
أجابها الطبيب الشاب:
-
أجل يا أماه لقد استقرت حالته ولله الحمد.
غادر الفريق الطبي الغرفة، وبقى الطبيب
الشاب والممرضة لبعض الوقت لطمأنة المرأة، ثم لحقوا بزملائهم ... اقتربت المرأة من
فراش إبنها (يوسف) ... وأخذت تقبل وجهه ورأسه، وهي تخاطبه لائمة:
-
أرجوك لا تفعل ذلك ثانية.
ثم جلست على الكرسي الخشبي، وأمسكت
بكفه وعانقتها بكفيها في حنان ... وهي تنظر إلى وجهه بحب ... فجأة ارتعشت أصابعه
بين أصابعها ... واهتز جفنيه، قبل أن تتحرك شفتاه حركة ضعيفة خائرة، وهو ينطق
بلهجة ثقيلة:
-
أمي ... هل أنت هنا؟
..(تمت)..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق