الأربعاء، 22 مارس 2017

الصارخ


قصة رعب بعنوان ... (الصارخ – الجزء الأول)
كتاب مهترئ، عتيق، بلا غلاف، صفحاته صفراء، ممزقة، متآكلة الحواف ... ملقى بلا اكتراث على الرصيف، أمام ذلك السور، فريسة لعوامل التعرية، وسط مجموعة كبيرة من الكتب المشابهة، يجلس بجوارها كهل، عجوز، على مقعد خشبي متهالك، لا تعرف هل هو مستيقظ، أم نائم، حي أم ميت ... لو نظرت إلى أول صفحة من ذلك الكتاب، وقرأت ما بها، لوجدت ما يلي ... حكت لي جدتي عن ذلك الذي يسير في طرقات القرية وهو متشح بالسواد من رأسه حتى إخمص قدميه ... كانت تراه ولا يراه غيرها، وتخبرهم عنه، فيحسبونها تهذي ... فإذا حل بمنزل، لحقت الكوارث بأهله في اليوم التالي ... حتى كانت تلك الليلة التي رأته فيها يسير في صحن الدار بخطوات ثابتة نحو غرفة أبيها، قبل أن يغيب داخلها، شعرت بالذعر، ففرت إلى غرفتها، وتدثرت في فراشها وهي ترتعد في هستيرية، تصطك أسنانها في جنون، تشعر أن روحها تكاد تغادر جسدها، تهتز الموجودات أمام عينيها، حتى غابت عن الوعي، وعندما استيقظت في الصباح، علمت أن أباها لم يستيقظ هذا الصباح، ولن يستيقظ أبدا في أي صباح تالي ... سألتها ... من هو يا جدتي!؟. أجابت ... يسمونه النذير، ويسمونه نافخ البؤس، واسمه الشائع هو الصارخ!
***
** أحداث جرت قبل عشرين عاما **
-          على الجناح يا (كاريكا).
طلبها من زميله في الفريق، فناولها إياه، فسددها مباشرة إلى المرمى، ليحرز هدف الفوز لفريقه ... طفل صغير، لا يتجاوز عمره السبع سنوات، يلعب مع أصحابة في تلك الساحة الضيقة بين بنايات الحي الشعبي المتهالكة، والمتلاصقة حتى تداخلت لبناتها ... مساحة محدودة لا تصلح كملعب لكرة القدم، ولا حتى كملعب لكرة الطاولة، يطلب من زميله أن يرسلها له على الجناح، وهو يبعد عنه ثلاثة ياردات منه فقط!..  يشاركهم في نفس المساحة، عدد كبير من المارة، و(التكاتك)، وعربات (الكارو)، وفرش تجار الفاكهة والخضار، وبعض مقاعد المقهى وطاولاته التي رصها صبي المقهى خارجه، ولكن كل هذا لم يكن كافيا لكبت جماح الخيال الطفولي، فبمساعدة القليل من الجير، وبعض علب الصفيح المحشوة بالأسمنت، وعصيان المكانس، صنعوا من تلك الساحة في مخيلتهم ملعبا مكتمل الأوصاف ... اليوم لديهم ضيوف من الحي المجاور، وقد أكرموا وفادتهم بالفوز عليهم في مباراة لكرة القدم، وهذا شئ يدعوا للاحتفال، ببعض المرطبات والحلوى، يدفع ثمنهما الفريق الخاسر.
-          (يوسف) ... اصعد، موعد الغذاء.
كان هذا هو صوت أمه تنادي عليه من الشرفة، تجاهل النداء في المرة الأولى، ثم أجاب في المرة الثانية:
-          حاضر ... دقيقة واحدة.
وعندما تغير أسلوب النداء، وبدأ صوت أمه يكتسب لهجة مهددة، سلم على أصدقائه، وخصومه، وهو يرتشف الرشفة الأخيرة من زجاجة المرطبات، ويعيدها للصندوق، قبل أن يتركهم، على وعد بمباراة أخرى غدا ... دخل المنزل بخطوات متحسسة في محاولة للوصول لدورة المياة، قبل أن تكتشف أمه الحالة التي وصلت إليها ثيابه، فطالعه صوت أمه من داخل المطبخ:
-          اغتسل من الطين والتراب الذي يغطي جسدك وثيابك، حتى أحضر طاولة الغذاء.
ثم اتبعت ذلك بدعوة من وراء قلبها على العيال وشقاوتهم، والحمقى الذين يتوقون للزواج وإنجاب عيال كي يحيلوا حياتهم إلى جحيم ... دخل (يوسف) إلى غرفته، ليجد أخاه التوأم (يونس) يجلس على مكتبه كعادته يطالع بعض الكتب الدراسية، كان كلاهما نسخة من الآخر، ما عدا تلك النظارة الطبية التي يضعها الثاني على عينيه، وعشقه للدراسة والقراءة، الذي يقابله عشق الأول للعب والعبث ... خلع (يوسف) ملابسه وارتدى منامته، وتجاهل أمر أمه بالاغتسال، واكتفى بتمليس وجهه ببعض قطرات الماء، توجه بعد ذلك إلى الشرفة ليمارس هوايته الأثيرة، في متابعة الرائح والغادي، وإلقاء بعض التعليقات العابثة، ولا مانع أيضا من متابعة الجيران في شرف منازلهم، أو حتى داخلها! فتلاصق بنايات ذلك الحي الشعبي وتقارب شرفات منازله كانت تسمح بذلك! ... ها هي غادة، الحسناء، المراهقة، تمسك كتابا بالمقلوب وتتصنع قراءته، ونصف شباب الحي يتابعون حركاتها من الشارع أو من شرفاتهم أو حتى من على مقاعد المقهى، وها هي (أم سمير) كعادتها تنشر غيارات بيضاء، بعد أن رفعت من على الحبل غيارات بيضاء أخرى، لا يعلم أحد من أين تأتي بكل تلك الغيارات، أما (أم إيمن)، زوجة (أبو إيمن) والذي لا يعرف أحد في الحي من هو (إيمن) بالضبط، فكانت تقف في مطبخها تقلي في طاسة عميقة شيئا ما، قد يكون (بطاطا) أو (باذنجان) أو (ورق شجر) المهم هو نذر من طعام الفقراء يقلى في الزيت الساخن حتى يصير طعمه مقبولا ... فجأة، تجمدت الابتسامة على وجه (يوسف)، عندما لمح ذلك الرجل المتشح في السواد الذي ظهر فجأة في ركن المطبخ مع (أم إيمن) التي لم تنتبه لوجوده، وهي توليه ظهرها وهي مشغولة بطاسة القلية ... اقترب ذلك الرجل من (أم إيمن) فاتضحت ملامح وجهه ... اللعنة، إنه لا يحمل أي ملامح وجه، فقط شفتان غليظتان في وجه خالي بلا جوارح، وبشرة رمادية باهتة، كالحة ... اقترب ذلك الشئ أكثر من (أم إيمن) حتى صار في ظهرها تماما ... ثم صرخ ... كان فمه مفتوحا، وفكه مدلى أثناء صراخه بشكل غير بشري، وكانت صرخته هائلة، حادة، تكاد تمزق طبلتي أذن (يوسف)، الذي حاول تغطيتهما بيديه لحمايتهما، ولكن ذلك لم يقلل صوت الصرخة الذي وصلت مباشرة إلى داخل مخه، تكاد تمزق تلافيفه ... كل ذلك و(أم إيمن) لم تنتبه إلى ذلك الصارخ، هذا ما لاحظه (يوسف)، الذي نادى على أخاه (يونس) كي يكون شاهدا معه على ما يحدث، ولكنه لم يلبي النداء ... في تلك اللحظة توقفت (أم إيمن) عما كانت تفعله، وبدا كأنها تشعر ببعض الارتباك، قبل أن تتجمد لثوان في مكانها كأنها تحولت إلى تمثال، ثم تمد يد مرتعشة إلى طاسة القلية، وترفعها ببطأ، وتصب ما بها من زيت على رأسها، وتنطلق صرختها المتألمة مدوية ... صرخ (يوسف) في ذعر جنوني، ووصلت صرخة (أم إيمن) إلى أهل الحي، الذين بدءوا يتوافدون إلى البناية التي فيها منزلها ... في تلك اللحظة توقف الصارخ عن صراخه، واستدار على عقبيه، ثم بدأ يتوجه إلى الخارج، وقبل أن يختفي من المشهد، التفت ناحية (يوسف) الذي تجمد من الرعب، ورمقه بوجه خالي من العيون، ثم رحل، قبل ثانيه واحدة من دخول بعض أهالي الحي إلى مطبخ (أم إيمن) التي توقفت صرخاتها، إشارة إلى أنها قد فارقت الحياة بسبب ذلك الزيت المغلي الذي صبته على رأسها!
***
ترجل الدكتور (كمال عثمان) من سيارة الأجرة، أمام ذلك المقهى الشهير الذي يحمل اسما يونانيا، في ذلك الحي الراقي من أحياء العاصمة، نقد السائق ورقة مالية كبيرة جعلته يرحل مبتهجا، كانت تلك هي عادة الدكتور (كمال) في التنقل، رغم امتلاكه لأكثر من سيارة، تربض جميعها في (جراج) الفيلا ولا تتحرك إلا في المناسبات ... دخل الدكتور (كمال) إلى المقهى، وهو يتلفت حوله باحثا عن شخص ما، فجاءه ذلك الصوت القوي، الجرئ:
-          أنا هنا يا (دكتور).
ابتسم الدكتور (كمال) ثم توجه إلى تلك الطاولة التي يجلس عليها ابن أخته، النقيب (محسن)، ليجلس إليها وهو يقول:
-          كيف حالك يا (محسن)؟.. أخيرا تتذكر أن لك خال.
-          بخير... كيف حالك أنت يا دكتور؟ وكيف هي صحتك؟
** ملحوظة ... كلتا الشخصيتين ظهرتا من قبل في قصة بعنوان (صائدوا الموتى) **
أومأ الدكتور (كمال) برأسه مجيبا، ثم بدأ يرمق النقيب (محسن) بنظرة طويلة، وابتسامة العالم ببواطن الأمور، قبل أن يسأله مباشرة:
-          هذه بالتأكيد ليست دعوة على الأفطار بسبب أن خالك أوحشك، وقررت أن تلتقي به ... أنت تريد أن تسألني عن شئ ما.
تنحنح النقيب (محسن) بحرج، كانت شخصيته قوية، مقتحمة مع الجميع، ولكن مع خاله كان يفقد ذلك التأثير في لحظه، ويصبح عاجزا عن مجاراة ذكاؤه الحاد وقدرته على قراءة الأمور، فقال بصوت خافت:
-          هي دعوة بالتأكيد، ولكن هناك شيئا آخر.
-          ما هو؟
قال النقيب (محسن):
-          استشارة مهنية.
حثه الدكتور (كمال) على الاسترسال بإيماءة من رأسه، فأردف:
-          هناك بعض الجرائم الغامضة.
ضحك الدكتور (كمال) ضحكة طويلة، وهو يقول:
-          الموضوع به عفاريت، وأنت قلت لنفسك، من أكثر خبرة بالعفاريت من خالي المجنون.
أجاب النقيب (محسن) مباشرة:
-          أجل.
ثم تذكر الجزء الأخير من تعليق خاله، فأردف بسرعة:
-          ليس المجنون بالطبع، ولكن الخبير، العالم، المتبحر في علوم الماورائيات.
قال الدكتور (كمال)، وعلى وجهه ابتسامة ساخرة:
-          أحسنت ... لأجل تلك الكلمات فقط، سأعيد اسمك لرأس قائمة ورثتي، بعد أن حذفتها منذ يومين لعدم سؤالك علي.
-          شكرا لك ياخالي العزيز.
-          هيا أخبرني كل شئ عن تلك الجرائم.
***
** أحداث جرت قبل عشرة أعوام **
أمسك (يوسف) بقلم (الفلوماستر) الأزرق الغليظ، وأخذ يكتب بعض كلمات المداعبة السمجة، قبل أن يختمها بالتوقيع على جبيرة صديقه المصنوعة من الجبس، والتي تغطي قدمه اليمنى، وساقه حتى ركبته، ثم قال مستظرفا:
-          من حسن حظك أن قدمك هي فقط التي كسرت، مع حجم هذا المدافع الذي التحم بك، كنت أتوقع أن تكسر رقبتك أيضا.
ابتسم صديق (يوسف) الممد باستسلام على ذلك الفراش المعدني وقدمه المكسورة مجبرة، ومعلقة على الحامل الذي يجوار الفراش ... كان (يوسف) بصحبة رفيقة في فريق كرة القدم، الذي أصيب بالأمس إصابة شديدة في مباراة دوري الجامعات،  في ذلك المستشفى الحكومي، يجلس معه في حجرة متسعة تضم صفين من الأسرة الطبية، عليها عشرون مريضا آخر حالاتهم متباينة، وخمسون من أسرهم، وعائلاتهم، حولوا المكان ببراعة إلى مولد أو مقهى شعبي.
حاول (يوسف) أن يواصل دعاباته، ولكن الكلمات تحجرت على لسانه عندما وقعت عيناه عبر باب الحجرة المفتوح، على ذلك الشخص أو الشئ الذي يسير في الردهة بخطوات آلية، واثقة، متوجها إلى داخل المستشفى ... بسرعة قفز إلى ذاكرته مشهد المسكينة (أم إيمن) الذي رآه منذ سنوات طويلة، وهي تصب الزيت المغلي على رأسها، وذلك الصارخ الذي كان بصحبتها ويصرخ في أذنيها بصوته الرهيب ... لقد حكى للجميع عن ذلك، ولكن أحدا لم يصدقه!.. واتهمه الجميع بالكذب والتلفيق، وأقنعوا أنفسهم بأن (أم إيمن) أصابها الخبال بسبب معاملة (أبو إيمن) القاسية، فقررت الانتحار ... ها هو ذلك الصارخ يظهر من جديد بعد كل تلك السنوات، يسير بثقة في ردهة ذلك المستشفى العام.
-          ما بك!؟
قالها صديقه، فنظر له (يوسف) بعينين زجاجيتين، وعقل غائب في مكان آخر، قبل أن يهب من مكانه ويسعى في خطوات سريعة ملاحقا ذلك الصارخ ... عندما وصل (يوسف) إلى باب الحجرة، نظر في الاتجاه الذي ذهب فيه الصارخ، فوجده يختفي في الزاوية، أسرع في ملاحقته حتى وصل إلى الزاوية فلمحه يدخل إحدى الغرف، عندما وصل إلى الغرفة شعر (يوسف) بالدهشة فقد كان باب الغرفة مغلقا، تسائل، كيف دخلها إذا هذا اللعين!؟. مد (يوسف) يده إلى المقبض وفتح الباب ببطء، شعور غريب بالحيرة اعترى (يوسف) في تلك اللحظة، هو ليس جريئا بطبعه، ولكنه لا يشعر بقلق أو خوف وهو يلاحق ذلك الصارخ، الذي لا يحتاج الإنسان لكثير من الذكاء حتى يدرك أنه شبح، أو كيان خوارقي أو ما هو أسوء من كليهما ... دخل (يوسف) إلى الغرفة بخطوات متحسسة، كانت الغرفة مظلمة إلا من ضوء مصباح ضعيف يلقي بقعة ضئيلة من شعاع الضوء على ذلك المريض الممد في فراشه الطبي، تلفت (يوسف) باحثا عن ذلك الصارخ، فوجده يقف إلى جوار الرجل المريض الذي كان مستيقظا في تلك اللحظة، ينظر بدهشة واستنكار إلى (يوسف) لاقتحامه غرفته، دون أن يدرك أن ذلك الصارخ يقف إلى جواره، جاثيا على صدره، يوشك أن يصرخ في أذنيه ... قال فيه (يوسف) بحدة للصارخ:
-          إياك أن تفعلها.
توقف الصارخ قبل ثانية واحدة من إطلاق صرخته، التي يعلم (يوسف) أثرها، ثم اعتدل والتفت ناحية (يوسف)، وهو يرمقه بذلك الوجه الرمادي، الخالي من الملامح، قبل أن يتوجه نحوه بخطوات بطيئة!

(انتهى الجزء الأول – ويليه الجزء الثاني)


قصة رعب بعنوان ... (الصارخ – الجزء الثاني)

ملخص ما سبق ... يطلب النقيب (محسن) من خاله الدكتور (كمال عثمان) دكتور الأدب والفلسفة، وخبير شئون الماورائيات، استشارة بخصوص بعض الجرائم الغامضة التي يحقق فيها ... ونحكي ذكريات من زمن مضى عن الطفل (يوسف) وهو يتابع ذلك الكيان الغامض الذي ظهر في شقة جارتهم (أم إيمن) فجأة، وصرخ في أذنها، فقتلت نفسها بصب الزيت المغلي على رأسها، ومواجه أخرى للشاب (يوسف) بعد ذلك بعشر سنوات مع ذلك الصارخ في غرفة بالمستشفى، كان الصارخ ينتوي أن يؤذي المريض الموجود بها.

.
قال النقيب (محسن):
-          بدأت المشكلة عندما وصلنا بلاغ من مجهول عن ذلك الموقع على الإنترنت، الذي يقدم خدمة جديدة لرواده.
سأله الدكتور (كمال):
-          أي خدمة تلك!؟
-          القتل.
توقف النقيب (محسن) للحظة ليرى ردة فعل تلك الكلمة على خاله، قبل أن يردف:
-          يمكن لأي شخص الاشتراك على هذا الموقع والتسجيل فيه، واختيار من يبغضه لكي يقوم القائمون على الموقع بقتله في مقابل مبلغ كبير من المال يدفعه عن طريق بطاقة الائتمان.
-          وما الجديد في ذلك!؟.. قاتل مأجور، ولكنه يواكب تقنيات العصر.
-          الجديد فيما حدث بعد ذلك.
التقط النقيب (محسن) أنفاسه، ثم واصل الحديث:
-          قمنا بتتبع ذلك الموقع من خلال أحد الخبراء التقنيين في الإدارة، والذي نجح في اختراق الموقع، والوصول إلى الخادم، وذلك قبل ثوان من إغلاق الخادم، والموقع بشكل نهائي.
-          يبدو أن القائمين على الموقع اكتشفوا محاولة الاختراق، وحاولوا منعها.
-          بالفعل هذا ماحدث، اكتشفنا أن الخادم موجود في الخارج، ولكن يتم إدارته من الداخل من أماكن متفرقة معظمها شبكات مفتوحة أو مقاهي أنترنت.
-          إذا، لم تعثروا على أي دليل يقودكم إلى الفاعل.
-          في الواقع نجح الخبير، في الوصول إلى ملف واحد هام قبل إغلاق الموقع.
-          وعلام يحتوي هذا الملف؟
-          قائمة بها بعض الأسماء.
فكر الدكتور (كمال) لثوان قبل أن يسأل:
-          ولماذا تعتقد أن قائمة بالأسماء تمثل شيئا هاما، قد تكون أسماء لاعبي فريق كرة الماء، أو أسماء المشتركين في مسابقة (أراب أيدول)، أو أسماء ...
قاطعه النقيب (محسن):
-          لآن أول ثلاثة أسماء ماتوا جميعا في الأيام الأخيرة.
توقف لثانية كأنه يبحث عن التعبير المناسب:
-          وجميعهم ماتوا في حوادث، ولا توجد أي شبهه للقتل.
فهم الدكتور (كمال) ما يرمي إليه ابن أخته، فتسائل:
-          وكيف ذلك؟
-          أحدهم ارتطم بسيارته بحائط من الخرسانة وهو يسير بسرعة كبير، والغريب أن الحائط كان واضح تماما للعيان، وأوضحت التحقيقات المبدئية أن السيارة لم تشتك من أي عطل، ويقول بعض الشهود ممن رؤوا الحادثة، أن قائد السيارة توجه رأسا إلى الحائط الخرساني كأنه حريص على الارتطام به.
-          تبدو لي كحادثة انتحار.
لم يعلق النقيب (محسن) وهو يستطرد:
-          والثاني سقط من شرفة منزله في الطابق العاشر، أما الثالث فعثر عليه في (فيلته)، وقد دق عنقه وانكسر ظهره نتيجه تعثره على الدرج، وسقوطه من عليه أثناء نزوله، ولم يكن معه أحد لنجدته.
-          جميعها يمكن أن نعتبرها حوادث عرضية، ولكن جميعها أيضا يمكن تصنيفها كجرائم انتحار.
فكر الدكتور (كمال) للحظات، قبل أن يردف:
-          لا يوجد شئ خوارقي في هذا الأمر ... ما الذي جعلك تذهب بعقلك في هذا الاتجاه.
-          شهادة الرابع.
-          هل تعرض هو أيضا لحادثة!؟
-          نعم كان هذا بالأمس تحديدا.
-          وماذا حدث بالضبط؟
ارتشف النقيب (محسن)، رشفة طويلة بصوت عالي من كوب القهوة الموجود أمامه، وأشار لخاله ليفعل مثله، قبل أن يقول:
-          الرابع هو رجل أعمال مشهور، كاد يتعرض بالأمس للغرق في حمام سباحة منزله، لولا ابنته التي خرجت للحديقة بشكل عرضي، فوجدت أباها يكاد يغرق، فأسرعت لإنقاذه.
-          وما الأمر الخارق في ذلك؟
-          هناك بعض النقاط الغامضة في هذا الموضوع ... الأولى أن الرجل كان يجلس لتناول العشاء أمام حمام السباحة كعادته كل ليلة في ذلك الجو الحار، ولم يكن ينتوي بأي حال النزول إلى الماء ... والثاني هو أن الرجل كان من أبطال السباحة في شبابه، وليس طبيعيا أن ينتهي به الحال يصارع الغرق في حمام سباحة صغير... أما الثالث فهي شهادة الرجل نفسها:
سأله الدكتور (كمال) بفضول:
-          وماذا قال فيها؟
-          قال ... أنه فجأة شعر بالبرد والتوتر، وبحالة رهيبة من الضيق والاكتئاب، وحاصرته الذكريات السيئة والكئيبة، وشعر أنه غير قادر على الاستمرار، وبشكل ما أقنعه عقله أن هذه الحياة الكريهة لا جدوى منها، والاستمرار فيها لن يزيده إلا تعب وضيق وحزن، وهكذا بدا له أنه، وضع حدا لهذه الحياة هي فكرة جيدة ... ففكر بأن يلقي بنفسه في حمام السباحة عسى أن يضع الغرق حدا لها.
-          غريب.
-          بالفعل ... والأغرب أنه بعد نجاته، يقول أنه لا يجد تفسيرا لتلك الحالة التي انتابته، فحياته رائعة بكافة المقاييس، ومليئة بالنجاحات والإنجازات، وهو لا يخشى شيئا في حياته كخشيته لخسارتها.
خلع الدكتور (كمال) منظاره الطبي وأخذ يلمع عويناته بقطعة من النسيج، وهو يقيم ما حكاه النقيب (محسن)، قبل أن يقول بصوت هادئ:
-          حالات الاكتئاب العابرة، والتي قد تصل بالإنسان أحيانا إلى حد الانهيار موجودة وهي السبب في العديد من جرائم الانتحار، وهناك عقاقير تسبب حالات اكتئاب، وهناك أغذية أيضا تسبب ذلك ... ولكن هناك طريقة مضمونة نستطيع بها التأكد، هل ما اعترى ذلك الرجل أمرا طبيعيا أم أنه بسبب شئ خوارقي.
-          وما هي؟
-          زيارة سريعة لمكان الحادثة؟
***
** أحداث جرت قبل عشرة أعوام **
توجه الصارخ نحو (يوسف)، فتراجع هذا الأخير في ذعر مغادرا الغرفة، تلاحقه لعنات صاحبها، الذي ما زال يظن أن (يوسف) اقتحم عليه غرفته بغير إذن!.. لاحق الصارخ (يوسف) إلى خارج الغرفة حتى صار في مواجهته تماما، فكر (يوسف) أن يستدير وينطلق لائذا بالفرار، ولكن هناك شئ ما جعله يتجمد في مكانه ... اقترب الصارخ أكثر من (يوسف) حتى صار وجهه الخالي من الملامح على مسافة بوصات قليلة من وجه (يوسف) ... توقع (يوسف) أن تنطلق الصرخة في وجهه بعد لحظة، ولكن هذا لم يحدث أبدا، وظل ذلك (الصارخ) على صمته، وكأنه ينتظر ردة فعل (يوسف)، فتمتم هذا الأخير بصوت مرتعد:
-          ماذا تريد مني؟
ولكنه لم يتلق إجابة، فأردف:
-          أرحل أيها اللعين ... ابتعد عني!
في تلك المرة استدار الصارخ على عقبيه، وبدأ يتحرك مبتعدا حتى غاب في ظلمة الرواق ... وفي تلك اللحظة أدرك (يوسف) أن كل ذره في جسده ترتعد، وأنه على وشك أن يقيئ ما في جوفه، وأنه يشعر بالدوار ... وضع (يوسف) يده على الجدار، وانحنى بجذعه لأسفل، وهو يلهث في محاوله حميمة لالتقاط بعض الأنفاس ، قبل أن يقرر أن هذا ليس كافيا، فيفترش الأرض، ويستند بظهره على الجدار وهو يضم رأسه إلى ركبتيه ... كانت فكرة واحدة تسيطر عليه في تلك اللحظة ... هل كانت مواجهته لذلك الصارخ سببا في إنقاذ ذلك المريض من صرخاته القاتلة!
***
أوصل النقيب (محسن) بسيارته خاله الدكتور (كمال) إلى (فيلته) التي يعيش فيها منفردا في منطقة الضواحي، قبل أن يذهب، بعد أن اتفق مع خاله على المرور عليه صباح اليوم التالي لاستكمال التباحث حول تلك القضية الغامضة ... قبل ساعات قليلة كانا قد زارا (الفيلا) التي يقطن فيها رجل الأعمال الذي تعرض لحادثة غرق في اليوم السابق، والذي جاء اسمه رابعا على قائمة القتل ... لم يحتج الدكتور (كمال) إلا لدقائق قليلة في مكان الحادث، قبل أن يعلن بوضوح أن هناك طاقة وحضور قويان في هذا المكان، وأنه من المؤكد أن ما تعرض له رجل الأعمال كان بسبب عمل خارق للطبيعة ... لم يكن الدكتور (كمال) يستطيع التحكم في تلك القدرة والشفافية اللتان اكتشف أنه يمتلكهما في الصغر، وتجعلانه يرى، ويشعر بأشياء لا يراها أو يشعر بها غيره، وهذا يقوده في الكثير من الأحيان إلى الكشف عن الأسرار المخفية، والغامضة، كانت تلك القدرة تعلن عن نفسها كأحلام تأتيه وهو نائم، أو كرؤى ونزغات عقلية وهو واعي، أو حتى كإدراك حسي بوجود طاقة أو قوة في مكان ما ... كان الدكتور (كمال) يأمل أن يكشف له مكان الحادث عن المزيد بخصوص مصدر تلك الطاقة التي تدفع الناس للانتحار، والتي يستخدمها شخص ما للقتل بأجر، ولكنه لم يستطع، وبالتالي طلب من ابن أخته أن يعيده لمنزله، وهذا يسمح له أن يغرق في كتبه، وأبحاثه، ومخطوطاته، أملا في التوصل إلى خيط يكشف غموض تلك القضية.
توجه الدكتور  (كمال) مباشرة إلى غرفة مكتبه الموجودة في الطابق الأول، تلك الغرفة التي يقضي فيها معظم أوقاته، بأثاثها الأثري العتيق، وتلك المدفأة الجدارية قديمة الطراز والمصنوعة من الحجر المصقول، ومكتبه الضخم المصنوع من خشب الأبنوس الأسود، والمكتبة العملاقة الممتدة بعرض الحائط، وصفوف الكتب المتراصة بها من الأرض إلى السقف ... كان كتاب الأسرار مازال مفتوحا على مصراعيه كما تركه، وملقا على سطح المكتب ... جلس الدكتور (كمال) على مقعده الأثير، خلف المكتب، وبدأ يقلب في كتاب الأسرار، ثم يتوقف عند صفحة بعينها ويقرأ فيها باهتمام ثم يزفر في ضيق، وهو يتجاوزها إلى الصفحة التالية، قضى الدكتور (كمال) ساعة على تلك الحال، ثم وضع كتاب الأسرار جانبا، وجلب كتابا آخر، واستمر على تلك الحال من كتاب إلى كتاب، ومن ورقة بحثية حديثة، إلى مدبوغة جلدية مكتوبة باللغة الأرامية، حتى جن عليه الليل، وشعر بالأرهاق وقرر أن يذهب إلى فراشه. .. وقبل أن يأوي الدكتور (كمال) إلى الفراش اتصل بالنقيب (محسن)، فجاءه صوته عبر سماعة الهاتف وهو يقول:
-          كيف الحال؟ هل هناك جديد؟
فأجابه الدكتور (كمال) بصوت محبط:
-          ليس بعد ... هناك عشرات الأشياء والكيانات التي يمكنها أن تؤذي البشر وتدفعهم للجنون، وحتى للانتحار... بعضها يمكنه أن يفعل ذلك بالخضوع لإرادة البشر،والبعض الآخر يفعل ذلك للغذاء أو للمتعة أو حتى كراهية في البشر والرغبة في التنكيل بهم، ولكني لا أملك دليلا يوضح أي كيان من بينها نطارد هذه المرة.
أجابه النقيب (محسن) مشجعا:
-          لا يوجد مشكلة، الجيد أننا نعرف الآن أن هناك شيئا ملعونا علينا إيقافه ... استمر في دراستك، وأنا سأقوم ببعض التحريات من أجل جلب المزيد من المعلومات ويمكننا مناقشة الموضوع أكثر غدا.
توقف للحظة، ثم أردف:
-          تصبح على خير، عذرا إن كنت أرهقتك اليوم.
وقبل أن يغلق النقيب (محسن) الهاتف، سأله الدكتور (كمال) بسرعة:
-          ماذا عن باقي الأسماء في القائمة؟
-          وضعناهم جميعا تحت المراقبة، وعندي موعد غدا مع صاحب الاسم الخامس في الترتيب.
-          من هو؟
-          إنه الدكتور (نور النجدي) طبيب الأعصاب المعروف.
ارتسمت على وجه الدكتور (كمال) إمارات الدهشة، وهو يقول:
-          أنا أعرفه، إنه صديقي ... سأذهب معك غدا لمقابلته.
***
** أحداث جرت قبل عشرة أعوام **
تغيرت حياة (يوسف) كثيرا بعد واقعة المستشفى ... في الأيام التالية، عندما كان يجلس في المنزل وحيدا، الذي خلا عليه بعد وفاة أمه، وسفر أخوه (يونس) للخارج في منحة تفوق دراسية، كان يشعر أنه ليس بمفرده بالفعل، وأن هذا الصارخ موجود معه، وحوله، كان يلمحه بتلك البقعة العمياء من طرف عينه، فإذا التفت لا يجده، وكان إذا نام وأطفأ النور شعر بوجوده معه في غرفة النوم، فإذا أضاء المصباح لم يجده أيضا، في مرات كثيرة رآه يسير في الردهة، أو يدخل المطبخ، أو الحمام، فإذا بحث عنه لم يكن له أثرا كالعادة ... يفكر أنه قد جن، أو أن هذا اللعين يترصده ... أصبح يقضي معظم أوقاته خارج المنزل، لدى أصحابه، أو على المقهى، أو هائما في الطرقات، فإذا عاد بعد منتصف الليل، تكررت تلك الظواهر، وشعر أن ذلك الصارخ موجود في المكان، لم يعد يستطيع التحمل أكثر، صرخ بأعلى:
-          أعرف أنك هنا إيها اللعين ... هيا أظهر نفسك.
فظهر الصارخ أمامه!.. بدأ يتشكل أمامه تدريجيا من العدم كأنه صورة هولجرامية يتم ضبط جودتها تدريجيا ... حتى وجده يقف أمامه في منتصف الصالة، يحدق فيه بذلك الوجه الخالي من الملامح ... تمتم (يوسف) بكلمة واحدة، وبصوت مرتعد:
-          اللعنة.
***
مشهد (سيلويت) على تلك الإضاءة الخافتة القادمة من الردهة عبر باب غرفة النوم المفتوح، الدكتور (كمال) نائم في فراشه، يعلو صوت غطيطه بعد يوم مشحون، ومرهق ... فجأة ظهر ذلك الشبح عند الباب كظل أسود تعانق قدميه ظلمة الغرفة، ثم تقدم إلى الداخل حتى غاب في الظلمة ... اقترب ذلك الشبح بخطوات بطيئة من فراش الدكتور (كمال)، حتى صار بجواره تماما، قبل أن ينحنى على جسده، فصار فمه على بعد بوصات قليلة من أذن الدكتور (كمال) ... ثم أطلق صرخة عالية، حادة، مرعبة!
..(انتهى الجزء الثاني – ويليه الجزء الثالث)..


قصة رعب بعنوان ... (الصارخ – الجزء الثالث)

ملخص ما سبق ... يواصل النقيب (محسن) بمساعدة خاله الدكتور (كمال)، التحقيق في جرائم انتحار غامضة  تصيب مجموعة من الأشخاص وجدت أسماءهم على قائمة عثر عليها على موقع إنترنت يقدم خدمة القتل مقابل مبالغ مالية ... ومزيد من ذكريات (يوسف) في مراحل عمره المختلفة، ومشاهدات متعددة لذلك الكيان الرهيب المسمى الصارخ ... ومشهد (سيلويت) لذلك الصارخ وهو يدخل غرفة نوم الدكتور (كمال)، يقترب من فراشه، وينحني على أذنه، ويطلق صرخته المرعبة.
.
-          ترررررن ... تررررررن!
صوت لحوح، سمج، يقتحم حلم النقيب (محسن)، ويجبره على الاستيقاظ ... فتح النقيب (محسن) نصف عينه اليسرى فقط، وهو يحاول أن يعرف مصدر هذا الصوت اللعين، أطلق سبة مجهولة، وأطاح بالمنبه بضربة واحدة إلى آخر الغرفة، فاصطدم بالجدار، وسقط على الأرض وقد بصق أحجاره الجافة خارجا، ولكن الصوت لم يتوقف، ولكنه ارتفع وزادت حدته أكثر ... مد النقيب (محسن) يده، وأخذ يتحسس سطح الكمود الخشبي الذي يجاور الفراش، حتى وصل إلى هاتفه المحمول، الذي بدأ يتقافز بسبب وضع (الهزاز) الذي كان عليه، مصدرا صوت نقرات على السطح الخشبي للكمود، ليضيف إزعاجا آخر إلى صوت الرنين السخيف، التقط النقيب (محسن) الهاتف بسرعة، ووضعه على أذنيه، وهو يقول بلسان ثقيل، خدر:
-          أووو ... مت ... أت!؟
الترجمة، (ألووو .. من أنت!؟) ... جاءه صوت خاله الدكتور (كمال) من الناحية الأخرى، وهو يقول بانفعال شديد:
-          لقد عرفته.
لم يكن عقل النقيب (محسن) قد استيقظ بشكل كامل، فقال بصوت يحمل قدرا كبيرا من الدهشة:
-          دكتور (كمال) ... كم الساعة الآن؟
-          الرابعة صباحا!
اعتدل النقيب (محسن) في فراشه، وهو يحاول أن يستوعب ما يحدث، قبل أن يتساءل:
-          حسنا ... الرابعة صباحا تسبق التاسعة بخمس ساعات كاملة، وهو الموعد الذي اتفقنا على اللقاء فيه ... إليس كذلك؟
صرخ فيه الدكتور (كمال):
-          أقول لك عرفته!؟
-          ما هو؟
-          عرفت أي شيطان نطارد هذه المرة.
إيقظت الجملة الأخيرة حواس النقيب (محسن) بشكل كامل، قبل أن يردف الدكتور (كمال):
-          إنه الصارخ.
-          ماذا؟
-          الصارخ ... كيان شرير يصرخ في آذان البشر فيصيبهم بحالة من الاكتئاب والارتباك، وقد يؤدي ذلك إلى الانتحار في كثير من الحالات، أو التصرف بحمق يقود إلى حوادث كارثية.
صمت النقيب (محسن) للحظة، قبل أن يسأل:
-          وكيف عرفت؟
كان يعرف إجابة سؤاله مقدما، ولكنه وجد أنه يجب أن يسأله، فأجابه خاله الدكتور (كمال) بالإجابة التي توقعها:
-          رؤية ... لقد رأيته في حلم، لا، بل كان كابوس، رأيته يقتحم غرفتي، وينفث سمه في أذني مع صرخاته.
توقف الدكتور (كمال) للحظات وقد ثبط انفعاله، قبل أن يقول بلهجة عملية:
-          يمكنك أن تعود للنوم، لدي المزيد لأخبرك به عندما أراك في الصباح.
-          وما هو؟
-          طرف خيط، يمكننا أن نلاحقه.
أغلق النقيب (محسن) الهاتف وهو يكرر كلام خاله متذمرا (يمكنك أن تعود للنوم ...)، قبل أن يلقي بظهره على الفراش ويحاول جاهدا العودة للنوم، وهو يعلم أن هذا سيكون ضربا من المستحيلات، قبل أن ينهض أخيرا من فراشه، وهو يزفر قي ضيق، وهو يتوجه إلى المطبخ لإعداد كوب من الشاي، وهو يتمتم:
-          الصارخ ... أي لعنة جاءت بك إيها الصارخ!؟
***
-          مرحبا، أيها العجوز!
قالها الدكتور (نور النجدي) طبيب الأعصاب المعروف للدكتور (كمال)، بعد أن خرج من غرفة الكشف في عيادته الفخمة بأرقى أحياء العاصمة، عندما علم بوصوله، ليرحب به ترحيبا شديدا، وقد علا ثغره ابتسامة واسعة، صادقة، فقال الأخير:
-          أراك قد عدت شابا ياصديقي، من الواضح أن الزيجة الأخيرة أتت أكلها ... هل كانت الرابعة أم الخامسة، لقد توقفت عن العد منذ فترة؟
-          بل هي الرابعة فقط ... واعتقد أنها على وشك الانتهاء قريبا!
-          لماذا؟
ارتسمت ملامح الجد المشوب ببعض الحزن، على وجه الدكتور (نور) وهو يقول:
-          بعد رحيل أم الأولاد إلى ربها، وتفرق الأولاد مابين دول الخليج وأوربا، كل ما تلى ذلك من زيجات سواء، هباء منثور، إمرأة طامعة، تبحث عن المال والشهرة، فتجدهما لدي ... في البداية تكون لطيفة، عذبة، رقيقة كاليمامة، وبعد الزواج تتحول إلى وحش هصور لا يشبع أبدا، وصداع دائم لا يصلح معه أي مسكن ...
أكمل الدكتور (كمال):
-          ومع شخص ملول مثلك، يكون الطلاق هو الحل المناسب!
-          أجل ... حقا أخسر بعض المال، ولكنني أريح رأسي في النهاية.
انتبه الدكتور (كمال) إلى أن النقيب (محسن) يقف بينهما يتابع ذلك الحوار بملل، فقال بسرعة مقدما إياه للدكتور (نور):
-          النقيب (محسن)، ابن أختي، كان لديه موعد معك اليوم، وأصررت على أن آتي بصحبته لرؤيتك.
سلم عليه الدكتور (نور) بحرارة، ثم دعاهما إلى داخل غرفة الكشف، وأغلق الباب، قبل أن يطلب منهما الجلوس، ويجلس هو خلف مكتبه، وهو يقول:
-          خير؟.. كيف استطيع مساعدتكما؟
قال النقيب (محسن) بسرعة، وبطريقة عملية، وبلهجة جافة:
-          هل هناك من يفكر في قتلك؟
ارتسم الاستنكار على وجه الدكتور (كمال)، ولكن رد الدكتور (نور) كان مفاجأ وهو يجيب ببساطة:
-          أجل ... زوجتي.
***
إضاءة حمراء خافتة في تلك الغرفة، التي جلس ذلك الرجل في ركن منها على وسادة عربية، وأمامه مجمرة من النحاس، بها بعض قطع الفحم المشتعل، يحترق فيها بعض اللبان والبخور، ويصدر عنهما سحابة من الدخان العطري، تعبق جو الغرفة، كان الرجل يقرأ من ورقة في يمينه بعض التعاويذ بلغة شيطانية غير مفهومة، قبل أن يضع الورقة جانبا، وهو يصيح بصوت جهوري:
-          أين أنت يا صديقي؟ ... أحضر.
بعد ثوان قليلة، وفي منتصف الغرفة تماما، ووسط سحابة البخور التي تغشي البصر، بدأ ذلك الصارخ يتشكل كجني المصباح، بعبائته السوداء، ووجهه الرمادي، الخالي من الملامح، إلا من فم ذو شفتين غليظتين، بلون القطران ... اقترب الصارخ من الرجل خطوتين، ووقف في ترقب، فبادره الرجل قائلا:
-          لقد كانت المهمة الأخيرة فاشلة وغير مكتملة ... ولكن لا ضير فلدينا كل الوقت والقدرة، لنكمل ما بدأناه.
صمت للحظة، أخرج فيها ظرف ورقي صغير من جعبته، وفتحه ليخرج منه بعض الشعيرات، ويلقي بها لتحترق في المجر، وهو يوجه حديثه للصارخ:
-          هذا هو هدفك ... أنت تعرفه بالتأكيد، فقد زرته بالفعل الليلة قبل الماضية ... حاول أن تنهي الأمور بشكل نهائي هذه المرة.
توقف لثانية، ثم أردف بلهجة آمرة:
-          هيا أذهب.
***
قال النقيب (محسن) مقاطعا خاله الدكتور (كمال) الذي يجلس بجواره في السيارة، ويلقي عليه كيلا وافيا من اللوم، على تلك الطريقة الجافة التي تعامل بها مع الدكتور (نور النجدي)، كأنه يحقق مع نشال أو لص سيارات:
-          عذرا ... أنا لم أقصد أي إساءة.
زفر الدكتور (كمال) بضيق، فأردف النقيب (محسن) محولا دفة الحديث ببراعة:
-          تقول إن لديك طرف خيط يمكننا ملاحقته.
لم يجب الدكتور (كمال) في البداية، وهو يحدق في الزجاج الأمامي، وقد انعقد حاجبيه بشده، قبل أن تلين ملامحه أخيرا، وهو يقول:
-          حسنا ... لقد كان ذلك منذ عشر سنوات.
-          ماذا حدث بالضبط؟
أخذ الدكتور (كمال) شهيقا طويلا، ثم بدأ يسرد ما حدث:
-          في تلك الفترة، كنت ما زلت أعمل بالجامعة، كانت سنواتي الأخيرة فيها ... قبل ذلك بعدة أيام ظهرت في برنامج تلفزيوني للمرة الأولى والأخيرة في حياتي ... حيث دعتني تلك المذيعة اللعينة، فحسبت أن ذلك بسبب خبرتي العلمية و الأكاديمية، ولكنها فاجئتني، وهي تقدمني للحضور كخبير في علوم الماورائيات، لم أعرف من سرب لها تلك المعلومة، قليلون كانوا يعرفون اهتماماتي في ذلك الوقت.
ألقى الدكتور (كمال) نظرة جانبية على صاحبة، فلمح الاهتمام على وجهه، فأردف:
-          وحاصرتني تلك اللعينة بأسئلة كثيرة عن الأشباح، والكيانات، والشياطين فأجبتها بما أعرف، ويبدو أن تلك الحلقة لاقت القليل من الصدى، وأن هناك البعض تابعوها بالفعل ... فبعد أيام قليلة، طرق باب مكتبي ذلك الشاب، أتذكر أن اسمه كان (يوسف) لأنه على اسم جدي، وكان طالب في الصف الثالث بكلية تربية رياضية، كان يريد استشارتي، بالطبع ليس في الأدب والفلسفة، ولكن بخصوص تجربة خوارقية يعيشها منذ صغره.
قال النقيب (محسن) بسرعة:
-          بالتأكيد لها علاقة بالصارخ.
قال الدكتور (كمال) ساخرا:
-          أنت لماح بحق يا (محسن) ... نحن نطارد الصارخ هذه الأيام، بالتأكيد عندما أقص عليك شيئا وأدعي أنه طرف خيط، سيكون له علاقه به.
أطلق النقيب (محسن) ضحكة عالية مستفزة، وهو يشير بيده معتذرا، وطالبا من خاله مواصلة الحديث، فأردف الدكتور (كمال) :
-          حكى لي عن رؤيته لذلك الصارخ، وسماعه، وهو يصرخ في أذن جارته، فتحرق نفسها بالزيت المغلي، ومواجهته له أثناء محاولته لإيذاء شخص آخر بعدها، ورؤيته له في منزله عندما استدعاه، ورحيله عندما طلب منه الرحيل ... وفي النهاية طلب مني النصيحة.
صمت الدكتور (كمال) للحظات التقط فيها أنفاسه، ثم واصل الحديث:
-          لم أكن أعرف الكثير عن الصارخ في ذلك الوقت، ولكنني أذكر أنني قلت لهذا الشاب، أن هذا الصارخ لا يبدو أنه يعتزم إيذاءك، بل يبدو لي أنك تمتلك عليه سلطان، تأمره، فينفذ ما تأمر به ... فسألني، وكيف يكون هذا!؟.. قلت قد يكون ذلك بسبب الدم، قد تكون ورثت ذلك السلطان عن أبيك، أو أمك، أو أحد أجدادك ... في العادة تكون تلك الأمور كذلك، لهذا هو دائم الظهور حولك، ينتظر منك أن تتواصل معه ... قال لي الشاب، ولكنني لا أريد ذلك ... فنصحته، إذا تجاهل وجوده تماما حتى يرحل، ويختفي من حياتك.
صمت الدكتور (كمال) مجددا وطال صمته تلك المرة، فسأله النقيب (محسن) بفضول:
-          وماذا حدث بعد ذلك؟
-          ذهب الشاب ولم أره بعدها مجددا؟
***
كان يريد أن يخرج من المستشفى في تلك الليلة، هو يشعر بأنه في حال أفضل، وآثار الغرق في حمام السباحة الجسدية والنفسية قد زالت تماما، ولكن أبنته أصرت على بقاءه لليلة أخرى إضافية ... زاره الطبيب وأطمأن على حالته، وجلبوا له العشاء فتناوله بشهية مفتوحة، وشعر ببعض النعاس، فقللت ابنته من إضاءة المصباح، وقبلته في جبهته، وقالت له:
-          سأكون بالخارج ... لو احتجت شيئا نادني.
-          شكرا ياحبيبتي، كنت افضل أن تبيتي في (الفيلا)، لا داعي لآن تتعبي نفسك بذلك الشكل، وبخاصة أن لديك محاضرات في الجامعة باكرا.
مست فمه برقة، وهي تقول:
-          تعبك راحة.
ثم غادرت الغرفة ... عدل وضع وسادته، ثم استلق على ظهره، شعر أن الخدر يتسلل إلى جسده ببطء، ولكن من أين يأتي هذا البرد القارص؟.. لماذا يشعر بأن هناك ما يجثم على صدره!؟.. إنها تلك الكآبة تتسرب إلى نفسه مرة أخرى؟.. ما هذه الحياة اللعينة التي يحياها بلا هدف ولا أمل؟.. يشعر أن حركة التنفس لم تعد حركة لا إرادية، وإنه عليه أن يبذل جهدا هائلا ليجبر نفسه على التنفس والاستمرار في الحياة ... البرد يزيد، والألم النفسي يحاصره، ومقت الحياة يسيطر على كل وجدانه، يتلفت حوله كالزومبي، فيلمح السكين على صفحة الطعام الفارغة، على الطاولة المجاورة لفراشة، يلتقطه بسرعة، ثم يكشف عن ذراعه، ويبدأ تمزيق أوردة ساعده بالسكين ... الدماء تنبجس كالنافورة، يلقي السكين وذراعه إلى جانبه، وينتظر الموت في يأس كئيب ... هل رفعت الحجب عن بصره وبصيرته في اللحظات الأخيرة قبل موته، ليرى ذلك الصارخ الذي يقف إلى جانبه، جاثما على صدره، ينفث صرخاته في أذنيه ... لم يعد موجودا في هذه الحياة ليجيب عن هذا السؤال!
..(انتهى الجزء الثالث – ويليه الجزء الرابع)..

قصة رعب بعنوان ... (الصارخ – الجزء الرابع)

ملخص ما سبق ... يتوصل الدكتور (كمال) إلى أن الكيان الشرير المسمى الصارخ، هو السبب وراء ثلاث جرائم انتحار غامضة، ويتذكر أحداث لقاءه بالشاب (يوسف) قبل عشرة سنوات، حينما جاءه الأخير طلبا للنصيحة بشأن مشاهداته المرعبة لذلك الصارخ ... وتتواصل هجمات الصارخ القاتلة حينما يتسبب في جريمة انتحار رابعة، كان ضحيتها رجل الأعمال الناج قبل يومين فقط من محاولة انتحار سابقة ...
.
-          هل هذا هو المكان؟
قالها الدكتور (كمال)، وهو يحدق في ذلك الباب القديم المصنوع من خشب (الزان)، وخصاصيه الزجاجيين، المحميين بشبكة من أعمدة الصلب الملحومة والمصبوغة بألوان الزيت ... منزل بسيط في الدور الثاني للبناية القائمة في ذلك الحي الشعبي التقليدي، بعمائره القديمة المتهالكة، ومحاله البسيطة، وأهله بوجوههم المبتسمة، رغم أرواحهم الخائرة، وأجسادهم المكدودة، مكان من تلك الأماكن التي لم تطلها يد التغيير لسنوات طويلة، فحافظ على أصالته، ورونقه، فأصبح كبوابة زمنية عندما تلجها تعود بك مباشرة إلى الماضي الجميل ... أجاب النقيب (محسن):
-          أجل.
-          لم أفهم كيف استطعت في يوم واحد أن تصل إلى عنوان ذلك الشاب، من معلومات بسيطة ذكرتها لك عنه؟
ابتسم النقيب (محسن)، وهو يمد سبابته ليضغط جرس الباب فيصدر رنينا طويلا، قبل أن يجيب:
-          هذا هو عملنا ... الوصول إلى الهدف بالقليل من العلامات و المعلومات.
توقف للحظة، ثم أردف:
-          تذكر أن (يوسف) لم يعد شابا كما قابلته منذ عشر سنوات، فهو الآن رجل ناضج في العقد الثالث من العمر ، ويعمل كمدرس للتربية الرياضية بالمدرسة الإبتدائية بالحي، وهو متزوج ولديه ثلاثة أطفال.
فتح الباب، وظهر وراءه طفل في السادسة من عمره، يحمل وجهه إمارات الشقاوة و(العفرتة)، يمسك في يمينه بفخذ دجاجة، وفي يساره قبضة من شرائح البطاطا المقلية، وقد تغطى فمه ووجنتيه بصوص الطماطم ... رمقهما بنظرات مرتابة، فبادره الدكتور (كمال):
-          أين أباك يا صغيري؟
أطلق الطفل صرخة طويلة ينادي بها على أمه كأنه ذئب يطلق عواءه في ليلة قمرية:
-          أمي ... أميييييي!
أقبلت أمه من داخل المنزل، أمرأة ثلاثينية، تمتلك جسد قصير، ممتلئ، ترتدي ملابس منزلية بسيطة وتضع على رأسها غطاء رأس، وتحمل في يدها طفل رضيع، وتجر بالأخرى طفل ثان يناهز عمره العامين ... بدت مذعورة وقلقة، بعد أن وقعت عيناها على النقيب (محسن) الذي تشي ملامحه بأنه شرطي عتيد، قبل أن تقول بصوت متوتر:
-          خير؟
أجابها النقيب (محسن) بصوت غليظ:
-          أين زوجك (يوسف)؟
زادت توتر المرأة، وهي تكرر سؤالها بصوت مرتعش:
-          خير يا (باشا)؟
كانت كلمة (باشا) التي أضافتها للسؤال بفطرية، تحمل أكثر من معنى، فهي تعني أنها أدركت أن محدثها هو ضابط شرطة، وأنها تشعر بالقلق على زوجها من سؤالهما عنه، وهذا قد يدفعها لعدم التعاون ... تدخل الدكتور (كمال)، في الحديث، وهو يقول:
-          أنا الدكتور (كمال)، زوجك يعرفني، وكنا نريده في عمل.
أجابته المرأة، وهي تنظر بطرف عينيها إلى النقيب (محسن)، الذي رسم على وجهه ابتسامة مشجعة:
-          هو في الساحة الشعبية، لديه مبارة لكرة القدم.
-          هل يلعب زوجك كرة القدم في هذه العمر؟
-          بالطبع أنه يعشق تلك اللعبة بجنون منذ الصغر، ويمارسها معظم الأوقات، وماتبقى من وقته يتابع فيها مباريات كرة القدم في التلفاز.
قبل أن تضيف بعفوية:
-          أحيانا أتخيل أن لا يهتم بشئ غيرها.
***
على تلك الطاولة الخشبية في ذلك المقهى البلدي أسفل البناية التي يعيش فيها (يوسف) منذ صغره وحتى الآن، جلس وبصحبته الدكتور (كمال)، والنقيب (محسن)، وطلب لهما كوبين من الشاي، بعد أن أخرجاه منذ لحظات من تلك المباراة الحماسية التي كان يلعبها بصحبة مجموعة من الأصدقاء، تتراوح أعمارهم بين الثلاثين والستين عاما ... عرف (يوسف) الدكتور (كمال) على الفور، وشعر ببعض القلق تجاه نظرات النقيب (محسن) القوية، ولكن الدكتور (كمال) هدأه عندما قدم له النقيب (محسن) على أنه إبن اخته فقط، وأنهما يريدان أن يتكلما معه في موضوع خاص... قال (يوسف):
-          خير؟ هل تبحثان عن شقة في المنطقة؟.. عندي طلبكما.
بادره النقيب (محسن):
-          هل أنت مدرس أم سمسار؟
-          كلاهما ... الرزق يحب الخفة!
قال الدكتور (كمال):
-          نريد أن نسألك عن الصارخ ... هل مازلت تراه؟
تلون وجه (يوسف) باللون الأزرق، والأحمر، وبدا مرتعبا، وهو يقول:
-          اللعنة ... لا تذكرني به.
كرر الدكتور (كمال) سؤاله:
-          هل ما زلت تراه؟
صمت يوسف وزاغت عيناه وهو ينظر حوله، وكأنه يهم بالرحيل ... فأمسك النقيب (محسن) بذراعه، وهو يقول بصوت جاد:
-          أجب يا (يوسف) إنه أمر هام.
ثم أردف:
-          حياة أو موت.
حدق (يوسف) في وجهه لحظات، قبل أن يقول بصوت ضعيف:
-          أخشى إن تحدثت عنه أن يعاود الظهور.
سأله الدكتور (كمال) بسرعة:
-          إذا فما عدت تراه؟
-          أجل لقد أخذت بنصيحتك بالفعل، وتجاهلت ظهوره الذي أصبح أكثر كثافة وتواترا بعد مقابلتي لك.
تنهد بصوت عالي، وهو يردف:
-          واصل مطاردتي لشهور، ثم اختفى تماما من حياتي في النهاية ... لقد نسيته، ولا أريد أن أتذكره الآن.
سأله الدكتور (كمال):
-          هل أنت واثق أنك لم تره مؤخرا؟
-          أجل واثق.
قالها، ثم نهض من على الطاولة، وهو يشير لصبي المقهى إشارة مفادها أن الحساب عنده، قبل أن يقول:
-          الآن إسمحا لي بالذهاب.
ابتعد (يوسف) بخطوات سريعة، سأل النقيب (محسن) خاله:
-          ما رأيك؟
-          أشعر أنه صادق ... كما أنني لم أشعر بأي طاقة أو حضور حوله كما شعرت في أول مرة جاءني فيها.
***
ارتدى الدكتور (كمال) عويناته الخاصة بالقراءة، فقد كانت حروف الكتابة في تلك المخطوطة حائلة، وكلماتها مكتوبة بخط اليد وبحروف لاتينية، دقيقة، صغيرة، كأنها كتبت بسن دبوس ... كانت تلك المخطوطة من المخطوطات القليلة التي تتحدث عن مواجهة صريحة مع الصارخ، مواجهة سجلها في مذكراته قس يدعى (فريدريك شوارتز)، كان يعيش في قرية جبلية صغيرة أسمها (بروجهامل)، في الأقليم البافاري، من دولة (جيرمانيا)، أو كما أسموها في ذلك العصر (الأمبراطورية الرومانية المقدسة)، حيث جرت تلك الأحداث في القرن الخامس عشر ... يحكي فيها القس (فريدريك شوارتز) قائلا:
-          اليوم عرفت مصدر كل الشرور في قريتنا، ذاك الذي جاء إليها منذ عامين، رمى فيها بذرته، فأنبتت نباتا شيطانيا، غزا بفروعه وثماره الشوكية، كل شبر في ربوعها، وضرب بجذوره في قلبها فأدماه ... إنه ذلك التاجر، الثري، الأعور، (فايجيل) ... اليوم عرفت أنه ساحر، ملعون، نجس، باع روحه للشرير، حتى يبسط نفوذه على قريتنا والقرى المجاورة ... اليوم جائتني خادمته الشريفة (صوفيا) تعترف ... تعترف بأن سيدها هو المسئول عن مقتل (جريفين) الذي شنق نفسه في منزله، و(هانز) الذي ذبح نفسه بالساطور، كلاهما رفض بيعه متجره، فانتهى الأمر بكليهما يعضان التراب، ونال هو المتجرين بأبخس سعر ... لقد انحل القيد عن لسان ذلك اللعين عندما أثقل الخمر رأسه، فاعترف لخادمته بأنه هو المسئول عن مقتل الأثنين، والعشرات غيرهما قبل ذلك ... قتلهما بأن سلط عليهما ذلك الكيان الشرير الصارخ، ليبث في أذنهما سمومه، فيكدر عليهما حياتهما ويدفعهما للانتحار بأبشع الوسائل ... أعلم أن تلك هي مهتمي الآن، التي أوكلها لي الرب ... مهمتي هي أن أتخلص من ذلك اللعين، وأطهر القرية من شروره.
تلا ذلك عدة سطور حالت فيهم الكتابة بشكل كامل وامتزج حبرها في بقعة زرقاء كبيرة، وكأنها قد أتلفت بسبب البلل والرطوبة ... يواصل بعدها القس (فريدريك شوارتز) روايته:
-          اليوم أطرق بابه، وبصحبتي الحداد (صتيفان) الذي أطلعته على السر، حتى يكون عونا لي، يحمل معه سيفه البتار، ورغبة قوية في قطع رأس ذلك الشرير، وإحراقها في مرجله الملتهب ... صحبت معي أيضا كتابي المقدس، وتلك الأداة السرية التي نصحني بأخذها معي الأب العجوز، المحنك، (لوثر) ... أنا أثق فيه وفي خبراته الكبيرة التي حصدها في سني عمره التي قاربت المائة، أفنى جميعها في محاربة الشر والشرور، قال لي أنه لولا أن أبيضت عيناه، وعجزت أطرافه وتيبست، لسعى معنا لمواجه ذلك الشرير ... فتح لنا (فايجيل) الأعور الباب، فقرأ ما جئنا فيه على وجوهنا، فابتسم لنا ابتسامة شيطان مريد، وأفسح لنا الطريق ودعانا للدخول.
يكمل القس (فريدريك شوارتز) روايته بقلمه الرفيع على سطور المخطوطة:
-          لحق بنا إلى الداخل ثم أولانا ظهره، وبدأ يرتل بعض التراتيل الشيطانية، لا أدرك لغتها ولا معناها ... من الواضح أنه اقتصر كل المقدمات، ودخل في الموضوع مباشرة، هو يعرف أننا جئنا لقتله، وهو سيسعى لقتلنا ... أشرت إلى (صتيفان)، فرفع سيفه من غمده، واقترب من الأعور عازما جز رقبته، فجأة توقف (صتيفان)، وبدا كأنه يتألم، قبل أن يجثو على ركبتيه، وينظر لي بوجه بائس، متألم، يائس، قبل أن يرفع سيفه، ويغمده في بطنه ... كنت أقرأ في كتابي المقدس، وكان (فايجيل) الأعور يواصل تراتيله الشيطانية ... ما هذا البرد؟ من أين يأتي هذا السقيع؟ لماذا أشعر بكل هذا القدر من الحزن والأسى؟ لماذا أصبحت زاهدا في تلك الحياة، وراغبا في إنهاءها؟.. بإرادة حديدية، وبمباركة آخر كلمات قرأتها من الكتاب المقدس، أخرجت ذلك الغرض السري الذي أوصاني به الأب (لوثر) ... إنه بوق، بوق قديم من تلك التي كانت تستخدم في الصيد لنداء الوعول البرية، وبآخر سنتيم من إرادتي، نفخت فيه بكل قوتي فأطلق صوتا عاليا مزعجا يصم الآذان، ونفخت فيه مرة أخرى، وأخرى ... ومع كل نفخة أشعر أن تلك الحالة تغادرني، واستعيد سيطرتي على ذاتي ... وقبل أن يفيق ذلك اللعين من المفاجأة، قفزت على (صتيفان) ونزعت السيف من جسده، وغرزته في رقبة ذلك الأعور الملعون، فسقط كجذع شجرة وعيناه تحدقان بدهشة وعدم تصديق.
وضع الدكتور (كمال) المخطوطة على المكتب أمامه، وتنهد في إرهاق وهو ينزع عويناته ويتمتم في ظفر:
-          إذا الصوت العالي يحد من تأثير صرخات الصارخ ... هذه معلومة هامة.
***
جلس النقيب (محسن) في ذلك الركن من المقهى الراقي، يتصنع قراءة الجريدة، وشرب فنجان من تلك (القهوة) الرغوية الغير مفهومة المسماة (بشئ ما تشينو)، لم يكن يحبها ولكنه لا يعرف لم طلبها هذه المرة، قد يكون حب استطلاع، في الواقع أن عيناه كانتا على تلك المرأة الشابة، التي تجلس في ترقب وكأنها تنتظر أحدا ما ... كانت تلك هي زوجة الدكتور (نور النجدي) والتي اختارها سابقا كمرشحة للتفكير في قتله ... لم يعتبر النقيب (محسن) ذلك نوعا من الدعابة بحسه (البوليسي)، فاعتبر ذلك طرف خيط، فوضعها تحت الرقابة الدقيقة، ورغم أن ذلك غير قانوني إلا أنه تجسس أيضا على هاتفها المحمول ، فرغم كونه رجل أمن إلا أنه لا يعبأ كثيرا بالقانون، طالما يحقق الأمن الذي يراه من منظوره الشخصي، المهم أن ذلك التجاوز جاء بأكله، فقد قرأ تلك الرسالة التي يدعوها أحدهم فيها للقاء في هذا المكان وإحضار المبلغ المطلوب والأشياء الأخرى المتفق عليها ... بالتأكيد هذه رسالة من القاتل، الذي سيقع في قبضته بعد قليل.
ثوان ودخل المكان رجل يرتدي ستره تغطي رأسه ونصف وجهه، وتغطي النظارة نصفه الثاني، اقترب من المرأة، وهمس لها ببضعة كلمات، فأخرجت من حقيبتها ظرف أصفر مكتنز وناولته له بسرعة وقلق، وهي تتلفت حولها، خطفه منها وتوجه مباشرة إلى الخارج في خطوات سريعة ... لحق به النقيب (محسن) تاركا مسافة آمنة ... عبر الرجل طريق السيارات، ثم ولج إلى الشارع المقابل ، كانت خطواته سريعة أقرب للجري منها للسير، لاحقه النقيب (محسن)، فلمحه وهو يعرج إلى شارع جانبي، أسرع النقيب (محسن) خلفه حتى لا يفقد أثره، وما أن دخل الطريق الجانبي، حتى فوجئ بهذا الرجل يقف في منتصف الطريق الخالي تماما من المارة في ذلك الوقت ... بادره الرجل بصوت هادئ، ونبرة واثقة:
-          هل تلاحقني؟
تحسس النقيب (محسن) مسدسه الرابض في جراب صدره، وهو يقول:
-          إذا فأنت تفضل الاستسلام، لا الهرب، أحسنت الاختيار.
أطلق الرجل ضحكة طويلة، رقيعة، وهو يقول:
-          هناك خيار ثالث.
رفع الرجل غطاء رأسه، ونظارته من فوق وجهه، فصرخ النقيب (محسن):
-          إنه أنت أيها اللعين ... كنت أعرف.
فجأة تجمدت الكلمات على لسان النقيب (محسن)، بعد أن صعقه ذلك البرد الذي ينخر في عظامه؟ تسائل، في حيرة، من أين ياتي هذا البرد؟ وما ذلك الشعور بالكآبة الذي يشعر به يجثم على روحه في تلك اللحظة؟ لم يكن عقله يعمل بشكل جيد في تلك اللحظة، لآنه لو كان يعمل لأدرك أن تلك المشاعر التي تعتمل في نفسه في تلك اللحظة، هي بسبب ذلك الصارخ الذي يقف بجانبه ويصرخ في أذنيه، صرخة مرعبة، مفزعة.
..(انتهى الجزء الرابع – ويليه الجزء الخامس والأخير)..
 
قصة رعب بعنوان ... (الصارخ – الجزء الخامس والأخير)
ملخص ما سبق ... يواصل النقيب (محسن) التحقيق في جرائم الانتحار التي يتسبب فيها كيان شرير يسمى الصارخ، تقوده تلك التحقيقات إلى (يوسف) وتجربته مع الصارخ في الماضي، الذي يخبره بأن تلك التجربة المروعة انتهت بالفعل منذ عشر سنوات ... ويتمكن الدكتور (كمال) بعد مراجعة مخطوطاته وكتبه القديمة، من التوصل لطريقة يمكن التشويش بها على صرخات الصارخ الرهيبة، ولكن ما لا يدركه بعد، أن الصارخ تمكن بالفعل من ابن أخته النقيب (محسن)، بعد أن تعرف هذا الأخير على شخصية المجرم الذي يحرك خيوط كل تلك الجرائم.
.
-          هل تصدق حقا هذا الهراء يا (كمال) !؟
قالها الدكتور (نور النجدي) باستنكار شديد، فأجابه الدكتور (كمال) بابتسامة من اعتاد على تلك التعليقات:
-          أنا لا أصدقه فقط، أنا أعيش فيه بشكل كامل.
ضرب الدكتور (نور النجدي) كفا بكف، وقد علت وجهه ملامح الدهشة الشديدة بعد أن قص عليه الدكتور (كمال)، قصة الصارخ، والخطر الداهم الذي يشكله على حياته، قبل أن يسأله بنفس اللهجة المستنكرة:
-          ماذا تقصد؟
أجابه الدكتور (كمال) بصوته الهادئ، الرخيم:
-          لي تجربة طويلة في عالم الماورائيات، ويمكنني أن ألخصها لك في جملة واحدة، نحن لا نعيش في هذا الكون وحدنا، هناك الكثير من المخلوقات الأخرى التي لا ندرك حتى وجودها، بعضها مسالم، ولكن بعضها أيضا خطر للغاية، وقاتل.
-          أنا لا أصدق ذلك؟
زفر الدكتور (كمال) في ضيق، وهو يقول:
-          إذا عليك أن تصدق أن اسمك جاء خامسا في قائمة، ماتت الأسماء الأربعة الأولى فيها الأسبوع الماضي في ظروف غامضة ... وأن الجهات الأمنية تحقق في هذا الموضوع.
حل الذعر محل الاستنكار على وجه الدكتور (نور النجدي)، وهو يسأل بصوت مرتعش:
-          أربعة!؟
-          أجل ... وأنا هنا من أجل صداقتنا، أحاول أن أساعدك لكي لا تكون أنت الخامس!
ازدادت الرعشة في صوت الدكتور (نور النجدي)، وهو يتساءل:
-          وبماذا تنصح؟
-          حاول ألا تبق وحدك معظم الأوقات.
-          وكيف ذلك؟
صمت الدكتور (كمال) للحظات، بدا فيها الترقب على وجه الدكتور (نور النجدي)، وهو يومئ برأسه مشجعا أياه على الرد، قبل أن يقول:
-          بالطبع ستأتي تلك اللحظة التي تجد نفسك فيها وحدك.
-          أجل.
-          لو شعرت بأنك لست على ما يرام.
-          أنا الآن أشعر بأنني لست على مايرام.
ابتسم الدكتور (كمال)، وهو يقول:
-          لا، ستشعر حينها بالبرد، وبالضيق، وبأن حياتك كئيبة، وقد تشعر بالرغبة في ...
توقف الدكتور (كمال) عن الكلام، فحثه صاحبا على الاسترسال، فقال:
-          أن تضع حدا لتلك الحياة الكئيبة.
-          لن أفعلها أبدا.
تجاهل الدكتور (كمال) ذلك التعليق، وهو يقول:
-          عليك أن تضع بالقرب منك جهاز تسجيل، واضبط مكبرات الصوت فيه على أعلى درجة، وضع فيه أغنية أو سيمفونية موسيقية قابلة للتشغيل، المهم أن تكون مزعجة للغاية ... فإذا انتابك هذا الشعور وأنت وحدك فشغل جهاز التسجيل، واتصل بي مباشرة.
قال الدكتور (نور النجدي) بسخرية سوداء:
-          إذا ... دكتور وأستاذ جامعي، ينصح دكتور وأستاذ جامعي آخر بأن يتخذ من غرفة نومه أو مكتبه (كودية زار) لطرد الأرواح الشريرة.
تجاهل الدكتور (كمال) الرد وهو يلتقط هاتفه المحمول، الذي أصدر رنينا طويلا ... نظر إلى شاشته، وهو يتمتم:
-          لمن هذا الرقم؟
ضغط زر الإجابة، ووضع الهاتف على أذنه، وأخذ يستمع لمحدثه، قبل أن يكتسي وجهه بملامح الرعب، وهو يقول بصوت متهدج:
-          (محسن) ... لا ليس (محسن)!
***
بعد عشرة دقائق فقط ترجل الدكتور (كمال) من السيارة الأجرة أمام المستشفى التي أخبره محدثه عنها، والتي يرقد فيها النقيب (محسن) في حالة خطرة بعد الحادثة التي تعرض لها منذ ساعات ... توجه مباشرة إلى الغرفة، بعد أن سأل عن رقمها في الاستقبال، طرق بابها طرقات خافتة، ثم فتح الباب ودخل ... استقبله فيها شاب يعرفه شكلا، فقد رآه من قبل مع (محسن) عدة مرات ... رحب به الشاب، وقدم نفسه على أنه مرؤوس النقيب (محسن) في العمل، سأله الدكتور (كمال)، وقد نهش القلق باطنه، وهو ينظر إلى النقيب (محسن) النائم في فراشه المعدني، وقد تغطى رأسه، ومعظم جسده بالضمادات، والجبائر:
-          كيف حاله؟
-          يقول الطبيب أن جسده القوي، هو الذي أنقذه من تلك الحادثة المروعة ... ولكنه الآن في غيبوبة، يعتقد الطبيب أنه قد يستغرقه الأمر بضعة أيام كي يفيق منها.
-          ماذا حدث بالضبط يابني؟
-          لقد صدمته حافلة، يقول بعض الذين شاهدوا الواقعة ممن حملوه إلى المستشفى، أنه خرج مسرعا من شارع جانبي، وألقى بنفسه أمام حافلة مسرعة متعمدا، فصدمته بقوة هائلة، وأطاحت به لعدة أمتار.
توجه الدكتور (كمال) نحو فراش النقيب (محسن)، وجلس على مقعد بجواره، وربت على يده، وهو يقول بحزن شديد:
-          إنه عائلتي الوحيدة، وأنا عائلته.
-          أعلم ذلك ... لقد أعطاني رقم هاتفك منذ فترة طويلة، وأخبرني أن اتصل بك إذا حدث له مكروها.
زادت تلك الجملة الأخيرة من أحزان الدكتور (كمال) ومسح بمنديله عبرة بدأت تتشكل في طرف عينه، قبل أن يتوجه بالكلام إلى جسد النقيب (محسن) الراقد، وهو يربت على يده:
-          ستكون بخير يابني ... ستكون بخير بإذن الله.
تنحنح الشاب، واعتذر بأن عليه الذهاب لبعض العمل، ووعد بأنه سيعود ليقضي الليل مع النقيب (محسن)، شكره الدكتور (كمال)، وأذن له بالذهاب... سرح الدكتور (كمال) بمخيلته، وبدأ يتذكر أخته الوحيدة المتوفاة منذ سنين طويلة، وابنها الشاب (محسن) الذي تركته خلفها، بلا أم، ولا أب أيضا فقد مات أبوه وهو بعد طفل صغير ... وكيف تولى هو رعاية ذلك الشاب حتى نال شهادته الدراسية النهائية، وعمل في سلك الشرطة وترقى فيه،  حتى أصبح محققا بارع يشار له بالبنان، وكيف تمنى عليه أن يتزوج وينجب أطفالا ويكون عائلة، ولكن (محسن) لم يكن متعجلا في هذا الأمر بعد تجربة عاطفية فاشلة خاضها في نهاية سنوات دراسته ... كان دائما يداعبه، ويخبره أنه سيحذف اسمه من على رأس قائمة الورثة، في الواقع لم تكن القائمة تضم سواه، فلم يكن لأحدهما غير الآخر، وكان (محسن) ابن بار، لو كان الدكتور (كمال) أنجب في حياته الماضية لما تمنى أن يحظى بإبن أفضل من (محسن).
-          (يوسف) ... (يوسف) هو الفاعل.
تمتم بها النقيب (محسن) بصوت ضعيف خائر، فقفز الدكتور (كمال) من مقعدة في سعادة، وهو يصيح:
-          (محسن) ... أنت بخير ... أنا خالك.
لم يجب (محسن)، وعاد إلى غيبوبته من جديد، هرع الدكتور (كمال) إلى طاولة التمريض في نفس الدور، وطلب حضور الطبيب، وأخبره عندما جاء بما حدث، فطمأنه الطبيب، بأن هذه إشارة جيدة، ودليل على سرعة التعافي ... عاد الدكتور (كمال) إلى مقعده بجوار فراش النقيب (محسن)، وقد تبدلت ملامحه، وزال عنها القلق والخوف، وحل محلها الراحة ... قال محدثا النقيب (محسن)، وهو يعلم أنه لن يسمعه، ولن يجيب عليه:
-          إذا (يوسف) هو الفاعل ... لماذا لم استشعر ذلك في المرة الأولى ...
صمت للحظة، ثم أردف:
-          سأريك يا (يوسف) ماذا يستطيع فعله كهل مثلي ... سأجعلك تدفع الثمن غاليا.
***
-          أستاذ (يوسف) ... هناك ضيف لك في غرفة المدرسين.
جاءه ذلك النداء من مكان ما، وهو مشغول في تقسيم الطلاب إلى فرق تتنافس في مباريات لكرة القدم في فناء المدرسة، وبمعاقبة بعض المشاغبين منهم بالجري عشرة مرات حول الفناء ... ناول (الصفارة) لأحد الطلاب ليقوم بدور الحكم في المباراة أثناء غيابه، وأوصاه بألا يبتلعها، ثم توجه مباشرة إلى غرفة المدرسين، فوجد  الدكتور (كمال) ينتظره فيها وحدة، وهو يجلس إلى الطاولة الكبرى في منتصفها ... بادره الدكتور (كمال) قائلا، وهو يحدجة بنظرات غاضبة:
-          إذا هو أنت يا (يوسف)!؟
-          أنا ماذا!؟
-          أنت القاتل؟
صرخ فيه (يوسف) بغضب:
-          ماذا تقول أيها العجوز المخ...
ثم توقف في منتصف الجملة، وزفر بحدة وهو يحاول أن يستعيد هدوءه، قبل أن يردف:
-          لماذا تصر على ملاحقتي يا دكتور ... لقد انتهى فصل الصارخ من حياتي ولا أريد عودته أبدا.
قال له الدكتور (كمال) بلهجة حادة:
-          ولكنه عاد رغم ذلك ... وهناك أربعة دفعوا حياتهم ثمنا لذلك، وآخر يرقد في المستشفى.
-          ماذا تقول؟
زادت حدة الدكتور (كمال)، على غير عادته الهادئة، وهو يجيب:
-          أقول لك، أن هناك من يشهد أنك من أمر الصارخ بقتل هؤلاء المساكين، وساعات قليلة وستجد نفسك في السجن.
شحب وجه (يوسف)، وتغيرت ملامحه وبدا كأنه يفكر في أمر ما، قبل أن ترتسم ملامح الذعر مختلطا بالدهشة والحيرة على وجهه، وهو يقول:
-          هل هناك من يأمر الصارخ بقتل الناس؟
-          أجل ... أنت تفعل ذلك؟
زاد ذعر (يوسف) وبدا كالفأر في المصيدة، وهو يلقي بنفسه على المقعد، وهو يقول:
-          أقسم لك، أنه لا علاقة لي بذلك الصارخ، لقد أغلقت تلك الصفحة منذ عشرة سنوات.
رن جرس هاتف الدكتور (كمال) رنينا طويلا آخر، شعر بالقلق مجددا وهو يلتقطه من جيبه، لم يعد يتفاءل كثيرا بما يأتي به هذا الجهاز اللعين، نظر إلى شاشته، وهو يجيب بسرعة:
-          (نور) ... خير ... ما الأمر؟
جاءه صوت الدكتور (نور النجدي) من الناحية الأخرى مرتعشا، خائفا، سمعه بصعوبة بسبب تلك المقطوعة الموسيقية عالية الصوت، التي تعزف في الخلفية:
-          لقد حدث ما قلته ... حدث بالحرف الواحد.
-          انتظرني أنا قادم الآن.
كان (يوسف) ينظر إليه بعينين مذعورتين، فبادره الدكتور (كمال)، وهو يشير للهاتف:
-          ضحية خامسة نجت بأعجوبة من براثن الصارخ.
توجه للخارج بخطوات سريعة، وهو يردف:
-          سأعود ثانية ... وعندما أعود سيكون عليك أن تعترف لي بكل شئ.
***
قبل ذلك بساعة أنهى الدكتور (نور النجدي) عمله الصباحي، الذي يعرج فيه على أثنتين من المستشفيات الخاصة لمتابعة بعض الحالات التي أجرى لها جراحات مؤخرا، وفحص بعض الحالات الأخرى التي ينوي إجراء جراحة لها لاحقا ... لم تكن هناك جراحات في هذا اليوم، وبالتالي كان العمل خفيفا على غير العادة، أنهاه بسرعة وعاد إلى منزله ليقضي ساعة من الراحة، قبل العمل الثقيل، المسائي في عيادته ... تناول وجبة خفيفة جلبها له الخادم العجوز، ثم دخل إلى غرفته ليتمدد قليلا في فراشه كعادته في ممارسة بعض طقوس الاسترخاء لاستعادة النشاط ... كان جهاز التكييف مغلقا، وكان اليوم صيفيا حارا، ومع ذلك بدء البرد يتسلل إلى جسده، ثم تحول إلى سقيع، قبل أن يشعر أن عظامه قد تحولت إلى قوالب ثلجية، فكر أن يغطي جسده بالغطاء، ولكنه كان عاجزا عن الحركة، يشعر برعدة كهربية وقشعريرة في كل ذرة من كيانة، لحظات ثم بدأت موجات الإحباط والاكتئاب تسري في روحه، عقله فقد القدرة على التمييز، يشعر بكراهية رهيبة لحياته، وبرغبة حميمة في وضع حد لها، هناك مسدس وبعض الطلقات في درج الكومود، استجاب جسده لتلك الفكرة، وبدأ يزحف على السرير مقتربا من الكومود، مد يده ناحية الدرج ... طرقات على الباب، لم يستطع الرد على صاحبها، الذي فتح الباب ودخل بأدب إلى الغرفة، يحمل صفحة عليها كوبا من الماء، كان الدكتور (نور النجدي) قد طلبه من خادمه العجوز قبل أن يدخل إلى غرفته ... نظر له الخادم بدهشة وهو ممد عرضيا على الفراش، ويده داخل درج الكومود، قبل أن يسأله:
-          هل أنت بخير يا سيدي!؟
في تلك اللحظة، شعر بزوال ذلك العارض الذي اكتنفه، كان ذلك لثانية واحدة، ولكنها كانت كافية لآن يسترجع كلام صديقة الدكتور (كمال) في اليوم السابق، لذا ضغط بسرعة على زر جهاز التسجيل الموجود دائما فوق الكومود، إلى جوار فراشه، والذي كان قريبا من يده، ورفع الصوت إلى أعلى درجة ... أشعره هذا بالتحسن وبأنه استعاد سيطرته على جوارحه بشكل تام، فاتصل مباشرة بالدكتور (كمال) الذي جاءه بعد ربع ساعة فقط، وطمأنه بأن الخطر قد زال، ولكن بشكل مؤقت، وأنه عليه أن يبقى حذرا في الأيام القادمة، ونصحة بألا يبيبت وحده، وبأنه من الأفضل أن ينام خادمه العجوز معه في نفس الغرفة.
***
تغير روتين الدكتور (كمال) في الأيام التالية بشكل كبير، فما صار يعود إلى (فيلته) إلا للحظات قليلة، معظم وقته كان يقضيه في المستشفى مع إبن اخته النقيب (محسن) ويبيت معه ليلا ايضا، وفي الصباح يختطف بعض الوقت يتفقد فيه صديقه الدكتور (نور النجدي) الذي اقترب كثيرا من حد الخبال، بعد انقطع عن عمله، ولبث في غرفة نومه بمنزله يستمع لسيمفونيات موسيقية بصوت عال، يكاد يمزق طبلة الأذن، بصحبة خادمه العجوز، الذي حرم عليه ترك الغرفة، حتى للذهاب إلى دورة المياة، كان الشعور الذي أحس به الدكتور (نور النجدي) في تلك الليلة ، شعور رهيب، كئيب، لا يمكن وصفه، وهو لا يريد أبدا أن يشعر به مرة أخرى، يعلم الدكتور (كمال) بأنه لو لم يجد حل سريع لتلك المشكلة، فإن صديقه سيصاب بالجنون في غضون أيام قليلة ... أما ما بقى من ساعات النهار فكان يقضيها في مراقبة (يوسف) من أمام منزله، وهو في سيارته العتيقة، بصحبة سائقه العجوز عم (مسعود)، الذي كان يعمل لديه في الماضي، وتقاعد عن العمل عندما تقاعد الدكتور (كمال) عن عمله الجامعي، ولكنه مازال على اتصال به ويدعوه أحيانا لقيادة سيارته في بعض المشاوير، ويجزل له العطاء، ويتنسم معه بعض الذكريات من الماضي.
كان موضوع المراقبة مرهقا للدكتور (كمال)، وكذلك لعم (مسعود) الذي تحمل ذلك الروتين القاسي، لاستشعاره بأهمية ذلك عند الدكتور (كمال)، وخطورته ... في النهاية أثمر ذلك العمل بعد يومين، عندما خرج (يوسف) من منزله بعد ساعات العصيرة، واستقل سيارة أجرة على غير عادته، واستخدامه الدائم للمواصلات العامة ... حث الدكتور كمال سائقه العجوز على ملاحقة السيارة الأجرة، دون أن يشعر بهما من فيها، ففعل السائق المحنك، حتى توقفت السيارة بعد نصف ساعة، أمام (فيلا) صغيرة في أحد الأحياء الراقية، ترجل (يوسف) من السيارة، ودخل (الفيلا) ... قضى داخلها ساعتين ثم خرج بعد أن غير ثيابه بثياب أخرى أكثر أناقة، ووضع فوق عينيه نظارة طبية ذات زجاج سميك ... استقل (يوسف) سيارة فاخرة كانت تقف أمام (الفيلا) وانطلق بها، سأل عم (مسعود) بلهفة، وقد أثاره ذلك الجو (البوليسي):
-          هل أتحرك في أثره؟
-          لا ... أريد أن أعرف ما السر وراء هذه (الفيلا) ... هذا الرجل يخفي شيئا غامضا فيها، وأنا على وشك الكشف عنه ... أشعر بذلك.
فتح الدكتور (كمال) باب السيارة المجاور له، وهو يقول:
-          انتظرني هنا، إذا تأخرت أكثر من نصف ساعة.
توقف لحظة، ثم أردف:
-          اتصل بالشرطة.
كانت (الفيلا) من دور واحد، من تلك النوعية من (الفلل) العصرية، ذات الحديقة الصغيرة، والاستغلال قبيح للمساحات، بشكل يضيع الجمال ... وقف الدكتور (كمال) أمام الباب الداخلي (للفيلا)، لا يعرف ماذا عليه أن يفعل بعد ذلك، لقد تحمس للمغامرة دون أن يكون في ذهنه خطة محددة ... أخيرا حسم أمره، وضغط جرس الباب، ووقف يترقب، وعندما لم يتلق إجابة، ضغطه مرة ثانية، وثالثة، وفي النهاية فكر في التراجع ... ولكن فجأة وصل إلى مسامعه صوت مكتوم يأتي مباشرة من داخل (الفيلا)، وضع أذنيه على الباب وأخذ ينصت، بالفعل هناك صوت مكتوم، صوت بشري، صوت يحاول الاستغاثة ... أخرج الدكتور (كمال) من جيبه مطواه من ذلك النوع السويسري متعدد الرؤوس، وهو يتمتم:
-          يقولون أن مهارات الشباب لاتزول في الكبر ... هذا ما سأكتشفه الآن.
ثم أخذ يعمل الرأس المدبب في قفل الباب، حتى أصدر (تكة) خافتة، قبل أن ينفتح الباب ... قال الدكتور (كمال) بصوت خافت مخاطبا نفسه:
-          أتمنى أن أجد داخل (الفيلا) ما يبرر اقتحامي لها، وإلا سأقضي آخر أيامي نزيلا في أحد السجون.
دفع الدكتور (كمال) الباب برفق، ودخل إلى المكان بخطوات متحسسة ... كان المكان مضاء، فشاهد الدكتور (كمال) على الفور، ذلك الرجل المقيد من رسغيه، والملقى على وجهه في جانب من المكان، وهو يحاول أن يتخلص من قيده، ويتأوه بأصوات مكتومة بسبب ذلك الوشاح المدسوس في فمه ... كانت الدماء تغرق المكان، يبدو أنها تسيل من جرح في رأس الرجل، وهناك مزهرية محطمة إلى جواره، يبدو أنه بوغت بضربة على رأسه بتلك المزهرية ... توجه الدكتور (كمال) إلى الرجل وأعانه على الاعتدال، قبل أن يصيح بدهشة، بعد أن رأى وجهه، وهو يقول:
-          (يوسف)!!
أومأ (يوسف) برأسه، فأخرج الدكتور (كمال) الوشاح من فمه، فقال بسرعة، وبأنفاس متقطعة:
-          أجل أنا (يوسف) ... ساعدني يا دكتور (كمال) ... حل قيدي.
مزق الدكتور (كمال) القيد برأس مطواته الحادة، المشرشرة، وأعان (يوسف) على النهوض، وهو يقول بحيرة:
-          لقد رأيتك تخرج منذ دقائق، متى عدت!؟
نظر له (يوسف) بأعياء، وهو يتحسس جرح رأسه الذي تسيل منه الدماء، وهو يقول:
-          لست أنا من خرج منذ دقائق.
-          إذا ... من!؟
-          (يونس).
كان الناطق بالكلمة الأخيرة هو ذلك الشخص الذي ظهر عند باب (الفيلا) المفتوح، قبل أن يردف:
-          (يونس)، أخوه التوأم ... ولكن أولا أريد أن أعرف من أنت؟ ولماذا اقتحمت منزلي بهذه الطريقة؟
نظر (يوسف) إلى ذلك الكيان الأسود المرعب الذي ظهر إلى جانب أخيه (يونس)، الذي ارتسم الشر على وجهه بأبشع صورة ... قال (يوسف) للدكتور (كمال) بصوت خافت:
-          اللعنة ... نحن لسنا وحدنا.
كانت عينا الدكتور (كمال) جاحظتين على الصارخ الواقف بجوار (يونس)، ووجهه المرعب الخالي من الملامح إلا من فم كبير بشفتين غليظتين بلون حالك، قبل أن يجيبه بصوت متهدج:
-          أنا أيضا أراه، ولكنه أبشع بكثير من صوره في الكتب.
***
أطلق (يونس) ضحكة رقيعة، وهو يقول:
-          يمكننا أن نتعارف مجددا ... أنا (يونس)، وهذا (يوسف) أخي الذي كان يهددني بالإبلاغ عني منذ ساعة، وهذا الصارخ خادمي، وهذا الرجل العجوز لا يهمني أن أعرف اسمه، فبعد أن يلقي خادمي بالتحية في أذنه، سينتهي ذكره من هذه الدنيا.
كانت الجملة الأخيرة إيذانا للصارخ بأن يتوجه إلى الدكتور (كمال) بتلك الخطوات الرتيبة، التي تحمل معها رائحة الموت ... صرخ (يوسف) بعفوية:
-          توقف.
فتقوف الصارخ في منتصف المسافة ... بدا الغضب على وجه (يونس) وهو يقول:
-          هيا أفعلها أيها الصارخ.
تحرك الصارخ خطوة واحدة، قبل أن يتوقف من جديد، مع أمر (يوسف) له بذلك ... انعقد حاجبي (يونس) من الغضب، وبدا أنه يبذل جهد عقليا للتأثير على الصارخ ... همس الدكتور (كمال) في أذن (يوسف):
-          إنه يستطيع أن يفهم أوامركما العقلية ... حاول التفكير في رحيله.
بدا المكان كحلبة مصارعة، في كلا طرفيها واحد من التوأمين يعقد حاجبيه في تركيز شديد، ليصدر أوامر عقلية إلى ذلك الصارخ، الذي بدا في حيرة من أمره، وبدأت صورته تهتز كأنها صورة هولوجرافيه تعرض من مسبار معطل ... وفي جانب من المكان يقف الدكتور (كمال)، يحاول جاهدا دفع الحماس في (يوسف) المصاب بإعياء من جرح رأسه الدام ... زاد اهتزاز صورة الصارخ، قبل أن تختفي مرة واحدة من المكان، مع صرخة (يونس) المحبطة:
-          اللعنة.
قال الدكتور (كمال):
-          كلاكما تمتلكان رابط الدم اللازم للسيطرة على الصارخ، ولكن (يوسف) كما يبدو لي هو الأولى، ولولا زهده في ذلك في المرة الأولى، لما استطعت أنت السيطرة عليه.
قال (يونس) بلهجة مريرة:
-          أعلم ... هذا الأحمق أضاع على نفسه قوة هائلة.
أعان الدكتور (كمال) (يوسف) على الجلوس على مقعد وثير، وقطع جزء من الوشاح الذي كان يسد فمه منذ قليل، وأخذ يضمد به جرحه، وهو يسمع (يونس)، يقول بغضب:
-          كنت الأفضل منه دائما ... كنت الأفضل عند أبي وأمي ،كنت الأكثر ثقافة، وفهما، كنت الأكثر تفوقا في الدراسة، حصلت علىى منحتي الدراسية،  وعدت منها بشهادة الدكتوراة، أما هو فلم يكن يفعل شيئا في حياته إلا لعبة كرة القدم اللعينة.
أجابه الدكتور (كمال) بغيظ، وهو يواصل علاج (يوسف):
-          كان أفضل منك بمراحل.
صرخ (يونس):
-          لا ... أنا كنت الأفضل ... جاءته الفرصة للسلطان فرفضها، وأرسل يخبرني في خطاب يفتخر بذلك، فلاحقت أنا هذا السلطان حتى حصلت عليه، وصنعت منه ثروة، أما هو فظل كما هو يعيش في ذلك المنزل الحقير بدون أي طموح.
تأوه (يوسف)، وهو يقول للدكتور (كمال) بلهجة معتذرة:
-          أقسم لك، أنني لم أعرف أي شئ عن هذا الموضوع قبل اليوم، ولكن كلامك لي قبل يومين في المدرسة، ألقى الشك في صدري، وتذكرت مراسلاتي مع (يونس) أثناء وجوده في الخارج، والتي أخبرني في إحداها أنه هو أيضا كان يرى الصارخ ولكنه لن يفعل مثلي ... كنا توأمين ولكننا كنا متناقضين كالليل والنهار ... وبعد عودته من الخارج حاولت أن اتقرب منه، نستعيد ما كنا عليه في الطفولة والصبى، ولكنه أصر على الابتعاد وعلى أن يصنع بيني وبينه ألف حاجز.
ظهر الفزع على عينا (يوسف) وهو ينظر إلى أخيه، فالتفت الدكتور (كمال) فوجد (يونس) يوجه إليهما مسدسا، قبل أن يقول بلهجة شيطانية:
-          لن أسمح لكما بأن تكونا عقبة في طريقي ... لن أسمح لكما بأن تضيعا مني هذا السلطان وتلك القوة.
مد يده بالمسدس، وهو يردف بصوت مقيت:
-          آسف يا أخي ... هذه نهايتك.
طااااااخ ... صوت ضربة مكتومة سقط على أثرها (يونس) على الأرض وقد شحب وجهه، وجحظت عيناه وهما تحدقان في الفراغ، وسال الدم من شج مميت في منتصف رأسه، ومن خلفه ظهر عم (مسعود) يحمل في يده (كوريك) السيارة، وهو يقول بصوت مرتعش:
-          لقد كان ينتوي قتلك يا دكتور (كمال).
صرخ (يوسف):
-          أخييي.
وقفز من مقعده، وجثا على جسد أخيه، الذي بدا واضحا أنه فارق الحياة، وأخذ يبكي بحرقة شديدة ... اقترب منه الدكتور (كمال) وانحنى عليه، وربت على كتفه وهو يقول بلهجة مشفقة:
-          لا تحزن يابني ... لقد اختار أخوك طريق الشر، وتلك هي نهايته المنطقية، لقد كان يمد إليك يده ليقتلك منذ لحظات قليلة، وها أنت الآن تبكيه حزنا ولوعة ... هذا هو ديدن الخير والشر دائما، حتى ولو علا الأخير بعض الوقت، فإنه في النهاية إلى زوال.
أومأ (يوسف) برأسه متفهما، فابتسم له الدكتور (كمال)، ثم توجه إلى عم (مسعود)، الذي بدأ جسده يرتعش، وشحب وجهه كأنه موشك على أزمة قلبية، أحاط الدكتور (كمال) كتفه بساعده مهدئا أياه، وهو يقول:
-          لقد فعلت ما يجب عليك فعله ... أحسنت أيها العجوز لقد أنقذت حياتنا.
تنهد عم (مسعود) في راحة، لذلك التصريح، قبل أن يقول بصوت ضعيف، خافت:
-          ماذا سنفعل الآن؟
-          علينا أن نصلح تلك الفوضى؟
أخرج هاتفه من جيبه، ثم استرجع رقم زميل النقيب (محسن) الشاب من الذاكرة، واتصل به ... رنات قليلة، قبل أن يجيئه الصوت من الناحية الأخرى مستبشرا، فرحا:
-          دكتور (كمال) ... كنت ساتصل بك.
-          خيرا!؟
-          لقد أفاق النقيب (محسن) وهو يسأل عنك الآن.
.. (تمت) ..
 
 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق