الأحد، 19 فبراير 2017

هوة الشياطين


قصة رعب بعنوان ... (هوة الشياطين – الجزء الأول)
تجاوزت الصفوف يدفعني فضولي، لانضم إلى أهل القرية هناك وقد تحلقوا حول ذلك المشهد في صمت ووجوم، وكأن على رؤوسهم الطير، مددت رقبتي كي أتمكن من رؤية القتيل ... ما تلك البشاعة؟ .. من هذا الذبيح الذي جزت رقبته وشق جوفه طوليا فتدلت منه أحشاؤه؟.. يهمس صوت بجانبي مخاطبا صاحبه:
-          إنه (سالم ابن شحاته).
لا ... لا استطيع أن أصدق ... كيف يمكن لإنسان أن يقتل إنسانا آخر بكل هذا التوحش وبتلك الطريقة السادية؟.. هل هذا هو (سالم) حقا !؟.. لماذا تبدو ملامح الإنسان مختلفة حين يذبح!.. (سالم) صديقي، وكنا معا بالأمس، وتجولنا حتى مكان قريب من هنا، قبل أن أودعه على أن نلتقي في اليوم التالي ... من أين لي أن أعلم، بأن هناك من كان يتربص به ليذبحه، ويمثل بجسده بتلك الطريقة الانتقامية؟.. كان (سالم) هو القتيل الثاني بعد (عطوة) الذي عثر أيضا على جثته الأسبوع الماضي، وعلى نفس الحالة، مذبوح، وهناك شق طولي من أعلى صدره، وحتى أسفل بطنه، وتناثرت الشائعات بأن قاتله قد انتزع (كبده) من جوفه في تلك الليلة ... لا يوجد مصادفة في كل ذلك! ... بالتأكيد يوجد سفاح في قريتنا!
***
كانت ليلتي نابغية، قضيتها متؤرقا في فراشي تهاجمني الأفكار، فإذا غبت في النوم لثوان، أيقظتني الكوابيس المريعة، متعرقا، عطشا، مشوشا، لا أدري هل استيقظت بالفعل أم أنني لا زلت داخل الكابوس ... كنت أرى نفسي في الكابوس، أقف على مسافة قريبة أراقب صديقي (سالم) وهو يبتعد قبل أن يظهر من العدم شبح متشح بالسواد، يحمل في يده نصلا يلتمع في ضوء القمر، وقبل أن ينتبه (سالم)، نحره هذا الشبح بضربه واحده فسقط على الأرض، قبل أن يعكف على جسده ويشقه بالنصل، ويقتلع قلبه من داخل صدره، ويرفعه، ويشير لي به في ظفر، وأنا عاجز عن الحركة كأني مخدر، قدماي ملتصقتان بالأرض، أصرخ بالكلمات فتخرج مني بطيئة ممطوطة كأنها تخرج من شريط تسجيل معطل، قبل أن استيقظ على تلك الحالة، أبحث عن زجاجة الماء الموجودة إلى جوار فراشي لأعب منها في نهم لأروي عطشي.
***
في الصباح علمت أن بعض فاعلي الخير، أبلغوا الشرطة بأنني كنت آخر من شوهد بصحبة (سالم) قبل مقتله، لذا وجدت مرسالا على بابي يدعوني للذهاب بصورة عاجلة إلى نقطة الشرطة، للقاء الضابط (شريف الصادق) ... قبلت أمي على وجنتها، وتناولت شطيرة سريعة ... لم أخبر أمي بأني ذاهب إلى قسم الشرطة، حتى لا أفسد يومها، ففكرة الذهاب إلى القسم تعني عند أمي بطبيعتها القلقة المتخوفة، أنني لن أعود أبدا، وأنهم سيلقون بي في غياهب السجون حتى آخر يوم في عمري، قالت لي أمي:
-          جدتك تسأل عنك ... مر عليها قبل أن تذهب.
وجدتي، أمرأة عجوز بلغ بها العمر عتيا، سحق (الروماتويد) عظامها، ومحى (الرمد) بصرها، ورغم كل ذلك لم تفلح كل معاول الزمن في أن تؤثر على روحها الصبية المرحة ... كانت تحبني بشدة، وكنت أنا أيضا أحبها وأتمتع بصحبتها، وباللحظات التي تخرج لي من جعبتها قصص ونوادر من الزمن الغابر ... كما أنها كانت حادة الذكاء، تفهمني رغم فارق الزمن بيننا، وكثيرا ما سألتها النصيحة، ففاجأتني بنصائحها وأفكارها الحذقة، التي كنت آخذ بها دائما ... عرجت على غرفتها، فوجدتها جالسة على أريكتها المفضلة، تستمع إلى برامج المذياع بصوت منخفض، ألقيت عليها التحية، فأجابت بمثلها، فسألتها:
-          أخبرتني أمي أنك تسألين عني ... خير؟
قالت بصوت ضعيف مبحوح:
-          تعال يا بني ... أجلس بجانبي.
تقدمت وجلست إلى جوارها، فربتت على كتفي بحنان، ثم أخرجت حافظتها المصنوعة من النسيج، وفتحتها، وأخرجت منها قطعة من الحلوى، وناولتها لي، فأخذتها وألقيتها في فمي، وأنا أقول مستظرفا:
-          من أين تأتين بتلك الحلوى اللذيذة ياجدتي؟ لم أجد مثلها في أي مكان ... هل أنت متاكدة أن صلاحيتها لم تنتهي منذ عشرين عاما.
لكزتني في كتفي، وهي تقول:
-          أيها الشقي ... تلك الحلوى ماعادوا يصنعونها هذه الأيام، فقد اشتراها لي أبي وأنا في العاشرة من عمري.
كعادتها، فهمت جدتي دعابتي السمجة، وردت عليها بدعابة أخرى ... صمتت للحظة ثم سألتني:
-          ماذا تفعل هذه الأيام؟
-          لا شئ كثير ... أنا فقط متهم بجريمة قتل، وهناك سفاح طليق يقتل شباب القرية، وينتزع أحشاءهم.
نظرت لي جدتي نظرة مستنكرة، فأخذت أقص عليها ما حدث، وحاجبيها ينعقدان أكثر ويتداخلان مع تجاعيد وجهها، وهي تستمع لما أقوله باهتمام، وعندما انتهيت، علقت بجملة واحدة:
-          إذا هو يحدث من جديد.
نظرت لها بدهشة وأنا أتساءل:
-          ما الذي يحدث من جديد؟
أشارت إلى صورة جدي المعلقة على الحائط، في ذيه العسكري، وهو ينظر بفخر واعتزاز، وتزين كتفه ثلاثة شرائط فضية، فقد كان جدي (باشجاويش) قد الدنيا، وهي تقول:
-          لقد حدث ذلك منذ خمسين عاما، حينها كان جدك (رحمه الله) في الخدمة.
كانت جدتي قد نجحت في إشعال فضولي، فسألتها:
-          هل تقصدين جرائم قتل مشابهة؟
-          نعم ... عشر جرائم قتل حدثت في قريتنا والقرى المجاورة ... وتمثيل بجثث القتلى و ...
قاطعتها بسرعة:
-          وهل عرفوا القاتل؟
نظرت لي للحظة، وبدا كأنها تسترجع بعض الذكريات من الماضي، ثم قالت بصوت عميق:
-          لقد كان جدك يعمل في هذه القضية، وأذكر ذلك اليوم، الذي جاءني فيه وعلى وجهه ملامح الجدية، والظفر، وأخبرني أنه في أثر للقاتل، وأنه ضيق عليه الخناق، وسيقبض عليه في أقرب وقت.
سألتها:
-          وهل أخبرك من هو؟
-          لا ... ولكني أذكر تلك الليلة كأنها بالأمس، ولن أنساها أبدا ما حييت ... ذهب جدك ليلتها في أول المساء في ملابس مدنية، وعاد قرب الفجر ... عاد في حالة لم أره عليها من قبل ... كان يرتعد في خوف، وجسده وملابسه غارقين في العرق البارد ... وضعت يدي على جبينه فأرعبتني حرارته، وأدركت أنه مصاب أيضا بالحمى ... استند علي حتى غرفته، وتدثر في فراشه، ثم غاب عن الوعي، كان يفيق بين الحين والآخر، فيصرخ بذعر، ويخرف ببضعة كلمات، ثم يغيب من جديد ... أخذت أعالجه بكمادات الماء البارد، وصنعت له عصير ليمون بالعسل، وأعطيته بعض تركيبات العطارة التي كانت توصف في هذا الزمن للمرض والحمى ... حتى تحسنت حالته في الصباح ... حينها سألته، فأخبرني:
-          أن الجرائم قد انتهت، والقاتل قد نال جزاءه أخيرا، ولكنه لم يخبرني أبدا عن هوية القاتل ... لا أحد عرف من هو القاتل أبدا! ... ظلت الناس بعدها لفترة مرعوبة، مترقبة، ثم نست كل شئ وعادت لحياتها عندما توقفت الجرائم.
-          ولكن جدي عرف القاتل !؟
-          بالتأكيد ، ولكنه كتم هذا السر حتى آخر حياته.
فكرت للحظة، ثم سألتها:
-          تقولين أن جدي نطق ببعض الكلمات وهو في حالة الحمى ... فماذا كان يقول؟
اختلجت التجاعيد على وجه جدتي للحظة، قبل أن تقول بصوت مبحوح:
-          كانت كلمات مرعبة، لم أسأله عنها أبدا، لقد حسبت حينها أن به مسا من الجن، لكني حمدت الله في اليوم التالي، عندما تعافى ولم تعاوده تلك الحالة أبدا.
-          ماذا كان يقول؟
-          المقابر ... هوة الشياطين ... بحيرة الدماء ...
***
-          أنا (كريم الحمادي)، طالب في الصف الثاني حقوق، لقد أرسلت سيادتك في طلبي.
أشاح لي الضابط الشاب (شريف الصادق) بقرف لأجلس على مقعد في طرف الغرفة، ثم أكمل حديثه مع الشخص الجالس أمامه، أنا أعرف هذا الشخص، إنه الطبيب الجديد في الوحدة الصحية للمركز التابع له قريتنا ... سأله الضابط بنفس الطريقة المتعالية:
-          إذا ... ما رأيك؟
أجابه الطبيب بصوت متردد:
-          أنا لم أفحص الجثة فحصا كافيا.
قاطعه الضابط (شريف) بطرقة قوية بقبضته على سطح المكتب وهو يقول:
-          أنا لم أطلب منك فحصا دقيقا ... الطبيب الشرعي سيفعل ذلك.
ثم زفر بضيق، وهو يردف:
-          أنا طلبت منك أن تلقي نظرة سريعة وتجيب على سؤالين فقط.
قال الطبيب بسرعة وبنفس اللهجة المترددة:
-          أجل إنها نفس الطريقة التي قتل بها الأربعة الآخرون ...
-          وهل هناك شئ مفقود.
-          القلب.
أخذ الضابط يحك صدغه بسبابته مفكرا للحظات، ثم أشار بنفس القرف للطبيب، وهو يقول:
-          يمكنك أن تذهب الآن.
غادر الطبيب المكتب، وأومأ لي برأسه مشفقا وهو في طريقة للخارج ... نهض الضابط من وراء مكتبه، وتوجه ناحيتي، فاعتدلت بسرعة ... اقترب حتى صار في مواجهتي، قبل أن يسألني بغلظة:
-          من أنت؟
كررت كلامي السابق، حرفيا:
-          أنا (كريم الحمادي)، طالب في الصف الثاني حقوق، لقد أرسلت سيادتك في طلبي.
فكر للحظة، ثم ارتسمت على ملامحة ابتسامة مرعبة، وهو يقول:
-          تذكرت ... إذا أنت القاتل!
***
من مذكرات الباشجاويش  (نصر الحمادي) المكتوبة على وريقات صفراء متآكلة بالحبر (الشيني) الذي ذاب معظمه بفعل السنين فأصبحت قراءتها، ضربا من ضروب الألغاز وفك الطلاسم.
*** اختلست السير خلفه متحسبا أن يشعر بي حتى خرج من حزام قريتنا وتوجه إلى منطقة المقابر، من حسن حظي أن الليلة كانت ظلماء والقمر محاق، فساعدني ذلك على التخفي في ظلمة الليل وأنا أطارده ... دخل المقابر وتجاوز الصفوف الأولى حتى وصل إلى حوش مغلق بقفل صدئ، ضخم ... فتح القفل وحرك بوابة الحوش الحديدية فأصدرت صريرا مرعبا مزق سكون الليل، تلفت حوله في قلق، ثم دخل إلى الحوش، لم استطع ملاحقته إلى الداخل فاعتليت شجرة ليمون فروعها قريبة من الأرض وترتفع فوق سور الحوش حتى يمكنني من فوقها مراقبة ما يفعله ... توجه إلى ذلك القبر الأصفر ذو الشاهدين، وفتح فوهته الحديدة المغلقة بقفل آخر صدئ، ثم زحف على بطنه إلى داخل القبر ... انتظرت عشر دقائق مترقبا خروجه، وعندما تأخر دخلت إلى الحوش، واقتربت من القبر متسمعا، وبحذر أولجت رأسي داخل فوهته ... حينها وصلت إلى مسامعي تلك الترانيم الشيطانية التي تنبعث بصوت غليظ متحشرج، قادم من أعماق القبر...
.. (انتهى الجزء الأول ويليه الجزء الثاني) ..


قصة رعب بعنوان ... (هوة الشياطين – الجزء الثاني)
ملخص ما سبق ... شاب يجد نفسه وسط سلسلة من عمليات القتل الوحشية، التي يمثل فيها القاتل بأجساد قتلاه ويقتطع أجزاء منها، قبل أن توجه له الاتهامات بأنه الفاعل!.. ووريقات صفراء مهترئة من مذكرات باشجاويش من القرن الماضي تتحدث عن عمليات قتل مشابهة حدثت في زمنه أيضا، طارد فيها الباشجاويش القاتل إلى داخل المقابر، قبل أن يصل إلى مسامعه أصوات ترانيم شيطانية تصدر من داخل أحد القبور...
.
لساعات حاول الضابط (شريف) إقناعي بأنني القاتل، ولكنني لم أكن محبذا لتلك الفكرة، رغم أن أساليبه كانت فعالة، وقادرة على الإقناع، وهكذا ألقى بي في الحجز على أمل أن يساعدني قضاء ليلة فيه على التذكر ... في الواقع لم يكن رفقاء الحجز مهتمين بتذكيري قدر اهتمامهم بساعتي، وحزامي الجلدي، وحذائي، وحافظتي وما فيها!.. فمنحتها لهم جميعا كتذكار للمعرفة الطيبة، ولتوطيد المعرفة أكثر، طالبوا بالمزيد من التذكارات، ولكنني استطعت إقناعهم بصعوبة شديدة أن البنطلون والقميص لا يصلحان كتذكارات!..  وهكذا قضيت ليلة أخرى كسابقتها، ولكن دون كوابيس تلك المرة، فالنوم لم يستطع أن يجد طريقه إلى عيني ولو لثوان وسط تلك الطغمة من اللصوص والأفاقين والبلطجية ... في الصباح استدعاني الضابط (شريف) إلى مكتبه مرة أخرى، وألقى نظرة على الحال التي صرت عليها، قبل أن يبتسم ابتسامة سمجة، وهو يقول:
-          كيف حالك يا (كريم)؟
قلت بصوت ضعيف مضعضع:
-          بخير يا باشا.
-          هل تذكرت؟
-          تذكرت ماذا يا (شريف) باشا؟
طرق المكتب بقبضته بقوة، بتلك الطريقة المفاجأة التي يستخدمها للانتقال من الهدوء إلى الغضب والعنف في محاولة للتأثير على من يستجوبه، وهو يقول:
-          أنك القاتل ... كل الأدلة ضدك ... هيا اعترف!
قلت بصوت ضعيف، يحمل بعض السخرية في طياته:
-          ياباشا ... أي أدلة أنت لا تملك أي دليل ... القاتل شخص مخبول، وستعرفه بمجرد أن تراه!.. وهو ليس أنا بالتأكيد.
صمت للحظة وهو يحدق في كأنه يحاول سبر أغواري، وبدا كأنه يفاضل بين أن يخوض معي جولة أخرى لإجباري على الاعتراف الآن، أو أن يؤجل ذلك لوقت لاحق، في النهاية قال بصوت بارد وهو يقلب في بعض الأوراق أمامه، ويشيح نحوي بيده:
-          حسنا يمكنك الذهاب الآن ... ولكن أبق قريبا من منزلك، فبالتأكيد سنحتاج إليك مرة أخرى.
وصلت إلى المنزل بعد ذلك بعدة ساعات، كنت أشعر أنني موشك على الانهيار، كنت ارتدي في قدمي خفا بلاستيكيا، أعطاه لي عامل المقصف في قسم الشرطة بعد أن شعر بالشفقة على حالي ... أفكر الآن في التوجه مباشرة إلى فراشي والتدثر بأغطيتي، والغياب في النوم لمدة يومين أو ثلاثة ... المشكلة أنه ما أن وصلت إلى المنزل حتى استقبلتني تلك المفاجأة التي قضت على ما بقى من قدرتي على الاحتمال تماما.
***
وريقة أخرى صفراء، مهترئة، من مذكرات الباشجاويش (نصر الحمادي)، من تلك التي ما بها يصلح للقراءة ولم يتملكها العفن كالأخريات فأذاب حبرها أو أكل نسيجها.
... أصاب الجنون وزارة الداخلية بعد حادثة القتل السادسة في شهرين فقط، جاءنا اليوم ضابط ذو رتبة عالية ليقود التحقيقات، فجمع العاملين من الضباط والجنود ليحمسهم، ويعطيهم التوصيات الضرورية، ويقسمهم إلى فرق ودوريات مستمرة طوال الليل في جميع قرى المركز، وخاصة تلك التي وقعت بها الجرائم، وأعد غرفة للعمليات للمتابعة ولاستقبال أي شهادات قد تفيد، واجتمع بعمد القرى وشيوخها لتنظيم مشاركة أفراد الخفر في عمليات البحث والتحري، وكذلك لتحذير أهل القرى من التواجد في أماكن منعزلة ليلا، ولتشجيعهم على الإدلاء بأي شهادات قد تدل على القاتل ... ولكن كل هذا لم يمنع وقوع حادثة القتل السابعة والثامنة في أسبوع واحد، من الواضح أن هذا القاتل يعرف ما يفعله، ولن يكون صيدا سهلا أبدا ...
كنت أقضي ليلي كله في دوريات بقريتي، كنت أقوم بها منفردا! رغم تحذير الضابط الأعلى لنا من ذلك، حتى لا نتحول نحن أيضا إلى ضحايا، ولكنني كنت متأكدا أن القاتل لن يفعل ذلك، فهو لا يختار ضحاياه عشوائيا، كما أنني لم أكن أشعر بالخوف، وكان مايحدث يزيدني تصميما وعزما على ملاحقة القاتل، وأشعر أنني سأضع يدي عليه قريبا، وانتقم منه، فأثنين من ضحاياه كانا من معارفي، ولا استطيع أن أنسى منظر جثتهما بعد أن جز عنقيهما، وشق جوفهما، بتلك الطريقة المرعبة ... تدعوني زوجتي الحبيبة لأن أريح نفسي قليلا وأنام بعض ساعات الليل، ولكنني أعتذر منها بسبب ظروف العمل، والحقيقة أنني كرهت النوم ليلا بسبب تلك الأحلام اللعينة التي تطاردني عن القاتل وضحاياه، كنت اكتفي فقط بنوم ساعتي الضحى بعد أن أصلي الفجر...
***
توفت جدتي ... خبر مريع استقبلني أثر عودتي بعد ليلة نابغية أخرى قضيتها في قسم الشرطة، لتستمر متاعبي وآلامي ... لاقت جدتي ربها أخيرا وهي نائمة، آمنة في فراشها، وبعد أن سألت عني، ودعت لي قبل نومها ... من يدري، قد يكون في ذلك راحة لها، فكل من لها من أهل وأقارب وأحباب قد سبقوها بالفعل إلى خالقهم، وما عاد لها في هذه الدنيا سواي أنا وأمي وهذا ليس بالكثير لتفتقده... أما أنا فأشعر أنني خسرت جزء كبيرا من نفسي وروحي مع ذهاب تلك الحبيبة، كم سأفتقدك يا جدتي العزيزة، يا من كنت أقرب الناس إلى قلبي بعد أمي.
انتفضت وتناسيت كل مشاكلي في تلك اللحظة، سيكون على التعب والإجهاد اللذان أشعر بهما أن يتراجعا الآن، فعلي أن أواري جسد جدتي التراب، وعلي أن أتلقى عزائها بنفسي على قبرها، وفي (مضيفة) العائلة لثلاث أيام وليال، بعد ذلك يمكنني أن أفكر في الإجهاد والتعب، يمكنني حينها أن أنهار وأسقط مغشيا علي ... لن أبالي.
بعد ذلك بأسبوع، استيقظت من نومي في ذلك الصباح، رغم أن عيني ما زالتا تصران على النوم لفترة أخرى ... عبرت أشعة شمس الصباح خصاص النافذة، لترسم على الحائط المجاور لفراشي تلك الأشكال الضوئية ذات الأضلاع الأربعة المتوازية، التي تعرفني أنه علي أن أنهض وأتوجه إلى جامعتي ... وصل إلى مسامعي دقات خافتة على باب الغرفة، إنها أمي بالتأكيد، فقلت:
-          تفضلي يا أماه.
دخلت أمي الغرفة، فبادرتها بسرعة:
-          لا تقلقي لقد استيقظت من نفسي.
ابتسمت، وهي تقول في حنان:
-          إذا اغتسل، وبدل ثيابك، وتعال لنتناول الإفطار معا.
أومأت برأسي، فتوجهت هي إلى باب الغرفة قبل أن تتوقف في منتصف الطريق، وتعود أدراجها ناحيتي مرة أخرى، لتناولني صندوق خشبي وهي تقول:
-          لقد وجدت هذا في خزانة جدتك، به بعض الأوراق الثبوتية، والعقود والخطابات القديمة الصفراء ... هل تريد أن تلقي نظرة على مافيه؟
قفزت من فراشي بنشاط أدهش أمي، وخطفت منها الصندوق، وأنا أقول:
-          أجل.
أمسكت بالصندوق متفحصا، ثم فتحته فوجدت محتوياته كما وصفتها أمي منذ قليل، فنظرت لها وأنا أتساءل:
-          هل كنت تعلمين أن جدتي كانت تحتفظ بهذا الصندوق.
أجابت بلا مبالاة:
-          كنت أراه دائما في خزانة جدتك وأنا أنظف غرفتها، وعندما أسألها عنه، كانت تخبرني أنها خطابات غرامية من جدك، وأنه يمكنني أن أقرأها بعد موتها.
***
بعد ذلك بساعة كنت أقف على الطريق خارج القرية، انتظر أي مواصلة تقلني إلى الجامعة، ويبدو أنني تأخرت، فلا أحد ينتظر من زملاء الجامعة، ولا توجد مواصلات تمر من المكان من الأساس، فكرت في العودة إلى المنزل لأتفحص صندوق الجدة، الذي أرجأت تفحصه حتى المساء  ... فجأة، توقفت سيارة فاخرة بجانب الطريق، وصاح بي صاحبها:
-          هل أنت ذاهب إلى الجامعة؟
اقتربت ونظرت لصاحب السيارة، فعرفته، أنه طبيب الوحدة الصحية الذي قابلته منذ أيام في قسم الشرطة، قال الطبيب:
-          هيا أركب، أنا في طريقي للمدينة، سأقلك معي.
قلت بصوت لا يكاد يسمع، وأنا استقل السيارة إلى جانبه:
-          لا ضرورة لذلك يا (دكتور)، لا أريد أن أتعبك.
تجاهل كلامي، وهو يمد يده مرحبا:
-          (ماجد السواح) ... طبيب.
صافحته، ثم سألته بفضول:
-          هل تقيم هنا؟
نظر لي مطولا، ثم ابتسم لطريقتي المقتحمة، قبل أن يجيب ببساطة:
-          أنا من أهل القرية مثلك، عائلتي كانت تعيش هنا في الماضي، حتى قرر جدي السفر للخارج مصطحبا معه أبي وأخوته لسنوات طويلة، وها أنا أعود أخيرا إلى أرض أجدادي.
نظرت له متعجبا، فأردف:
-          كما أن لنا أملاك في جوار القرية، مزرعة، و(فيلا) أقيم فيها هذه الأيام، رغم حالتها السيئة بعد أن ظلت مغلقة لعشرات الأعوام ... ولنا أيضا مقابر هنا ... إذا سألت كبار القرية قد يتذكرون، ويخبرونك عن جدي وعائلة (السواح) التي كانت تعيش هنا.
***
ترجل (علاء) من السيارة (الميني باص) العتيقة، أمام مدخل قريته، ونقد سائقها أجرته، فانطلق الأخير مخلفا وراءه سحابة من الغبار، وصوت تلك الأغنية الشعبية المزعجة الذي بقى أثرها ينبض في أذن (علاء) لدقائق، كانت الساعة قد جاوزت العاشرة مساء، وكانت القرية قد تحولت إلى قرية أشباح، فبعد جرائم القتل المروعة التي حدثت في الفترة الأخيرة، زهد الجميع في الخروج من منازلهم ليلا، شعر (علاء) برعدة من البرد والخوف، فمنزله في الناحية الأخرى من القرية، وعليه أن يقطعها وحدة في تلك الظلمة وتلك الظروف ... لعن رئيسه في العمل الذي أصر عليه أن يعمل لساعات إضافية بحجة تسليم طلبية ضرورية للعميل صباح الغد، دائما هناك ألف سبب مقنع لدى مصاص الدماء الذي يعمل عنده، تجبره على العمل لساعات إضافية، ولا يوجد نصف سبب للحصول على أجر إضافي.
سار (علاء) في الطرقات الخالية في وجل، كان أي صوت خافت، كصوت عود خشبي يتكسر تحت قدميه، أو صوت طائر أو حيوان ليلي، كافيا لجعله يقفز لأعلى في ذعر، وهو يبسمل ويحوقل، قبل أن يلعن حظه وجبنه والظروف التي أوصلته إلى في هذا الموقف ... فجأة لمح شبحا يرتدي معطف ذو غطاء رأس يخفي ملامحه، يقف أمامه مباشرة ويقطع عليه طريقه ... صرخ (علاء) صرخة عالية، وهو يتراجع للخلف خطوة، تلفت حوله بذعر، قبل أن يلتقط حجرا من الأرض ويهدد به ذلك الشبح، وهو يقول:
-          من أنت؟ تكلم بسرعة وإلا سأشج رأسك بهذه.
فكر (علاء) أن يستدير على عقبيه ويولي هاربا، ولكن خيار الجري لواحد بسمنته وذلك الكرش العملاق الذي يحمله لم يكن أبدا خياره المفضل، فلو كان هذا الشبح يمتلك اللياقة البدنية لكتكوت لكان هذا كافيا لآن يلحق به بعد ثانتين فقط!.. كرر (علاء) تهديده وهو يشيح بالحجر في وجه الشبح، ويتراجع للخلف ... رفع الشبح غطاء الرأس كي تتضح ملامحه (لعلاء)، الذي تنهد في ارتياح وهو يقترب من الشبح قائلا:
-          أنت ... أنت يا رجل لقد أفزعتني بحق.
لم يرد عليه الشبح، فأردف (علاء) وهو يقترب أكثر:
-          أين أنت؟... أنا لم أرك منذ اسبوع!
برق شئ لامع في ضوء القمر كان يحمله ذلك الشبح في يده، لم يستطع (علاء) أن يدرك ماهية هذا الشئ، وقبل أن يتساءل تحرك هذا الشئ بسرعة هائلة نحوه ... شعر (علاء) بألم هائل في حنجرته، وكان ذلك آخر ما شعر به (علاء) في هذه الحياة، وهو يسقط على الأرض والدماء تنفجر من ذلك الجرح القطعي في رقبته ... لثوان ظل ذلك الشبح يراقب روح (علاء) وهي تفيض، وأطرافه وهي تنازع بعد أن انقطع الاتصال بينها وبين مخه في لحظة واحدة، فلم تعرف ماذا عليها فعلة سوى تلك النزعات الأخيرة، العاجزة، قبل أن يعكف على جسده ويبدء في شقه باستخدام ذلك النصل الحاد، اللامع.
***
من مذكرات الباشجاويش  (نصر الحمادي).
... لم أعرف كيف واتتني الشجاعة حتى أزحف إلى داخل القبر، كان المكان ضيقا وهناك بعض الرفات والأكفان المتناثرة على الأجناب ... اقتحم التراب فمي وأنفي، وأزعجتني فكرة أن الهواء الذي أتنفسه الآن يختلط برفات الأجداد، وأن هذا التراب الذي يقتحم فمي وأنفه هو ما تبقى منهم في هذا الحياة الدنيا ... بعد متر واحد بدأ باطن القبر يتسع، وينحني لأسفل بزاوية حادة في نفق نهايته بعيدة، زحفت لأمتار أخرى حتى أصبح المكان متسعا يسمح لي بأن أعتدل على قدمي ... كان صوت الترانيم الشيطانية يتعالى، من الواضح أنني صرت قريب من مصدرها ... انتهى النفق بزاوية قائمة، وبدا خلفه غرفة متسعة مضاءة بالمشاعل، اقتربت ببطء محاولا ألا أصنع أي صوت، مددت رأسي إلى داخل الغرفة لأرى ما بها ... كان ما رأيته داخل الغرفة مرعبا بحق، كان شيئا من خارج هذا العالم، شئ جعل شعر رأسي ينتصب والقشعريرة الباردة تسري فوق عمودي الفقري، وأشعر أنني على وشك أن أقئ ما في جوفي ... كان المنظر مرعبا بحق!
.. (انتهى الجزء الثاني ويليه الجزء الثالث) ..



قصة رعب بعنوان ... (هوة الشياطين – الجزء الثالث)
ملخص ما سبق ... تتواصل جرائم القتل الشنيعة، وآخرها ذلك الشاب الذي كان عائدا لمنزله في وقت متأخر من الليل، ليهاجمه ذلك الشبح، فيجز عنقه ويمزق جوفه بنصل حاد ... ونواصل أيضا القراءة في مذكرات الباشجاويش (نصر الحمادي)، رغم أن الزمن أتلف معظمها، إلا أننا نستطيع أن نعرف منها، أنه كان يطارد شخصا ما إلى داخل نفق سري أسفل أحد القبور، ينتهي بغرفة مضاءة بالمشاعل، ينظر الباشجاويش إلى داخل الغرفة فيصعقه ما رآه فيها.
.
سألت الطبيب (ماجد السواح) وقد اختلطت ملامح التعجب بملامح الاستنكار على وجهي:
-          إذا أنت تركت حياتك في الخارج وأسرتك، وشهادتك الجامعية وجنسيتك الأجنبية، وقررت أن تعود لتعمل في وحدة صحية فقيرة، في مكان منعزل.
ابتسم وهو يقول:
-          ماذا أفعل ... إنه نداء الجذور
-          أنت تمزح حقا ... بالتأكيد لديك سببا آخر ... هل أنت جاسوس!؟
أطلق قهقهة ساخرة مبالغ فيها، ثم غير مجرى الحديث، وهو يسألني:
-          ماذا فعل (شريف) باشا معك؟
أطلقت فاصل من السباب، فواصل قهقهاته وهو يقول:
-          هذه هي طريقته في التعامل مع الآخريين ... كما أنه قليل الخبرة، وتلك القضية تفوق قدراته بمراحل.
أومأت برأسي، فأردف:
-          لقد وصل عدد جرائم القتل إلى ستة جرائم في فترة قصيرة، وجميعها بنفس الطريقة.
نفخت الهواء من فمي مبديا دهشتي لهذا الرقم، قبل أن أسأله:
-          وهل بالفعل هناك أجزاء مفقودة من كل جثة؟
-          أجل ... وجزء مختلف في كل مرة ... قلب، رئة، جزء من الكبد وغيرها.
نظرت نحوه متفحصا، وقد تعجبت لحماسته الزائدة وانفعاله، هو يتحدث عن تلك الجرائم، قبل أن أسأله:
-          وماذا سيفعل القاتل بتلك الأعضاء؟
أجاب بنفس الحماسة:
-          سيأكلها ... أو
توقف للحظة، فحثثته على الاسترسال، قائلا:
-          أو ماذا؟
نظر لي وعقد حاجبيه، وهو يقول بصوت عميق:
-          هذا النوع من الجرائم، يصنفونه بجرائم شعائرية أو طقسية.
-          وماذا يعني هذا؟
-          طريقة القتل، والأعضاء التي يقتطعها القاتل من أجساد قتلاه، وكون القتلى جميعا من الشباب الذين لم تتجاوز أعمارهم الثلاثة عقود ... كل هذا ينبئ!
توقف للحظة، ثم أردف:
-          بأن هذا القاتل يمارس نوعا من الشعوذة أو الطقوس السحرية.
***
آخر وريقة صالحة للقراءة من مذكرات الباشجاويش (نصر الحمادي)...
... عندما نظرت إلى داخل الغرفة هالني ما رأيت، ففي منتصف الغرفة المتسعة التي جاوزت مساحتها الخمسين مترا مربعا وسقفها الثلاثة أمتار، وقف ذلك الشخص الذي كنت ألاحقه منذ لحظات، وهو يوليني ظهره، كان مرتديا معطفا أسود ذو غطاء رأس يخفي ملامحه، وكان يتلو بعض الترانيم الشيطانية من كتاب قديم يحمله في يمينه، أما ما أرعبني بحق فهو أنه كان يقف أمام بحيرة تنبع من أرض الغرفة، وتغلي بالدماء الحمراء اللزجة، ويتصاعد من سطحها بعض الفقاقيع والشرارات ... وهناك أصوات مرعبة تنبعث من باطن تلك البحيرة لتتجاوب مع الترانيم التي يتلوها ذلك اللعين.
كان يلتقط بعض الأشياء من أناء نحاسي بجانبه ويلقيها في البحيرة وهو يواصل تلاوته، فكانت الشرارت تتصاعد من البحيرة بشدة عندما تقع فيها تلك الأشياء، ويزداد غليانها، وهيجانها، وكأنها توشك ان تفيض وتغرق المكان، لا أحتاج للمزيد من الذكاء لاستنتج أن ما يلقيه من أشياء في البحيرة هي أجزاء من أعضاء بشرية من تلك التي كان يحصدها من قتلاه.
توقف عن ترانيمه، ووضع الكتاب جانبا، ووقف أمام البحيرة عاقدا ذراعيه أمام صدره، كان سطح البحيرة قد بدأ يتحرك حركات دوامية متسارعة، وبدا أن هناك شيئا على وشك الحدوث ... أخرجت سلاحي (الميري) الذي كنت أحمله معي طوال الوقت، وتقدمت بخطوات متحسسة من هذا الشخص، حتى صرت خلفه تماما، فصرخت فيه بحدة:
-          أرفع يدك أيها المخبول.
... أجزاء كاملة من الوريقة ذاب الحبر فيها، وأصبح قراءتها ضربا من المستحيلات، ويليها السطور التالية ...
 اقتربت من البحيرة التي انحسر سائلها الدامي، وبدا تحتها هوة عميقة، تمتد لمسافة كبيرة نحو باطن الأرض، وفي قاعها بحيرة من الجمر والحمم المشتعلة، أشعر بلهيبها يلفح وجهي وصدري ... تلمح عيناي أشياء تتحرك في القاع، وعلى جدران الهوة، اقترب أكثر وأحاول تدقيق النظر إلى تلك الأشياء التي يبدو أنها تتسلق جدران الهوة  الآن نحو الأعلى ... أصرخ في ذعر وأسقط على الأرض عندما تتضح لي ماهية تلك الأشياء ... إنها شياطين مرعبة، ومريعة المنظر، شياطين تحمل ملامحا وأوصافا تعجز الكلمات عن التعبير عنها، أواصل الصراخ أكثر، أعصابي لم تحتمل رؤية تلك الشياطين، أكاد أجن، أو كأنني جننت بالفعل، والأسوء أنها تصعد لأعلى بسرعة هائلة وكأنها تتسلق جدران الهوة العميقة عدوا ... دقائق قليلة وستصل إلى السطح وتصبح هنا بصحبتي ... فكرت أن أهرب من هذا المكان بسرعة، ولكن عقلي أخبرني أن ذلك لن يوقف الكارثة الموشكة على الحدوث، اتلفت حولي محاولا البحث عن شئ يمكنه مساعدتي...
... أجزاء أخرى لا يمكن قراءتها،يليها آخر سطرين من الوريقة الأخيرة ...
خرجت من القبر، وتأكدت من إحكام غلقه خلفي، أشعر بالبرد وبمبادئ الحمى، كل فرائصي ترتعد في جنون، أتوجه إلى منزلي، وأنا أعلم يقينا أن الخطر لم ينته تماما، رغم نجاحي في تأجيل وقوعه ... أعتذر منك يابن دمي، فلم أكن أملك وسيلة أخرى...
***
عدت إلى منزلي بعد يوم طويل في الجامعة، فوجدت رجل في ثياب المخبرين المعروفة ينتظرني لدى الباب ليخبرني أن (شريف) باشا ينتظرني في القسم، وعلى أن اذهب معه مباشرة إلى هناك ... من الواضح أنني أوحشت (شريف) باشا فقرر أن يرسل لجلبي ليتمتع بصحبتي كعادته ... تمتمت في صوت خافت:
-          ألا توجد مصيبة يمكنها أن تبتلع هذا الرجل؟
زام المخبر وهو يقول بصوت غليظ:
-          هل تقول شيئا؟
-          أقول ... أمهلني دقيقة واحدة حتى أغير ثيابي.
دخلت للمنزل، وبدلت ثيابي بأخرى يمكن الاستغناء عنها، وطمأنت أمي بأنني سأبيت اليوم لدى مجموعة من الأصدقاء المقربين، وأننا سنقضي ليلتنا في المذاكرة والدرس.
وصلت إلى القسم، فاستقبلني الضابط (شريف) بابتسامته السمجة، وهو يقول:
-          (كريم الحمادي) ... أين أنت يارجل؟ لم تزرنا من فترة طويلة.
لم أعرف بماذا أرد، وتمتمت ببضعة كلمات مجهولة، فصرخ في الضابط (شريف) وهو يقول:
-          هل تعرف شخص اسمه (علاء الفيل).
تلفت حولي كالفأر وهو يبحث عن مخرج من المصيدة، فكرر الضابط (شريف) سؤاله بصوت هادر:
-          هل تعرفه؟
-          أجل ... الجميع يعرفون (علاء الفيل) ... كان زميل لي في فترة الدراسة الإبتدائية والإعدادية، قبل أن يترك الدراسة ليتجه للأعمال اليدوية والحرفية، هو يقطن بالفعل في القرية المجاورة لقريتي، ولكننا نعرفه جميعا لأنه يقوم بأعمال الإصلاحات كالسباكة والنجارة والكهرباء في كثير من منازل القرى التابعة للمركز.
حك الضابط (شريف) صدغه بسبابته لثوان، ثم قال بصوت ثعباني:
-          إذا أنت تعترف بقتله.
صرخت في جزع:
-          هل قتل هو الآخر؟
-          ستحاول أن تدعي عدم المعرفة، وتمثل علي دور المندهش ... لماذا لا تسهل الأمور عليك وعلي وتعترف ... كل الأدلة تدينك!
توقعت أن أبيت ليلة، أو ليلتين في الحجز، ولكن بعد ساعتين من الضغط، والمحاورة والمناورة، ومحاولة إقناعي بالاعتراف بشئ لم أفعله، سمح لي الضابط (شريف) بالرحيل إلى منزلي، مع التحذير بألا ابتعد كثيرا، لأنه بالتأكيد سيرسل في استدعائي من جديد.
***
في ساعة متأخرة من الليل، غادر الضابط (شريف) عمله متوجها إلى المدينة حيث مسكنه، كان يوما مرهقا بحق، بدأ بالتحقيق في حادثة القتل الجديدة التي حدثت بالأمس، ومحاولات استنطاق غير مجدية لبعض المشتبه فيهم، على أمل أن يعترف أحدهم بجرمه ... هو يكره هذا المكان وتلك القرى التابعة للمركز وأهلها، لبعدها عن مدينته وسكنه، لم يكن ينقصه إلا جرائم القتل تلك التي تظهره عاجزا أمام رؤسائه، لكنه كان حليما بما يكفي، من الغد سيظهر العين الحمراء للجميع، وسيعثر على القاتل حتى لو اضطر لسحق العشرات في سبيله إليه.
كان يقود سيارته الخاصة كعادته في اليوم الذي يسبق عطلة نهاية الأسبوع، وكانت الليلة مظلمة إلا من ضوء خافت للقمر الشاحب في السماء ... وفي محاولة منه لاختصار الطريق إلى المدينة، اتخذ الطريق الغير معبد الذي يسير في مسار ثعباني بين قرى المركز، ضايقته المطبات والظلام الذي تصنعه أشجار الكافور التي تغطي جانبي الطريق، فتحجب عنه أي شعاع للضوء ... فكر أنه كان عليه أن يسير في الطريق المعبد والمضاء حتى ولو كان أطول، رفع صوت جهاز التسجيل على أعلى درجة وأخذ يغني معه بصوت مبحوح، وبكلمات لا علاقة لها بما يقوله المطرب الأجنبي.
فجأة أطلق سبة بذيئة، وهو يضغط على فرامل السيارة بقوة، ليصدر عنها صوت فحيح وتتباطئ سرعتها تدريجيا، حتى توقفت على بعد بوصات قليلة من ذلك الجسد الممد على الأرض ... خرج الضابط (شريف) من سيارته وهو يتمتم ببعض كلمات السباب واللعنات:
-          ما هذا؟ ... هل هو قتيل آخر؟
 اقترب من ذلك الجسد الممد والمغطى بمعطف أسود، جثا الضابط (شريف) على ركبتيه، ورفع الغطاء، ليعتدل ذلك الجسد فجأة، وهو يوجه بنصله اللامع ضربة سريعة بدت كشرارة البرق ... لم يفهم الضابط (شريف) ما حدث في البداية، وهو يحدق بعينين جاحظتين في مهاجمه، بدا أنه يحاول أن يقول شيئا ما، ولكن سرعان ما اكتشف أن حنجرته التي مزقها النصل أصبحت غير قادرة على الكلام، فسقط على ظهره، وهو يحدق بعينين زجاجيتين نحو السماء.
***
بعد أن فحصت محتويات صندوق جدتي، ووجدت في قاعه تلك الوريقات الصفراء، المتآكلة، والغير مرتبة، التي كتب فيها جدي ذكرياته مع جرائم القتل التي حدثت في زمنه، والتي تشبه كثيرا تلك الجرائم التي تحدث الآن ... بذلت مجهودا مضنيا حتى ساعات الصباح الأولى، في محاولة لقراءة ما يمكن قراءته منها، بعد أن نجح الزمن في إخفاء معظم ما جاء بها ... انتصب شعر رأسي بعد أن عرفت ما جاء فيها، وتلك الطقوس الشيطانية التي يقوم بها شخص ملعون، لفتح هوة الشياطين، لتخرج منها الشياطين، لا أعرف ما هدفه ولا ما سيحدث بعد ذلك، بالتأكيد سيكون شيئا سيئا ... ما فهمته أن جدي نجح في منع ذلك في زمنه أو تأجيله، وها هو يعود للظهور في الزمن الحاضر ... وعلى شخص ما أن يوقفه أو يفعل كما فعل جدي!
لم أتوجه إلى الجامعة في ذلك الصباح، ولكن وجدت قدمي تقوداني إلى منطقة المقابر، أخذت أجول بين شواهد القبور، أبحث عن ذلك الحوش الذي تكلم عنه جدي في مذكراته، وإنا أعلم أن تلك المقابر لم يعد بها أحواش الآن، كما كانت عليه في الماضي ... لمحت رجل عجوز تختفي ملامح وجهه تحت التجاعيد القاسية، وبدا كأن عمره مائة عام، كان حوله مجموعة من الأطفال يلعبون، اقتربت من الرجل، فأسرع الأطفال نحوي وهم يحملون بعض زجاجات الماء، وهم يصيحون:
-          تروي يا بيه.
نقدتهم بعض العملات الفضية، فانطلقوا مبتعدين، وهم يتصايحون ويتشاكسون حول كيفية تقسيم تلك النقود بينهم... اقتربت من الرجل، الذي تأهب وأخذ يحرك رأسه يمينا ويسارا متابعا صوت خطواتي، فأدركت أنه كفيف البصر أيضا، ألقيت عليه السلام، وجلست بجواره على صخرة ناتئة، وضعت بعض النقود في كفه المفتوح، فأغلقها بسرعة، وبدأ يقرأ القرآن بصوت متحشرج، غير مفهوم ... استوقفته بسرعة، وأنا أقول:
-          هل تعرف هذه القبور جيدا ياعماه؟
-          أجل يابني أنا أعيش هنا من بدايات القرن الماضي.
ربت على كتفه وأنا أقول:
-          بارك الله في عمرك ... كنت أريد أن أسألك عن شئ.
-          تفضل يابني.
-          هل تذكر حوش كان هنا، وبداخله قبر أصفر ذو شاهدين، وبجانبه شجرة ليمون؟
أخذ الرجل يفكر للحظات، ثم أجاب:
-          كان هناك حوش واحد هنا بتلك المواصفات.
-          وأين هو الآن؟
-          هدمت أسواره، وامتدت القبور من كل جانب حتى أحاطت بالقبر الذي تتحدث عنه ... الناس كثر عددهم أحياء وأموات، ورفاهية الأحواش ما عادت تصلح لهذا الزمان ... و
سألته مقاطعا:
-          ولمن كان هذا الحوش يا عماه؟
أجاب بسرعة:
-          لعائلة (السواح)، جدهم الأكبر كان آخر من دفن فيه!
.. (انتهى الجزء الثالث ويليه الجزء الرابع والأخير) ..


قصة رعب بعنوان ... (هوة الشياطين – الجزء الرابع والأخير)
ملخص ما سبق ... يقرأ (كريم) المذكرات التي تركها جده الباشجاويش (نصر الحمادي)، فيكتشف جزء كبيرا من الحقيقة، عن تلك الهوة التي يتسلقها الشياطين إلى عالمنا عبر طقوس لعينة يمارسها القاتل بسفك دماء ضحاياه وأشلائهم على ذلك المذبح المخفي أسفل أحد القبور، يلتقط الشاب خيطا عندما يعرف أن ذلك القبر لعائلة (السواح)، وهي عائلة كانت تقطن القرية قديما ... يواصل القاتل جرائمه البشعة، وينجح في مفاجأة الضابط (شريف الصادق) الذي كان يلاحقه ويحقق في جرائمه، فيذبحه ويضيف اسمه إلى قائمة الضحايا  ...
.
نظرت إلى المرآة فهالني رؤية هاتين الهالتين السوداوين اللتان تحيطان بعيني، وتلك الملامح البائسة، المجهدة التي تظهر على محياي ... كان ذلك طبيعيا بعد يومين أغلقت فيهما غرفتي على نفسي، ولم أذق فيهما طعم النوم، إلا لثوان قليلة كنت استيقظ بعدها وأنا اصرخ بسبب تلك الكوابيس اللعينة عن ذلك القاتل وهو يذبح ضحاياه ويمثل بأجسادهم، علمت بالأمس بمقتل الضابط (شريف الصادق)، ووصل إلى مسامعي صباح اليوم أن عدد الضحايا قد وصل إلى تسعة، شعرت بالأسى والحزن من أجلهم جميعا، فكلهم من معارفي وأهل قريتي ... في اليومين الماضيين أخذت أعيد قراءة مذكرات جدي مرات ومرات، وفي كل مرة كنت أحاول أن أضيف لما قرأته، حرفا جديدا من تلك الحروف الذائبة والمطموسة على الوريقات المتآكلة، في محاولة لكشف المزيد عن هذا اللغز.
 أنا الآن أعرف يقينا من هو القاتل، إنه ذلك الطبيب (ماجد السواح)، كيف لم ينتبه أحد من قبل إلى أن تلك الجرائم بدأت بمقدمه للعمل في الوحدة الصحية!؟ ... كما أن ذبح الضحايا وتمزيق أوصالهم ليس شيئا صعبا على طبيب بارع يجيد استخدام المباضع الجراحية، ولكن الدليل الذي لا يقبل الدحض، هو أن القبر الذي يحوي أسفله هوة الشياطين كما وصفها جدي في مذكراته، هو قبر عائلته، عائلة (السواح) ... الآن يمكنني أن أرتب الحقائق بطريقة منطقية، أتصور أن جد هذا الطبيب كان ساحرا ملعونا، حاول إجراء بعض الطقوس الشيطانية بارتكابه لتلك الجرائم البشعة، ولكن جدي تمكن منه وانتصر عليه، وها هو حفيده يعود بعد خمسين عاما لاستكمال ما بدأه جده، وسيكون علي أن أتصدى له أنا أيضا، وأفعل به، ما فعله جدي بجده... في تلك اللحظة أتمنى لو كان الضابط (شريف) حيا، فبعض تلك المعلومات فقط كان كافيا بالنسبة له لجلب هذا الطبيب وسحقه، وإجباره على الاعتراف بجرائمة، ولكن لا بأس، فقد صار الأمر مسئوليتي الآن.
***
نظرت إلى عينيه، وأنا أقول له بلهجة قوية:
-          أنا أعرف الحقيقة ... أعرف ما فعلته.
زاغت عينا الطبيب (ماجد السواح)، وبدا فيهما الخوف، وهو ينهض بسرعة ليتأكد من إغلاق باب حجرة الكشف، قبل أن يسألني بصوت متردد:
-          ماذا تقول؟
كنت قد توجهت إلى الوحدة الصحية، وطلبت مقابلة الطبيب (ماجد) لمواجهته بمعرفتي للحقيقة، ولكن الممرض اللعين لم يسمح لي بمقابلته، وأصر على أن أحجز كشفا وانتظر دوري، وهكذا بعد ساعتين، عندما جاء دوري واجهته، فبدا مذعورا، خائفا ... قلت له:
-          أنا أعرف السبب الذي جعلك تعود، إنه ليس الحنين للجذور كما كنت تدعي.
زادت حدة التوتر على ملامحه، وهو يقول بسرعة:
-          صه ... أخفض صوتك، حتى لا يسمعك أحد!
أخذ يطقطق أصابعه، وهو يتحرك في الغرفة جيئة وذهابا، ثم أردف:
-          كيف عرفت؟
-          لدي مصادري.
-          وماذا تريد الآن؟
-          أريد أن تعترف بجرائمك وتوقف هذا الجنون.
كان الذعر باديا على وجهه، وهو يقول:
-          إذا عرفوا مكاني سيقتلونني.
-          عمن تتحدث؟
صمت للحظات مفكرا، ثم قال بصوت مستجدي:
-          أنت لا تعرف ما يفعله القمار بحياة الإنسان، إنه يدمرها تماما، والأسوء عندما تدمن هذا الأمر فتجد نفسك بين عشية وضحاها مدينا بمبالغ لا طاقة لك بسدادها، وملاحقا بطغمة من القتلة، هدفهم ليس استرداد المال، ولكن جعلك درسا وعبرة للآخرين، كان علي أن أهرب واختفي حتى لا أقع بين براثنهم.
كنت أفكر، ماذا يقول هذا المأفون؟، عن أي قمار يتحدث؟، فقاطعته بحدة:
-          أنا لا أتحدث عن ذلك ... أنا أتحدث عن جرائم القتل التي ارتكبتها مؤخرا، وتلك الطقوس الشيطانية التي تنتوي القيام بها.
صرخات، وسباب، ولعنات ... انتهت بقيامه بطردي من غرفته، وهو يلاحقني بسؤال أخير يحمل بعض المنطقية:
-          أي جرائم أيها الغبي؟.. هل تعتقد أنني فعلت كل ذلك أيها الأحمق؟
***
لم يفت ما حدث صباح اليوم في عضدي، ما زلت على يقيني بأن (ماجد السواح) هو القاتل، لهذا أقف أمام (فيلته) مترصدا في تلك الساعة من الليل، انتظر أن تنطفأ الأنوار، ويهدأ المكان حتى اقتحمه، وأعثر فيه على الدليل الذي يدين صاحبه ... صارت الفرصة مواتية الآن، اقتربت من (الفيلا) بخطوات متحسسة، كنت قد لاحظت منذ ساعة أن هناك نافذة مفتوحة في الطابق السفلي، لا يزيد ارتفاعها على المتر ونصف، توجهت إليها بحذر، وتعلقت على الإطار بذراعي، ثم رفعت جسدي، وألقيت به إلى الداخل، ارتطم جسدي بالأرض الخشبية فصنع بعض الجلبة، تجمدت في مكاني لثوان حتى تأكدت أن صاحب المكان لم ينتبه لتلك الجلبة ... كان المكان مظلما، أخرجت مصباح ضوئي صغير، وأخذت أحركه، إنها غرفة المكتب ...
أخذت أجول في المكان، لا أعرف بالضبط علام أبحث، كنت أشاهدهم يفعلون ذلك في الأفلام السينمائية والمسلسلات البوليسية، فيضع الحظ الدليل في طريقهم بعد ثوان، فيقبضون عليه بظفر ... أخذت أقلب في الأوراق الموجودة على سطح المكتب، وفي أدراجه، جميعها باللغة الإنجليزية وتبدو كأنها أشياء طبية، ولا يوجد بها ما يريب ... توجهت إلى الردهة ... هذه (الفيلا) كبيرة بحق، فالردهة تؤدي إلى صالة متسعة مفروشة بأثاث عتيق، ومجموعة من الغرف الجانبية، ورواق يؤدي إلى المطبخ وحمام الضيوف، ودرج يؤدي إلى الطابق الثاني ... قررت أن أتوجه إلى الدرج وأصعد للطابق الثاني، قبل أن أتعثر في شئ ما ملق على الأرض، فأسقط بجواره، ويسقط المصباح من يدي، ليتدحرج وهو يرسل ضوءه في المكان بشكل عشوائ، أزحف على يدي وقدمي نحو المصباح وألتقطه بسرعة، وأنا أوجهه إلى ذلك الشئ الذي تعثرت فيه، قبل أن أصرخ في فزع وأنا أحدق في تلك الجثة المذبوحة، وأحشائها التي انبثقت من جوفها في منظر بشع، أشعر بلذوجة على ساعدي ، فأوجه المصباح إليهما، فأكتشف أن جسدي كله مغطى بدماء ذلك المسكين ... المسكين الذي كنت أحسبه هو القاتل صباح اليوم، قبل أن يقرر القاتل في نفس الليلة أن تكون ضحيته العاشرة هي الطبيب (ماجد السواح)...
***
فجأة، تنبهت إلى حركة خافتة، من الواضح أنني لست وحدي في هذا المكان، فالقاتل مازال هنا بصحبتي، تنبهت كل حواسي، وأنطلق دفق الإدرينالين في جسدي، وأنا أوجه المصباح يمينا، ويسارا بحثا عن مصدر تلك الحركة ... أسمع صوت خطوات يأتي من ناحية المكتب، اندفعت بسرعة إلى هناك، لثانية تخيلت شبح يقفز من نافذة غرفة المكتب إلى خارج (الفيلا)، أسرعت إلى النافذة ونظرت منها إلى الخارج، الآن أرى القاتل على ضوء القمر الخافت، يعدو مبتعدا عن المكان وهو يرتدي معطفا طويلا ذو غطاء رأس.
قفزت من النافذة بسرعة لملاحقة ذلك القاتل ... تركت بيني وبينه مسافة آمنة، وشعرت بالراحة لأنه لم ينتبه إلى أنني في أثره ... غادر القاتل مزرعة (السواح)، ثم خاض في الزراعات المجاورة، وعبر الطريق العام، ثم توجه إلى درب ترابي تغطيه أشجار الكافور العملاقة، بجوار الترعة ... أعرف إلى أين يتوجه هذا الملعون! إنه يتوجه إلى منطقة المقابر! ... في الدقائق التالية خضت نفس التجربة التي خاضها جدي من قبل خمسين عاما، وخطها في مذكراته ... وصل القاتل إلى القبر ذو الشاهدين، وفتحه، وزحف داخله، لحقت به بعد أن وصل إلى مسامعي صوت الترانيم الشيطانية تنبعث من داخله، أعرف ماذا ينتظرني في الداخل، قبر ضيق، يتسع إلى نفق بزاوية حادة، يؤدي إلى غرفة متسعة مضاءة بالمشاعل، لم يتغير المكان كثيرا عما وصفه جدي.
وصلت إلى الغرفة المضاءة بالمشاعل لألمح القاتل الذي يخفي وجهه بغطاء رأس معطفه، وقد انتهى من ترانيمه ووضع الكتاب جانبا، وبدأت بحيرة الدماء ا لحامية في حركتها الدوامية والشرارت الحارقة التي تنبعث من سطحها فتطال سطح الغرفة الحجري، كان المشهد مرعبا، ومروعا، ولم يكن وصف جدي له في مذكراته، ومعرفتي المسبقة به كافيان، ليثبتانني وأنا أراه بأم عيني، لذا جثوت على ركبتي في فزع، وأنا أراقب سطح البحيرة وهو يرتفع لأعلى، والريح الساخنة، الملتهبة، وهي تنبعث في المكان، لتجثم على صدري وروحي وتشعرني بأنني سأموت محترقا أو مختنقا في أي لحظة، ولكن لحسن الحظ بدأت سرعة الدوامة في الانخفاض تدريجيا وارتدت الدماء إلى مكانها، وبدأت البحيرة تنحسر لتكشف تحتها عن هوة الشياطين ... انبعثت أصوات مرعبة من داخل الهوة لم أسمع لها مثيلا من قبل في حياتي، أصوات قادرة على أن تذيب أعصابك، وتفقدك السيطرة على أعضائك ... قاومت كل تلك المشاعر وأنا اعتدل على قدمي، واقترب من القاتل ذو المعطف، وأخاطبه بصوت حاولت أن أجعله قويا، ولكنه خرج دون إرادتي ضعيفا، وخائرا:
-          من أنت؟ ولماذا تفعل ذلك؟
التفت إلي القاتل، فكانت المفاجأة الصاعقة التي حطمت ما بقى من جهازي العصبي وحولته إلى رماد تذروه الريح ... كان القاتل يشبهني تماما، بل كأنه أنا! ... كنت كمن ينظر في المرآة ... فصرخت به:
-          من أنت؟
أشار بسبابته نحو صدري وهو يبتسم، ثم بدأت صورته تهتز وتتلاشى تدريجيا، حتى اختفى تماما، تلاحقه لعناتي وتساؤلاتي:
-          ماذا تقصد؟ لماذا تشير نحوي؟
فجأة، وجدت نفسي أقف وحيدا في تلك الغرفة، تختلجني مشاعر غير قابلة للوصف، انتبهت إلى أنني أرتدي معطف أسود طويل، ذو غطاء رأس، متى ارتديته، لقد كان على القاتل منذ لحظات؟.. صوت من داخل عقلي يخبرني أنني كنت أرتديه طوال الوقت، كنت أرتديه وأنا أقتل (سالم) و(عطوة)، وكنت أرتديه وأنا أقتل (علاء) و(شريف) و(ماجد) ... صرخت بصوت عال:
-          لا لست أنا القاتل.
فجأة قفزت إلى ذهني تلك الذكريات، ذكريات تلك العيون المحدقة في وجهي بدهشة، عيون أصدقائي، ومعارفي وأنا أذبحهم وأمزق أجسادهم ... لقد كنت أنا القاتل الذي كنت أبحث عنه طوال الوقت، لقد كنت أنا القاتل دون أن أدري ... أي لعنة دفعنتي لذلك الفعل الشنيع ... سقطت على الأرض وأنا أبكي، وأصرخ، وألطم خدي ... هل فعل جدي مثل فعلتي؟.. هل اكتشف أيضا أنه هو القاتل الذي كان يلاحقه؟.. هل تلك هي الحقيقة المطموسة من المذكرات اللعينة؟
انتبه الآن إلى أصوات الشياطين التي تعتلي جدران الهوة وقد صارت قريبة للغاية، لن أنظر نحوها، لن أزيد حالتي طرا، لقد نجح جدي في تأجيل تلك الكارثة في الماضي، وتأخيرها إلى زمني، لهذا كان يعتذر لابن دمه في آخر مذكراته، لقد عرف أن إبنا من نسله سيواجه هذا المصير ... لا أعرف ماذا فعل، ولكن علي أن أكرره ... وبسرعة.
***
-          أيها الجبان أنت لن تجروء على فعلها أبدا.
-          لا أنا لست جبانا.
-          لقد فعلناها جميعا قبلك، أما أنت فلا تقدر.
-          ولكنني لم أر أحدا منكم يفعلها.
-          لقد فعلناها في الأسبوع الماضي، أليس كذلك يا أصحاب؟
أومأ الأطفال الثلاثة برؤوسهم تأييدا لأكبرهم، الذي يحاول إقناع خامسهم بالدخول للقبر المفتوح ويظل بداخله وحيدا لدقائق دليلا على رجولته ... فكر الطفل الضحية، وتنازعته نوازغ الرجولة، وهواجس الخوف للحظات، هو ينظر إلى ظلمة القبر المفتوح، فحثه الطفل الأكبر قائلا:
-          إما أن تفعلها الآن، أو تصبح جبان الشلة إلى الأبد.
لم يكن أمام الطفل وسيلة للهرب، فالأطفال يصبحون أحيانا قساة وجبابرة حينما يتمكنون من بعضهم بعضا، هكذا وجد نفسه يزحف إلى داخل ظلمة القبر، تضمه جدرانه الضيقة، وتخنقة رائحة العفن والموت ... أغلق الأطفال القبر على صاحبهم، وأخرج أكبرهم قفلا ضخما كان يخفيه في جيبه، ثم أحكم أغلاق باب القبر الحديدي، انتبه الطفل المحبوس داخل القبر لصوت القفل، فصرخ:
-          ماذا تفعلون؟.. ما هذا؟
انطلقت صيحات الأطفال الساخرة والمتشفية من الخارج، قبل أن يأتيه صوت أكبرهم:
-          لقد خدعناك ... ستبقى عندك للأبد.
أخذ الطفل يصرخ في جنون هستيري، وهو يتسمع أصوات أصحابه في الخارج، وهم يبتعدون عن المكان متضاحكين في ظفر ... في البداية حسب الطفل أن أصحابه سيعودون ليفتحوا له باب القبر بعد قليل، ولكن بعد ساعتين أدرك أن هذا لن يحدث أبدا، أخذ يحاول فتح الباب من الداخل أو الحفر أسفل منه ولكن كل محاولاته لم تنجح سوى في تكسير أظفاره وإدماء براهمه ...
فجأة، ينتبه لحركة خافتة من مكان بجانبه، هناك شئ ما يزحف نحوه، لا إنهم أكثر من واحد، إنهم يقتربون منه، يتلمسونه بأصابعهم الباردة في جشع، يهمسون في أذنه بأصوات شيطانية، بكلمات لا يفهم معانيها ... أصواتهم تطن في أذنه ويشعر بها تخترق أذنه وعقله ... يصرخ ويكتم أذنيه بكفيه، ويحاول أن يدفعهم بعيدا عنه، فيتراجعون للخلف، ثم يتكالبون عليه، ويتلمسونه ويهمسون في أذنه من جديد ... انطلقت صرخته عالية مدوية، فكتمتها جدران القبر، وتواصلت صرخاته حتى غاب عن الوعي.
***
في ظهر اليوم التالي تجمع أهل القرية بعد أن صلوا على ميتهم، وحملوه على أكتافهم حتى مرقده الأخير، إلى قبره المعد لاستقباله، تعجب (الجَبان) بأن هناك قفلا على القبر، فحطمه بصخرة وفتح باب القبر الحديدي، ودخله ليعده لاستقبال صاحبه، قبل أن تنبعث صرخاته، وهو يقول:
-          يوجد طفل هنا.
قبل أن يطل برأسه من فوهة القبر، ويناول الطفل للرجال في الخارج، فتفحصه أحدهم، قبل أن يقول:
-          إنه حي!
قال رجل آخر:
-          أنا أعرف هذا الطفل إنه (نصر الحمادي)!
أيام مرت على تلك الواقعة، وتعافى (نصر) منها صحيا ونفسيا، ولكنه نسي تماما ما جرى له فيها، وكانت إجابته لكل من سأله عما حدث له داخل القبر في تلك الليلة؛ هي أنه فقد الوعي في اللحظات الأولى، ولا يتذكر شيئا مما حدث بعدها ... الحقيقة التي لا يعرفها الجميع، أن بذرة اللعنة زرعت في باطن الطفل (نصر الحمادي) في تلك الليلة، هو لا يكذب عندما يقول أنه لا يعرف ولا يتذكره شيئا مما حدث له بالفعل،  ولكن عندما تأتي اللحظة المناسبة، ستعلن اللعنة عن نفسها، وسيكون عليه أن يفي بالعهد رغما عنه!.. إنها لعنة لا تنتهي حتى تحقق أهدافها، لعنة تسري في الدماء، وتتوارثها الأجيال.
***
تتعالى أصوات الشياطين التي تعتلي جدران الهوة نحو سطحها، أنظر إلى داخل الهوة رغما عني، فتصرعني أشكال تلك الشياطين وأحجامهم، لا ... لا يوجد بشر وجهاز عصبي قادر على تحمل كل تلك الأهوال، لو وصل هؤلاء إلى السطح فستحدث كارثة كبرى، لا يستطيع أحد توقع تبعاتها، قد تكون تلك هي بداية النهاية ... جعلتني تلك الفكرة أفيق من حالة الذهول، أتذكر أن جدي بحث حوله عن شئ يساعده، وعثر عليه، ولكنني لا أعرف ماهو! لا يوجد شئ هنا إلا ذلك الكتاب و ... صرخت بسرعة:
-          إنه الكتاب.
التقطت الكتاب بسرعة ، شعرت بنفور شديد، فصفحات الكتاب مصنوعة من الجلد البشري المدموغ ... كيف عرفت ذلك!؟.. لا أعرف ... عرفته بنفس الطريقة التي جعلتني أفهم معاني تلك النقوش الشيطانية التي خطت عليها بالدماء ... كان الكتاب يحتوي بعض التعاويذ الشيطانية الشريرة، أولها تعويذة الأرواح العشرة لفتح البوابة ... الأصوات تتعالى من الهوة وتقترب، ترتعش أصابعي وهي تقلب بسرعة في صفحات الكتاب، المزيد من التعاويذ شيطانية لفعل كل شئ شرير ... ضج المكان بعويل الشياطين، إنهم على وشك مغادرة الهوة ... فجأة وقعت عيناي على التعويذة التي كنت أبحث عنها، قرأتها بسرعة، ثم بحثت حولي حتى عثرت على النصل ذو اليد التي تحمل رأس الشيطان، اقتربت من الهوة، وألقيت نظرة أخرى إلى داخلها، انتصب شعر رأسي وساعداي، عندما لمحت أقرب الشياطين وقد صار على بعد مئات الأمتار من سطح الهوة، وهو يعدو على جدران الهوة قائما بقدميه اللتان تشبهان أقدام البعير، كان ينظر مباشرة نحو عيني مهددا، شعرت بلهيب عينيه يحرقان جسدي ... حركت النصل بسرعة، وشققت كف يدي فسالت منه الدماء، مددت يدي حتى أصبحت الدماء تتقاطر إلى داخل الهوة، ثم بدأت أتلو التعويذة بسرعة وبحروف مرتعدة، وعيناي تتابعان الشيطان الذي صار على مسافة عشرة أمتار من السطح، قفز الشيطان قفزة طويلة ليخرج من الهوة، مع انتهائي من آخر كلمات التعويذة، انفجار هائل ودوامة من الهواء الملتهب تطيح بي في المكان كدمية، قبل أن تلقى بي بقوة لاصطدم بجدار الغرفة وأسقط على الأرض، مضعضعا، وخائر القوى، انتصبت بجزعي وأنا أتلفت حولي ... لقد نجحت ... لقد نجحت ... لقد نجحت في تأجيل التعويذة لأبلي بها واحدا من أبناء دمي.
***
زحفت إلى خارج القبر، أحمل في يميني كتاب التعاويذ، أشعر بالحالة التي كان عليها جدي ووصفها في  مذكراته، أشعر بالبرد وبمبادئ الحمى وبأنني سأفقد الوعي بعد لحظات، علي أن استجمع ما بقى بي من طاقة حتى اعود إلى منزلي لأنهار فيه، لا اشعر بالنقمة أو الحقد على جدي لما فعله بي، بل أتفهمه تماما ... أشعر فقط بالأسى على العشرة أرواح البريئة التي قتلتها بيدي، يخاطبني ضميري، بأن اعترف وأسلم نفسي للشرطة، ولكن من سيصدق أنني فعلت ذلك تحت تأثير اللعنة، سأهدر بذلك أنا ايضا حياتي دون جدوى، كيف تمكن جدي من عيش حياته وهو يخفي هذا السر، كيف تحمله كاهله ... سأحاول البحث عن طريقة لكسر هذه اللعنة، قد يفيدني هذا الكتاب اللعين الذي جلبته معي، جدي لم يفعل ذلك، وهذا تغيير بسيط عما حدث في الماضي ... وحتى لو لم أجد طريقة لكسر اللعنة، أعلم يقينا أنني الأخير من نسل جدي ودمه، وبموتي ستنكسر اللعنة من تلقاء نفسها، لن أتزوج ولن أنجب طفلا ليحمل هذه اللعنة من بعدي إلا لو وجدت طريقة لكسرها ... أما لو فشلت فسيكون خياري الوحيد هو ان أغادر هذه الحياة دون أن أورث لعنتي لأحد من نسلي.
.. (تمت) ..
 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق