الخميس، 2 مارس 2017

مثلث التنين


قصة رعب قصيرة بعنوان ... (مثلث التنين – الجزء الأول)
لم يكن الصحفي البريطاني (جيرارد كوك) يحمل معه ملابس تصلح لذلك الجو العاصف، فكل ماجلبه معه في حقيبة سفره، هي القمصان المزركشة، والسراويل القصيرة، وملابس وأدوات السباحة والاستجمام التي تلائم أجواء الإجازات في المناطق المدارية الحارة ... ولم لا! فجزيرة (أوجاشيما) هي جزيرة بركانية خصبة تقع ضمن الحزام الناري للمحيط الهادي، وهي حارة المناخ طوال العام، وتعتبر هي الجزيرة الأقصى ضمن جزر الجنوب الياباني، كما أنها تقع تقريبا في منتصف المسافة بين الساحل الياباني، وجزيرة (فرموزا/تايوان) ... جاء (جيرارد كوك) إلى جزيرة (أوجاشيما) بناء على نصيحة صديقه الياباني، الذي أخبره أنه سيجد فيها مزيجا من متعة الأجواء المدارية، لطبيعة الجزيرة الآسرة بهضبتها الخضراء الخصبة، وجناتها النباتية، وشاطئها النظيف برماله اللؤلؤية،  وبحرها الشفاف، وليلها الصافي ونجومه الساطعة، وذلك إلى جانب الهدوء وراحة الأعصاب، فالجزيرة هي جزيرة صغيرة، قاصية، و بعيدة عن صخب السائحين، كما أن عدد سكانها الدائمون لا يزيد عن المئتي نسمة، نصفهم من الحسناوات، والجزيرة تحوي فندقا صغيرا ولكنه نظيف وراق،  وبه كل المرافق الضرورية، والخدمات الفندقية المحترفة التي قد يحتاجها رواده، وبالجزيرة أيضا حانة صغيرة وبضعة محال تجارية، فمن يحتاج لأكثر من ذلك حتى يحظى بإجازة رائعة ... كان اليوم الأول (لروبرت) على الجزيرة واعدا، قضاه بين الشاطئ والمسبح وتذوق أطايب الطعام، والقيام بجولة في السيارة المفتوحة لرؤية الطبيعة البكر، العذبة، كما لم يرها من قبل ... ولكنه فوجئ في اليوم التالي بتلك الكارثة، عاصفة مدارية تحمل أمطارا ثقيلا كالحصى، وغيوما كثيفة أحاطت بالجزيرة من كل جانب فأحالت نهارها ليلا. وجوا بارد يثير الرعدة والقشعريرة في الأجساد.
غادر (جيرارد كوك) الفندق متوجها إلى الحانة القريبة، وهو يسب ويلعن حظه العاثر، كان يغطي رأسه بمظله من القماش، أعطاها له عامل الاستقبال في الفندق وهو يرجوه أن يبق في الفندق ولا يخرج في تلك الظروف الجوية، ولكن (جيرارد) كان عنيدا، يحمل رأسا من الصخر كما يصفه زملاؤه في الجريدة، لهذا خرج في ثياب خفيفه، متقيا بتلك المظلة الهزيلة، التي سرعان ما تمزقت بفعل الرياح والأمطار الثقيلة، ليجد نفسه محاصرا بتلك الأجواء العاصفة، تغرقه الأمطار، وتدفعه الرياح، ويطارده الرعد والبرق ... أنطلق (جيرارد) يعدو في الطريق الترابي والذي تحول إلى مستنقع طيني، تغوص فيه قدماه حتى ركبتيه، كانت الحانة قريبة لحسن الحظ، وصلها بعد دقيقة من العدو، فتح بابها بسرعة، ودخل إليها، وأغلق الباب خلفه، ووقف في منتصفها يلهث وقد أغرقت المياة والطين كل ذرة من كيانه ... توجه إلى البار، فقابله الساقي بابتسامة وهو يناوله منشفة، فشكره وهو يقول:
-          ما هذا الطقس؟
أجابه الساقي، بإنجليزية ركيكة، غليظة، تصدر من قاع الحنجرة، كعادة أهل الشرق الأقصى:
-          تلك الأجواء لم تحدث منذ عشر سنوات.
توقف للحظة ثم أردف:
-          في الواقع، أن ذلك الطقس يحدث مرة كل عشر سنوات، ويستمر لعدة أيام، هكذا أخبرنا الأجداد، وهكذا خبرنا بأنفسنا.
أطلق (جيرارد) سبة قصيرة، وهو يقول:
-          ولقد ترك حظي اللعين السنوات العشر، واختار تلك الأيام، ليأتي بي إلى هذا الجحيم.
أعاد المنشفة المبتلة للساقي، وهو يقول:
-          أعد لي شرابا منعشا، أريد شيئا يدفأني.
أعد له الساقي الشراب بطريقة بارعة، وببعض الحركات الأكروباتية كانت لتبهره في الظروف العادية، ولكن في تلك الظروف، رآها سمجة وليس لها داعي ... تناول (جيرارد) الشراب من الساقي، وتوجه إلى طاولة قريبة، وجلس عليها ليتابع التلفاز الذي كان يعرض قناة محلية تقدم باللغة الإنجليزية برنامجا عن بعض الأحداث الماورائية، كان مقدم البرنامج يتحدث في حماس وهو يقول:
-          في ديسمبر عام ١٩٧٣ أقلعت طائرة من الفلبين متوجهة نحو اليابان، وعلى متنها سبعة وخمسون راكبا، إضافة إلى طاقمها المكون من خمسة أفراد، و لكن بعد الإقلاع بأربعين دقيقة فقط، اختفت الطائرة من على شاشات الرادار ...  بحثوا عنها طويلاً ولكن بلا جدوى، حتى عثروا عليها قبل شهر واحد فقط!.. أي بعد سبعة وعشرين عاماً على اختفائها! بعد أن ظهرت فجأة على شاشات الرادار، لتهبط في مطار (أوساكا)، وهي توشك على الاصطدام بطائرة أخرى مقلعة ... وعندما توجه إليها رجال أمن المطار، اكتشفوا أن كل ركابها والطاقم قد تحولوا إلى هياكل عظمية!.. إثنان وستون هيكلا عظميا يرتدون ثيابهم التي كانوا يلبسونها، ويجلسون في مقاعدهم في نظام، وعلى نفس حالهم الذي كانوا عليه، وحتى الطيار نفسه ومساعده كانت أصابعهما العظمية، ممسكة بأذرع وأجهزة القيادة ... وكأنهم جميعا تحولوا إلى تلك الهياكل العظمية بغتة!
أطلق (جيرارد) ضحكة متهكمة بصوت عالي، وهو يقول:
-          خرافات.
-          بالتأكيد ليست خرافات.
كان ذلك هو صوت رجل في العقد الخامس من العمر، يجلس في ركن مظلم من المكان، لم ينتبه (جيرارد) لوجوده قبل تلك اللحظة ... قال (جيرارد) مندهشا من رد الرجل:
-          عذرا ... ماذا تقول؟
-          هذه الأحداث ليست خرافات، وهناك شهود عليها، وعلى غيرها، سفن، وطائرات، وقوارب صيد كلها اختفت في ظروف غامضة ... ابتلعها جميعا مثلث التنين.
حمل (جيرارد) مشروبه وتوجه إلى طاولة الرجل، واستأذن منه للجلوس، فأذن له الرجل ... قال (جيرارد) وقد شعر بحسه الصحفي، أن هذا الرجل الغامض قد يقوده لسبق أو تقرير صحفي جيد:
-          مثلث التنين! .. عن أي شئ تتحدث يا سيدي!؟
حدق الرجل في وجهه للحظات، ثم قال:
-          الغريب، أنك هنا في هذا المكان على مرمى حجر، من مركز مثلث التنين، ومن أقرب يابسة إليه، وفي تلك الظروف الجوية التي يقول الشهود أن تلك الظواهر تنشط فيها.
نادى (جيرارد) على الساقي ليجلب مشروبا آخر على حسابه للرجل، ثم مد يده ليصافحه وهو يقول:
-          أنا (جيرارد كوك) صحفي، حظي العاثر جاء بي إلى هنا في تلك الظروف الجوية!
ابتسم الرجل وهو يصافحه بيد باردة، خشنة، وهو يقول:
-          أنا (توم شيبرد) أمريكي، أعمل بالطيران التجاري، دائما أكون هنا في تلك الظروف.
جاء الساقي وهو يحمل المشروب، ووضعه أمام (جيرارد)، فدفعه الأخير ناحية (توم)، وهو يقول:
-          تفضل، هذا على حسابي.
حدق الساقي في وجه (جيرارد) للحظة، ثم مط شفتيه متعجبا، قبل أن يرحل عائدا إلى عمله ... قال (توم):
-          أعذرني، لا استطيع أن أشرب شيئا، علي أن أذهب الآن.
-          ولكنني كنت أريد أن أعرف منك قصة مثلث التنين.
-          السكان المحليون هنا يعرفون كل شئ عن ذلك المثلث الغامض، وسيحكون لك عشرات قصص الاختفاء الغامضة عنه.
-          تقول أنه قريب من هنا.
-          مركز ذلك المثلث يبعد أربعين ميل بحري فقط ناحية الشرق.
نهض (توم) عازما الرحيل، فأمسك (جيرارد) بيده، لم يكن يريد أن يبقى وحده في هذا المكان، كما أن هذا الرجل تبدو على ملامحه أنه يحمل قصة أو سرا غامضا، لذا سأله (جيرارد):
-          اعتقد أن لديك قصة تختلف كثيرا، عما يرويه العامة!
نظر إليه (توم) للحظات ثم قال:
-          حسنا.
ثم أخرج من جيب معطفه مفكرة قديمة، أوراقها مصفرة، وأطرافها مهترئة، وهو يقول:
-          هذه مفكرة، تحكي رواية حقيقية، عن طيار أمريكي من أيام الحرب العالمية الثانية، سقط في فخ هذا المثلث، وعاد ليحكي ما رآه ... اقرأ تلك المذكرة، وقد نتقابل مرة أخرى لأحكي لك المزيد.
ذهب (توم) وغادر الحانة، وترك (جيرارد) وحده يتفحص المفكرة للحظات، ثم ألقاها، على الطاولة أمامه، وأمسك بكوب الشراب وتجرع ما فيه في جرعة واحدة.
***
في اليوم التالي توقفت العاصفة فجأة، كما بدأت فجأة، وعاد مناخ الجزيرة إلى طبيعته المدارية الحارة، وامتصت الأرض البكر معظم المياة في ساعات قليلة، وجففت الشمس الحارقة ما بقي منها، فعادت الجزيرة لما كانت عليه قبل العاصفة، واصبح بإمكان (جيرارد) أن يستمتع بالإجازة التي كان يحلم بها ... ليومين تاليين نال (جيرارد) ما كان يصبو إليه وبأقصى قدر تسمح به ساعات يومه، الماء، الخضرة، الوجه الحسن، الطعام، الشراب، الرقص، الغناء، وفي اليوم الثالث قرر أن يستريح في غرفته بعد أن شعر بالقليل من الملل، حينها تنبه إلى تلك المفكرة العتيقة التي أعطاها إليه (توم) وألقاها هو حينها على كومود الغرفة دون اهتمام ... الآن يشعر برغبة في قرائتها ... مدد (جيرارد) جسده على الفراش وأراح ظهره، وأمسك بالمفكرة، وفتحها على صفحتها الأولى.
***
السبت 8 أغسطس عام 1942
وضعت صورة (إيمليا) في مكانها الأثير فوق لوحة عدادات الطائرة، وبدأت أتأملها بشجن للحظات، تلك الصورة كانت دائما معي في أوقات الانتصار وحتى في أوقات الانكسار، وفي كل تلك المعارك التي خضناها في المحيط الهادئ ... أفكر في ملامح وجهها، وفي لمسة يدها الرقيقة، الحانية، وفي نظرة عينيها البريئة، الآسرة، وفي صوتها الدافئ وهو يهمس في أذني:
-          عد سالما.
-          سأعود يا حبيبتي ... سأعود من أجلك.
اليوم أفكر أنني سأعود ... سأعود من أجل أبننا ... سأعود لكي أصحبه لنضع الزهور على قبر أمه، على قبر حبيبتي (إيمليا) ... انحدرت عبرة دافئة على وجنتي ... كم أشتاق لك يا حبيبتي ... كم أشعر بالحزن والألم عندما أتذكر أنني لم أكن بجانبك عندما أضناك المرض ... آسف ياحبيبتي ... سامحيني.
أشار لنا الفتى بالاستعداد، فارتفعت أصوات هدير محركات الطائرات الحربية، كنت الأول في الصف، فأشار لى بإبهامه، أدرت المحرك على سرعته القصوى، فانطلقت الطائرة على المدرج، تحتك إطاراتها به بعنف، حتى وصلت إلى نهايته، قبل أن تغادره بزاوية مائلة، حرجة، وتبدأ في الارتفاع عن حاملة الطائرات، نحو الأعلى، نحو السماء ... درنا في حلقات حتى اكتمل تحليق السرب، فأعطانا القائد إشارة للإنطلاق نحو مواقع العدو، لنضرب بعض الأهداف العسكرية التي تم تحديدها آنفا.
طرنا فوق سطح المحيط ليلاً على أرتفاع منخفض لنتخفى من الرادارات، حتى وصلنا إلى الموقع المستهدف، فانطلقت أصوات صفارات الإنذار من كل مكان، مؤذنة بأنهم كشفوا هجومنا المباغت، وتحضروا له ... فجأة تحولت السماء إلى جحيم، وأنهال علينا وابل كثيف من نيران المدفعية المضادة للطائرات، فتحول الليل إلى نهار، أصيبت الطائرتين اللتين تحلقان أمامي، فسقطتا كقالبين من الآجر في قلب المحيط ...  تطلعت إلى صورة  (إيمليا) للحظة، توقف فيها الزمن، واختفى هدير المحركات، وانفجارات القنابل، وعم السكون، والسكينة، تحسست الصورة بأصابعي، وجددت وعدي لصاحبتها بأن أعود سالماً من أجل إبننا ... انفجار هائل على بعد أمتار قليلة من طائرتي أعادني إلى أرض الواقع، فانحرفت بالطائرة تجاه الشرق، تلاحقني نيران المدافع الكثيفة.
تفرق السرب في تشكيل تدربنا عليه، فتشتت نيران المدافع، انطلقت بطائرتي نحو الهدف الأول، وكان مستودعا للزخيرة فأسقطت عليه أربع قذائف، ثم ابتعدت، بعد ثوان وصل إلى مسامعي صوت الانفجار، ثم بدأت طائرتي تهتز من قوته ... شعرت ببعض الظفر، فبعد موت (إيمليا) أصبح من الصعب أن استشعر أي مشاعر إيجابية في باطني، أخبرت القائد، فجائني رده، بأننا سنكتفي بهذا النجاح، وسيتم إلغاء المهمة، وقد حان وقت الانسحاب ... تبعته، أنا وطائرة أخرى، ثلاث طائرات فقط تبقت من سربنا الذي كان يضم عشر طائرات، لا اعتقد أن هذا يعد نجاحا، بالنسبة لي لقد كانت هزيمة فادحة، وخسارة لمزيد من الرفقاء.
فجأة جاءني صوت القائد ينبهني بأن لدينا رفقة، وهناك سرب من خمس طائرات يابانية يلاحقنا، أمرنا القائد بالتفرق، فاستدرت تجاه الغرب نحو عمق المحيط بعيدا عن اليابسة، تبعتني طائرتان من طائرات العدو، بوابل من الرصاصات، انخفضت بالطائرة نحو سطح المحيط، ثم بدأت أناور بها يميناً و يساراً في محاولة لتفادي الرصاص، شعرت ببعض الطلقات تخترق جسم الطائرة بالفعل، فزدت من سرعتي ومن مناوراتي، فجأة واجهنا جدار من الغيوم السوداء الكثيفة، روعتني كثافة أشعة البرق التي تضرب فيه يمينا ويسارا، إنها عاصفة هوجاء، عاصفة عملاقة، مرعبة، لم أر لها مثيلا من قبل ... كان مهاجمي قد تمكنا من محاصرتي تماما، فكرت أنه بعد ثوان قليلة سيتمكنان من الإطاحة بي، وهكذا وجدت نفسي انطلق رأسا إلى قلب العاصفة واخترقها، نظرت لبوصلة الطائرة فوجدتها تتقافز في هستيرية، وبدأت جميع عدادات ومؤشرات الطائرة تعطي قراءات غير منطقية، لقد أصيبت جميعها بالجنون.
اخترقت طائرتي جدار الغيوم العاصف، حتى صارت خلفه، فوجدت نفسي فجأة في منطقة معتدلة الأجواء، شمسها بازغة بلا أي سحابة واحدة تحجبها، وبحرها هادئ وفي منتصفه جزيرة صخرية تسبح في غيامة من الضباب، وكأن ذلك الجدار كان بمثابة بوابة، عبرت بي إلى عالم أو زمن آخر .... فجأة ... انشق سطح المحيط لتخرج منه أفعى ضخمة لتلتقم في فمها إحدى الطائرتين اللتين لحقتا بي إلى خلف جدار الغيوم، الغريب أن الطائرة عبرت فم الأفعى كأنها صورة هولوجرامية أو كأنها أفعى من الدخان ... مرت تلك الطائرة إلى جانبي، وهي تحلق بسرعة عالية وزاوية سقوط خطرتين نحو سطح المحيط، قبل أن تصطدم به بقوة وتتحطم،  ألجمني الذهول عندما استطعت في اللحظات القليلة التي مرت فيها الطائرة إلى جواري أن أرى قائدها الذي تحول إلى هيكل عظمي!.. وقبل أن أفيق من الذهول خرجت أفعتان أخرتان من الماء، أحداهما توجهت صوبي والثانية صوب الطائرة الأخرى، كان رد فعلي سريعا عكس قائد الطائرة الأخرى، الذي التقمته الأفعى بسهولة فكان مصيره كصاحبه الأول، انخفضت نحو اليسار بزاوية حادة ثم اعتدلت وأنا أحلق على ارتفاع (سنتيمترات) قليلة من سطح المحيط، نجحت تلك المناورة الجريئة في تفادي فم الأفعى الضخم، الذي مر بجوار طارتي تماما، هنا، انتبهت لخروج أفاعي أخرى من سطح المحيط ... مهلا إنها ليست أفاعي عملاقة تطال السماء، بل جميعها رؤوس لذلك الجسد الرهيب الذى خرج من الماء للتو ... جسد التنين!
(انتهى الجزء الأول – ويليه الجزء الثاني)

قصة رعب قصيرة بعنوان ... (مثلث التنين – الجزء الثاني)

ملخص ما سبق ... يحاول الصحفي البريطاني (جيرارد كوك) الحصول على إجازة مثالية على جزيرة (أوجاشيما) المنعزلة في بحر اليابان، ولكنه يصطدم بذلك الطقس الممطر، العاصف، المخالف تماما لطبيعة الجزيرة المدارية، وجوها الحار طيلة العام ... يقابل في حانة الجزيرة رجل أمريكي يهديه مفكرة عتيقة لطيار من أيام الحرب العالمية الثانية، يحكي فيها تجربته الخوارقية، التي خاضها إلى داخل مثلث التنين، وعاد ليحكي عنها ... يقرأ (جيرارد) المفكرة التي يحكي فيها الطيار عن معركة جوية عنيفة، تنتهي بمواجهة مع تنين مخيف، يلتقم البشر بفمه فيتحولون في ثانية واحدة إلى هياكل عظمية...
.
طرقات مهذبة على باب الغرفة قاطعت استغراق (جيرارد) التام في قراءة المفكرة، التي جذبت اهتمامه، وشحذت كل حواسه ... صاح (جيرارد) في الطارق:
-          تفضل.
فتح الباب، ودخل منه عامل المطعم وهو يدفع أمامه عربة ذات عجلات، تتراقص فوقها بعض أطباق الطعام، وطقم شاي خزفي عليه رسمة تنين ... أشار (جيرارد) للعامل، فوضع الأخير الطعام على الطاولة المجاورة للفراش، ثم أومأ (لجيرارد) بتحية مهذبة، وغادر الغرفة ... هرع (جيرارد) إلى تناول الإفطار الذي طلبه في غرفته، كان عقله مشغول بما قرأه في مفكرة طيار الأمريكي عن التنين العملاق صاحب الرؤوس الثمانية، قبل أن ينتهي منه سريعا، ويعود إلى فراشه، ويفتح المفكرة، ويواصل قراءتها.
***
نجحت تلك المناورة الخطرة في جعل الطائرة تتفادي رأس التنين ببوصات قليلة ... كان علي أن ابتعد بسرعة قبل أن يهاجمني مرة أخرى، أو تحاصرني باقي رؤوسه الثمانية ... كان أملي الوحيد في التوجه إلى الجزيرة، لن أخاطر بمحاولة اختراق جدار الغيوم العاصف من جديد ... لذا وجهت المقود ناحية الجزيرة بأقصى سرعة تسمح بها محركات طائرتي المجهدة، وأنا اتلفت خلفي في ذعر، ليصعقني مشهد ذلك التنين الذي شرع في ملاحقتي برؤوسه التي تتلوى فوق سطح الماء بطريقة ثعبانية مخيفة ...
كانت الجزيرة صخرية في معظمها، ولكن تنتشر بها بعض البقاع الخضراء المحدودة والغابات الشجرية، وفي منتصفها كانت هناك تلك القلعة العملاقة التي ترتفع حتى السماء، كان لها باب واحد كبير مساحته كمساحة ملعب كرة المضرب، لا أحتاج للكثير من الذكاء لأدرك أن قاطن تلك القلعة الضخمة ذات الباب الكبير بالتأكيد مخلوق ضخم ... مخلوق بحجم ذلك التنين الذي يلاحقني الآن ... نظرة أخرى إلى ذلك التنين أثارت القشعريرة في كل ذرة في جسدي، فبتلك السرعة التي يسبح بها لن يكون من الصعب عليه أن يلحق بي بعد ثوان قليلة ... كانت طائرتي تحلق فوق اليابسة الآن، كان علي أن استخدم كل مهارتي وخبرتي في قيادة الطائرات، للقيام بمناورة أخيرة، لأهبط بهذه الطائرة على تلك المساحة الحجرية المنبسطة، وعلي أن أفعل ذلك في ثوان قليلة ... كنت أطير بزاوية حادة، وبسرعة كبيرة، متوجها نحو مسار هبوط قصير للغاية ... جذبت المقود بشدة للخلف في محاولة لرفع مقدمة الطيارة وتهدئة سرعتها قبل ثانية واحدة من اصطدام عجلاتها بالأرض الصخرية، أخذت الطائرة تتقافز فوق الأرض المتعرجة كالكرة المجنونة، جذبت المكابح بقوة شديدة، حتى خلت أن ذراع المكابح سينخلع في يدي، أخذت الطائرة ترتج وتتراقص في هستيرية، شعرت أنها ستتحطم بعد ثانية، ولكنها استجابت في النهاية، وبدأت سرعتها تتناقص أخيرا، حتى توقفت تماما وسط سحابة من الدخان والحصى.
كانت تلك هي فرصتي، لأقفز من من الطائرة بسرعة متخفيا في الدخان، قبل أن أعدو في هستيرية إلى غابة قريبة وأتخفى بين أشجارها، وأنا أراقب التنين الذي اقترب من الطائرة بعد أن صعد بجسده العملاق فوق سطح الجزيرة ... كان النظر للتنين من تلك المسافة القريبة، ورؤيته بهذا الوضوح  يشعل الرعب في باطني إلى درجة لم أشعر بها في حياتي من قبل، ما هذا الجنون؟.. كان التنين يتفحص الطائرة في تلك اللحظة برأسين من رؤوسه، اقترب أحدهما واخذ ينظر داخل الطائرة بعينيه الناريتين التي يزيد حجم الواحدة منهما عن حجم السيارة ... اكتشف التنين عدم وجودي في الطائرة، فاعتدل برؤوسه الثمانية، وهو يتلفت يمينا ويسارا بحثا عني في أركان الجزيرة، فانكمشت أكثر في مكمني، وجسدي يرتعد من الخوف، قبل أن يطلق التنين صيحة غاضبة خرجت متضخمة غليظة من أفواهه الثمانية، بصوت هائل، مرعب، كأنه خرج من حنجرة مائة حوت، زاد ذلك الصوت من الرعدة في جسدي، وشعرت أن الموجودات تهتز أمام ناظري، وبأنني سأغيب عن الوعي بعد لحظات ... كانت آخر صورة لمحتها قبل أن ينطفئ النور عن جسدي وعقلي، هي صورة ذلك التنين، وهو يستدير مبتعدا، قبل أن يغوص بجسده كاملا، ويختفي في مياة المحيط. 
***
ثوان قليلة غبت فيها عن الوعي، قبل أن أنهض مفزعا، وأنا أتلفت حولي في ذعر، احتجت لثوان أخرى كي أدرك الوضع الذي أنا فيه، والمزيد من الثوان حتى استطيع تقيم الخيارات المتاحة أمامي ... كان الخيار الأصوب هو الانتظار في الجزيرة حتى تنتهي العاصفة ويزول جدار الغيوم المرعب، الذي يحيط بها إحاطة السوار بالمعصم، عندها سأنطلق بالطائرة مبتعدا، ولن يستطيع التنين أو غيره اللحاق بي أبدا ... علي الآن أن أبحث عن طعام، وملجأ احتمي فيه من الأخطار، وأراقب منه التطورات.
لا أرى أثر لأي مخلوقات على هذه الجزيرة، لا يوجد بها حيوانات، ولا طيور، ولا حتى حشرات، من الغريب أن تنمو تلك النباتات والأشجار دون حياة حيوانية تكمل دورتها البيئية، لكن بعد رؤية التنين ذي الثمان رؤوس، والطيارين اليابانيين، اللذان تحولا إلى هيكل عظمي في ثانية واحدة ، فلا يوجد بعد ذلك شيئا يمكنه أن يثير دهشتي ... كنت أسير بمحاذاة الشاطئ في تلك اللحظة، عندما انتبهت إلى حركة متوترة على سطح الماء، هناك شخص، أو شئ ما يسبح في اتجاه الشاطئ ... تراجعت واختفيت وراء نخلة ذات جذع غليظ ... بالفعل إنه رجل يرتدي ملابس سلاح الطيران الياباني، ويسبح بحماس في اتجاه الشاطئ، حتى وصل إليه وألقى بجسده على الرمال وهو يلهث بإجهاد.
استطعت من مكمني أن أميز ملامحه، وكان هذا كافيا لبث الرعب في روعي إلى أقصى درجاته، أكاد أجزم أن هذا الرجل هو نفسه الطيار الذي رأيته بعيني هاتين يتحول إلى هيكل عظمي منذ دقائق ... حاولت تهدئة نفسي بإقناعها أن جميع اليابانيين يتشابهون، بالتأكيد هذا الرجل هو شخص ياباني آخر يشبه الأول، ولكن في تلك اللحظة انتصب ذلك الرجل على قدميه، وأخذ يتلفت حوله في قلق، فأدركت بسرعة، أن هذا الذي يقف أمامي هو شبح بالتأكيد، فقد كان جسده شبه شفاف، استطيع أن أرى من خلاله الشاطئ والمحيط من خلفه، وكأنه مصنوع من الزجاج الملون أو من الدخان.
هنا انطلقت أصوات العواء المريعة من كل مكان ... أصوات مرعبة كأنها تأتي من أعماق الجحيم مباشرة، أصوات هي خليط بين العواء، والزئير، أصوات لا تنبئ بأن أصحابها حسنوا النية، أو بأنهم ينتون خيرا ... نظرت إلى الطيار الياباني الشبح، فرأيت ملامح الذعر تتقافز فوق محياه، من الواضح أنه سمع الأصوات هو الآخر، ومن الواضح أنه استنتج ما استنتجته ... بعد لحظات ظهر على قمة التلة الصخرية عشرة من الشياطين!.. أصفهم بالشياطين لأني لا أعرف كائنات أخرى يمكنها أن تحمل تلك الملامح المريعة، كان كل واحد منهم مختلفا عن الآخر، ولكنهم يتفقون جميعا في أنهم مرعبون، ضخام، ومتوحشون، وليسوا بشرا ... كان أحدهم بلا رأس فوق جذعه الضخم الذي يتوسطه فم كبير ملئ بالأنياب كفم القرش، وكان الثاني يحمل نصف جسد علوي يشبه القرد، أما السفلي فأشبه بثعبان (البوا) العملاق، وكأنه ذكر (الميدوسا)، لو قررت (الميدوسا) أن ترتبط بذكر قبيح الملامح، ويحمل أنياب ومخالب كهذا، أما الثالث فيشبه العنكبوت بأطرافه المفصلية الثمانية، ولكنه يحمل فوق جسده ألف عين، وألف فم، ينبسطون وينقبضون في شكل مرعب، وغيرها من المخلوقات المرعبة التي تعجز الكلمات عن وصفها.
كانوا جميعا يحملون في إيديهم سياط ورماح مشتعلة، كأنها سبكت من الجمر ... هبطوا التلة الصخرية بسرعة رهيبة، متوجهين ناحية ذلك الشبح المسكين، الذي حاول الهرب، ولكن يبدوا أن قدميه خارتا من الخوف، فسقط على الأرض منكفأ على وجهه، انكمشت أكثر في مكمني وزادت الرعدة في جسدي، وأنا أتابع تلك الشياطين وهي تلاحقه،حتى أحاطت به وهي تطلق تلك الأصوات المرعبة، حاول المسكين الهرب من جديد، فضربه أحدهم بالسوط، فأصدر قرقعة عالية، وشرارة كالبرق، قب أن يلتف حول قدم الهارب، جذبه الشيطان السوط فسقط على الأرض، وهو يصرخ في ذعر، تكالبت عليه المخلوقات، لم استطع أن أرى من مكاني ما يفعلونه به، ولكنني أسمع الآن صرخاته المستغيثة والمتعذبه، وكأنهم يلسلخونه أو يلتهمونه حيا ... انفضت عنه الشياطين، ثم بدأت تتحرك صاعدة التلة مرة أخرى، وهم يجرونه خلفهم بحبل مشتعل كأنه ذبيحة، وهو يواصل صرخاته اليائسة ... شعرت بالشفقة من أجله، لقد كان عدوي منذ ساعات قليلة، وكان حريصا على قتلي، كحرصي على قتله، وها أنا الآن أشعر بالحزن من أجله، ما أغرب هذه الحياة.
***
غابت الشياطين خلف التلة في اتجاه تلك القلعة العملاقة في منتصف الجزيرة التي رأيتها من طائرتي، وحسبت أنها مسكن التنين، من الواضح أن تلك الجزيرة تخفي كوارث أخرى غير التنين، كوارث لا قبل لي بها ...  أعدت حساباتي من جديد، وقررت التوجه مباشرة إلى الطائرة، ومغادرة الجزيرة، فاقتحام العاصفة وجدار الغيوم ببرقه ورعوده، في محاولة للهرب، لن يكون أسوء بأي حال من الانتظار هنا ومواجهة كل تلك الأخطار.
انطلقت أعدو بسرعة كبيرة، حتى وصلت للطائرة بعد ثوان، كنت أفكر أنني سأقفز مباشرة إلى داخلها وانطلق من فوري ... ولكنني توقفت مرة واحدة، عندما وجدت شخصا يجلس داخلها ... اللعنة من هذا الشخص؟.. إنه يلبس ثياب سلاح الطيران الأمريكي، هل هو واحد من رفقاء السرب، نجا هو الآخر؟.. كان نائما، أو ميتا لا أعرف ... اقتربت منه بخطوات متحسبة، إنه لا يشبه أحد رفقاء السرب، إنه يشبه شخصا آخر أعرفه ... اللعنة ... إنه يشبهني أنا!! ... بل هو أنا! ... رفعت كفي أمام وجهي وأخذت أحدق فيهما، قبل أن تصعقني الحقيقة ... أنا أيضا أحمل تلك البشرة الشفافة كالدخان ... لقد تحولت إلى شبح أنا الآخر.
سقطت على الأرض وأنا أغطي وجهي بكفي وأنا أشعر بالانهيار، أريد أن أصرخ أو أبكي ولكن هناك ما يجثم على عقلي وروحي، تساؤلات كثيرة تتداخل في عقلي الشبحي، هل مت؟.. هل طالتني أنياب التنين كما فعلت بالآخريين؟.. إذا كان كذلك فلماذا لم أتحول إلى هيكل عظمي مثلهما؟.. ولماذا حاول التنين ملاحقتي إلى البر، ثم رحل غاضبا، بعدما اختفيت منه بين الأشجار؟.. هل كان يبحث عن روحي داخل الجسد ولم يجدها؟... دفعتني تلك الأسئلة لآن اقترب من جسدي الغائب، شعرت ببعض الأمل عندما لمحت خلجات صدره، هذا الجسد يتنفس، هل يعني هذا أن جسدي حي، وروحي هائمة خارجة؟.. مددت يدي نحو جسدي أتحسسه، فاخترقت يدي صدره كصورة (هولوجرامية)، وشعرت بدغدغة خفيفة من البرد بين أصابعي، وبدوخه بسيطة تعتمل رأسي، وبقوة تجذب يدي إلى الجسد كالمغناطيس ... تراجعت للخلف بفزع، قبل أن أعيد التفكير، إن ما حدث بالتأكيد شئ إيجابي، وعلي أن أقترب أكثر فقد يعيدني ذلك إلى داخل الجسد ... فجأة وصل إلى مسامعي ذلك الصوت الأنثوي، الخافت، المتهدج:
-          حبيبي ... هذا أنت؟
التفت نحو مصدر الصوت، قبل أن يسقط قلبي بين قدمي، وينطق لساني بكلمة واحدة، وبصوت متحشرج:
-          (إيميليا)!
(انتهى الجزء الثاني – ويليه الجزء الثالث )
 


قصة رعب قصيرة بعنوان ... (مثلث التنين – الجزء الثالث)
ملخص ما سبق ... يحصل الصحفي البريطاني (جيرارد كوك) على مفكرة طيار أمريكي من أيام الحرب العالمية الثانية، كتب فيها عن تجربته الخوارقية إلى داخل مثلث التنين، والتي عاد ليحكي عنها!.. يصف الطيار معركة جوية عنيفة مع طائرتين من الطائرات اليابانية، انتهت بهم جميعا وراء جدار من الغيوم والعواصف، قبل أن يخرج من البحر تنين عملاق ذو ثمانية رؤوس، ليلتقم الطائرتين اليابانيتين بفمه محولا ربانيهما إلى هيكلين عظميين في ثانية واحدة، يهرب الطيار الأمريكي من التنين، ويحط بطائرته على جزيرة غامضة في منتصف ذلك المثلث، قبل أن يكتشف أن هذه الجزيرة مسكونة عن آخرها بالشياطين المرعبة، وقبل أن يحاول الهرب يكتشف أنه قد تحول إلى شبح يهيم خارج جسده النائم في تلك اللحظة داخل الطائرة، والأغرب أنه يفاجأ بزوجته (إيميليا) التي ماتت بسبب المرض منذ أعوام ... يفاجأ بها وهي تقف أمامه وتخاطبه بصوت متهدج (حبيبي... أهذا أنت؟)! ...
.
كانت تقف أمامي، تنظر لي نفس نظرة الحب التي عهدتها دائما في عينيها ... كانت هي، (إيميليا) زوجتي وحبيبتي، كانت كما رأيتها آخر مرة، بعد أيام من إنجابها لإبننا الوحيد (جوزيف)، حينها كنت مضطرا للسفر من أجل الحرب اللعينة وتركتها وحدها، كي يهاجمها المرض ويفترسها في غيابي، ويقضي على حياتها، أنا حتى لم أحضر مراسم دفنها، وعندما عدت للوطن بعد شهور، أخبرتني أمها أن آخر ما كانت تنطق به وهي محمومة، خائرة، قبل لحظات من موتها، هو اسمي ... تمتمت بصوت متحشرج:
-          (إيميليا) !؟
اندفعت (إيميليا) نحوي وألقت بنفسها فوق صدري في لهفة، أحطت جسدها الرقيق بذراعي، وضممتها إلى روحي، وطال العناق، كانت تبكي بحرقة وترتجف بشدة، أما أنا فكنت غارق في مشاعر متناقضة في تلك اللحظة، مشاعر شوق ولهفة لحبيبتي التي فقدتها وعادت إلى من جديد، يتداخل معها شعور منطقي بالدهشة والتوتر من استحالة عودة من خطفهم الموت ... أمسكت بكتفها ودفعتها للخلف برفق، ونظرت في عينيها ... انتبهت في تلك اللحظة لحالتها الشبحية التي تشبه حالتي، ويبدو أنها انتبهت هي الأخرى، فقالت بذعر:
-          ماذا حدث لك ... هل أنت بخير؟
ثم نظرت إلى كف يدها الشفاف، وصرخت:
-          وأنا أيضا ... ماذا يحدث؟
ثم تلفتت حولها في هستيرية، وارتسمت على وجهها ملامح الخوف، وهي تقول:
-          ما هذا المكان العجيب ... أين نحن؟
قلت بحذر:
-          ألا تعرفين كيف جئت إلى هنا؟
عقدت حاجبيها بالطريقة التي اعتادت عليها عندما تفكر بعمق، ثم لانت ملامحها وهي تقول:
-          بلى ... أعرف.
-          إذا ... كيف؟
-          حلم ... هذا كله حلم جميل.
قلت باستنكار:
-          حلم!؟
-          أجل ... لقد أويت إلى فراشي بالأمس، وكان قلبي مشتاقا إليك، وعقلي مشغولا بك.
تحسست بيدها بطنها المنتفخ قليلا:
-          وبإبننا القادم (جوزيف) ... ففعلها عقلي وجلبك إلي في الحلم، ليطفأ نار شوقي إليك.
كنت في تلك اللحظة في حالة شديدة من الذهول والاستنكار ... هذه التي أمامي هي (إيميليا)، قلبي على يقين من ذلك ولا يشوبه ذرة واحدة من الشك ... ولكن عقلي متأكد أن (إيميليا) قد ماتت بالفعل، بعد أن أنجبت (جوزيف) بشهور قليلة، فكيف مازالت تحمله في بطنها ... فجأة جائتني فكرة، فسألتها:
-          هل تذكرين آخر مرة رأيتني فيها؟
-          بالطبع ... وكيف أنسى؟ ... صحبتك فيها إلى خارج المنزل حيث كانت السيارة تنتظرك، وقبلتك قبلة طويلة، ووضعت شيئا في جيبك ... هل تذكره؟
-          كانت صورتك.
-          أجل وكتبت عليها بضعة كلمات.
-          حبيبتك إلى الأبد (إيميليا).
ابتسمت في مرح، وألقت بنفسها في حضني، وهي تقول بعبث طفولي:
-          إذا دعنا نستمتع بهذا الحلم حتى آخره.
كنت أفكر في تلك اللحظة، أن ما حكته (إيميليا) حدث بحذافيره، ولكنه حدث قبل موتها بشهور، لقد عدت بعد ذلك في إجازة، وحضرت معها مولد (جوزيف) وقضينا معا أجمل أيام قبل أن أتركها وأسافر للمرة الأخيرة، كيف عاد بها الزمن إلى تلك اللحظة، وكيف أعادتها الجزيرة إلى من جديد، إي لعنة محببة تحملها تلك الجزيرة في باطنها!؟ ... لم أفكر في كل ذلك الآن، وسأعيش اللحظة مع (إيميليا)، لقد كان دعائي أن يرجع بي الزمن لأقضي معها بضعة لحظات، وها قد حقق الرب دعائي، فلن أضيع الفرصة أبدا.
قضيت أنا و(إيميليا)، ساعة من الحب، واللعب، واسترجاع الذكريات الرائعة، والحديث عن المستقبل الذي تظنه هي واعدا، وأعلم أنا يقينا أنه لن يأتي بخير، ولكن الحديث عنه كان عذبا بحق ... ساعة بألف ساعة تضاف إلى عمري الذي توقف لحظة موتها ... وها نحن جالسين في ظل تلك الشجرة، تسند هي عليها ظهرها، وأنام أنا بجانبها تماما واضعا ذراعي أسفل رأسي وأنا أطالع السماء ... أغمضت عيني، وأنا أقول بصوت راضي:
-          أريد أن أخبرك بشئ يا (إيميليا).
لم ترد ... فقلت مردفا:
-          أريد أن أعتذر لك.
لم ترد ايضا ... فنظرت إليها، فلم أجدها حيث رأيتها آخر مرة ...اعتدلت بسرعة، لقد اختفت!.. نهضت وأنا اتلفت حولي في جزع، لقد اختفت (إيميليا) بالفعل، لقد اختفت فجأة، كما ظهرت فجأة!
***
انطلقت أعدو كالمجنون في أرجاء الجزيرة أصرخ باسم (إيميليا)، واتنصت علها تجيبني، ولكن الصوت الوحيد الذي أجابني هو عواء تلك الشياطينن الذي أنطلق فجأة من ناحية القلعة، لقد أدركت تلك الشياطين وجودي بسبب صرخاتي الملتاعة على (إيميليا)، وسرعان ما ظهرت تلك الشياطين على قمة التلة الصخرية، ثم بدأت في النزول متوجهة ناحيتي وهي تلوح بسياطها ورماحها... كان المنظر مرعبا، وكان حجم تلك الشياطين وأوصافها قادران على بث الرعب والذعر في أشجع النفوس ... انطلقت أعدو هاربا، وأنا أتذكر منظر ذلك الطيار الياباني المسكين وهو واقع بين براثنهم، ولكن بعد خطوات قليلة، جائتني خاطرة مرعبة، قد تكون (إيميليا) سقطت أسيرة لتلك الثلة من الملاعين، من المؤكد أن هذا هو السبب في اختفائها، هكذا توقفت عن الهرب، ووقفت انتظرهم بفرائص مرتعدة، وقلبي يكاد يتوقف من الرعب، لن أهرب وأترك لهم (إيميليا)، اقتربت مني الشياطين بخطوات بطيئة، يبدو أن عدم لواذي بالفرار قد أدهشهم، فهم معتادين على فرار الأرواح المذعورة المسكينة منهم، أحاطوا بي من كل جانب، فغشتني رائحتهم الكريهة، وملامحهم الكئيبة، المرعبة ... قلت بصوت مرتعش:
-          أنا قادم معكم ... لا داعي للعنف!
ولكن هذا الشيطان الذي يشبه العنكبوت بأطرافه المفصلية الثمانية، بدا أنه يعشق العنف، أو أنه لم يفهم ما قلته ... فقد هجم علي بقوة، وقيدني بأطرافه، ثم أخذ يغزل من فمه الأوسط حبلا من الجمر حولي، يقيدني به ... كان الحبل يشوي جسدي، أخذت أصرخ، وأقاوم، ولكن بدت مقاومتي خائرة وسط كل تلك الشياطين القوية، العملاقة، وهكذا وجدت نفسي أجر خلفهم في اتجاه القلعة وأنا مربوط بقيد من الجمر، تنطلق صرخاتي المتألمة، المتعذبة، فهذا القيد يشعرني بأنني أشوى حيا في كل لحظة.
***
وصلنا إلى القلعة العملاقة ذات الباب الضخم الذي كان مغلقا في تلك اللحظة، فدخلنا من باب صغير أسفله، يشبه الباب الدوار الخاص بالقطة أو الكلب الذي يسمح لهما بالدخول أو الخروج دون فتح باب المنزل ... وما أن دخلنا حتى نسيت آلام الشواء التي كنت أشعر بها بسبب قيد الجمر، وأنا استمع إلى أصوات الصراخ، والنواح، والبكاء ... كانت القلعة من الداخل مجوفة لتصنع بهو واحد كبير بحجم جبل، على جانبيه آلاف من الزنازين، التي تحوي داخلها أشباح شفافة مثلي، أعرف أن جميعهم كانوا بشرا أسوياء في يوم ما حتى وقعوا ضحية ذلك التنين اللعين وزبانيته، وها هم الآن يبكون، وينوحون حظهم العاثر ... صرخت:
-          (إيميليا) هل أنت هنا؟
فركلني أحد الشياطين يشبه الدب، بقدم ضخمة مخلبية، جعلتني أطير لأمتار، وأسقط على الأرض وأنا أشعر أن كل عظمة في جسدي قد تفتت ... جذبتني الشياطين بقيدي إلى الداخل، فسرت خلفها مستسلما، وأنا أنظر إلى داخل تلك الزنازين عسى أن أجد في أحدها (إيميليا)، ولكن طالعتني من داخلها وجوه بائسة، يائسة، عاجزة.
وصلنا إلى نهاية البهو، فكان في آخره عرش من الذهب مرصع بالجواهر التي لم أر لها مثيلا في حياتي، وعليه رسم بارز لتنين ذو ثمان رؤوس، تحمل كل رأس فوقها تاج في منتصفه جوهره بلون مختلف ... كان العرش صغيرا، أتخيل أن صاحبه هو شخص في حجمي أو أكبر قليلا ... كانت هناك حلقة من الحديد تبرز من أصل الأرض على مسافة أمتار من العرش، ربطتني إليها الشياطين، ثم انطلقت لأداء عملها ... تحرس الزنازين وتوسع أصحابها ضربا بالسياط، تنخسهم بالرماح، حتى هدأت اصواتهم ... صرخت من جديد:
-            (إيميليا) هل أنت هنا؟
فلم أتلق إجابة أيضا في تلك المرة ... إذا هي ليست هنا ... لم أعرف هل يفرحني هذا أم يحزنني!؟ لقد قدمت نفسي لتلك الشياطين على طبق من فضة، على أمل أن أجد (إيميليا) في حوزتهم، ولكن عدم وقوعها في براثنهم يسعدني أيضا بالتأكيد ... هنا انطلق صوت البوق ... لو لم يكن شعري قد شاب بعد مطاردة الشياطين، وآلام القيد الملتهب، ونواح الأرواح الأسيرة، فبالتأكيد قد شاب الآن بعد سماع صوت ذلك البوق المرعب، لقد كنت أقف على قدمي، فارتعدت فرائصي، وخارت مفاصلي، وسقطت على الأرض بعد سماعي لهذا الصوت المروع ... اللعنة ألن تنتهي تلك الليلة أبدا؟.. بعد انطلاق البوق، بدأ الباب الضخم يفتح تدريجيا، فبدا كأن القلعة العملاقة تنشق إلى نصفين ... احتاج الباب لدقيقتين حتى ينفتح إلى آخره ... في تلك اللحظة انتصب شعر رأسي، وسرت القشعريرة في جسدي وباطني، وأنا ألمح التنين قادما من إتجاه البحر، تتهادى رؤوسه الثمانية فوق جذعه الثعباني الضخم ... إنه قادم إلى هنا، وسيدخل عبر الباب بعد لحظات قليلة ... لقد أغضبته بهروبي منه منذ ساعات، ستكون مفاجأة مفرحه له أن يجدني هنا في عرينه، مقيدا بلا حول ولا قوة ... بالتأكيد سيكون شيئا رائعا له ... ماذا أقول؟ هل أصبت بالخبال أخيرا ... ها هو يلج الباب الضخم بجسده، تكاد رؤوسه العملاقة تحتك بقمته ... ماذا أفعل؟ كيف يمكنني أن أهرب من هذا المأزق؟ ... اعتقد أن هذه هي النهاية!
..(انتهى الجزء الثالث – ويليه الجزء الرابع والأخير)..

قصة رعب قصيرة بعنوان ... (مثلث التنين – الجزء الرابع والأخير)
ملخص ما سبق ... يقرأ الصحفي البريطاني (جيرارد كوك) في مفكرة الطيار الأمريكي الذي عاش تجربة خوارقية أيام الحرب العالمية الثانية، قاد فيها طائرته إلى داخل مثلث التنين ... يحكي فيها الطيار عن مطاردة تنين ذو ثمانية رؤوس له، ونجاحه في الهروب منه بمعجزة، قبل أن يكتشف أنه أصبح روحا تهيم خارج جسده النائم داخل الطائرة، وتستمر المفاجآت بمقابلته لزوجته (إيميليا) التي توفت منذ أعوام، ووقوعه أسير لزبانية التنين، الذين اقتادوه إلى القلعة، لينتظر في ذعر ويأس عودة التنين إلى عرينه ....
.
دخل التنين إلى القلعة من بابها الضخم، ثم توجه مباشرة ناحيتي، أو إلى ناحية العرش الذهبي الذي قيدتني الشياطين إلى جواره ... كنت أتوقع ما سيحدث لاحقا، بالتأكيد وضعتني الشياطين في هذا المكان لأكون وجبة فاتحة للشهية يلتقمها التنين في لحظات بعد عودته إلى عرينه، لن يكون حظي أفضل من الطيارين اليابانيين اللذان افترسهما منذ ساعات قليلة ... هرع الشياطين من كل مكان داخل القلعة وتجمعوا في صفين وهم ينحنون احتراما للتنين الذي عبر من بينهم، وهو يتلفت حوله برؤوسه الثمانية، متفحصا المكان بستة عشر عينا صفراء، تشعر أن هناك نارا تتلظى داخلها، زحف التنين مقتربا حتى صار على مسافة عشرين مترا من موقعي ... ثم بدأ ينكمش!
بالفعل لقد بدأ التنين ينكمش تدريجيا، ويتحور في نفس الوقت إلى شكل آخر يشبه البشر ... شكل يحمل رأسا، وجذعا، وذراعين، ورجلين، إنه يشبه البشر تماما لولا بشرته الرمادية وكرتا عينيه الصفراوين، لقد احتفظ بلون بشرة التنين، ولون عينيه ... لقد بدا لي على شئ من الوسامة بذلك التاج الذي يضعه فوق رأسه ويحمل نقشا يشبه النقش الموجود على العرش، وبحرملته وثوبه المخمليين ... ازداد انحناء الشياطين له أكثر بعد أن تحول إلى تلك الهيئة ... تحدث إلى أحدهم بلغة شيطانية، وبصوت حلقي، رغوي، بدا كالغرغرغة، فتوجه الشيطان على الفور ناحية الزنازين ... توجه الملك التنين إلى عرشه وجلس عليه.
  لا استطيع أن أصف حالي بكلمات بسيطة ومنضبطة في تلك اللحظات، كنت مذعور ذعرا شديدا، يتنقل ذهني وعقلي بين الوعى وغيابه، وبين الرشد والجنون، أعرف الآن شعور الفأر في المصيدة، أشعر بآلام رهيبة في المعدة تتملكني، وسقيع يسرى فوق أطرافي وعمودي الفقري، وبرغبة حميمة في القئ ... عاد الشيطان الذي يحمل فوق كتفيه رأسين، رأسات كرأس الأسد، وأخرى كرأس الماعز، وهو يجر خلفه خمسه من الأرواح بحبال وقيود من الجمر، أربعة من الرجال وامرأة، كانوا جميعا في ثياب متباينة من عصور مختلفة، وكأنهم خرجوا لتوهم من كتب التاريخ، كانوا يصرخون، ويبكون، ويقاومون في يأس، فيجرهم الشيطان اللعين خلفه جرا، بقوته الجبارة التي توازي قوة دبابة حربية ... كانوا جميعا يحملون تلك الهيئة الشبحية، الشفافة، ولكنني انتبهت إلى أن درجة شفافيتهم متباينة، فأحدهم كان شفاف للغاية، يوشك على أن يصبح خفيا، والمرأة أيضا كانت كذلك، أما الثلاثة الآخرون فكانت ملامحهم أكثر وضوحا وكأنهم مصنوعون من زجاج أقل نقاء، عكس صاحبيهما ... دفع الشيطان الذي يحمل أيضا قدمين متناقضتين كرأسيه، هؤلاء المساكين فسقطوا على الأرض، تحت عرش الملك التنين، وهم يواصلون الصراخ والنحيب ... رفع الملك التنين ساعده وبسط كفه في وجوههم، فانطلق صوت قرقعة خافت في المكان، قبل أن ينبعث شعاع كثيف من الضوء الأزرق، يسري من أجساد المساكين، إلى كف الملك التنين المبسوطة ... كانوا يشهقون، وينازعون، ويتلوون من فرط العذاب والألم، كان ما يفعله ذلك اللعين بهم رهيبا ... ثوان واختفى ذلك الرجل الذي بدا أكثر شفافية من أصحابه، كأنه فقاعة صابون وانفجرت، وثوان بعدها، ولحقت به المرأة ... قبل أن يقبض الملك التنين كفه المبسوطة، لينقطع شعاع الضوء مع صوت قرقعة آخر، ثم أشاح بيده إلى ذلك الشيطان، فأسرع ذلك الأخير بجر الثلاثة المتبقين، عائدا بهم إلى الزنازين مرة أخرى ... لا أحتاج للكثير من الذكاء لأفهم أن الملك التنين يتغذى على طاقة هؤلاء المساكين حتى يفنيهم، وهؤلاء الخمسة كانوا وجبة عشاؤه اليوم ... لقد كنت مخطأ عندما توقعت أنني سأكون فاتحا الشهية، من الواضح أنه أمهلني للنهاية، حتى أكون خياره على طبق التحلية!
***
لا يمكنني الهرب من هنا، ولا يمكنني الاختباء، الأمل الوحيد في النجاة في هذا اليوم هو أن يتشاغل عني الملك التنين بأي شئ ملعون آخر، كانت تلك الفكرة تعتمل في عقلي، وأنا اتلفت حولي في ذعر، فوقعت عيناي على عيني الملك التنين، الذي كان ينظر لي نظرة مرعبة، وعلى وجهه ابتسامة أكثر رعبا، بدت منها أنيابه حادة لامعة، كانت أسنانه كلاهما من  الأنياب، لا يوجد بينها قواطع ولا ضروس، وهذا جعل ابتسامته أشبه بابتسامة (التيرانوصورس ركس) لو كان هذا الأخير قادر على الابتسام في وجه فريسته قبل أن يمزقها!
نزل الملك التنين من على عرشه، ثم توجه ناحيتي بخطوات بطيئة دون أن تفارق تلك الابتسامة الشنيعة ملامح وجهه ... أغمضت عيني، وعضضت على نواجذي، وأنا أترقب سماع صوت القرقعة، الذي يليه امتصاص الطاقة والروح من كياني، ولكنني انتظرت طويلا دون أن يحدث شيئا، ففتحت عيني بحذر، فوجدته يقف في مواجهتي مباشرة، وهو يحدق في بعينيه الناريتين، فأجفلت، فبادرني قائلا بنفس الصوت الحلقي، الرغوي، ولكن تلك المرة بلغة استطيع فهمها:
-          متسلل!
لم أعرف هل كان هذا سؤالا، أم تقريرا بواقع الحال ... فكرت أن أدافع عن نفسي، ولكنني خفت أن يزيد ذلك الطين بلة، فاخنرت الصمت كأبلغ رد في مثل تلك الظروف، فأردف هو قائلا:
-          قليل من مخلوقات هذا الكون، تستطيع أن تطأ هذه الأرض وتبقى على قيد الحياة.
تحرك كفه بعفوية أثناء الحديث، فتراجعت للخلف بفزع، فقال بسرعة:
-          لا تخف ... لا اعتزم إيذاءك ... في الواقع القانون الملكي لا يسمح بذلك ... كونك وطأت تلك الأرض حيا يعطيك حق الاختيار.
ثم دار على عقبيه عائدا إلى عرشه، قبل أن يجلس عليه، وهو يقول ببساطة بصوته الذي يشبه التغرغر:
-          أنت حر يمكنك الرحيل.
أشار بسبابة مخلبية نحوي، فاختفي الحبل المشتعل الذي يقيد جسدي في لحظة!.. لم أصدق نفسي!.. هل سيتركني ذلك الوحش وشياطينه أرحل من هنا بتلك السهولة!؟ رأيت ما يفعلونه بأمثالي وعقلي لا يستطيع تصديق تلك المبادرة! ... كانت قدماي مازلتا ترتعشان من فيض الإدرينالين الذي يسري في جسدي ... تحركت مبتعدا نحو باب القلعة بخطوات بطيئة، منتظرا أن تقع الكارثة في أي لحظة، ويتراجع ذلك الوحش عن السماح لي بالرحيل، ولكن هذا لم يحدث! ... قطعت نصف المسافة إلى الخارج، ثم بدأت أسرع الخطى نحو باب القلعة، ولكن قبل أن أصل إليه، وصلني صوت الملك التنين، وصل مباشرة إلى داخل عقلي، كأنه يتحدث في مكبر صوت مثبت داخل تلافيف مخي:
-          يمكنك أن ترحل ... ولكنني على يقين من عودتك إلى هنا مرة أخرى ... فما تبحث عنه لن تجده هناك أبدا ... لن تجده إلا هنا.
تجاهلت كلامه، وأنا أسرع الخطى أكثر نحو الخارج، فأردف قائلا:
-          زوجتك (إيميليا).
توقفت مرة واحدة ... كان لكلمته الأخيرة أثر الصاعقة على نفسي ... كنت أفكر كيف عرف بلقائي مع (إيميليا)، فوصلني صوته الذهني من جديد كأنه يقرأ أفكاري:
-          الملك (التنين) يعرف كل ما يحدث على أرضه.
التفت ناحيته، وأنا اقول بصوت مرتفع حتى يصل إليه:
-          (إيميليا) ماتت، والموتى لا يعودون أبدا.
أجابني بنفس الطريقة الذهنية:
-          أنت لست هنا على كوكبك ... أنت هنا في بعد مواز يخضع لقوانين وقواعد فيزيقية مختلفة، أنت هنا خارج الزمان، والمكان.
صرخت بعصبية:
-          ماذا تقصد؟.. لا أفهم!
-          الأكوان الموازية تدور في أفلاك كالكواكب والنجوم، وفي لحظات بعينها تتقارب من بعضها، أو تتداخل في نقاط تشكل بوابات بين تلك الأكوان، أنت الآن على أحد تلك البوابات.
قلت بصوت خافت:
-          وكيف يجمعني ذلك بزوجتي المتوفاة.
-          يمكنك أن ترحل، ولكن تذكر دائما، أنك عندما تكون على هذه الأرض، فهذا يعني أنك خارج الزمان، بل والمكان أيضا ... وهذا يجعل من مقابلتك لزوجتك قبل موتها، أمرا طبيعيا.
بدأت أفهم ما يقصده، أنا لست (نيوتن) ولكنني أمتلك بعض الفهم والاطلاع، فقلت مستفسرا:
-          وكيف يمكنها هي المجئ إلى هنا؟
-          النوم يكسب بعض المخلوقات شفافية، ويفتح لها الأبواب أحيانا إلى الأكوان الموازية، المهم أن يكون هناك قناة للاتصال، ورغبة في إقامة هذا الاتصال.
كانت بالفعل تجربتي الأخيرة مع (إيميليا) تثبت بشكل ما صدق ما يقوله ... ولكنني قلت بعناد:
-          لا يهم سأرحل على أي حال.
لمحت من مكاني البعيد ابتسامته المرعبة وهي تتسع أكثر، وهو يقول:
-          إذا أفعلها ... ولكن تذكر عندما تعود من جديد ... تكون قد اخترت البقاء هنا للأبد ... مثل الأخريين من قاطني تلك الأرض.
وأشار بسبابته نحو شياطين القلعة.
***
خرجت من المكان، وأنا لا أصدق ما حدث، لقد تحررت من براثن ثلة الشياطين وزعيمهم التنين الرهيب ... انطلقت أعدو نحو الطائرة ... كانت كلمات الملك التنين تتقافز داخل ذهني ... أنا بالفعل اشتاق إلى حبيبتي (إيميليا)، ويمكنني أن أضحي بالعالم من أجل ساعة بقربها، ولكني أعلم يقينا أنها عند ربها الآن، وبقائي هنا بصحبة تلك الشياطين لن يكون أمرا محتملا، كما أن ابني (جوزيف) يحتاجني هناك في الوطن ... وصلت إلى الطائرة، كان جسدي مازال نائما فيها، اقتربت منه بحذر، مددت يدي فاخترقته، شعرت بذلك الجذب الذي حدث في المرة السابقة، ولكنني لم أتراجع في تلك المرةـ، فجأة تغيرت كل الموجودات حولي، وبدأت تدور حول نفسها وحولي، كنت أشعر بأنني أنزلق فوق سطح أفعوانية طويلة كالدهر، بسرعة تفوق سرعة الضوء، كان هناك بعض الألم والغثيان في البداية، اختفيا بعد لحظات، أشعر الآن بأنني أسقط سقوط حرا من سطح عال، واقترب من الأرض بسرعة شديدة ... واقترب، واقترب ... صرخت بقوة وأنا أفتح عيني لتخترقهما أشعة الضوء، شعرت بألم فيهما، فأغمضتهما من جديد، وأنا أحجب عنهما الضوء بساعدي ... انتبهت إلى أنني أجلس داخل الطائرة، على مقعد القيادة ... هل فعلتها؟ هل عدت إلى داخل جسدي ... أخذت أحرك كفي أمام وجهي ... أجل لقد فعلتها.
  لم يكن هناك وقتا لأضيعة، لذا أدرت محرك الطائرة بسرعة، كنت أضع يدي على قلبي خوفا ألا يستجيب المحرك بعد تلك التجربة المجهدة، ولكنه فعلها بحسن الحظ ... لن يكون الممر القصير الغير ممهد، عائقا لي عن التحليق، ولا أي شئ آخر ... حلقت بالطائرة، أخذت دورة ونصف حول الجزيرة حتى استقرت الطائرة في مسارها، ثم توجهت رأسا إلى جدار الغيوم العاصف الذي يئز بشرارات البرق ... كانت تجربة الخروج مشابهة تماما لتجربة الدخول، توقفت أجهزة الطائرة عن الاستجابة للحظات، وأخذت مؤشراتها تتحرك في الجنون، وأخذت هي ترتج في هستيرية، حتى خلت أنها ستتمزق، ولكنها فعلتها، عبرت الجدار إلى الخارج ... لقد نجوت.
استرجعت المؤشرات قراءاتها المنطقية، فعدلت المسار نحو حاملة الطائرات التي انطلقنا منها في بداية المهمة ... كان الوقود يكفي بالكاد للوصول إليها، ولكن المفاجآت السيئة لم تكن قد انتهت بعد في هذا اليوم، فعندما وصلت إلى موقع حاملة الطائرات لم تكن هناك، لقد رحلت وتركتني، ولكن كيف فعلتها بتلك السرعة!؟ أتكون غرقت!؟... انتابتني نوبة جديدة من اليأس، أخذت أسب وألعن حظي العاثر، لقد نفذ مني الوقود!.. سيكون علي أن أهبط على سطح الماء.
يوما، أو يومين، أو عدة أيام، لا أعرف بالضبط لقد فقدت القدرة عن الحساب، ولكنني أدرك أنني قضيتها هائما على قارب الإنقاذ الهوائي بغير هدى، قبل أن تلتقطني سفينة صيد يابانية، وتسلمني إلى السلطات، لأظل في الأسر حتى نهاية الحرب ... كانت المفاجأة الأخيرة التي أهداها لي مثلث التنين في ذلك اليوم هي أنني اكتشفت أن ستة شهور قد مرت على وأنا داخله، أي أن اليوم الذي قضيته فيه، يعادل ستة شهور خارجه!.. لقد كانت تلك المغامرة هي آخر عهدي بالحروب ... انتهت الحرب وعدت إلى وطني، لاحتضن ابني، وأحكي له عن أمه وحبيبتي (إيميليا)، وأربيه كما اتفقنا أنا وهي ... هذه هي نهاية مغامرتي مع مثلث التنين ...  (ت.ش ... 1955).
***
انتهى الصحفي (جيرارد) من قراءة المفكرة، كان يشعر بفيض هائل من المشاعر المتداخلة، وهناك في عقله ألف سؤال وسؤال يبحثون عن إجابة ... يفكر الآن أن عليه أن يبحث عن الرجل الذي أهداه تلك المفكرة، عليه أن يفهم منه ويعرف معلومات أكثر عن صاحبها ... ارتدى (جيرارد) ثيابه بسرعة ثم انطلق إلى الحانة ... كان الساقي هناك، يقوم بألعابه الأكروباتية خلف البار كعادته بالأكواب، وزجاجات الشراب ...  ان هناك عدد كبير من الرواد في الحانة، عكس ذلك اليوم العاصف الذي قابل فيها الأمريكي، ماذا كان اسمه؟.. لقد نسى تماما ... توجه (جيرارد) إلى الساقي، فبادره الأخير بالتحية، وهو يسأله:
-          هل أعد لك شرابا ياسيدي؟
-          أجل.
قبل أن يردف:
-          كنت أريد أن أسألك عن شئ؟
-          تفضل.
-          هل تذكر ذلك الرجل الذي كان يجلس بصحبتي في تلك الليلة العاصفة.
أجاب الساقي ببساطة:
-          لقد كنت تجلس وحدك ليلتها يا سيدي.
قال (جيرارد) بعصبية:
-          لا ... لقد كنت أجلس مع رجل في العقد الخامس، وطلبت له مشروبا على حسابي.
أجاب (الساقي) بنفس البساطة المثيرة للغيظ، وهو يشير نحو إحدى الطاولات:
-          أذكر أنك طلبت مشروبا آخر بالفعل، وجلبته لك على تلك الطاولة التي كنت تجلس عليها منفردا ...
كان (جيرارد) على وشك الانفجار في وجه الساقي ... الذي تشاغل عنه لتلبية مطالب أحد الرواد الآخريين ... كان (جيرارد) يفكر ... لماذا يكذب الساقي!؟. لماذا يحاول إخفاء هوية ذلك الأمريكي اللعين عنه!؟ ... فجاة وقعت عيناه على بعض الصور (الفوتوغرافية) العتيقة، المعلقة فوق البار، على إحداهما بالذات، كان فيها صورة ذلك الأمريكي يقف متأبطا شخصا يابانيا وهما يرتديان قمصان مشجرة قديمة الطراز، وسراويل قصيرة منتفخة، ويبتسمان للكاميرا ... عاد الساقي إلى  (جيرارد) فبادره الأخير وهو يشير بسبابته إلى الصورة:
-          هذه الصورة.
ابتسم الساقي وهو يقول:
-          صورة جدي ... إنه هو الذي أنشأ تلك الحانة، وورثها منه أبي، وأنا من بعده.
-          لا ... أقصد ذلك الرجل الواقف إلى جواره.
-          هل تقصد (توم شيبرد)!؟.. لقد كان شريك جدي، وكان يعمل طيارا في نفس الوقت، يجلب البضائع، والأشخاص من، وإلى الجزيرة
تذكر (جيرارد) الاسم، فابتسم في ظفر:
-          أجل هو ... أين استطيع أن أجده!؟
حدق الساقي في (جيرارد) بدهشة وعدم تصديق:
-          تجده ... لقد مات توم من أربعين عاما أو يزيد.
صعق (جيرارد) من إجابة الساقي، فصرخ فيه:
-          مات ... كيف هذا؟
اقترب منه الساقي، وهمس في أذنه بصوت خافت:
-          لا أخفيك سرا ... لقد كان أحد ضحايا مثلث التنين ... حكى لي أبي، أنه كان دائم الذهاب بطائرته إلى تلك المنطقة التي يخشى الجميع الاقتراب منها، حتى كان ذلك اليوم العاصف، فطار بطائرته إلى هناك ولم يعد بعدها أبدا ... بحثوا عنه كثيرا ولكنهم لم يجدوا له و لا طائرته أثرا ... لقد ابتلعهما مثلث التنين.
قال جيرارد بصوت مختلج من الدهشة:
-          ولكنني قابلته منذ أيام قليلة.
نظر له الساقي نظرة من اعتاد سماع الترهات من السكارى:
-          جائز ... ولكن هذا الذي في الصورة هو جدي المتوفي من ثلاثين عام عن عمر يناهز السبعين ... لو كان (توم شيبرد) حيا حتى الآن فقد جاوز عمره المائة عام بالتأكيد.
أعجز ذلك المنطق (جيرارد) عن الرد ... لقد كان الساقي على حق، لقد قابل (توم شيبرد) وبدا الأخير كما يبدو في الصورة، في العقد الخامس من العمر، تلك الصورة التي  التقطت من خمسين ... الموضوع يحمل شيئا خوارقيا بالتأكيد ... يتذكر الآن التوقيع في نهاية المفكرات (ت. ش ... 1955)، هل كان بطل تلك المغامرة وصاحب المفكرة هو (توم شيبرد) نفسه ... أخرج (جيرارد) المفكرة من جعبته، وتأكد من التوقيع بالفعل، قبل أن يتنبه إلى أن الغلاف الأخير يبدو أكثر سمكا من الأول، هناك شيئا مخبأ داخله ... دفع الفضول (جيرارد) ليمزق الغلاف بسرعة لتسقط منه صورة ضوئية عتيقة، التقطها ونظر فيها، كانت تحوي صورة فتاة شقراء، نحيلة، حسناء، تنظر بابتسامة مشرقة إلى عدسة الكاميرا ... قلب الصورة، فوجد على ظهرها كتابة بالحبر بحروف حائلة ... حبيبتك إلى الأبد (إيميليا).
***
غادر (جيرارد) الحانة وهو يشعر أن رأسه على وشك الانفجار، لقد اكتسب في اليومين الأخيرين خبرة هائلة، اكتسبها حتى دون أن يغادر غرفته بالفندق ... لقد عرف الكثير عن سر مثلث التنين، وقصة (توم شيبرد) الطيار الأمريكي الذي اقتحمه، وواجه فيه التنين وزبانيته، وقصة حبه، ووفاؤه لزوجته (إيميليا) المتوفاة ... لقد كان الملك التنين على حق، عندما توقع عودة (توم) من جديد، لقد كان حبه (لإيميليا)، ورغبته في قضاء بعض الوقت معها أكبر من أي شئ آخر ... هناك أسأله كثيرة ما زالت تعتمل في عقل (جيرارد)، وتبحث عن إجابات، والوحيد الذي يحمل إجاباتها هو (توم شيبرد) نفسه ... ترى هل يقابله مرة أخرى؟ ويسأله كل تلك الأسئلة، ويحصل على إجابة تروي فضوله ... من يعلم، فقد يحدث هذا بالفعل مستقبلا!
.. (تمت) ..
 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق