الأحد، 5 فبراير 2017

الكويكب



قصة رعب بعنوان ... (الكويكب – الجزء الأول)
اسمي (كاي 381) وللتخفيف يمكنك أن تدعوني (كاي) فقط ... ساعة واحدة تفصلنا عن السطح،  كنت أنا وبصحبتي أربعة من الرفقاء، ثلاثة من الذكور، وأنثى واحدة ... غادرنا (المهد) أمس في الظهر ... كان المفترض أن تستغرق رحلتنا إلى السطح دقائق قليلة، ولكننا اكتشفنا أن المصعد الذري معطل، لذا كان علينا أن نستخدم الخرائط الرقمية القديمة، لترشدنا عبر ممرات بديلة محفورة في الصخر، يمكنها أن تصعد بنا إلى أعلى ... ورغم أن (المهد) مدفون في باطن الأرض على عمق لا يتجاوز الكيلومتر الواحد فقط، إلا أن تلك الممرات امتدت بنا في مسارات ملتوية كجسد الثعبان لعشرات الكيلومترات، من الواضح أن الأجداد عندما حفروا تلك الممرات، واجهتهم أجزاء قاسية من التربة، فكانوا يتفادونها إلى تربة أقل قساوة، وهذا ما أكسب تلك الممرات ذلك الطول وتلك الطبيعة الثعبانية ...
خمستنا بنفس العمر تقريبا، فقد تم تخصيب البويضات التي جئنا منها جميعا في يوم واحد، وقام (الرحم) باحتضاننا لشهور تسعة، قبل أن تتلقانا أجهزة (التنشئة) كأطفال رضع، وهناك قامت الأجهزة والبرامج المعدة من قبل الأجداد كجزء من خطة (المهد)، بتغذيتنا ورعايتنا وتعليمنا علوم الأقدمين وتاريخهم طوال ثمانية عشر عاما كاملة، وذلك حتى أصبحنا جاهزين ومؤهلين للبدء في المهمةالتي وجدنا من أجلها ... كانت مهمتنا هي الصعود إلى سطح الأرض، لنستكشف حالته، ونرى هل أصبحت أخيرا صالحة لعودة الإنسان إليها بعد كل ذلك الزمن.
بعثتنا ليست هي الأولى، بل هي السابعة، وهذا يعني أن الكارثة التي حاقت بكوكب الأرض قد مضى عليها سبعة آلاف عام ... وخلال تلك الحقبة الطويلة قامت أجهزة (التخصيب)الآلية بتجهيز سبع بعثات، بمعدل بعثة واحدة كل ألف عام، وجميعها من أجل مهمة واحدة، وهي استكشاف سطح الكوكب، وإعطاء الإشارة الضرورية والمنتظرة لتفعيل برنامج (البعث) ... عندها ستقوم أجهزة (التخصيب) و(التنشئة) بالعمل بطاقتها القصوى، وذلك لإنشاء جيل جديد من البشر، قادر على العودة إلى السطح لإعمار الكوكب وإعادته لما كان عليه ... كانت مهمة تلك البعثات استطلاعية، المشكلة أن أحدا منهم لم يعد أبدا إلى (المهد) في الست مرات السابقة، وتلك إشارة إلى برامج التحكم في (المهد) كي تنتظر ألف عام أخرى قبل أن ترسل البعثة التالية.
قالت (سيتا 18) وهي تراجع الخريطة التي في يدها على ذلك الضوء الفسفوري الذي ينبعث من ملابسنا:
-          هناك ثلاثة طرق تؤدي إلى السطح، لو قررنا اختيار أقربها فعلينا أن ننعطف يمينا بعد مائة متر.
كانت شبكة الممرات من (المهد) حتى السطح أشبه بشبكة العنكبوت، وهي فكرة عبقرية من أفكار الأجداد الذي فكروا في كل شئ في ذلك الوقت، فمن المحتمل أن يتسبب أي انهيار صخري في غلق أحد الممرات، عندها كنا سنجد دائما ممر آخر لنسلكه داخل تلك الشبكة العنكبوتية، قال قائدنا (رام 1905) وهو يكبرنا بأيام خرج فيها قبلنا من (الرحم):
-          سنختار الأقرب.
لم يكن الجهد البدني بعائق لأيا منا، فالإعداد البدني، واللياقة العالية كانا جزء لا يتجزء من برنامج (التنشئة) الخاص بنا، كما أن نقص (الأوكسجين) لم يكن مشكلة مع تلك الملابس المزودة بخلايا لتنقية الهواء، قادرة على استخلاص ذرات الأوكسجين من الهواء المحيط بنا مهما كان فاسدا أو ملوثا، وهي تعمل ببطاريات ذرية لا تفنى أبدا ... لذا وبدافع من الحماس والفضول انطلقنا نعدو داخل ذلك الممر البيضاوي الصاعد بزاوية حادة نحو السطح ... بعد فترة، صرخ (بيرد 1212) في دهشة:
-          انظروا.
وأشار بسبابته إلى ذلك الضوء الذي يتسرب من نهاية الممر، من مسافة لا تزيد عن مائتي متر من موقعنا ... شعور غريب اعتراني في تلك اللحظة، قشعريرة باردة تسري في جسدي وكأن هناك يد باردة تداعب قلبي وباطني، وأعلم يقينا أنه نفس الشعور الذي يختلج رفقائي في تلك اللحظة ... قلت بصوت يرتعد من التأثر:
-          إنه ضوء الشمس.
صدق (شات 390) على كلامي، وهو يقول:
-          أجل، لقد شاهدناه كثيرا على تلك التسجيلات المصورة، وقرأنا عنه في كتب ومنشورات الأجداد ... ها نحن نراه الآن بأعيننا.
قالت (سيتا) بانفعال:
-          هناك شئ آخر.
فالتفتنا إليها جميعا متسائلين:
-          الأجهزة تشير إلى أن الجو هنا نقي وصالح للتنفس، يمكننا أن نخلع أقنعة التنفس.
سألها (رام) بلهجة عملية:
-          هل أنت متأكدة؟
كانت (سيتا) هي المسئولة التقنية في البعثة، وهو شئ أعدتها له أجهزة (التنشئة) من لحظة ولادتها، كما أعدت كل واحد فينا لدوره في تلك البعثة ... أجابت (سيتا) بثقة، أجل يمكننا أن نفعلها ... أشار لنا (رام)، فبدءنا نخلع ثيابنا، وسبقنا هو ورفع قناع التنفس عن رأسه، ثم تردد للحظات، كنا نترقب فيها ما سيفعله، ثم تنشق أول دفقة من الهواء إلى صدره، ثم نظر لنا بابتسامة رضا، ففعلنا مثله على الفور ... مرة أخرة يعترينا نفس الشعور المحبب، ونحن نستنشق هواء سطح الأرض من جديد إلى صدورنا، وهو شئ لم يفعله بشري آخر قبل ألف عام ... إنه شعور رائع لا يمكن وصفه.
ألقينا الثياب على الأرض ثم أسرعنا الخطى نحو مدخل الممر، الذي أصبح مضاء تماما بنور أشعة الشمس التي تتسرب عبر بالآجام والنباتات الشوكية والمتسلقة التي تسد مدخله ... أخرج (رام) نصل من حقيبة ظهره، ثم بدأ يشق طريقه إلى الخارج ونحن نلاحقه، لحظات ووجدنا أنفسنا نقف في وسط فسحة متسعة تحيط بها الأشجار من كل جانب، تغشي أعيننا أشعة الشمس الذهبية، الدافئة، التي تستشعر حرارتها كأنها نسيج زغبي يمس جلد وجهك وساعديك ... حاولت أن أفكر في شئ يمكن قوله، ولكنني وجدت أن ما علمته لي أجهزة (التنشئة) من كلمات كثيرة بعدة لغات ولهجات، يعجز تماما عن وصف ما أشعر به في تلك اللحظة ... آثرت الصمت وأنا أتأمل المكان في نشوة، وفعل الآخرون مثلي.
***
قبل سبعة آلاف عام ... شعر سكان كوكب الأرض الذين ضاق كوكبهم بكثرتهم وتناحرهم وصراعهم الدائم على موارده، بأن هناك شيئا غير طبيعي، شئ يدعو للقلق والتوتر ... فقد دعا أمين عام الأمم المتحدة جميع رؤساء الدول الأعضاء لاجتماع سري بمقر الأمم المتحدة، واستمر الاجتماع السري لثلاثة أيام متواصلة ... بدأت الشائعات تنتشر في كل مكان عن الهدف من ذلك الاجتماع السري، البعض تكلم عن حرب عالمية توشك على الاندلاع، والبعض تحدث عن وباء يتفشى بين الناس كالنار في الهشيم، أما القلائل ممن يعرفون الحقيقة فقد التزموا الصمت تماما.
وفي آخر الأيام الثلاث، ظهر الأمين العام في مؤتمر مفتوح ومعه الرؤساء وكأن على رؤسهم الطير، وقد علا الإرهاق ملامحهم، وأن لم يخف تحته الفزع واليأس اللذان ارتسما بصحبته على الوجوه ... أخبر الأمين العام أجهزة الإعلام بأن هناك بيان رسمي سينقل لجميع شعوب الأرض، بيان من جميع قادة الأرض، سيتم ترجمته آنيا وبثه لكل دوله بلغتها، وسينطق بذلك البيان، المسئول الإعلامي وسيكون ذلك في غضون ساعات من الآن.
***
بعد اجتماع قصير بين أعضاء البعثة الخمسة لتحديد الخطة والآلية اللتان سنتبعهما في مهمتنا، قمنا بتسجيل بعض الملاحظات الأوليةعن الحالة البيئية المبدئية لسطح الكوكب، والتي بدت مبشرة للغاية، شمس ظاهرة في كبد السماء لا تخفيها الغيوم ولا سحب الغبار، وهواء نقي يصلح للتنفس، وبيئة نباتية متعافية تصلح كقاعدة لحياة حيوانية ودورة حياة مكتملة الأركان ... قال (بيرد) وهو يمدد جسده على العشب الأخضر:
-          رغم أن هذا لا يتفق مع الإجراءات القياسية لخطتنا ... إلا أنني أرى أن نكتفي بهذا القدر، ويعود بعضنا إلى (المهد) لإرسال إشارة البداية لعملية (البعث).
رد (رام) بلهجة خشنة:
-          سنلتزم بالإجراءات القياسية، علينا أن نقيم السطح في دائرة لا تقل مساحتها عن خمسمائة كيلومتر مربع، ونتأكد من عدم وجود مخاطر محتملة تحيق بالحياة البشرية الناشئة فيها.
قال (بيرد):
-          ولكن.
قاطعه (رام):
-          ليس هناك (لكن) يا صديقي ... نحن نتكلم هنا عن الفرصة الأخيرة للحياة البشرية على هذا الكوكب ... ولا يريد أينا أن يضيعها بأي فعل أحمق أو متعجل.
بدا (بيرد) غير مقتنعا بالكلام، ولكنه أومأ برأسه، وهو ينهض ليجلب بعض قطع البروتين ويمنحها لكل منا، مع بعض شربات الماء، فقد كان (بيرد) هو المسئول عن التموين في البعثة، قبل أن يقول:
-          إذا كانت رحلتنا ستطول، فعلينا إذا أن نجد مصدر آخر للطعام والشراب، فما نحمله معنا لن يكفي إلا لأيام قليلة.
كانت خطتنا تعتمد أن نتحرك كمجموعة في مسار دائري مركزه مدخل الممر الذي جئنا منه، وعندما نكمل الدائرة ونجد أن الأمور كلها على مايرام على سطح الكوكب، نعود بعدها إلى الممر لنكمل مهتمنا عائدين إلى (المهد) لنطلق برنامج (البعث) المنتظر ... توقعت أن نحتاج إلى شهر أو أكثر حتى نعود إلى نقطة البداية، وهذا إذا لم تقابلنا عوائق تدفعنا لتغيير المسار ... رسمت (سيتا) المسار المتوقع على جهاز الخرائط الرقمي الذي تحمله، بعد أن قامت بتسجيل بعض البيانات الجغرافية الأولية التي طالعتنا حتى الآن.
***
ظهر الأسى والحزن على وجه المتحدث الرسمي بالأمم المتحدة، وهو يقول:
-          أنا أعتذر منكم جميعا.
توقف للحظة وبدا كأن هناك دمعة صغيرة تترقرق داخل عينه:
-          لم أحب أبدا، أن أكون أنا ناقل هذا الخبر المشئوم لكم.
كانت شعوب الأرض جميعها قد تحلقت حول أجهزة التلفاز في البيوت وعلى المقاهي، الجميع شعر بأن هناك كارثة مقبلة في الطريق ... قال المتحدث الرسمي:
-          إنها النهاية.
قالها بصوت مرتعد وبلهجة صادقة متهدجة، أثارت الرعدة في أجساد الجميع، صمت لفترة طويلة حتى تمنى الناس أن ينطق وينهي عذابهم، فقال:
-          رصدنا وصول هذا الكويكب إلى فضائنا القريب منذ خمس سنوات فقط، حينها وبسرية شديدة تم تكوين فريق من خيرة علماء هذ الكوكب لدراسة مادته وكتلته ومساره المتوقع ... في البداية كان مسار الكويكب متذبذبا، كأنه كرة مضرب أطيح بها بضربة لولبية عبر فضاء الكون، ولكن بعد عامين فقط بدأ يفقد ذلك المسار المتذبذب، ويكتسب مسارا معتدلا ومحددا، حينها أيقن العلماء أنه طبقا لمعادلاتهم الرياضية فإن هذا الكويكب سيصطدم حتما بكوكب الأرض! ومع حجمه وكتلته الصلبة وسرعته الكبيرة، فإن نتيجة ذلك الاصطدام ستكون كارثية ... النتيجة الوحيدة المتوقعة هي فناء الجنس البشري وجميع الكائنات العليا ... إنها النهاية!
يبدو أن تلك الطريقة المباشرة التي لجأ إليها المتحدث الرسمي في محاولة للتغلب على صعوبة تلك اللحظة قد أضاعت معظم متابعيه، فكثير منهم لم يفهموا ما قاله من المرة الأولى ... وهذا بدا بوضوح على وجوه الإعلاميين الذي حضروا المؤتمر وتلك الهمهمات المتسائلة التي انبعثت بينهم،فأعاد المتحدث الرسمي ما قاله ببطأ وهو يضغط على الحروف والكلمات، ثم أضاف في النهاية:
-          عشرون عاما كاملة ... هذا هو الزمن المتبقي إلى لحظة الاصطدام ... حاولوا جميعا أن تستفيدوا بتلك السنوات، اجعلوها مثمرة، فهي الأخيرة.
***
سرنا لساعات داخل غابة من الأشجار الوارفة، هناك طيور تتنقل بين الأشجار وتصدر أصواتا صادحة، عذبة، طيور غريبة الشكل لها عرف أحمر، وريشا يحمل ألوانا متعددة، إنها قريبة السبه بالببغاوات كما رأيتها في الأفلام التسجيلية في (المهد)، وهناك أيضا بعض الزواحف والثدييات الصغيرة، سحالي وفئران وسناجب عرفتها فأنا أذكر أشكالها جيدا، أو هي تشبهها بشكل كبير، وهناك أيضا حشرات، ذباب، وبعوض ... قلت بانفعال، وأنا أراقب ذبابة زرقاء تحمل جناح كالمقص تقف على ظهر يدي:
-          الحياة الحيوانية، تشبه ما كانت عليه الأرض منذ سبعة آلاف عام.
قال (شات) دون انفعال:
-          شئ متوقع ... أجدادنا توقعوا أن تنجوا الحيوانات الصغيرة من آثار الصدمة الأولى، وسبعة آلاف عام  لن تسمح بأن تتطور تلك الكائنات لشئ آخر ... بالتأكيد كل ما سنراه من مخلوقات على هذا الكوكب، سيشبهه تلك التي كانت تعيش من سبعة آلاف عام.
هكذا هو (شات) دائما ببروده المعتاد، إنه قاتل للمتعة ... فجأة شعرنا بتلك الحركة، إنها أصوات لأقدام يعدو أصحابها على العشب خلف الشجيرات ، ويقتربون من موقعنا بسرعة كبيرة، شعرنا بالخطر، فتحلقنا في دائرة وقد أسند كل واحد فينا ظهره إلى صاحبه ، حينها ظهر أول تلك الوحوش، بوجهه المشوهه القبيح، وظهره الأحدب، وعيناه المشتعلتان كالجمر، كان الوحش يعدو على أربع في البداية، قبل أن يتوقف يعتدل منتصبا على قدمين، وهو يصدر زئير متوعد، وهو يصر على أنيابه التي يسيل من بينها اللعاب، لحظات وظهر وحش ثان وثالث، قبل أن تحاصرنا عشرة من الوحوش الشرهه، المتوعدة، والتي لا تبدي ملامحها القبيحة أنها تنتوي بنا خيرا...
.. (انتهى الجزء الأول ويليه الجزء الثاني) ..



قصة رعب بعنوان ... (الكويكب – الجزء الثاني)
ملخص ما سبق ... بعد سبعة آلاف عام من كارثة كبرى تحيق بكوكب الأرض، وفي مكان ما، على عمق كيلومتر من سطح الأرض هناك منشأة عملاقة تسمى (المهد) تحفظ داخلها آخر بذرة متبقية من الجنس البشري، الذي كان يعمر سطح هذا الكوكب في الماضي! ... وعن طريق التخصيب الصناعي وآلات الرعاية والتنشئة، يتم تجهيز بعثة من خمسة شباب لا تتجاوز أعمارهم الثمانية عشر عاما، من أجل رحلة خطرة لاستكشاف سطح الكوكب، ومعرفة مدى ملائمته لإعادة غرس البذرة الأخيرة فيه ...  تواجههم أول المخاطر عندما يجدون أنفسهم محاصرين بعشرة من الوحوش القبيحة، النهمة، الجائعة ...
.
بعد إعلان كارثة (الكويكب) الذي يشق الفضاء بسرعة وتصميم في اتجاه كوكب الأرض، كانت ردود أفعال الناس غير متوقعة، فالأيام الأولى قضوها في منازلهم بين أسرهم وعائلاتهم، حتى أن الشوارع صارت خالية يهيمن عليها الصمت، والسكون ... قبل أن يكتشف الجميع مرة واحدة، إن عشرين عاما على الاصطدام ليست بالوقت القصير، بل هي عمر كامل في حد ذاته، يمكن للإنسان أن يعيشه ويتمتع به، حتى أن البعض ممن جاوزت أعمارهم الأربعين والخمسين عاما بالفعل، شعروا بأنهم قد لا يلحقوا بطبيعة الحال بتلك الواقعة، وأنهم قد يكونوا قد غادروا الحياة قبلها بالفعل، وبمسحة من الأنانية المعتادة بين البشر، شعر بعضهم ببعض السعادة من ذلك، ووجدوا أنهم بتلك الطريقة لن يخسروا حياتهم وحدهم فقط، ولن يكون هناك شيئا ليبكون عليه بعد رحيلهم.
انقسم الناس بعد ذلك إلى قسمين، قسم دنيوي، وهو القسم الذي قرر أن يتمتع بتلك الحياة حتى آخر قطرة منها، بل أن بعضهم تطرف في هذا الفعل، وقرر أن يتجاوز كل القواعد والقوانين والأخلاق، وهو يفعل كل ما يحلو له، فيرتكب الموبقات، والفظائع،وعذره في ذلك أن الحياة ستنتهي سريعا وعليه أن يعتصر الرحيق منها بسرعة ... أما القسم الثاني فقد توجه إلى الدين وبدأ يفكر فيما بعد الحياة، والتي صارت نهايتها على الأبواب، فامتلأت المساجد، والكنائس،ودور العبادة عن آخرها، وبدأت الجماعات الدينية والتبشيرية تنتشر، وكالعادة كان من بينهم المتطرف أيضا، الذي قرر أن يجبر الناس على الانصياع لوجه نظره وحده فقط، حتى ولو استخدم معهم آليات القوة والعنف، وعذره في ذلك أيضا أن الوقت ليس كافيا لاستخدام آليات الإقناع فنهاية العالم صارت على مرمى حجر ... والغريب أن البعض صاروا يتنقلون بين القسمين، فاليوم يقرر الشخص أن يعمل لآخرته،ثم يكتشف أن عليه أن يستمتع بدنيته في اليوم التالي، قبل أن يشعر بأنه قد أفرط، فيعود للتفكير في الآخره في اليوم الذي يليه.
بعد سنوات مرت على هذا الإعلان بدأت الموجات الأولية تنحسر، وصارت هناك موجة واحدة غالبة، موجة العنف، فقد تزايدت بحدة معدلات الجريمة والسرقة والاغتصاب، وانتشرت الحروب، والصراعات الطائفية، والجرائم العنصرية، وبدا أن العالم على وشك الجنون، وأن هناك كارثة قد تحدث قبل كارثة الكويكب ... في تلك اللحظة تم الإعلان عن مشروع (المهد).
***
صرخ في (رام) وهو يتنقل بناظريه بين الوحوش التي أخذت تدور حولنا، وهي تصدر صوت زمجرة مرعبة، وهو يقول:
-          ما تلك المخلوقات اللعينة؟
كنت أنا أكثر أعضاء البعثة إطلاعا على علوم (البيولوجية) وبخاصة علمي النبات والحيوان، طبقا لبرنامج التنشئة الذي قام بتقسيم صنوف العلم المختلفة على أعضاء البعثة ليكونوا فريقا متكاملا، وكان لدي بالطبع معرفة نظرية عن الحياة البيولوجية على كوكب الأرض قبل الكارثة، فقلت بثقة شديدة:
-          لا أعرف ... هذه الأشياء لم أرها من قبل؟
أطلق كبيرها عواء متحشرج أقرب لصوت زئير الأسد، فجاوبته باقي الوحوش بأصوات مشابهة كافية لبث الرعب في النفوس، وجعل الاستسلام خيارا مقبولا، ولكننا كنا مدربين بشكل جيد ومؤهلين للتعامل مع كافة أنواع المخاطر، لذا تمتم (رام) بصوت خافت:
-          أخرجوا أسلحتكم.
أخرج كل منا قصبة فضية قصيرة من حقيبته، ثم وجهها تجاه واحد من تلك الوحوش، وقمت أنا بتوجيه خاصتي إلى كبيرهم، وانا أقول:
-          تلك الوحوش تشبه الذئاب، وتهاجم في قطيع، إذا تمكنا من قائدها، فقد يدفعها هذا للهرب والاستسلام و...
وقبل أن أكمل مقولتي، انقضت علينا تلك الوحوش، انقضت بسرعة كالبرق، ومزقت صفوفنا ... ضغطت الزر في سلاحي، فانطلق من مقدمته خيط من أشعة الليزر الخضراء، وكذلك فعل رفقائي، لم يتمكن أيا منا من أصابة واحدا من تلك الوحوش التي كانت تتحرك بسرعات كبيرة، وباستراتيجية واضحة، كان هدفهم هو أن يفرقوا صفوفنا، ثم ينتقوا أضعفنا، ويجذبوه بعيدا عنا، استراتيجية قطيع الضواري كما قرأت عنها في الماضي ... صرخت (سيتا) برعب، وقد حاصرها ثلاثة من الوحوش، وأخذوا يجرونها بأنيابهم بعيدا عنا ...  وجهت أشعة الليزر نحو أحدهم، فأصبته إصابه مباشرة في رقبته، جندلته على الأرض، وجعلت الوحشين الأخريين يتراجعان في قلق ... صاح (رام):
-          لا تتفرقوا، وأحسنوا التصويب.
انطلقت أشعة الليزر الخضراء فأصابت أثنين من الوحوش فصرعتهم على الفور ... تتبعت بعيني وبسلاحي الليزري كبير الوحوش وهو يدور حولنا في سرعة كبيرة، وأطلقت الشعاع نحوه، فاحتك بكتفه، فأطلق صرخة ألم مروعة، ثم أقعى على أربع وانطلق يعدو هاربا، ولحقت به باقي الوحوش.
أخذنا نراجع خسائرنا بعد معركتنا الأولى على سطح كوكب الأرض، جروح وخدوش وملابس ممزقة، لقد كانت الخسائر طفيفة، لقد نجحنا في الاختبار الأولى ... توقفنا ساعة للراحة ولتناول بعض الطعام، ثم واصلنا الرحلة ... كانت الشمس قد بدأت تتوجه إلى المغيب، عندما وصل إلى مسامعنا صوت الهسيس.
***
مرة أخرى اجتمع قادة العالم في مقر الأمم المتحدة لمناقشة تبعات الإعلان عن كارثة الكويكب المنتظرة، والعنف الذي استشرى بين الشعوب، اجتمعوا لساعات طويلة، ثم صدر بعدها البيان المشترك، بيان يحمل بعض الأمل للبشرية، بأننا لن نقف عاجزين في انتظار النهاية، وأننا قد قررنا المقاومة حتى آخر لحظة، وبأن هناك مشروعين مزمعين بتمويل عالمي مشترك،  للتصدي لذلك الكويكب، أولهما هو مشروع (الرأس الحارق)، وهو صاروخ عملاق محمل برأس نووي وطاقة انفجارية تعادل ملايين الأطنان، سيتم تجهيزه وإطلاقه على الكويكب عندما يصبح على مسافة قريبة من كوكب الأرض، بهدف تدميره أو على الأقل تعديل مساره، المشكلة أن الأطلاق لا يمكن أن يتم إلا قبل حدوث التصادم بشهور قليلة ومن منصة إطلاق معدة على سطح القمر ... وحتى لو لم ينجح هذا المشروع في إيقاف الكويكب، وصار الاصطدام حتميا، فسيكون هناك أيضا مشروع آخر، مشروع (المهد)، الذي سيكون بمثابة سفينة (نوح)، محملة ببذرة الجنس البشري، وأجناس نباتية وحيوانية أخرى، يتوقع أن تفنى أيضا مع الجنس البشري بعد الاصطدام، وسيتم إخفاء ذلك (المهد) وحمايته في موقع بعيد لا يستطيع الاصطدام ولا آثاره الوصول إليه.
 الحقيقة أن هذا البيان كان في الأساس بغرض امتصاص الغضب، وبث الأمل، والحد من العنف الذي بدأ ينتشر بين الناس ... ولكن ليس كل ما قيل فيه حقيقيا، وقابلا للتنفيذ ... فالعلماء منذ اللحظة الأولى أثبتوا بمعادلاتهم الرياضية أن مشروع (الرأس الحارق) سيفشل  فشلا ذريعا، والأسوء من ذلك أنه قد يضاعف من أثر الكارثة، فمن الممكن أن يتسبب التفجير النووي الغير محسوب، في تحويل الكويكب إلى أتون مشتعل وملوث بالشعاع النووي وهذا سيضاعف أثر الاصطدام ويطيل تبعاته بالتأكيد ... أما مشروع (المهد) فقد بدا هو الأمل الوحيد الذي تملكه البشرية في تلك اللحظة، رغم أنه يحتاج للكثير من الجهد والمال وبخاصة أن بعض التقنيات الحديثة التي ستستخدم فيه مازالت في مرحلة التجريب.
***
ارتفع صوت الهسيس قادما من وراء الشجيرات، ثم بدأ يتعالى، نظر لي (رام) متسائلا، فهززت له رأسي دلالة على عدم معرفتي لمصدر هذا الصوت ... تحضرنا لمواجهة الخطر وأخرج كل منا سلاحه الليزري، ووقفنا ننتظر في ترقب، وقلق ... كان صوت الهسيس قد صار عاليا، طاغيا، يكاد يمزق طبلة الأذن، وكانت الشجيرات تهتز في جنون، قال (شات) بصوت خافت، مرتعد:
-          اللعنة ... ماذا يحدث؟
فجأة، انشقت الشجيرات وخرج من خلفها آلاف الثعابين! ثعابين طويلة، وأخرى قصيرة، ثعابين غليظة، ورفيعة، ثعابين من كافة الأحجام ... وجميعها أخضر اللون يحمل بعض البقع الصفراء فوق جلده، ورأسه يحمل زائدتين عظميتين يشبهان القرون ... الغريب أن تلك الثعابين تتحرك بانتظام في صفوف كأنها جيش نظامي، وتتوجه مباشرة نحو هدفها وهو الإطباق علينا ...  عرفنا مباشرة أن أسلحتنا الليزرية لن تجدي مع تلك الجحافل، وبالتالي استدرنا على أعقابنا، وانطلقنا نعدو هاربين، خطوات قليلة ثم اكتشفنا أن تلك الثعابين المنظمة تحاصرنا من جميع الاتجاهات، أخذنا نطلق بعض أشعة الليزر بيأس، ولكن أعداد الثعابين كانت آخذة في الازدياد، كأنها سيل ماء عرم يندفع من مصبه ... قال (رام) قائدنا وأكثرنا خبرة في التكتيكات الحربية وبرامج البقاء:
-          إلى الأشجار.
ثم سبقنا إلى أقرب شجرة، وأخذ يتسلقها بسرعة وبراعة، ولحقنا به، كانت الشجرة طويلة، عالية، توشك أن تعانق السماء، انتقل (رام) إلى فرع غليظ، وأخذ يسير عليه، ثم قفز إلى الشجرة المجاورة كأنه قرد محترف ... حذونا حذوه، وأخذنا نتنقل من شجرة إلى أخرى ... توقفت مرة واحدة عندما وصل إلى مسامعي صرخة (سيتا) التي كانت ورائي مباشرة وهي تصيح بجزع:
-          (شات).
نظرت إليها، فوجدتها تخفي فمها بيدها في رعب، وتشير بالأخرى إلى أسفل، نظرت إلى حيثما كانت تشير، فوجدت (شات) وقد سقط بين الثعابين التي تكالبت عليه، وقد التف المئات منها حول رقبته وأطرافه وبدؤا يوجهون لسعات، وعقصات نحو جميع أجزاء جسده، كان (شات) يقاومهم في يأس، ولكن سرعان ما خارت قواه، واختفى تحت بحر من الثعابين الشريرة، نظرت للأسفل فوجدت أن بعض الثعابين كانت يحاول تسلق الشجرة ليلحق بنا، فقبضت على يد (سيتا) وجذبتها، وأنا أقول:
-          هيا ... لقد انتهى أمره ... لو انتظرنا سنصير مثله.
توقفت للحظة تفكر فيما يجب عليها فعله، قبل أن تقرر اللحاق بي، واصلنا القفز بين الأشجار، حتى ابتعدنا بمسافة طويلة آمنة عن مكان الثعابين، وبدت لنا نهاية الغابة، والوادي الأخضر الذي يليها ... قفز (رام) إلى الأرض ومن خلفه مباشرة (بيرد) ولحقنا به أنا و (سيتا) ... عقد (رام) حاجبيه في غضب، ووجه حديثه لي هو يقول بعصبية لا أعهدها فيه:
-          ما الذي يحدث؟
حككت جبهتي بسبابتي كعادتي عندما أفكر بعمق، وأنا أجيب:
-          ثعابين ... تشبه مثيلاتها في الماضي، ولكن سلوكها يختلف ... الموضوع يتكرر مرة أخرى!
قال بيرد بصوت حزين، وكأنه يذكرنا ما نعرفه جميعا:
-          لقد فقدنا (شات).
أجابت (سيتا) بصوت منتحب:
-          أفهم الآن سبب فشل البعثات السابقة ... لم تعد الأرض آمنة ورحبة كما كانت عليه في الماضي.
كنا قد جاوزنا الغابة، ونحن نواصل حديثنا الحزين عن زميلنا الذي فقدناه، وإن لم نفقد تركيزنا ولا رغبتنا في إنجاح مهمتنا الأصلية، هذا ما وجدنا وتربينا لأجله في المقام الأول، ولن نتوقف أو نتشتت حتى أخر نفس في صدر أخر واحد فينا ... في تلك اللحظة صرخ (بيرد) وهو يشير إلى السماء:
-          انظروا.
نظرنا إلى السماء التي قد جن عليها الليل، فصعقنا مما رأيناه فيها ... إنه شئ غريب، شئ لم نراه من قبل ولم نتوقعه أبدا.
***
شهور قليلة على الاصطدام، تغير سلوك الناس من جديد، توقفت الحروب التي صارت بلا جدوى الآن، ونبذ الناس العنف، وصار الود والصفات الحسنة هي الغالبة، توطدت الأواصر الأسرية، وتصالح المتخاصمون، واجتمع الفرقاء، وكثرت الزيجات وتساهل الأهالي في مطالبهم، وانعدمت المواليد، فلم يكن منطقيا أن يجلب أحدهم مهما كان أنانيا، طفلا لهذه الحياة ليعيش فيها أياما معدودة ... في الفترة الأخيرة كانت الناس تتابع تطورات مشروعي (الرأس الحارق) و(المهد) بأمل ... وعرفوا أن (المهد) قد أغلق في مكان سري وقطع الاتصال بينه وبين سطح الأرض بعد أن حفظ فيه ملايين الحيوانات المنوية والبويضات المجمدة، والجاهزة للتخصيب، من كافة أجناس الأرض دون استثناء وبعدالة وجدت أخيرا محلا لها على سطح هذا الكوكب ... وتم تزويد (المهد) ببطاريات ذرية لا تفنى، وأجهزة وبرامج لإعادة بعث البشرية عندما تحين اللحظة المناسبة ... أما مشروع (الرأس الحارق) فرغم معارضة العلماء إلا أن القادة أصروا على استكماله، وها هي الآن قاعدة الإطلاق قد صارت جاهزة على سطح القمر، حيث ستنطلق منها سفينةفضاء تحمل رأس نوويا وتسعى لمقابلة الكويكب في منتصف الطريق ... هناك أمل لدى الناس ولكنه أمل حذر، أمل مشوب بالخوف والتوتر.
***
قال مذيع البرنامج الفضائي المشترك، الذي يتم متابعته في تلك اللحظة في جميع أنحاء العالم:
-          ثلاثون ثانية على اصطدام (الرأس الحارق) بالكويكب ... فليرفع الجميع أيديهم بالدعاء أن يكلل ذلك العمل بالنجاح.
منذ شهور قليلة أصبح في استطاعة الجميع أن يروا الكويكب لامعا في سماء الليالي الصافية، بل أن تأثيراته قد بدأت تظهر بالفعل على كوكب الأرض، يتحدثون عن جزر غرقت عندما ارتفع منسوب المياة، وأجزاء من دلتا وسواحل بعض الدول اجتاحها الماء، وعواصف وأعاصير تهاجم كافة بقاع الأرض ... أخبار لا تشغل بال الناس كثيرا، وهم يترقبون الكارثة الأكبر التي ستحل عليهم بعد شهور قليلة.
-          عشرون ثانية.
كان الكثيرون يتابعون الحدث في تلك اللحظات على شاشات التلفاز، ولكن الغالبية خرجت للشوارع ووقفت تنظر للسماء في أمل ورجاء.
-          عشر ثوان ...
-          خمس ثوان ...
-          ثلاث ... أثنان ... واحدة ...
.. (انتهى الجزء الثاني ويليه الجزء الثالث) ..



قصة رعب بعنوان ... (الكويكب – الجزء الثالث)
ملخص ما سبق ... في فرصة أخيرة للجنس البشري الذي يترقب نهايته مع اقتراب ذلك الكويكب من كوكب الأرض بسرعة هائلة، يتم إعداد منشأة عملاقة على عمق كيلومتر من سطح الأرض تسمى (المهد)، وهدفها حماية آخر بذرة للجنس البشري، وإعادة غرسها عندما يأتي الوقت المناسب لذلك ... وطبقا لبرنامج (المهد) يتم تجهيز خمسة من الشباب كل ألف عام عن طريق التخصيب الصناعي، ورعايتهم وتنشأتهم وتدريبهم حتى سن الثامنة عشر، وذلك لإرسالهم في بعثة لاستكشاف سطح الأرض ... يتعرض أعضاء البعثة السابعة لمخاطر كبيرة في بداية رحلتهم، ويخسرون واحدا منهم بالفعل، قبل أن ينتبهوا إلى تلك المفاجأة التي تطل عليهم من السماء.
.
اشتعلت السماء، وحال الليل نهارا في الأماكن التي بها ليل على سطح كوكب الأرض، وتضاعف ضياء النهار فأغشى الأبصار في الأماكن الأخرى، وصرخ الناس ابتهاجا، وعقدوا أكفهم أمام صدورهم في أمل ... كان الانفجار رهيبا بحق، شئ لم تره أعينهم من قبل، البعض ممن يدرسون العلوم الفلكية، يقولون أنه يشبه الانفجار النجمي، أو كما يسمونه (سوبر نوفا)، لقد فعلها (الرأس الحارق)، بالتأكيد سيتفتت ذلك الكويكب بعد هذا الانفجار الخارق، ولن يبق منه إلا ذرات من الرماد ... لساعات ظلت السماء مشتعلة، ثم بدأ اللهيب يخبو تدريجيا لساعات أخرى، قبل أن يتلاشى تماما، ليظهر خلفه ذلك الكويكب من جديد! صرخ الناس في فزع، وسقط البعض على الأرض،وهو ينتحب ويبكي ويلطم خديه، وفقد البعض وعيهم بتأثير الصدمة، وزوال الأمل، أما العقلاء فقد ضموا إليهم زوجاتهم وأبنائهم، واحتضنوهم بقوة، وسالت الدموع فأغرقت الجميع، وأصبحت العيون تحمل نظرة واحدة، نظرة المحكوم عليه بالإعدام وهو ينتظر نهايته ... البعض ممن احتفظ ببعض البأس، نظر إلى السماء ثم أبدى ملاحظة هامة:
-          لقد تغير شكل الكويكب، لقد صار يشبه الرقم ثمانية في اللغة الإنجليزية.
***
في غرفة العمليات الرئيسية، في قاعدة (فيل) الجوية بولاية (أريزونا) الأمريكية، تابع فريق العمل آثار ما بعد انفجار (الرأس الحارق) في قلب الكويكب، وكانت التقارير تنقل آنيا، للعشرات من قادة العالم الذين تظهر وجوههم القلقة على الشاشات وهي تتابعه ما يحدث بترقب ... التقرير الأخير كان مبشرا، فقد أصاب (الرأس الحارق) الكويكب في النقطة التي تم تحديدها مسبقا باعتبارها أضعف نقاط الكويكب، وانفجر بطاقته الانفجارية القصوى ... هناك بيانات جديدة كما هو واضح من الانفعالات، والإيماءات العصبية التي تصدر عن  أعضاء الفريق، طبع أحدهم تقرير بالبيانات الجديدة وأسرع به إلى رئيس الفريق، الذي قرأه بسرعة، ثم توجه إلى الجدار الذي يحوي عشرات الشاشات التي تطل منها وجوه قادة العالم ... بادره الرئيس الأمريكي:
-          ما هي الأخبار؟
بدا الإحباط على وجه رئيس الفريق، ورفع الورقة وطالع ما بها لثانية، فحثه رئيس الوزراء الألماني على الإجابة:
-          ماذا هناك؟ هل هناك ما يسوء؟
زفر رئيس الفريق في ضيق، ثم ترك الورقة لتفلت من يده وتسقط لى الأرض، وهو يقول بصوت يحمل الهزيمة والخسران:
-          لقد فشل (الرأس الحارق).
علت الهمهمات الغاضبة والحزينة والهستيرية من الرؤساء، فقاطعها صوت الرئيس (الروسي) وهو يوجه حديثه إلى رئيس الفريق:
-          اللعنة ... ماذا حدث بالضبط؟ كلنا رأينا الكويكب وقد تحول إلى كتلة من اللهب؟
أجابه رئيس الفريق:
-          لقد كان الانفجار قويا بالفعل، ونجح في شطر الكويكب إلى شطرين.
-          جيد ... إذا ما هي المشكلة؟
-          الشطر الأكبر يتوجه الآن بسرعة أكبر إلى الأرض، محملا بطاقة الانفجار الحرارية والإشعاعية.
خيم الصمت على الرؤساء، وهم يتذكرون في عقولهم توقعات وتحذيرات العلماء حول هذا المشروع، والتي تأكد الآن أنها كانت صائبة بالفعل، قبل أن يقاطع ذلك رئيس الفريق وهو يردف:
-          أما الشطر الأصغر فبدأ يتباطئ وإن كان يتوجه هو الآخر صوب الأرض.
قال الرئيس الأمريكي بصوت حزين:
-          وماذا يعني هذا؟
-          يعني أن الشطر الأكبر سيصل للأرض قبل موعده وآثار اصطدامه ستكون أكبر مما كان متوقعا ... أما الشطر الآخر فقد لا تكفي كتلته وطاقته الحركية للوصول للأرض،وقد يعلق في مدارها ويدور حولها للأبد مثل أي قمر صناعي.
***
-          قمرين!
نظر (بيرد) إلى السماء وهو يقول بدهشة:
-          هناك قمران في السماء ... كنت أظن أن الأرض لها قمر واحد فقط.
نظرنا للسماء، كان المشهد غريبا بحق، ولا يتوافق مع جميع الأفلام والصور التي شاهدناها، ولا يتوافق أيضا مع جميع الكتب الدراسات التي قرأناها ضمن برنامج التنشئة، ففي سماء الليل الصافية والتي امتلأت حتى آخرها بالنجوم اللامعة، البراقة، كان هناك قمرين! أحدهما يتوسط السماء، والآخر في نصف حجم الأول، ويرتفع تجاه الغرب ... قلت وأنا أشير بسبابتي للقمر الأكبر:
-          هذا هو القمر الأصلي،يمكن أن نميزه بتلك العلامات الرمادية على سطحه التي كان الأقدمون يصفونها بأشكال الحيوانات ... أما الثاني فهو قمر جديد، لم يكن موجود في السابق، ولا أملك تفسيرا مقنعا لوجوده.
قالت(سيتا) محاولة إيجاد تفسير منطقي :
-          قد يكون هذا جزء من القمر الأصلي انفصل عنه ليحلق في مدار ضيق حول الأرض.
وقال (رام):
-          وقد يكون جزء من سطح الأرض أو من الكويكب انفصل بسبب الاصطدام، وانطلق ليحلق حول الأرض إلى الأبد.
قلت بلا اهتمام حقيقي:
-          وقد يكون أي شئ آخر ... المهم ماذا سنفعل الآن؟
كان الوادي الأخضر يمتد أمامنا لمسافة طويلة، وتبدو من خلفة بحيرة يلتمع سطحها تحت ضوء قمري الأرض ... قال (رام) وهو يسبقنا في اتجاه البحيرة:
-          سنستمر في التحرك لساعة أخرى، ثم نقيم معسكرنا، ونبيت ليلتنا قرب البحيرة.
***
انتهينا من تجهيز المعسكر بالقرب من شاطئ البحيرة، استخدمنا المعدات التي جلبناها معنا من (المهد)، خيمة واحدة صغيرة لكل واحد فينا، تحوي فراش ووسادة هوائيين ... قمنا بإشعال النار، وجلسنا حولها نتحدث حول مهمتنا وما وصلت إليه حتى هذه اللحظة، قال بيرد متهكما:
-          لقد مرت ساعة دون أن نتعرض لخطر جديد، هذا إنجاز في حد ذاته.
حاولنا التفاعل بالضحك على هذا التعليق، في محاولة لتفريغ الشحنات السلبية، قبل أن تقرر (سيتا) إن تعيدنا إلى حالتنا الأولى وهي تقول:
-          ليت (شات) كان معنا.
كنت أقرأ دائما في الكتب القديمة، عن النساء وطبيعتهن التي تميل للحزن وإثارة نوازع الشجن، وفي حياتي لم أر من النساء إلا (سيتا)، وها هي تؤكد لي الآن كل ما قرأته، بإصرارها على جلب الحزن حتى في اللحظة التي نحاول الهرب فيها منه ... خيم الصمت على مجلسنا، وقد ارتسم الحزن والتفكير العميق على الوجوه، فقلت محاولا تغيير الدفة، موجها حديثي (لرام):
-          ماذا سنفعل الآن؟
-          سنعبر البحيرة!
ثم نهض وهو يشير بسبابته، وهو يردف:
-          سنعبر إلى الضفة الأخرى.
كانت الضفة الأخرى من البحيرة تبدو كتلة رملية، وإن أخفى الليل معالمها ... ألقت (سيتا) نظرة على جهازها الرقمي، وعبثت قليلا بأزراره، وهي تقول:
-          لقد قطعنا اليوم عشرين كيلومترا، يمكننا أن نتجاوز البحيرة ونسير لمسافة أخرى في نفس الاتجاه، ثم علينا بعدها أن ننحرف، في محاولة لتغطية مساحات أخرى عرضية، حول النقطة التي بدأنا منها.
قلت بفضول:
-          وكم نحتاج من الزمن لاستكمال ذلك المسح؟
-          حسابيا، وإذا سارت الأمور على ما يرام، سيكون بإمكاننا العودة إلى (المهد) بعد أسبوع من الآن.
تناولنا عشاء من مكعبات البروتين، وبعض ثمار الفاكهة التي جمعها (بيرد) في رحلتنا الصباحية، وقام بتوزيعها علينا، فتناولناها بسعادة لطعمها السكري العذب الذي لم نذق مثله من قبل في حياتنا، صرخت في نشوة:
-          رائع.
وقال (رام) بنشوة شبيهة:
-          بالفعل إنه رائع ... ما هذا الشئ؟
ردت (سيتا) بتحفظ وهي تنظر للثمرة الحمراء في يمينها:
-          المهم ألا يكون مسموما!
تبادلنا نظرات قلقة، ثم انطلقت ضحكاتنا، وقلت مطمئنا (سيتا):
-          لا تقلقي ... إن لم أكن مخطئا فهذه ثمار (الفراولة)، وهي ليست سامة.
بدت الراحة على وجه (سيتا)، فوضعت الثمرة في فمها، وقضمت منها قضمة، فأضفت:
-          أو (التوت) أو شيئا آخر غيرهما ... أنا لست متأكدا
بدا الذعر على عينيها للحظة، قبل أن تستشعر حلمات التذوق في لسانها طعم السكر، فا بتسمت وهي تلوك الثمرة، وتغمغم بفم ممتلئ بالثمار:
-          إنها رأئعة بحق.
***
أيقظني (بيرد) بعد ساعتين عندما جاء موعد نوبتي في الحراسة، فطبقا لخطة (رام)، ستبدء مناوبة (بيرد) لساعتين، تليها (مناوبتي)، ثم (سيتا)، وأخيرا مناوبته هو، وبعدها سيوقظنا جميعا لنواصل رحلتنا إلى الضفة الأخرى من البحيرة ... تناولت شربة ماء، وألقيت نظرة على المعسكر، كان الجميع نائمين بعد إرهاق اليوم، حتى (بيرد) غاب في النوم بعد ثوان قليلة، كان النوم مازال يداعب عيني، ابتعدت عن نار المعسكر عندما استشعرت أثرها المنوم علي، وتوجهت إلى البحيرة،كانت الليلة باردة بردا محببا، خضت في الماء عدة خطوات، ثم ملأت كفي بالماء البارد ومسحت به على وجهي ورأسي، كنت أحاول جاهدا الاستيقاظ، ودفع النشاط إلى جسدي مجددا ... فجأة انتبهت إلى انعكاس ضوئي وحركة خفيفة على الضفة الأخرى للبحيرة ... توجهت بسرعة إلى حقيبتي وأخرجت منها منظار الليل المقرب، ثم عدت إلى البحيرة، ووضعته على عيني، ثم وجهته إلى الضفة الأخرى من البحيرة ... فهالني ما رأيت ... هل حقا ما أرى؟ ... هل هناك طفلة بشرية على الشاطئ الآخر للبحيرة، ترتدي فستان أسود، تخوض البحيرة بقدميها ، تعبث وتلعب في مياهها؟ ...  رفعت المنظار عن عيني، وأخذت أفركهما ببطن يدي، هل أنا مستيقظ، أم ما زلت نائم أحلم؟ ... وضعت المنظار مرة أخرى ووجهته ناحية الفتاة ... فوجدتها قد اختفت ... لقد ابتلعها العدم في لحظة، وعادت ضفة البحيرة الأخرى خالية كما كانت.
.. (انتهى الجزء الثالث ويليه الجزء الرابع) ..


قصة رعب بعنوان ... (الكويكب – الجزء الرابع)
ملخص ما سبق ... يواصل فريق البعثة السابعة رحلته لاستكشاف سطح كوكب الأرض، ضمن برنامج (المهد) لإعادة غرس البذرة البشرية الأخيرة فيه ... تستمر المخاطر التي يتعرض لها الفريق، بسبب سلوكيات مخلوقات السطح العدوانية والغير نمطية ... يفقد الفريق أحد أفراده بالفعل، ويندهش باقي أعضاء البعثة عندما يجن عليهم الليل، ويكتشفون أن هناك قمرين يسطعان في ظلمة السماء، ويصعق (كاي) أيضا عندما يخيل له أنه رأى طفلة في فستان أسود تلعب في مياة البحيرة، على الشاطئ الآخر، المواجه للمكان الذي قرروا إقامة معسكرهم والمبيت فيه.
.
قاد (بيرد) اللعين وصلة طويلة، وسمجة، من السخرية ضدي، بعدما أخبرت أعضاء الفريق في الصباح عما شاهدته في الليلة الماضية ... فكرت أن أخنقه بيدي، أو أن أوجه سلاحي الليزري إلى رأسه لأصنع فيها ثقبا مميزا بين عينيه الخبيثتين ... ولكنه تجاهل ذلك الضيق الذي ارتسم على وجهي، وهو يقول:
-          محتمل أن تكون فاكهة الأمس فاسدة أو بها مادة مخدرة، ولكننا أكلنا منها أيضا!.. الأغلب، أنك نمت في فترة حراستك وشاهدت حلما كلاسيكيا، عن طفلة تلعب بقدميها في مياة البحيرة.
قلت بغضب، وقد احتقن وجهي من الغيظ:
-          لا هذا ولا ذاك ... أنا متأكد أنني رأيتها بعيني كما أراك الآن.
-          وهل تراني الآن فعلا.
ثم أطلق ضحكة ساخرة، أغاظتني، فألقيت نحوه حجرا، فتفاداه بطريقة متهكمة، وهو ينهض إلى خيمته مواصلا الضحكات اللئيمة، لينفذ أوامر (رام) الذي طالبنا بفض المعسكر، والاستعداد لعبور البحيرة ... اقتربت مني (سيتا)، وقالت بصوت متفهم، وهي تربت على كتفي:
-          أنا أصدقك.
نظرت إليها، فتلاقت عينانا للحظة، شعرت (سيتا) بالخجل فوجهت ناظريها إلى الأرض، وأحمر وجهها كعادتها، ثم تركتني وتوجهت نحو خيمتها، لاحقتها بصوت متهدج:
-          شكرا لك.
رغم أننا ولدنا معا جميعا، وتربينا سويا كالإخوة، إلا أن علاقتي (بسيتا) كانت تختلف عن علاقتي بالآخريين، كنا نشكل معا فريقا داخل الفريق، كنا متقاربين في كل شئ، الاهتمامات، والأفكار، وحتى في القدرات، قد يكون السبب في ذلك، هو أن برامج التنشئة والتدريب الخاصة بي كانت تتقاطع كثيرا مع خاصتها، فكنا نقضي معا أوقاتا أكثر من الآخريين، لا أعرف هل كان ذلك متعمدا، أم أنه محض مصادفة!.. كانت تدرك ما في باطني بمجرد نظرة واحدة إلى وجهي، وكنت أنا أيضا كذلك، كانت تفهمني، وتستطيع استيعابي وامتصاص غضبي والتحايل لإقناعي، إذا قرر الجانب العنيد في أن يظهر، كما أنها كانت قادرة دائما على إثارة حماسي، وجذب اهتمامي لأمور لم أكن لأكترث بها أبدا دونها ... كنت أشعر أحيانا أن طبيعتها الهادئة، العملية، تتوافق كثيرا مع طبيعتي المتحمسة، المندفعة.
اقترب مني (رام) وعلى وجهه ملامح جادة، فبادرته:
-          هل هناك ما يسوء؟
أخذ يفكر للحظات، ثم أجاب:
-          ما قلته منذ لحظات ... شئ غريب بحق!.. ولكنه قابل للتصديق.
تركني وذهب، شعرت أن هناك ما يخفيه عنا، وأنا أعرف (رام) جيدا، إذا كان هناك ما يخفيه، فلن يستطيع أحد أن يجبره على الإفصاح به، سيفعل هو ذلك من نفسه إذا كان هناك ضرورة، أو أصبح الوقت ملائما لذلك ... أنا أثق في (رام) كقائد لهذا الفريق، فهو الأكفأ بيننا للقيام بهذه المهمة.
***
أسابيع قليلة على موعد الاصطدام، وحدوث الكارثة، كارثة النهاية ... من ينظر للسماء لا يرى الشمس ولا القمر، فقد اختفى كليهما وراء ذلك الكويكب، الذي بدا كشمس حمراء ملتهبة الأطراف تحلق في منتصف السماء، قريبة من الرؤوس ... أصبح الموت ضيفا على المكان، بل أصبح هو صاحب المكان، فمع ارتفاع درجات الحرارة إلى حد خطير، اشتعلت النيران في الغابات، وفي خزانات وخطوط وآبار الوقود، وذاب الجليد فارتفع منسوب المياة في البحار والمحيطات ... احترقت قرى ومدن بكل من فيها، وغرقت جزر وسواحل بأكملها ... لم يعد أحد يهتم بمعرفة أخبار الآخرين، فالجميع إلى هذا القدر والمصير المحتوم سائرون، لم يعد هناك من يترقب الأمل، أو ينتظر حدوث معجزة، فاليأس قد تمكن من الجميع ...  نفقت الحيوانات والدواجن، ومات العجائز والأطفال بسبب حرارة الجو، وبسبب تدافع الناس في مناطق الكوارث، أو بسبب نقص المواد الغذائية ومياة الشرب الصالحة ... تعطلت الأقمار الصناعية، وتشوشت الأجهزة الإلكترونية مع التأثيرات المغناطيسية لاقتراب الكويكب ... تفجرت المحركات والتوربينات، فتوقفت إمدادات الطاقة، والمياة ... حالات انتحار جماعية، وتهارج، وقتل وسرقة ... حالة هستيريا وجنون أصاب الجميع ... بعض المتدينيين اعتزلوا الحياة، وأغرقوا أنفسهم في العبادة والابتهال في معازلهم، والبعض حاول قضاء ساعاته الأخيرة مع أسرته، وهناك من فكر في اللجوء إلى الأنفاق والكهوف ... في اليوم الأخير كان هناك صمت وسكينة يخيمان على سطح كوكب الأرض ... في اللحظات الأولى لاختراق الكويكب للغلاف الجوي، تسببت قوى الاحتكاك في تأجيج لهيب الكوكيب، وبدأت بعض الأجزاء تنفصل عنه لتسقط مشتعلة كجمالات من الجمر، فتدك مناطق بأكملها من سطح الأرض فتفنيها ... اشتعلت أجزاء كبيرة من الغلاف الجوي فالتهمت المناطق والمدن دونها فأبادتها، ومن لم يمت محترقا، مات مختنقا بسبب نقص (الأوكسجين) الذي أكلته النار ... عبر الكوكيب طبقات الغلاف الجوي بعد أن فقد جزء كبيرا من سرعته وكتلته، ثم توجه في سرعة نحو شمال المحيط (الهادي)، في المنطقة ما بين قارتي أمريكا وأسيا ... اصطدم بسطح الماء بقوة، فارتج كوكب الأرض بأكمله لثوان، وبدا أن الكوكب سيخرج عن مساره الفلكي... اندفعت موجات مد هائلة لتغرق (الأمريكتين) بأكملهما، وقارة (أسيا) حتى منتصفها، واستمر المد لشهور، ثم بدءت المياة تنحسر في شهور أخرى، حتى عادت اليابسة للظهور، ومعها مساحات جديدة من اليابسة لم تكن موجودة من قبل ... تضائل حجم المحيط (الهادي)، كأنه حوض ماء ممتلأ وهناك من سحب سدادته ، وظهرت في منتصفه مجموعة كبيرة من الجزر، فشكلت قارة جديدة، أو قارة كانت غارقة وعادت إلى السطح من جديدا!... في المناطق البعيدةعن موقع التصادم، اشتعل المناخ مع اختراق الكويكب للغلاف الجوي، ثم تعرضت تلك المناطق لموجه رهيبة من الزلازل والبراكين أتت على معظمها، وذاب ما بقى من الدرع الجليدي للكوكب، فأغرق معظم اليابسة ... بعد شهور طويلة على تلك الواقعة وزوال التأثيرات الأولية للصدمة، بدا كوكب الأرض كأنه قد اكتسب جغرافيا جديدة، وبدا صامتا، منهكا، خائرا، وخالي تماما من كافة المخلوقات.
***
ركبنا ذلك القارب الهوائي المصنوع من المطاط، والذي يسير بنا دون حاجة لمجاديف، وذلك بتوجيه محرك بسيط يعمل بتفريغ الهواء مثبت في قاع القارب، معدة أخرى رائعة من تلك المعدات التي جلبناها معنا من (المهد)، في الواقع لقد فكر الأجداد في كل شئ، وصنعوا تقنيات وخطط محكمة عاشت لآلاف السنين، لو أمهلهم الوقت قليلا لغزو الكواكب والمجرات ... كانت السماء صافية، وكان الجو يميل للبرودة في هذا الصباح، رغم تلك الشمس البازغة، التي ترسل أشعتها الصفراء لتبعث النشاط والحيوية في الأجساد والأرواح ... لم تكن البحيرة كبيرة، وكنا نتوقع أن نعبر إلى ضفتها الأخرى في دقائق قليلة، لذا، أخذت أتامل مياة البحيرة الرائقة، والأسماك التي تعبث حول قاربنا بفضول، تاركا مهمة قيادة وتوجيه القارب (لبيرد)، و(رام) ... فجأة، لمحت ذلك الظل الضخم الذي يتبع قاربنا بسرعة، وإصرار، ويزيد حجمه بإطراد مع الوقت ... أدركت بسرعة أنها سمكة عملاقة تسبح مقتربة من السطح، وفي أثر قاربنا، الذي يبدو أنها تفوقه حجما بعدة مرات ... صرخت في (رام):
-          حذار ... هناك خطر يقترب.
نظر (رام) إلى ماء البحيرة، وفهم ما أرمي إليه، فوجه حديثه إلى (بيرد):
-          سر في مسار متعرج.
ثم وجه كلامه لي و(لسيتا):
-          أخرجا أسلحتكما.
كنت أتابع الظل الذي اقترب من القارب بشدة، وبدت تفاصيل جسده العملاق، فسألتني (سيتا):
-          ما هذا؟ ... هل هو حوت؟
أجبت:
-          لا تبدو لي كحوت، إنها تبدو كسمكة عملاقة بحجم حوت.
في تلك اللحظة كانت السمكة تسبح تحت قاربنا تماما، أخذ القارب يتقافز بفعل الموجات الدوامية التي تصنعها تلك السمكة، حاول (بيرد) عمل بعض المناورات للهرب منها ولكنه لم يفلح مع تلك السرعة والمرونة اللتان تتحرك بهما ... وقبل أن نفكر في طريقة للهرب، اخترقت السمكة سطح الماء برأسها العملاق، وأطاحت بقاربنا كأنه لعبة صغيرة، فسقطنا جميعا في الماء أخذنا نسبح بهستيرية، محاولين الوصول إلى القارب من جديد، صرخت (بسيتا) التي كانت تسبح بجانبي:
-          (سيتا) هل أنت بخير؟
-          أجل.
وصل إلى مسامعي صوت (بيرد) وهو يقول:
-          أحذر (كاي) ... إنها تتوجه ناحيتك.
بالفعل انتبهت إلى أن السمكة العملاقة التي تشبه أسماك (السلور) كما كنت أراها في الأفلام التسجيلية في (المهد) ولكن بحجم يزيد مائة ضعفا، كانت قد قامت بدورة كاملة ثم اختارت ضحية من بيننا وتوجهت إليها رأسا ... وكنت أنا هذه الضحية للأسف.
كنت أسبح بيأس محاولا البقاء على سطح الماء، وكانت السمكة العملاقة تقترب مني ببطأ، وتنظر لي بعينيها الزجاجيتين، وكأنها تقيمني بفضول، من الواضح أنها غير معتادة على الفرائس التي تشبهني، كانت تسبح على السطح كأنها حافلة ركاب كبيرة، تثير الأمواج على جانبيها بحدة، وهي تفتح فمها الضخم الذي يبدو كفوهة مغارة ... توقفت السمكة على مسافة أمتار من موقعي، ثم بدأت صاعقة كهربية تتشكل بين شواربها، قبل أن تضرب بها سطح الماء بالقرب مني ... شعرت بآلام رهيبة تعتصر مخي، وتمزق كل عضلة في جسدي، ثم أظلم كل شئ فجأة.
***
-          (كاي) ... (كاي) ... هل أنت بخير؟
كان هذا هو صوت (سيتا) ... فتحت عيني ببطأ، كنت مازلت اشعر بآلام في رأسي، وجسدي، فقلت بصوت ضعيف متأوه:
-          (سيتا) ... ماذا حدث؟
كنت ممدا على ظهري، وكانت (سيتا) تصب بعض القطرات من سائل ذو طعم لاذاع في فمي، ومن خلفها (رام)، و (بيرد) يتابعون حالتي في قلق ... قال (رام):
-          هل أنت بخير؟
-          أجل ... ماذا حدث؟
أجاب (رام):
-          لقد أصابتك تلك السمكة الملعونة بصاعقة كهربية أصابتك بالشلل، تمهيدا لابتلاعك.
توقف لحظة، فأكمل (بيرد) كلامه، وهو يشير (لسيتا):
-          وكادت تنجح بالفعل، لولا (سيتا)، كانت على مسافة قريبة فأصابتها بالأشعة الليزرية إصابات مباشرة، فهربت السمكة تاركة إفطارها.
لم أعر وصف (بيرد) لي بالإفطار اهتماما، وأنا التفت إلى (سيتا) في نظرة تحمل معاني الشكر والتقدير، تضرج لها وجهها بحمرة الخجل ... قاطع (رام) تلك اللحظة، وهو يقول بعملية:
-          هيا لا يوجد وقت نضيعه، علينا أن نواصل التحرك.
نهضت بجسد مضعضع، تعاوني (سيتا) و معها (بيرد) على الاعتدال، وقبل أن أنطق بأي حرف، وقعت عيناي على تلك الطفلة ذات الفستان الأسود، التي تقف على مسافة أمتار قليلة من موقعنا، تشير بيدها إشارات محذرة، وكأنها تدعونا إلى العودة والرحيل بسرعة ... قلت لرفقائي بصوت خافت، متلجلج بسبب المفاجئة:
-          انظروا ... إنها الطفلة التي حدثتكم عنها!
كنت أشير بسبابتي إلى الطفلة، فأخذ رفقائي ينظرون إلى المكان الذي أشير نحوه ويقلبون وجوههم بينه وبيني، قبل أن يقول (بيرد) بلهجة مندهشة:
-          أي طفلة؟... لا يوجد طفلة هنا.
نظرت إليه بحدة وغضب، فقالت (سيتا) بسرعة:
-          بالفعل ... أنا لا أرى طفلة ... أنت تشير إلى بقعة خالية.
نظرت إلى (رام) مستجديا، فأومأ برأسه مؤكدا على كلام (بيرد) و(سيتا) ... فقلت بصوت ضعيف، خائر:
-          ولكنني أراها بالفعل ... وهي تحذرنا وتطالبنا بالرحيل.
اقتربت من الفتاة فلم تبد قلقا مني وهي تواصل رسالتها التحذيرية، انتبهت إلى أن هناك شئ غير طبيعي فيها، لونها الرمادي الشاحب، كأنها صورة بالأبيض والأسود، توقفت أمامها، حاولت مخاطبتها:
-          من أنت؟
تابعني رفقائي بقلق وشفقة، قال (بيرد) بصوت متعاطف خال من التهكم على غير عادته:
-          أنت تتخيل يا (كاي)، قد يكون ذلك بسبب الصدمة الكهربية.
مددت يدي لأتحسس وجه الفتاة الشاحب، فعبرت يدي من رأسها كأنها دخان، واهتزت صورتها للحظة ثم اختفت ... التفت إلى رفقائي، وسألتهم:
-          هل رأيتم ما حدث؟
لم يجب أحدهم، ولكن بدت الإجابة على وجوههم، فيبدو أنني الوحيد القادر على رؤية تلك الفتاة الشبح.
***
حاولت إقناعهم بما رأيت، فاختلفت قناعاتهم، (فسيتا) صدقتني على الفور، أما (بيرد) فكان مقتنعا أن بي جنة، أو ان التيار الكهربي أصاب عقلي بالخلل، أما (رام) فكان غامضا، ومتحفظا، مما أكد لي تماما استنتادي السابق بأنه يخفي عنا سرا ما.
صعدنا تلك التلة الصخرية، وما أن اعتليناها، حتى انطلقت صرخاتنا مدوية، فعلى مسافة قريبة من موقعنا كانت هناك أطلال مدينة ... مدينة قديمة للبشر، كانوا يعمرونها من آلاف السنين ... ومن تلك المسافة أدركنا فعل الزمن في تلك المدينة، فقد تهدمت كل مبانيها، وابتلعت الرمال أجزاء كبيرة منها، وما تبقى غطته النباتات الشوكية والمتسلقة وطبقات الغبار والصخور ... ولكن كل ذلك لم ينجح في الحد من إنفعالاتنا ولو بقدر ضئيل، فرؤية آثار الأجداد رأي العين، رؤيتها قائمة تصارع الزمن، كان شيئا يفوق توقعاتنا بمراحل.
-          ما هذا؟
قالها (بيرد) متسائلا، فنظرنا إلى ما كان يشير إليه، فوجدنا عدد ضخم من الهياكل ذات الشكل الكروي، والمصنوعة من أوراق الأشجار وفروعها، والمرصوصة بعشوائية بالقرب من أسوار المدينة ... أجبته:
-          تبدو كأعشاش طيور.
-          وهل تبني الطيور أعشاشها على الأرض.
-          هناك طيور تفعل ذلك بالفعل.
توقفت لحظة مفكرا، ثم أردفت:
-          ولكن إذا كانت ما بنت تلك الهياكل طيور، فإنها طيور ضخمة بالتأكيد.
قال (رام) بطريقته العملية:
-          إذا علينا أن نتخذ طريقا إلى المدينة، يمر بنا بعيدا عن تلك الأشياء ... فأنا لا أتوقع من ورائها خيرا، بعد كل ما رأيناه في رحلتنا.
***
هبطنا التلة، وتحركنا في طريق مواز لها يدور حول المدينة، في محاولة لدخولها من مكان يبعد عن تلك الأعشاش الخطرة، كان الوقت قد جاوز الظهيرة فاتخذنا ظلا من بعض نباتات الصبار وصخرة كبيرة، وقررنا أخذ استراحة وتناول طعام الغذاء ... كنت منهمكا في حديث مع (سيتا)، و(رام) وأنا ألوك طعامي، عندما وصلني صوت (بيرد) مرتعدا، وهو يقول:
-          أنا أيضا أراه.
تنبهت إلى (بيرد) وهو يشير بسبابته إلى طفل صغير عار، أصلع، ومنحني الظهر يقف على مسافة قريبة منه، يلهث بأنفعال ... قلت بحذر:
-          هل تراه حقا.
أجاب (رام) جميعنا نراه ... تحرك (بيرد) ناحية الطفل، الذي تحرك للخلف متوجسا، فحاول بيرد تهدئته بالأشارة له بثمره يحملها بيمينه ... كنا نترقب ما يحدث في فضول، ولكنني انتبهت إلى ملامح ذلك الطفل الغريبة، كانت عيناه ضيقتان، يبتعد مركزهما عن بعضهما البعض، فيشكلان مع جبهته البارزة، وحاجباه الغليظان، مظهرا بدائيا حيوانيا ، والأسوء هي أسنانه النابية المهترئة، وأظافره الطويلة ... قلت محذرا (بيرد):
-          أحذر (بيرد) ... إنه مختلف.
لم يعبأ (بيرد) بتحذيري، واقترب أكثر من الطفل، وناوله الثمرة، فتناولها منه الطفل بيده المخلبية، وأخذ ينظر له بفضول، ثم ألقاها على الأرض بغضب، وبدون أي سابق إنذار قفز قفزة طويلة نحو (بيرد) فتعلق بجذعه، ثم نهش رقبته ... قضم منه قضمه كبيرة ، فسال الدم من وريدة الوداجي كالنافورة، لم يدر (بيرد) بما حدث له، ولا أيا منا، فقد خسر حياته في لحظة واحدة، وسقط على الأرض بعينين زجاجيتين تحدقان في الفراغ، وفوقه ذلك الوحش يواصل نهشه وتمزيق لحمه ...
.. (انتهى الجزء الرابع ويليه الجزء الخامس) ..



قصة رعب بعنوان ... (الكويكب – الجزء الخامس والأخير)
ملخص ما سبق ... تتواصل الرحلة الخطرة لاستكشاف سطح الأرض، في مهمة مصيرية لضمان ملائمة السطح لاستقبال الجنس البشري مجددا ... مخلوقات السطح تبدو أكثر عدوانية، تهاجم الفريق بضراوة، يقاوم الفريق باستماتة، ولكنه يفقد أثنين من أفراده بالفعل، قبل أن يصل إلى أطلال مدينة قديمة، قطنها البشر منذ سبعة آلاف عام، قبل كارثة الكويكب، فتستقبلهم طفلة شبحية في فستان أسود لا يراها إلا (كاي)، قبل أن يهاجمهم طفل بشري مشوه فيفتك (ببيرد) وينهش لحمه.
.
أسقط الطفل المشوه ذو الملامح الحيوانية (بيرد) على الأرض، وأخذ ينهش من لحمه بشراهة، كأنه ضبع شرس ... كانت المفاجأة مروعة بحق، استغرقنا الأمر بضعة لحظات لاستيعاب ما حدث، كانت كافية لأن يفقد (بيرد) المسكين حياته، ويسقط ممدا على الأرض، وعيناه الزجاجيتان تنظران نحو الفراغ، وذلك الثقب في وريده الوداجي تنبجس منه الدماء كالسيل ... أطلق ذلك الطفل عواء أو صيحة أشبه بصيحة (طرزان) في البرية، فجاوبته أصوات مشابهة من أماكن ليست بعيدة ... جعلتنا تلك الصرخة نفيق من حالة الذهول التي كنا فيها، كان أسرعنا هو (رام)، الذي أخرج سلاحه الليزري، وأصاب ذلك الوحش الصغير في مقتل فصرعه.
اندفعنا بسرعة نحو جثة (بيرد)، كان من الواضح أن الوقت قد فات على أي محاولة لمساعدة هذا المسكين، انطلقت (سيتا) في نوبة بكاء حادة ، حاولت أن أخفف عنها رغم الحزن الذي يتملك باطني لفقدان صديقي المشاكس، والذي لن تستقيم حياتي أبدا دون مشاكساته وروحه المرحة، نظرت إلى (رام) وعيناي تحملان تساؤلا؛ عما علينا فعله بعد ذلك ... فوجدته يجلس منهكا على صخرة وهو يغطى وجهه بكفيه، لم أرغب في مقاطعة حالته تلك، وزيادة العبأ الذي يحمله على عاتقية ... بعد ثوان اعتدل (رام)، ثم أخرج بطاقة ذاكرة إلكترونية من حقيبته، قبل أن يوجه حديثه لنا:
-          هناك شئ عليكما أن تريانه.
ثم ألقى البطاقة إلى (سيتا)، فالتقطتها رغم الدموع التي تغرق وجهها، ثم أولجتها في حاسبها الرقمي، وعبثت للحظات بشاشته التفاعلية، قبل أن تقول:
-          إنه تسجيل (فيديو)!
-          شغليه.
ضغطت (سيتا) على إيقونة (الفيديو) بسبابتها، فبدأ بعرض لقطاته على الفور ... كان (الفيديو) يعرض مشاهد من داخل (المهد)، مشاهد لشاب في مثل أعمارنا، يدخل (المهد) من ناحية الأنفاق، وهو يجرجر قدميه بإنهاك، كان جسده مليئا بالجروح التي أدمت كل جزء فيه ... سقط الشاب على الأرض، وبدا كأنه سيغيب عن الوعي، ولكن وبإصرار عجيب نهض معتدلا، وأكمل طريقه نحو قاعة التدريب ودخلها، توجه مباشرة إلى المقعد المواجه (لكاميرا) التسجيل، فألقى بجسده عليه هو يطلق تنهيدة طويلة، قبل أن يواجه (الكاميرا) بوجه مرهق، مكدود ... حاول استعادة انتظام أنفاسه للحظات، ثم بدأ في التحدث:
-          أنا (زانج 768) آخر من بقى حيا من أعضاء البعثة السادسة.
كان (زانج) يتحدث بصعوبة، وكانت الدماء تسيل بغزارة، من جروح قطعية في صدره، ورقبته، وهو يردف:
-          سطح الأرض أصبح ملعونا، وانتظار اللحظة المناسبة صار عبثيا، فتلك اللحظة لن تأتي أبدا.
شهق شهقة عالية، وسقط رأسه على صدره، ولكنه اعتدل وواصل الحديث بإرادة من فولاذ ... خرجت منه الكلمات الأخيرة متحشرجة، مختلجة، ولكنها كانت واضحة:
-          إذا كان البشر يريدون العيش على سطح هذا الكوكب، فعليهم أن يكافحوا ليستحقوا ذلك، أو لينقرضوا مثل الديناصورات.
أطلق شهقة أخيرة، مختنقة، ثم سقط على الأرض ... قالت (سيتا) بصوت مرتعد:
-          هل مات؟
أومأ (رام) برأسه، وهو يقول:
-          أجل ... لقد عرضت علي برامج (المهد) الذكية، ذلك (الفيديو) قبل البعثة بأيام قليلة، وخيرتني في إخباركم به!
صرخت:
-          ولماذا لم تخبرنا؟
-          فكرت أن ذلك كان سيعرض مهمتنا للفشل ... ويصيبنا جميعا بالإحباط.
صرخت فيه بحدة أكبر:
-          وهل هي ناجحة الآن؟.. لقد فقدنا نصف الفريق، ولا نعرف ماذا ينتظرنا.
تدخلت (سيتا) وهي تضع يدها على كتفي، فنجحت كعادتها في تهدئتي وهي تقول:
-          ما فعله (رام)، هو عين العقل، فمشاهدة هذا (الفيديو) لم تكن لتصب في صالح مهمتنا أبدا، وما رأيناه فيه، كان سيزرع في أنفسنا القلق والشكك بخصوص جدوى تلك المهمة، وما فيه من معلومات غير كافية أيضا لتجعلنا نتخذ قرارا صائبا، فكنا سنحتاج للذهاب في مهمتنا على كل حال للتأكد مما قاله (زانج).
أخذت أقيم ما قالته (سيتا) في عقلي، فوجدته يحمل الكثير من المنطقية، فتوجهت بناظري إلى (رام) معتذرا عن حدتي معه، فوجدت عينيه جاحظتين، تحدقان في رعب إلى شئ ما خلفي، وكذلك كانت عينا (سيتا)!
***
بعد عام من وقوع كارثة الكويكب، اختفت آثارها الأولية، وبقى منها تلك الأعراض طويلة الأثر، مثل ذلك النهار ذو الشمس الحمراء، وذلك الليل وسماؤه الخالية من النجوم، إلا من قمرين باهتين يسبحان في ظلمتها، كل ذلك بسبب الضرر الذي تعرض له الغلاف الجوي أثناء اختراق الكويكب له، مما أدى إلى إعادة تكوينه إلى مركبات وطبقات مختلفة عما كانت عليه، جعلت النظر إلى السماء من خلاله تختلف عما كانت عليه قبل الكارثة ... تغيرت جغرافيا المناخ والسطح على الأرض بشكل كامل، كثيرا من المناطق الباردة صارت حارة، وكثيرا من المناطق الحارة تحولت إلى بقاع جليدية ... بمعجزة ما، ظلت نسبة (الأوكسجين) والغازات الأخرى في الطبقة الأولى من الغلاف الجوي وكذلك درجة الحرارة في 60% من بقاع الأرض في نطاقها الطبيعي الذي كانت عليه قبل الكارثة.
المعجزة الأكبر، أن تقديرات العلماء المبدئية لتأثيرات اصطدام الكويكب بسطح الأرض لم تكن دقيقة، بل كانت مبالغة وبشدة، فقد نجح الغلاف الجوي بصورة ما في إبطاء سرعة الكويكب، ونجح الانحراف اليسير لمسار الكويكب الذي صنعه تفجير (الرأس الحارق) به، وفقدانه لجزء كبير من كتلته، في جعل مركز الاصطدام يتحول إلى المحيط (الهادي)، بعد أن كان متوقعا أن يصطدم باليابسة، في تلك المنطقة المتجمدة (بسيبريا) بشمال قارة آسيا ... فمن يستطلع سطح كوكب الأرض الآن على صورته الجديدة، يكتشف أن حياة الحيوانات العليا لم تفن عليه بشكل كامل، بل أن كثيرا من الأجناس الحيوانية نجحت بشكل ما في أن تحتفظ ببعض أفرادها حية، متخطية بذلك جحيم احتراق الغلاف الجوي، وزلازل وبراكين اصطدام الكويكب بسطح الأرض، ومن بعدهما السيول الرهيبة التي أغرقت نصف الكرة الأرضية، ومن خلف كل ذلك نقص المواد الغذائية ومسببات الحياة الأخرى ... ولكن كل ذلك لم يفن تلك الأجناس ذات البأس والمقاومة الشديدة، والتي أصرت على استمرار في الحياة على سطح هذا الكوكب المكلوم ... المفاجأة الكبرى أن الجنس البشري كان من بين تلك الأجناس.
قد يكون بعض البشر ممن اتخذوا من الكهوف والأنفاق ومن قمم الجبال ملاجئ لهم، نجحت مساعيهم بشكل ما، واستطاعوا أن يجتازوا تلك المحنة الطويلة الأمد، والبقاء أحياء رغم كل المعوقات والأخطار التي حاقت بهم خلالها، وفي النهاية وجدوا أنفسهم أحياء وقد عادت بهم الحضارة آلاف السنين للوراء، مخلفة ورائها كل تلك الرفاهيات والتقنيات الحديثة التي دللت حياتهم في الماضي ... كانوا أعدادا قليلة، رجل وأمرأة، أو رجل وحده، أو أمرأة وطفلها، وبطبيعة البشر وفطرتهم، بدءوا يتجمعون في مجتمعات محدودة، متفرقة، دون اتصال بينها، هدفهم الوحيد هو البقاء على قيد الحياة لأطول فترة ممكنة، يحملون في أعناقهم أمانة الحفاظ على الجنس البشري على سطح هذا الكوكب ... يتذكرون الماضي ويتأسون على ضياعه، ثم يفيقون على الحاضر الذي يعيشون فيه حياة رجال الكهوف.
***
التفت بسرعة لأرى مجموعة كبيرة من تلك المخلوقات البشرية المشوهة تحاصرنا أنا ورفيقي ... عشرون أو أكثر، منهم الرجال، ومنهم النساء والأطفال، جميعهم يحملون تلك الملامح الحيوانية على وجوههم، وعلى أعينهم التي لا تنبئ بذكاء ولكن بتوحش وشراسة، ظهورهم محنية، وأطرافهم طويلة تنتهي بأظافر قاسية كالمخالب، أسنانهم نابية مهترءة، ورؤوسهم صلعاء، وأجسادهم عضلية عارية ... اقتربت منا تلك المخلوقات، فتراجعنا للخلف، وأخرج كل منا سلاحه الليزري، ووجهه نحوهم ... هجمت تلك المخلوقات البشرية ... المفاجأة هي أنها لم تهاجمنا نحن كما ظننا، ولكنها تجاوزتنا لتنقض على جثة (بيرد) المضرجة في دمائها، وعلى جثة ذلك الطفل من بني جنسهم الذي قتله (رام) منذ لحظات، وتكالبوا عليهما وأخذوا ينهشون من لحمهما، وهم يتقاتلون، ويتدافعون كالضواري للفوز بمكان أفضل على الفريسة ... رفعت (سيتا) سلاحها، فأمسك (رام) يدها محذرا، وهو يقول:
-          لا تفعلي!
-          ولكن (بيرد) !؟
-          لا نستطيع أن نفعل له شيئا الآن.
ثم وجه حديثه لي وهو يقول:
-          علينا أن نتحرك بسرعة، قبل أن تأتي تلك الوحوش على فريستيها، وتفكر في الهجوم علينا.
تراجعنا بخطوات هادئة، حذرة، حتى أصبحنا على مسافة كبيرة ثم انطلقنا نعدو مبتعدين، قالت (سيتا) بصوت لاهث:
-          تلك المخلوقات الشرسة، لقد أكلت صغيرها.
أجبت ببساطة:
-          حيوانات كثيرة تفعل ذلك، بعض أنواع الطيور الجارحة تقتل أحد أفراخها وتطعمه للآخريين، و(القيوطي) الأمريكي يأكل جراءه النافقة ... وغيرهم.
كنا نقترب من أطلال المدينة، وكانت فكرة (رام) أن نتخذ من خرائبها مخبأ بعيدا عن العراء الذي يجعلنا فريسة سهلة لتلك المخلوقات البشرية النهمة ... عندها انطلقت أصوات العواء وصرخات النداء الطرزانية، ثم ظهرت بعض تلك المخلوقات التي تركناها منذ قليل، تلاحقنا، وتعدو بسرعة هائلة في أثرنا، وانضمت إليها أعداد أخرى مهولة، قادمة من ناحية الأعشاش التي توجسنا منها في الصباح ... كنا نعدو بأقصى ما نملك، ولكن تلك المخلوقات كانت تعدو بسرعة تفوقنا بثلاث مرات، وبدا أنها ستلحق بنا بعد لحظات ... أطلقنا نحوها سيل من الأشعة الليزرية، فسقط منها عدد كبير، ولكنه لم يصنع فارقا مع توافد أعداد أخرى من تلك المخلوقات، التي بدت كجحافل النمل الأحمر الأفريقي.
   في تلك اللحظة رأيتها .. رأيت تلك الطفلة الشبحية ذات الفستان الأسود، كانت تشير لنا إلى ممر قريب يقود إلى داخل الأطلال ... لا أعرف لماذا وثقت بها، ووجدت نفسي أصرخ في رفيقي:
-          هيا من هنا.
سبقتهما إلى ذلك الممر الذي لا يبعد عن موقعنا سوى أمتار قليلة، رغم أنه يقودنا إلى مواجهة مباشرة مع أقرب تلك المخلوقات ... لحقا بي، فقطع طريقنا بعض تلك المخلوقات فأرديناها بأشعتنا الليزرية، ثم أفسحت (لسيتا) فعبرت إلى داخل الممر، ولحق بها (رام)، حاولت اللحاق بهما، فأصابتني ضربة قوية أطاحت بي لأمتار، لأسقط على ظهري، تأهب ذلك المخلوق الذي ضربني، للهجوم علي بضراوة وأنا عاجز عن الحركة وقد سقط سلاحي الليزري بعيدا عني، ولكن قبل أن يهجم، ظهرت تلك الطفلة الشبحية بيني وبينه، فتراجع بذعر، وهو يشيح بكلتا ذراعيه مفزعا ... وجدت الفرصة مناسبة، فنهضت والتقطت سلاحي، ولحقت برفيقي إلى داخل الممر ... طالعتني (سيتا) بملامح وجلة:
-          أين كنت؟ لماذا تأخرت؟
-          أنا بخير ... هيا بنا.
انطلقنا نعدو داخل الممر، يصل إل مسامعنا صرخات تلك المخلوقات الغاضبة، المحبطة لخسارة فرائس سهلة مثلنا، قال (رام) متسائلا:
-          غريب ... لماذا لم تلحق بنا المخلوقات إلى داخل الممر؟
***
حياة قاسية تلك التي عاشها من بقى حيا من البشر بعد الكارثة، مجتمعات قليلة العدد لا يوجد تواصل بينها، تتنقل باستمرار هربا من المخاطر أو بحثا عن الغذاء، أو لاستكشاف الخرائب والأطلال التي خلفها الدمار بحثا عن أداة أو سلاح يمكن أن تعينهم على حياتهم الصعبة، كل ذلك كان يمكن تجاوزه، وقد فعلها الإنسان بالفعل أكثر من مرة خلال تاريخه الطويل على سطح هذا الكوكب، فقد كان الإنسان يمتاز بقدرة وميزة فطرية لا توجد لدى غيره من المخلوقات، وهي قابليته على التكيف والتعايش مع أي ظروف مهما كانت قاسية وغير محتملة ... ومع اقتراب أول أنثى حامل من وضع حملها، بدا أن الإنسان سينجح مرة أخرى في التكاثر وغرس بذرته على سطح هذا الكوكب، لتثمر وتطرح أجيالا جديدة، عندها جاءت الصاعقة عندما وضعت تلك الأنثى طفل مشوه يحمل ملامح حيوانية، كان من الممكن اعتبار ذلك مصادفة، ولكن حالات الولادة التالية في كل الأرجاء جاءت كالحالة الأولى تماما! أطفال مشوهون يحملون ملامح حيوانية، وسلوكا عدوانيا، وقدرة على التكيف والتعايش أكثر من آبائهم مع الظروف البيئية الجديدة، حتى أن هؤلاء الأطفال كانوا يستطيعون السير على أقدامهم بعد أيام قليلة من الولادة كالحيوانات في البرية، ويبلغون حد البلوغ بعد سنوات قليلة ... لم يكن هذا لغز، فبعد الكارثة ما زال البعض يتذكر تحذيرات العلماء من الأتون النووي الذي صنعه (الرأس الحارق) وتأثيراته المدمرة على الجينات الوراثية ... فهم البشر أن تلك هي النهاية، فهم غير قادرون على إنجاب ذرية تشبههم، والأسوء أن تلك الذرية الجديدة، بسبب عدوانيتها تم طردها من المجتمعات البشرية، فبدءوا يكونون مجتمعات خاصة بهم، وبدءوا يتزاوجون ويتناسلون بسرعة فائقة، بسبب قصر فترة الحمل والحضانة والزمن اللازم للبلوغ ... وهكذا بدأ هذا النوع الجديد من البشر الوحشي ينتشر، ومع تزاوجهم من بعضهم البعض بدأت تتزايد عدوانية وحيوانية كل جيل عن الجيل السابق له، فبدءوا يهاجمون مجتمعات البشر، التي بدأت تنقرض لعدم قدرتها على التناسل، ولتعرضها لتلك الهجمات الشرسة ... وبعد مائة عام خلت الأرض تماما من أي بشري طبيعي، ووجدت تلك المخلوقات البشرية الشرسة الفرصة سانحة للتكاثر والانتشار لآلاف السنين ، في بيئة تناسبها، ودون منافسة من البشر الأصليين الذين انقرضوا تماما تلك المرة.
***
سرنا في الممر الذي انتهى بنا إلي طريق يمتد بين مجموعة من البنايات المهدمة والتي اختفت معالمها تحت الغبار والنباتات الشوكية، قادنا هذا الطريق إلى فسحة وسط الأطلال، قالت (سيتا):
-          يبدو أن هذا المكان كان ميدانا في الماضي.
أتذكر أشكال المدن من الأفلام التي رأيناها في (المهد) منذ نعومة أظفارنا، من الواضح أننا الآن في مدينة كانت كبيرة في الماضي، يبدو ذلك من هياكل السيارات الصدئة والمتآكلة، وتقسيم الطرق والبنايات التي يبدو انها كانت بنايات عملاقة في الماضي لولا أن فعل بها الدهر ما فعل ... قال (رام):
-          إنها مدينة أشباح.
لم يعرف (رام) أن ما ينطق به هو الحق بعينه، فمن وراء البنايات ومن داخل الحارات والشوارع الجانبية بدأت تلك الأشباح  في الظهور والتجمع حولنا، الآلاف منهم، رجال ونساء، وأطفال، وعجائز، وشباب، جميعهم على نفس الصورة الشبحية، ذات اللونين البيض والأسود، تتقدمهم تلك الطفلة الصغيرة صاحبة الفستان الأسود، تقترب منا الآن، وقد عقدت يدها بيد شيخ عجوز ذو لحية بيضاء طويلة على وجهه إمارات الحكمة وخبرة السنون، قلت لرفيقي:
-          هل ترون ما أراه؟
-          لا نرى شيئا ... ماذا ترى؟
-          أشباحا تملأ المكان.
نظرت (لسيتا) فأومأت لي برأسها مشجعة، فأردفت:
-          أنهم يحيطون بنا في تلك اللحظة.
قال (رام) بجدية، فبعد رحلتنا والمخاطر التي واجهناها، صار كل شئ قابل للتصديق:
-          وما شكلهم؟.. هل هم خطرون؟
-          لا ليسوا خطرون ... أعتقد أنهم كانوا يحاولون مساعدتنا طوال الوقت ... كما أن أشكالهم مثلنا، فقط ثيابهم تشبه الثياب التي كان يرتديها البشر من سبعة آلاف سنة.
اقترب العجوز، حتى صار في مواجهتي تماما، رفع يده نحو وجهي، فأرجفت، فأوما لي برأسه مطمئنا، ثم وضع يده على صدغي ... فجأة، اختفى كل شئ من حولي، وانساب إلى ذهني سيل من الذكريات كأنه شريط سينمائي سريع، أسمع صوت (رام)، و(سيتا) يأتي من بعيد، ولكن تلك الذكريات تأسرني، وتصحبني بعيدا وهي تحوي بين طياتها الإجابة عن كثير من الأسئلة التي حيرتني ... أرى بدايات الأحداث، وكيف تلقى الناس الخبر الصاعق عن الكويكب، ومشروع (الرأس الحارق)، ومشروع (المهد)، أرى اصطدام الكويكب بالأرض، أرى أحداث ما بعد الكارثة، أرى نهاية الجنس البشري بعيني، وسيادة ذلك الجنس الجديد المتوحش القادم من نسل البشر ... توقف فيض الذكريات، فوجدتني أسأل العجوز بفضول:
-          وأنتم، من أنتم؟.. وكيف صرتم على تلك الهيئة؟
أجاب العجوز بصوت هادئ، رخيم:
-          جميعنا عاصرنا كارثة الكويكب ... ونحن على تلك الهيئة من آلاف السنين ... نحن لا نعرف السبب في ذلك ... هل متنا وتحولنا إلى أشباح؟ هل الكارثة حولتنا إلى مخلوقات أسيرية تعيش بين الأبعاد؟.. لا أعرف الحقيقة ... ولكن هناك شئ واحد نعرفه جميعا ... نعرفه يقينا.
-          وما هو؟
-          هو أننا سنظل على تلك الهيئة، حتى يتحقق هدفنا.
-          وما هو ذلك الهدف؟
-           أن يعود أبناؤنا ليعمروا تلك الأرض ... واشعر أن ذلك صار قريبا.
انتبهت من تلك الحالة لأجد نفسي أقف مذهولا، متجمدا، بين (سيتا) و(رام)، وقد اختفى الشيخ العجوز، واختفت الفتاة، واختفت جميع المخلوقات الشبحية الأخرى من حولنا ... لساعة أخذت أحكي لرفيقي عن تلك التجربة، وتلك الذكريات التي أنسابت إلى ذهني، وعندما انتهيت ... نهض (رام) وهو يقول بعزم شديد:
-          علينا أن نعود إلى (المهد)، علينا أن نبدء برنامج (البعث) مباشرة دون تأخير، لن تصبح الأرض ملائمة للإنسان أبدا دون وجوده فيها، ودون كفاحه ليبق عليها ... لقد كان (زانج) على حق!
أومأت برأسي وأنا أجيب:
-          معك حق، هذا هو الخطأ الوحيد الذي ارتكبه الأجداد في مشروع (المهد).
***
كنا نعرف أننا نقوم بمخاطرة كبيرة، ونحن نلقي بأنفسنا مرة أخرى إلى تلك الوحوش البشرية ونحن نتخذ نفس طريق العودة إلى البحيرة والذي يمر بالقرب من أوكارها، كنا نأمل أن يقف الحظ معنا، كما أنني توقعت بخبرتي في مجال (البيولجيا) الحيوانية، أن الساعات التي تسبق الفجر هي أنسب الساعات للتحرك، ففي الغالب ستكون تلك المخلوقات قد عادت إلى أوكارها، بعد ساعات الصيد الليلية ... بالفعل كان الطريق إلى البحيرة خال تماما، ولم يستغرقنا الوقت إلا نصف ساعة فقط حتى وصلنا إلى ضفة البحيرة.
أخرج (رام) القارب الهوائي، وأخذ يعده للانطلاق ... في تلك اللحظة انفتحت أبواب الجحيم، فعلى التلة المواجهة للضفة، ظهرت المئات من تلك المخلوقات البشرية المتوحشة، وهي تطلق صرخات مرعبة، قبل أن تندفع نحونا وهي تهبط التلة بسرعة كبيرة ... أخرجت سلاحي الليزري وتقدمت ناحية المخلوقات عدة خطوات وأنا اصرخ في رفيقي:
-          اذهبا أنتما ... سأحاول تأخيرهم
قال (رام) بعزم:
-          لا سنواجههم معا.
صرخت في (رام) بقوة شديدة، وبلهجة حادة، ساحقة:
-          لا لن تفعل ... يجب أن يبدء برنامج البعث مهما كان الثمن ... يجب ألا تضيع تضحيات رفقائنا هباء ... لن أسمح لك.
أرتج على (رام) للحظة ... هو لم يعتد ذلك الأسلوب مني، ولكنه أدرك غرضي بسرعة، فقفز إلي القارب وهو يقول (لسيتا):
-          هيا يا (سيتا) ... بسرعة.
-          لا لن أذهب ...
ثم تقدمت حتى صارت إلى جواري، وهي توجه سلاحها ناحية المخلوقات التي اقتربت من موقعنا، وهي تردف:
-          سأبقى مع (كاي) حتى النهاية.
نظرت لها متوسلا أن تذهب، فلمحت التصميم مع الدموع في عينيها، فابتسمت وأنا أقول:
-          حسنا ... إذا دعينا نفعلها.
ثم أطلقت فيضا من الأشعة الليزرية جندلت به عدد كبير من تلك المخلوقات البشرية المتوحشة، وكذلك فعلت (سيتا)، كانت عيناي تتابع (رام) الذي بدأ يبتعد بالقارب، تنهدت بارتياح، وواصلت إطلاق الأشعة على تلك المخلوقات، التي زاد عددها بشكل كبير، وسرعان ما أحاطت بنا، وشعرت بعشرات الأيادي المخلبية تسقطني على الأرض، صرخت بإسم (سيتا) ونظرت ناحيتها فوجدتها محاطة بالعشرات من تلك المخلوقات النهمة ... إنها النهاية إذا .. فجأة، توقف كل شئ، كأن الزمن نفسه قد توقف، ثم بدأت تلك المخلوقات تتراجع في فزع، ومن حولنا ظهرت الطفلة الشبحية والعجوز والعشرات من أشباح الأطلال ... كان من الواضح أن المخلوقات البشرية تراهم، وإنها تخاف منهم ... ولت تلك المخلوقات الأدبار وهي تصرخ في فزع ... أسرعت إلى (سيتا) لأطمأن عليها، فوجدتها بخير، نظرت لي بعينين حيرى:
-          لماذا هربوا؟
قلت وأنا أساعدها على النهوض:
-          يبدو أنهم يخافون من أصدقاءنا.
فتمتمت بدهشة:
-          أصدقاءنا
-          أجل أنهم هنا حولنا.
أشار لنا العجوز والطفلة، كي نعود معهم إلى الأطلال، فبدءنا نسير عائدين إلى المدينة، ونحن محاطين بتلك الأشباح التي تحمينا ... وصلنا إلى الأطلال، أشار لي العجوز بالتحية ثم اختفى من جديد، اختفوا جميعهم ... نظرت لي (سيتا) وهي تسأل:
-          هل تظن أن (رام) سينجح؟
-          أجل.
-          سيكون عليه أن يواجه كل المخاطر التي واجهناها في طريقنا إلى هنا.
-          أنا متأكد ... أن (رام) سيفعلها.
صمتت للحظة، ثم سألت:
-          وماذا عنا؟
نظرت لها نظرة مطولة، فتضرج وجهها بحمرة الخجل، فربت على يدها وأنا أقول:
-          هل تعرفين أنهم يقولون أن حب (آدم) (لحواء) يعادل مجموع كل حب أحبه رجل لأمرأة حتى آخر واحد من نسلهما.
قالت بصوت خافت مختلج بالخجل:
-          لا ... لا أعرف ... ولكني متأكدة من حب (حواء) (لآدم).
سرحت للحظة، وأخذت أفكر في رحلتنا والمصاعب التي واجهتنا فيها حتى قادتنا إلى هذا المكان، ورفقائنا الذين خسرناهم، وتضحياتهم في سبيل أهدافهم، ثم وجهت وجهي إلى (سيتا) وأنا أقول:
-          وصولنا أنا وأنت إلى هنا ليس من قبيل المصادفة .. اعتقد أن البذرة البشرية ستعود أخيرا إلى سطح الأرض، وستكافح النبتة الناشئة لتجد لها مكان على سطح هذا الكوكب ... ولن يكون ذلك عبر برنامج البعث.
أومات برأسها وقد فهمت ما أرمي إليه ... أعلم أنني أحب (سيتا)، ولو خيرت لاختار شخصا واحدا لأقضي معه حياتي كلها، لاخترتها هي دون تردد، ولكن هذا الحب لن يشتت انتباهي عن الهدف الأسمى، الهدف الذي علينا أنا وهي أن نسعى إليه ... علي أن أكون (آدم) وعليها أن تكون (حواء) ... كانت أشعة الشمس قد بدأت تنشر الضوء والدفء في المكان، فبعثت بعض الحياة في الأطلال حولنا ... نظرت نحو (سيتا) فوجدتها قد نامت وعلى وجهها إبتسامة كبيرة ... إبتسامة أمل.
.. (تمت) ..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق