السبت، 8 أبريل 2017

اللوحة الملعونة


قصة رعب بعنوان ... (اللوحة الملعونة – الجزء الأول)
يتحدثون عن حيواتهم البائسة، ثم يتكلمون عن العائلة والأصدقاء الذي يشاركونهم أياها ... لديهم الثراء، والحياة اللائقة، والمسكن الراق، ثم يقولون أن السعادة ليست في المال ... يعملون في وظائف محترمة، مجزية، ثم يتذمرون، ويتنابحون بأنهم ضيعوا أعمارهم في وظائف لا تليق بعبقريتهم ... في الواقع أنهم يمتلكون كل شئ، ومع ذلك تواتيهم الجرأة ليصرحوا بشكواهم علانية، ماذا تركوا لأمثالنا؟ لو كانوا يبحثون عن تعريف للحياة البائسة، فعليهم أن ينظروا إلى حياتي، أنا شخص في أواخر العقد الثالث من العمر، بلا عائلة، ولا أصدقاء، يحمل شهادة تعليمية متوسطة، ويعمل في وظيفة مهينة، مملة، بلا أي أمل في الترقي، يعيش في غرفة حقيرة على سطح بناية من عشرة أدوار بلا مصعد، يحمل ماضي ملئ بالبؤس، والكوارث، وحاضر مرير، ولا يرتجي شيئا من المستقبل ... هذه هي الحياة البائسة أيها الملاعين.
-          (مسعود)، أيها الجاهل، القهوة زائدة السكر، كم مرة قلت لك أنني أشربها بنصف ملعقة فقط من السكر؟
-          آسف يا سيدي!
حملت القدح، وتوجهت إلى المطبخ، وأنا ألعنه في سري، هذا الوغد يصر دائما على أهانتي أمام الجميع، ويجعلني أبدو كالأحمق ... تلك هي وظيفتي، عامل بالمطبخ في شركة للاستشارات الحسابية وأعمال التدقيق والمراجعة، أصنع مشروبات، وأجلب طلبات، ومأكولات لمجموعة من الموظفين، المتعالين، يرتدون البذل الأنيقة، ليخفون بها حقيقتهم السطحية، وشخصياتهم الجوفاء، والأسوء منهم طرا، هو رئيسهم اللعين، هذا الذي لا يستطيع أن يبدء يومه، دون أن يصيبني بلسانه السليط ... لا شئ جديد، أنه يوم آخر من روتين حياتي الكريه.
صنعت كوبا خاصا من (النسكافيه)، استخدمت فيه كل براعتي وخبرتي المهنية، صببته في كوب من الخزف أو كما يطلق عليه الشباب الرقيع هذه الأيام (ماج)، كان أبيضا وعليه رسمة قلب أحمر، يخترقه سهم (كيوبيد) اللعين، كان مناسبا تماما لما أشعر به في تلك اللحظة، وضعته فوق صفحتي النحاسية، عدلت قميصي الأسمر، وتأكدت أن شعري مصففا، ثم توجهت إليها، وضعته على مكتبها، لم تنتبه لي في البداية، وهي مستغرقة في العمل على تلك الجداول والمنحنيات البيانية على شاشة الحاسوب أمامها، كانت جميلة كعادتها، ملاك برئ، وسط طغمة من الشياطين القبيحة ... أخيرا، انتبهت إلى وجودي بجوارها، وتحديقي فيها، فقالت بصوت عذب، رقيق:
-          (مسعود)، ماذا تريد؟
-          (النسكافيه)، يا آنسه (هبة).
-          شكرا لك.
تناولت الكوب من صفحتي النحاسية بيدها، ارتشفت منه رشفة واحدة، قصيرة، تركت شاربا أبيض دقيق فوق شفتيها، زاد من جمالها، أشارت لي بإبهامها دلالة على إعجابها بصنيعي، فأومأت لها برأسي، عادت لعملها لبضعة ثوان، قبل أن تنتبه إلى أنني مازلت متسمرا إلى جوارها، فعقدت حاجبيها بطريقة طفولية، محببة، وهي تقول بخجل:
-          هل هناك شيئا آخر يا (مسعود)!
أعشق طريقة نطقها لاسمي، كانت تنطقه بطريقة تنسينى بها مدى كراهيتي له، هذا الاسم الذي يبدو كنكتة أو سخرية من حالي، قلت لها:
-          لقد اشتريت لوحة بالأمس.
أعرف أنها تهتم بالفنون، أسمعها دائما تتحدث عن عشقها للفن بكل أنواعه ... زاد انعقاد حاجبيها وهي تتساءل في دهشة:
-          لوحة!؟
-          أجل ... اشتريتها من معرض للتحف في آخر الشارع.
قلتها، وأخرجت هاتفي المحمول لأريها صورة اللوحة الضخمة التي تزين جدار من جدران غرفتي الضيقة، فتأملتها للحظات بدهشة، قبل أن تقول بإعجاب:
-          إنها جميلة.
صمتت لثوان، وهي تتأمل اللوحة بعين فنان، قبل أن تردف:
-          تذكرك بلوحات (مونيه) ... لم أكن أعرف أنك تهتم بالفن يا (مسعود).
ابتسمت في بلاهة، وأنا أجيب:
-          وأنا أيضا.
حدقت مرة أخرى في صورة اللوحة، ثم تساءلت:
-          إنها قديمة، تبدو لي كتحفة فنية، بالتأكيد دفعت فيها ثروة!؟
-          بالعكس كانت رخيصة للغاية، شعرت أنني لو فاصلت قليلا مع صاحب المعرض، لمنحني إياها مجانا.
-          هذا معرض رائع، بالتأكيد سأزوره.
مطت شفتيها، وألقت نظرة أخيرة على اللوحة، ثم أعادت لي الهاتف المحمول، وهي تسأل:
-          أي مدرسة فنية تفضل؟
-          جميعها.
أطلقت ضحكة مرحة، وهي تلقي برأسها إلى الخلف، وتمسد بأصابعها على خصلات شعرها، بتلك الطريقة التي تذيب قلبي في كل مرة أراها فيها تفعلها، قبل أن تتساءل في دهشة:
-          تقول أن هناك معرض للتحف في آخر الشارع ... عجيب، كيف فاتني رؤيته!؟
في الواقع أنا أيضا لم أره قبل الأمس، رغم أن هذا الطريق هو طريقي إلى المنزل، أسير فيه كل يوم مرتين، قادما من المنزل، وعائدا إليه، قلت لها:
-          وأنا أيضا ... قد يكون افتتح مؤخرا.
***
ريف النمسا – نهايات القرن الثامن عشر
نظر إلى صورته في المرآة الجدارية العملاقة ذات الإطارات الذهبية ...  تساءل، عمن يحدق فيه الآن عبر زجاج المرآة من الناحية الأخرى، هل هو نفسه!؟ أم هو شخص آخر أصابه الخبال فدمر حياته! ... إنه لا يستطيع التعرف على صورته فيها، لقد تغيرت ملامحه كثيرا، واختفت خلف إمارات الكآبة، والجنون ... لقد أصابته اللعنة، وهو يعرف مصدرها، وسيتخلص منها حتى لو كان ذلك آخر شئ يفعله في حياته ... نظر إلى فراشه، كانت زوجته مسجاة فيه على ظهرها، تحدق بعينيها المفتوحتين إلى سقف الغرفة المرتفع، وهناك خطوط وكدمات زرقاء على رقبتها، إنها آثار أصابع، أصابع خنقتها، واعتصرت رقبتها بغل وانتزعت الروح من جسدها البرئ منذ دقائق قليلة ... جلس على طرف الفراش إلى جوار جسد زوجته، أمسك بيدها يقبلها، ويتحسس وجهها البارد بيد مرتعشة، قبل أن ينخرط بحرقة في نوبة بكاء هستيري، وهو يردد:
-          آسف يا زوجتي الحبيبة.
خرج من الغرفة بعد خمس دقائق، وهو يحمل عزما وإصرارا  كبيرا على المضي فيما خطط له، كان القصر خاليا بعد أن هجره الجميع، أثر حوادث القتل المروعة التي حدثت في الأشهر الأخيرة في قصره، وضيعته والقرى المجاورة، وأشارت نحوه بأصابع الاتهام ... وحتى من آثر البقاء مع سيده، من الحرس والخدم الأوفياء، صرفهم هو بنفسه وطردهم من القصر، كانت زوجته هي الوحيدة التي أصرت على البقاء معه، ورفضت الرحيل رغم إلحاحه عليها، ورجاؤه لها بأن تذهب، فكان الموت هو جزاءها ... نزل الدرج بخطوات هادئة، كان قد ارتدى زيه الرسمي، ووضع سيفه في غمده، وعلق جميع نياشينه وأوسمته ... وقف للحظات يتأمل صورته الجدارية الضخمة المرسومة بألوان الزيت، تظهره في ملابسه الدوقية، وهو ينظر نحو السماء، تلك النظرة المتعالية، أطلق ضحكة ساخرة متهكمة، ثم توجه إلى القبو الموجود أسفل القصر ... يعلم أنها النهاية، الجميع يتحدثون أن الدوق قد أصابه الخبال، وبدأ يقتل حراسه، وأهل ضيعته، ساعات قليلة، ويجمعون شملهم وعزمهم، ويفيضون إلى هذا القصر يحركهم الغضب والكراهية وسنوات طويلة من القهر، فيحرقوا هذا القصر بمن فيه، ولكن قبل أن يحدث هذا، عليه أن يحرقها هي أيضا، أجل سيحرق تلك اللوحة الملعونة بكل ما تحمله من شرور وآثام.
سار في السرداب الطويل المتصل بالقبو، حتى وصل إلى مجموعة من الزنازين، تلك التي كان يستخدمها في الماضي ليؤدب فيها معارضيه وأعداءه، الآن هو يحتجز في أحداها تلك اللوحة الملعونة ... فتح باب الزنزانة بحذر، كانت اللوحة هناك في ركن من الزنزانة تستند إلى أحد الجدران الرطبة، الصخرية، التي كانت شاهدة على العديد من جرائم التنكيل والتعذيب ... التقط المشعل المعلق على الجدار، وتوجه ناحيتها بخطوات مرتعشة، عليه أن يشيح بناظريه بعيدا عنها، فهو لا يأمن النظر إليها مرة أخرى ... وجه المشعل إلى نسيج اللوحة، ووقف يترقب أن تشب فيها النيران وتتحول إلى كتلة ملتهبة، فتلتهم النيران نسيجها، وشرها مخلفة بعض الرماد، ولكن هذا لم يحدث أبدا... نظر بعفوية، ودون قصد إلى اللوحة، فوجد أن خيوط النار تمتد من المشعل وتزحف عليها بنعومة، دون أن تحرقها، أو تترك فيها أثرا! إلا بقعة صغيرة من السخام في منتصفها، ألقى المشعل بغضب على الأرض، وأخرج سيفه من غمده، ورفعه تمهيدا لأن يمزق به اللوحة ... ولكن ما هذا؟.. لماذا تبدو بقعة السخام كأنها شكلا مرسوما ببراعة، لماذا تبدو كرجل في ملابسه الرسمية يرفع سيفه في عزم، والمرعب هو ذلك الوحش ذو قرنين، والرأس المستدق، والجسد العضلي العملاق، والأذرع التي تنتهي بمخالب طويلة مدببة، والذي يقف خلف ذلك الرجل متأهبا لافتراسه ... لماذا يشبهه هذا الرجل إلى تلك الدرجة؟.. فجأة يصل إلى مسامعه صوت خطوات ثقيلة تقترب من وراءه، لم يجرء على الالتفات، يعرف ما سيجده لو فعل ... وجه ناظريه إلى أسفل قدميه فرأى ظله، وظل ذلك الوحش العملاق، الذي رآه على اللوحة منذ ثوان، يسمع أنفاسه، ويشعر بلهيبها يحرق قفاه ... لقد قررت تلك اللوحة اللعينة التخلص منه أخيرا ... هي النهاية إذا، وعليه أن يأخذها معه ... أطلق صيحة قوية، وهو يهم بغرس سيفه في نسيج اللوحة، ولكنه لم يفعل!.. لم يفعل ذلك أبدا ... دوت صرخة متألمة، متعذبة، تردد صداها في سراديب القصر، لم يسمعها أحد بالطبع، بعد أن خلا القصر تماما من قاطنيه.
***
شعرت بحيرة شديدة، فعندما اشتريت تلك اللوحة العجيبة، لم تكن البقع اللونية على نسيجها تمثل لي أي معنى مفهوم، ولا تنبه في عقلي أي ذكرى أو هاجس خاص، أعجبت فقط بتدرج ألوانها، وبتلك الطريقة النقطية في مزج التركيبات اللونية العشوائية على نسيجها، أذكر أن هناك مدرسة فنية يتزعمها رسام شهير تتبع تلك الطريقة في رسم اللوحات لجعل محتواها مشوشا، غائما، وهذا يضيف المزيد من الغموض والعمق للعمل الفني ... أنا لا أفهم شيئا عن الفن الحديث ولا عن أي فن آخر، قد تكون تلك الألوان تعبر عن شئ ما مكبوت، أو محشور، داخل ضمير الفنان الذي رسمها!.. لو كان موجودا وسألته الآن، لأجاب بأن هذه اللوحة، تمثل إرهاصات دخول الخريف على نبع الماء الجبلي وتأثير ذلك على الفلسفة الكونية، أو انبثاق مشاعر الأمومة لدى زوجة الأب في موسم الطاعون الأسود ... المهم أنه عندما نظرت للوحة في المرة الأولى وهي معروضة خلف تلك الواجهة الزجاجية، شعرت بأنها تناديني لشرائها، وبأن هناك شئ ما بها يدفعني للتخلي عن ثمنها من النقود القليلة التي أحملها في حافظتي، ولا أنكر أن الدافع قد يكون أيضا عشق الآنسة (هبة) للفن ومحاولتي لجعل هناك شيئا مشتركا بيني وبينها... العجيب أنه عندما أنظر لتلك اللوحة الآن وفي تلك اللحظة بالذات، أشعر بأنني أرى أشياء مفهومة، بقليل من الخيال يمكنني تخيل أن تلك البقع اللونية تمثل رجلا مقيدا إلى مقعده، وآخر يقف خلفه، ويجز رقبته بسكين حاد ... أيكون هذا بسبب إضاءة الغرفة الخافتة!؟ ... عجيب!
..(انتهى الجزء الأول – ويليه الجزء الثاني)..



قصة رعب بعنوان ... (اللوحة الملعونة – الجزء الثاني)
ملخص ما سبق ... (مسعود) شاب فقير، متوسط التعليم، يعيش حياة بائسة وحده في غرفة ضيقة على سطح بناية مرتفعة ... وفي محاولة منه لكسر روتين حياته، يقرر شراء لوحة غامضة، ويعلقها على جدار غرفته، ولكنه عندما ينظر إليها، يخيل له أن التركيبات اللونية المتداخلة على سطح نسيجها تبدو كشخص مقيد إلى مقعد وآخر خلفه يذبحه ولكنه لا يعير ذلك اهتماما ... وأحداث مروعة أخرى، ظهرت فيها تلك اللوحة في نهايات القرن الثامن عشر بريف النمسا، داخل زنزانة أسفل قصر الدوق، لتنتهي بمقتل الدوق نفسه، وقبل ذلك مقتل زوجته وعدد من حراسه وبعض سكان ضيعته والقرى المجاورة ...
.
-          اقتل ... اقتل ... اقتل!
أطلقت صرخة مفزعة، وأنا استيقظ من نومي دفعه واحده غارقا في بحر من العرق، كان الظلام يخيم على كل الموجودات حولي، مددت يدي بسرعة لأضئ المصباح (السهاري)، من مفتاحه المتدلي إلى جوار فراشي، أخذت أبسمل، وأحوقل، وأنا أحاول استعادة رباطة جأشي ... إنه كابوس مفزع آخر؟ لماذا بدا لي حقيقيا إلى تلك الدرجة!؟... هذه هي المرة العاشرة التي يهاجمني فيها نفس الكابوس في الليال الثلاث الأخيرة فقط ... إنه كابوس من ذلك النوع المتداخل الذي لا يدرك فيه الإنسان هل هو مستيقظ حقا أم أنه نائم يحلم ... كابوس يبدء في غرفتي تلك، نائم على فراشي هذا، فجأة أشعر بحركة خفيفة، قبل أن أدرك يقينا أنني لست وحدي في الغرفة وأن هناك أشخاص أو أشياء أخرى تمرح فيها، ولكنني لا استطيع رؤيتهم بسبب ظلمة الغرفة، حينها يبدءون في الحديث إلي بتلك الأصوات الشيطانية، أصوات  كهسيس الحيات والثعابين لا تفهم لها معنى، ولكنك تستشعر أن هناك كلمة ما تتخلل ذلك الهسيس، كلمة لا تستطيع أن تميزها، يتعالى الصوت، فيتحول إلى طنين مزعج يمزق أذني وخلايا مخي، حينها تتضح تلك الكلمة التي كانت تتخلل ذلك الصوت، إنها كلمة (اقتل ... اقتل!) ... هذا ما كان ينقصني لتكتمل دراما حياتي السوداء، أن اصاب بالخبال، أو أصبح مطاردا من الجن والشياطين ... كان الفجر قد آذن للصلاة، فقمت وتوضأت وصليت الفجر، وقررت ألا أعود للنوم، حملت كرسي خشبي من غرفتي، وخرجت به إلى السطح لأترقب بزوغ شمس الصباح، وأتأمل أشعة الشفق وهي تتخلل ظلمة السماء، فتحيل حلكتها، ضياء وأملا ... كنت أعشق تلك اللحظات بحق، وأحرص على متابعتها كلما أتيحت لي الفرصة لذلك، وبخاصة من سطح بنايتي المرتفعة التي تناطح السماء، وكأن تلك الأجواء تحمل في داخلها وقودا خاصا أو طاقة تصلح لشحذ بطاريات روحي المنهكة، وبخاصة مع لسعة البرد المحببة التي تأتي مع هواء الصبح النقي، الذي لم تلوثه بعد أنفاس البشر.
عدت لغرفتي بعد أن عم الضياء الكون، وبدأت جميع الكائنات تخرج من أعشاشها، وديارها، وجحورها سعيا وراء الرزق، أشعر كأنني ولدت من جديد، يمكنني أن أحيا يوما آخر بعد حصولي على تلك الطاقة الروحية ... لقد أنستني تلك اللحظات ذلك الكابوس المرعب، وغيبته في ثنايا عقلي، وهو ماكنت أبغاه ... اغتسلت بسرعة، وارتديت ثيابي ... علي أن أكون في العمل بعد ساعة واحدة من الآن، وهذا يمنحني وقتا لتناول إفطاري في الطريق ... ألقيت نظرة على لوحتي الجديدة التي تحتل جدارا وحدها في غرفتي الضيقة ... شئ عجيب! بالأمس كنت استطيع أن ألمح صورا تمثلها التركيبات اللونية المتداخلة على سطح تلك اللوحة، أذكر أنها بدت لخيالي المريض، كشخص مقيد إلى مقعد، وآخر خلفه يجز رقبته بسكين حاد، لماذا اختفت الآن تلك الصور!؟ هل يكون ذلك بسبب اختلاف الإضاءة؟ أو زاوية الرؤية؟ أنا لست خبيرا في مثل تلك الأمور ... أخذت أدور حول اللوحة، أنظر إليها من أكثر من زاوية، أضيق عيني تارة، وأفتح المصباح وأغلقه تارة أخرى، دون جدوى، من الواضح أنني أعجز الآن عن رؤية أي صورة أو شكل له معنى مفهوم على سطح تلك اللوحة!
***
-          شطيرتين يا عم (حسن)، الأولى (فلافل) والأخرى (فول) بالزيت الحار.
عم (حسن) هو رجل عجوز يصنع شطائر (الفول) و (الفلافل) بعبقريته الخاصة، ويبيعها على عربة متهالكة لساعتين فقط يومين من السابعة وحتى التاسعة في ركن من حينا الفقير، وعم (حسن) وعربته يعتبران قبلة لمن يعشقون (غصبا عنهم) شطائر الفقراء الشهيرة، الفولن والفلافل، يتجمع عنده يوميا العشرات من سكان الحي والأحياء المجاورة للإفطار قبل ذهابهم لأعمالهم، بل أن البعض يجيئه من أماكن قاصية في العاصمة بعد أن سمعوا عن شطائره المنومة، المخدرة، التي لها مفعول قوي يبعث فيك الكسل والرغبة في النوم والعودة لمنزلك للاستلقاء في فراشك بمعدة منتفخة ودماغ عالية، وكأنك تناولت علبة كاملة من الأقراص مخدرة، كما أن عم (حسن) وعربته يعتبران أيضا موقعا للتواصل الاجتماعي وتبادل الأخبار والإشاعات سابقا في ذلك (الفيس) و (تويتر) بعشرات السنين، فعنده يتقابل الناس، ويتعارفون، ويتبادلون الأخبار، بل ويتعاركون أيضا ويقاطعون بعضهم بطريقة (البلوك) الشعبية ... قال رجل من المتحلقين حول العربة، بفم ممتلئ بالفول والخبز:
-          هل سمعتم آخر الأخبار؟
أجابه خمسة آخرون في نفس  واحد:
-          لا.
-          لقد قتل الصائغ (جرجس) بالأمس.
سأله رجل وهو يلقي قطعة من المخلل في فمه ويلوكها:
-          هن نان ذنك ببب قرقة.
-          ماذا؟
ابتلع الرجل ريقه، وقطعة المخلل، ثم أعاد سؤاله:
-          هل كان ذلك بسبب السرقة؟
-          لا ... لقد قتل في منزله.
وجدت أن تلك الإجابة لا علاقة لها بالسؤال، فقلت:
-          هذا لا ينفي أن القتل كان بسبب السرقة، قد يكون الصائغ كان يحتفظ بشئ من المجوهرات في منزله.
-          سمعت من قريب لي وهو (صول) في المباحث، أن القاتل ربطه وذبحه بوحشية دون أن يسرق شيئا، وأوصاني ألا أخبر أحدا بذلك، لآنهم يكتمون ذلك حتى لا يتسبب في أزمة.
ثم توجه بحديثه للواقفين:
-          أرجوكم ألا تخبروا أحدا بما قصصته عليكم ... إنها أسرار لا يصح إفشائها.
كنت قد أنهيت شطائري، فأعدت الطبق البلاستيكي لعم (حسن) شاكرا، وألقيت سلام على الواقفين، وابتعدت نحو عملي، وأنا أسمعهم يواصلون الحديث عن موضوع الصائغ (جرجس) المقتول:
-          قد يكون ذلك بسبب الثأر، أو بسبب المنافسة المهنية، أو للكراهية أو لأي سبب آخر.
***
وضعت كوب (النسكافيه) على مكتب الآنسة (هبة) بعد أن جلبته لها دون أن تطلبه، في الموعد الذي تفضله كعادتها، أشارت لي بإبهامها الصغير بتلك الطريقة التي أعشقها، وابتسمت لي ابتسامتها الرقيقه، فرددت عليها بابتسامة حوت (الأوركا) التي تزيد وسامتي، فبادرتني:
-          ما أخبار لوحتك الجديدة؟
-          رائعة، كلما نظرت إليها رأيت أشياء جديدة.
-          من عبقرية الفنان أن يجعل هناك أكثر من مستوى في قطعته الفنية، وبهذا كلما زاد عمق المشاهد، ومستوى مشاهدته، رأى أشياء جديدة.
لم أفهم بالضبط ما تقصده بتعليقها الأخير، ولكنني أومأت برأسي في بلاهة وأنا أجيب:
-          عندك حق.
صمتت للحظة، ثم قالت بنعومة:
-          أريد أن أشاهدها على الطبيعة.
أجبت بسرعة:
-          حسنا سأجلبها معي غدا.
-          لا داعي لآن تتعب نفسك، فاللوحة تبدو كبيرة لتحملها إلى هنا ...  سآتي بنفسي لمنزلك لأراها.
لم أصدق ما تقوله، يا لها من ضربة حظ، لقد أسقطت تلك اللوحة في يوم واحد بيني وبينها، كل تلك السنين الضوئية التي كانت تفصلني عنها، تذكرت حالة غرفتي التي أسكن فيها، فأجبت بذعر:
-          أنا أعيش في غرفة متواضعة، لا تليق بك.
قالت برقة:
-          ومن قال لك أنني بنت (باشا)، أنا أيضا أعيش في منزل على قدر الحال، مع عدد كبير من الأخوة الذكور الذين يحولون أي مكان يتواجدون فيه إلى حظيرة للحيوانات ... لا تقلق لن أتفاجأ أبدا بما سأراه.
لم أعرف بماذا أرد، ولكن السعادة والترحاب أرتسما بوضوح على وجهي، فأردفت هي بعذوبة، وهي تمد يدها لي بورقة بيضاء وقلم:
-          اكتب العنوان هنا، وموعدنا في السابعة مساء
***
معركة هائلة خضتها وحدي بالمقشة، والجاروف! لم أكن أحسب أن غرفة صغيرة كغرفتي، يمكن أن تحوي تلك الأطنان من القاذورات، ولكنني انتصرت في النهاية، وطردتها من منزلي في أجولة ألقيتها في نهاية السطح، أحضرت بعض الحلوى، والعصائر، وزجاجة من معطر الهواء أفرغتها في جو الغرفة ... تلفت حولي في رضا، بدا المكان مقبولا إلى حد ما، على الأقل هو الآن يصلح لإقامة الكائنات العليا، كالقرود الأولية، مثل الشامبنزي، وقرد المكاك، وهذا في حد ذاته نصر كبير، فمنذ سويعات قليلة لم يكن هذا المكان يصلح حتى كحفرة لخنزير بري ... دق جرس الباب، فبدا صوته أعذب من أي لحن سمعته في حياتي ... فتحت الباب، فوجدتها تقف هناك في فستان أخضر جميل يمتد إلى ما دون ركبتيها، ويحيط بخصرها حزام أخضر، كلون عينيها، تعقص شعرها الأشقر للخلف (بتوكة) بنفس اللون، بدت جميلة، ندية كأنها نبتت الآن من الأرض البكر الخصبة للجنة ... تحدثت بصوتها العذب قائلة:
-          أقدم لك (سطوحي).
تنبهت في تلك اللحظة، إلى ذلك الثور الذي يقف بجانبها يبتسم في بلاهة، يرتدي قميص (كاروهات) وبنطلون جينز غير مكويين، له شعر أشعث، ولحية كشعره مهملة ... مد لي يدا خشنا، فصافحته ... قالت (هبة):
-          (سطوحي) رسام محترف، وخبير فني، وأخصائي في ترميم اللوحات، وعنده مرسمه الخاص ... أثار فضوله حديثي عن لوحتك فجاء معي ليراها بنفسه.
حدجته بكراهية للحظات، ثم سمحت لهما بالدخول، وأنا أقول:
-          سامحاني ... المكان ضيق.
ثم سألتها وأنا أتظاهر بعدم الاهتمام:
-          هل الأستاذ (سطوحي) قريبك؟
أجابتني بابتسامة:
-          هو زميل من أيام الجامعة، يجمع بينا الاهتمامات الفنية فقط.
كان (سطوحي) قد سبقنا بخطوتين إلى الداخل، قبل أن تنطلق صرخته المندهشة، وهو يحدق في اللوحة بذهول:
-          مذهل ... إنها تحفة أصلية!
***
عام (1902) ميلاديا ... كان الشرطي (شول بارد) يقوم بجولته الليلة المعتادة في ضاحية (ريتشموند) في الجنوب الغربي من العاصمة اللندنية، كانت دوريتة في منطقة المساكن جنوب الضاحية، كانت الجولة هادئة كالمعتاد، الجو يحمل لسعة برودة محببة، القمر مكتمل يلقى بضوءه الفني فيضيف حياة خاصة إلى كل الأشياء، الشوارع المبطنة بحجر الإسكافي، والمضاءة بالقناديل خالية من روادها في هذا الوقت، كل شئ كان طبيعيا ... هو يفضل الجولات الليلية فتلك الأجواء توقظ في باطنه وعقله أشجان وذكريات ومشاعر جميلة، أخذ يلف عصاته حول سبابته، وهو يطلق من فمه صفيرا منغما ... فجأة انطلقت تلك الصرخة الهائلة، قادمة من أحد المنازل القريبة ... بحاسته الشرطية المحترفة، حدد المنزل الذي جاءت منه الصرخة ثم اندفع إليه وهو يعدو بسرعة كبيرة ... كان المنزل كجميع منازل تلك الضاحية من طابقين وجراج صغير، تحيط به حديقة صغيرة تظهر عليها آثار العناية والاهتمام، والحالة المادية المتيسرة لأهل المنزل، دفع الشرطي (شول) باب الحديقة، وهو يلقي نظرة سريعة على اللوحة المعلقة بجانبه (منزل عائلة ميلر).
عبر الشرطي (شول) الحديقة في خطوات سريعة، كان الباب الداخلي مواربا، فاقتحمه وهو يصيح:
-          ماذا يحدث هنا؟
كان المكان مظلما، ولا أثر للحياة فيه ... أخرج الشرطي (شول) مصباحه وهو يصيح بصوت عال:
-          هل يوجد أحد هنا؟
أضاء المصباح وأخذ يحركه في المكان بحثا عن أي إنسان، فجأة وقع ضوء المصباح على شئ أبيض معلق قرب السقف، لا إنهم ثلاثة أشياء، ركز الشرطي (شول) مصباحه على تلك الأشياء قبل أن تنطلق منه صرخة فزعة، وهو يقول:
-          اللعنة.
كانت تلك الأشياء، هي أمرأة مشنوقة من رقبتها ومعلقة بحبل خشن طرفه مربوط حول دعامة من دعامات سور الدرج في الطابق الثاني، وجسدها متدلي وقد فارقته الحياة، وبجوارها طفليها على نفس الحالة، مشنوقان إلى دعامتين أخرتين، وهناك آثار جروح ودماء تغطي مناماتهم البيضاء ... وصل إلى مسامع الشرطي (شول) صوت حركة خافتة، يصدر من الطابق الثاني، فاندفع بسرعة يقفز فوق الدرج حتى وصل إلى الطابق الثاني ... كانت هناك غرفة مضاءة في آخره فتوجه إليها مباشرة، ونظر داخلها:
فرأى فيها رجل، يتكئ على إحدى قدميه وهو مطأطأ الرأس أمام لوحة معلقة على الجدار من تلك اللوحات التي يسمونها لوحات عصرية، اقترب منه الشرطي (شول) بحذر بعد أن لاحظ أن جسده أيضا غارق في الدماء، قبل أن يقول له:
-          سيدي ... هل أنت بخير؟
التفت له الرجل ببطأ، ونظر إليه بعينين محتقنتين، قبل أن يقول بصوت مبحوح:
-          لقد قتلتهم ... قتلت زوجتي وطفلي؟
أخرج الشرطي (شول) مسدسه بسرعة، ووجه إلى الرجل وهو يقول بلهجة آمرة:
-          استلق على بطنك ... لا تتحرك.
نهض الرجل على قدميه، وأشار بسبابته إلى اللوحة، وهو يقول:
-          لا ... لست أنا ... إنها هي، هي التي فعلتها!
ثم توجه ناحية الشرطي (شول)، الذي لمح في يده نصلا حادا، فصرخ فيه بلهجة قوية:
-          ألق هذا النصل، واستلق على الأرض فورا، هذه هي المرة الأخيرة التي آمرك فيها بذلك.
توقف الرجل، ثم ابتسم بمرارة ... حاول أن يتكلم ولكن الكلام احتبس في حلقه، فبادره الشرطي (شول):
-          عليك أن تهدء، كل شئ يمكن إصلاحه.
هز الرجل رأسه نافيا، قبل أن يرفع ساعده الخالي، ويقطع أوردته بالنصل الحاد، ليسيل منها الدم ويغرق المكان.
***
كان (سطوحي) يقضي ليلته وحيدا في مرسمه كعادته، وسط لوحاته وألوانه، كان مازال يشعر بالحماسة، بعد رؤيته وفحصة لتلك اللوحة الأصلية في منزل ذلك الأحمق (مسعود) ... إنه موقن أنها لوحة أصلية، لا يصدق أن (مسعود) اشتراها بثمن بخس، بالتأكيد هو سرقها من مكان ما ... ما يثير حماسته أكثر هو شعوره بأنه قد رأى تلك اللوحة من قبل، وأنها تثير في روعه فزعا مبهما لا يعرف سببه ... لهذا جلس إلى حاسوبه ليبحث عن أصل تلك اللوحة، بمقارنة صور اللوحات من المواقع الشهيرة بتلك الصور التي التقطها للوحة بهاتفه المحمول ... فجأة عثر على رابط يحتوي على صورة مطابقة، ففتحه بسرعة وقرأ ما فيه، قبل أن ينتصب شعر رأسه من الرعب، ويشعر بتلك القشعريرة الباردة تسري على عموده الفقري وأطرافه، تمتم بصوت خفيض:
-          اللعنة، إنها (فوجار)، يجب إخبار (هبة) بذلك.
فجأة، سمع صوت شئ يسقط على الأرض في الزاوية المظلمة من المرسم، أرجف (سطوحي)، ونهض من على مكتبه، وتوجه بخطوات مرتعدة ناحية الصوت، قبل أن تقع عيناه على (باليته) ألوان من تلك التي تستخدم في الرسم، كانت ساقطة على ملاط المرسم، يبدو أنها سقطت من على اللوح الذي كانت معلقة عليه... تنهد (سطوحي) بارتياح، ولعن بحماقته لشعوره بالفزع بتلك الطريقة وهو في هذا السن، وبهذا الجسم ... في تلك اللحظة تحرك ذلك الظل المرعب خارجا من الركن المظلم، كان أول ما وقعت عينا (سطوحي) عليه هي تلك القدم العملاقة ذات الأظافر المخلبية التي ظهرت على الأرض خلف (الباليته) ... رفع (سطوحي) عينيه ببطأ إلى أعلى، قبل أن تنطلق صرخته الفزعة لتشق سكون الليل.
..(انتهى الجزء الثاني – ويليه الجزء الثالث)..


قصة رعب بعنوان ... (اللوحة الملعونة – الجزء الثالث)

ملخص ما سبق ... لوحة غامضة تظهر في فترات تاريخية متباعدة، بأماكن مختلفة، ويتزامن ظهورها دائما مع حدوث جرائم قتل مروعة ... أخيرا، ينتهي بها الحال على جدار غرفة ضيقة، فقيرة التأثيث، على سطح بناية مرتفعة، يمتلكها شاب اسمه (مسعود) حاله كحال غرفته ...  ورغم أن تلك اللوحة تحمل رسما سيرياليا يمثل مجموعة من التركيبات اللونية المتداخله التي لا تمثل لشاب مثل (مسعود) معنا مفهوما، إلا أنه يرى فيها بقليل من الخيال رسما لرجل مقيد إلى مقعد وآخر خلفه يذبحه، ولكن تلك الرسمه تختفي في صباح اليوم التالي من اللوحة، ليكتشف (مسعود) بعدها، أن (جرجس) الصائغ قد قتل مذبوحا في بيته!.. تجلب (هبة) زميلة (مسعود) في العمل، صديقها الرسام لفحص اللوحة، ولكنه في نفس الليلة يتعرض في مرسمه لهجوم من كائن مرعب...
.
طرقات قوية في الصباح، على باب غرفتي أيقظتني من النوم الذي كنت مستغرقا فيه بشدة، بعد ساعات طويلة من السهر بالأمس، كانت الليلة الماضية مختلفة بحق، بدت لي في بدايتها كحلم جميل عندما زارتني (هبة) هنا، في غرفتي، كانت فرصة رائعة لنتبادل أطراف الحديث بحرية، بعيدا عن جو العمل الخانق، أثناء انشغال صديقها الضخم في فحص اللوحة، لم استطع النوم بعدها وأنا استرجع كل كلمة قالتها، وكل حركة، أو لفتة فعلتها، وعندما غبت في النوم أخيرا انقلبت الليلة مائة وثمانين درجة، وتحول الحلم الوردي إلى كابوس أسود بلون الفحم، نفس الكابوس المريع الذي يطاردني في الأيام الأخيرة، هسيس، وطنين، ومخلوقات شريرة تتدثر بظلمة غرفتي، وتأمرني بالقتل!
فتحت باب الغرفة، فطالعني وجه بواب البناية الأسمر البشوش، وهو يبتسم ابتسامة ودودة:
-          صباح الخير يا (مسعود)!
-          صباح الخير يا (عبده)!
كان في مثل عمري، وكنا قد رفعنا الكلفة فيما بيننا منذ فترة طويلة، كما أنه متعلم، ويحمل الشهادة (الإعدادية), وهو مثلي جاء من الريف إلى المدينة بحثا عن حياة افضل، الفارق الوحيد بيني وبينه، هو أن عمله كبواب على بناية بهذا الحجم، وقضاؤه الحاجات لأصحابها، جعل وضعه المادي أفضل، وسمحا له بأن يتزوج من فتاة من قريته، وينجب منها طفلتين، لا يفعلان شيئا في حياتهما غير العدو طيلة الوقت على درج البناية، وإزعاج سكانها ... قال لي، فاتحة الحوار الشهيرة:
-          هل عرفت ما حدث؟
-          ماذا حدث؟
-          صاحب البناية ... السيد (جرجس) الصائغ.
قاطعته بسرعة:
-          سمعت بالأمس أنه قتل.
-          هذ حقيقي ... يقولون أنه ذبح في منزله!
-          شئ بشع!
-          بالفعل.
صمت للحظة، ثم أردف:
-          عذرا، لقد طلب مني الورثة أن أحصل الإيجار ... أنت تعرف أن أسبوعا قد مر من الشهر، وأنت لم ...
تنحنح بحرج، فقلت بسرعة:
-          أمهلني يومين يا (عبده).
تجهم وجهه للحظة، ثم عادت الابتسامة البشوشة لترتسم عليه، وهو يقول
-          حسنا، لا يوجد مشكلة.
ثم غمز بعينيه، وهو يردف:
-          مصائب قوم.
لم أفهم ما يقصده، فسألته:
-          ماذا تقصد؟
-          لقد كنت تتشاجر مع السيد (جرجس) منذ يومين عندما طالبك بالإيجار، وهددك بالطرد، وأخبرك أن الإيجار سيتضاعف من الشهر القادم ... الآن لن يفكر أحد من الورثة في شئ من هذا، وسينشغلون حتما لفترة طويلة في حصر كل تلك الثروات والأطيان، التي كان يمتلكها السيد (جرجس) الصائغ ... أنت محظوظ رغم كل شئ!
ابتسمت فقد بدا وصفه لي بالمحظوظ كدعابة، قبل أن أمط شفتي في عدم اكتراث، وأنا أقول:
-          لم تكن مشاجرة بالمعنى المفهوم، كانت مجرد خلاف بسيط في وجهات النظر.
أنهيت حديثي معه وعدت لغرفتي، كنت أريد أن ألقي نظرة على لوحتي، فبالأمس بعد رحيل (هبة) وصاحبها، طالعتني تلك اللوحة العجيبة بمشهد جديد على نسيجها، مشهد لكائن يشبه الدب، أو المستذئب كما نراه في الأفلام، كذئب ضخم يقف على قدميه كالرجال، وكان ذلك الكائن يهاجم شاب صحيح البنية، بدا لي كذلك (السطوحي) الذي جاء بصحبه (هبة) الليلة الماضي، لا أعرف هل كان ذلك بسبب الإيحاء باعتباره آخر من رأيت، أو أن عقلي صور لي ذلك بسبب شعوري بالضيق والحقد عليه لكونه صديق (لهبة) من دوني ... ألقيت نظرة على اللوحة، وكما توقعت اختفت ذلك المشهد، وعادت اللوحة لما كانت عليه ... شئ محير بحق، هل هي اللوحةحقا !؟ أم أن عقلي هو الذي يختلق تلك المشاهد بعد أن بدء يفقد اتزانه أخيرا بسبب الوحدة!؟
***
حاولت (هبة) الاتصال (بسطوحي) عدة مرات هذا الصباح ولكن هاتفه لا يرد، كان قد وعدها بأن يكشف لها عن سر تلك اللوحة التي يحتفظ بها (مسعود) في بيته، والتي تبدو كلوحة أصلية تقدر قيمتها بالملايين، واشتراها (مسعود) بثمن بخس من متجر صغير للتحف والخردوات ... ترجلت (هبة) من السيارة الأجرة أمام ذلك القصر الذي تبرع به صاحبه العاشق للفنون بعد وفاته حتى يكون قبلة وملتقى يجمع الفن والفنانين، فتم تقسيمه، إلى مجموعة من المراسم وقاعات العرض، تديرها النقابة، وتؤجر بعضها، ومنها ذلك المرسم الذي يؤجره (سطوحي) وهو في الناحية الغربية من حديقة القصر، بعيدا عن الزحام والضجيج ... كانت الساعة الثامنة صباحا، وهذا يعني أنها ستتأخر عن العمل، ولكن فضولها بخصوص تلك اللوحة، وشعورها بالقلق لعدم رد (سطوحي) على مكالماتها، دفعاها دفعا للقدوم إلى هنا.
توجهت (هبة) إلى المرسم، كانت تعلم أن (سطوحي) يقضي معظم أوقاته فيه، هو تقريبا لا يعود إلى منزله إلا قليلا ... تنهدت بارتياح عندما وجدت باب المرسم مفتوحا ومواربا، دفعته بهدوء وتقدمت إلى الداخل وهي تنادي على (سطوحي)، ولكنها لم تتلق ردا، إنها تعرف المكان جيدا، بل أنها تستخدمه أحيانا لممارسة هوايتها في الرسم، حتى أن بعض محاولاتها تقف هناك مرصوصة على الجدار، هي تعرف أنها ليست بارعة، ولكنها تحاول ومستواها يتحسن باستمرار ... ألقت نظرة على المكتب، فوجدت الحاسوب هناك، ولكنها لم تجد صاحبه، أخذت تبحث في المكان وهي تنادي على (سطوحي)، فلمحت مجموعة من اللوحات مكومة وملقاة في جانب من المكان، فتمتمت وهي تقترب منها:
-          غريب، هذا ليس من عاداته!
فجأة وقعت عيناها على قدمين تعرف صاحبهما، تطلان عليها من تحت اللوحات، صرخت في جزع:
-          (سطوحي) ماذا بك؟
قبل أن تندفع بسرعة لتزيح اللوحات من فوق جسده المسجى على الأرض، قبل أن تنطلق صرخاتها مدوية، متواصله، كصفير قاطرة أصيبت بالخبال، فهناك تحت تلك الكومة من اللوحات كان جسد (سطوحي) الممزق، المشوه، الغارق في بحيره من دمائه ... توقفت (هبة) عن الصراخ مرة واحدة، وسقطت مغشيا عليها. 
***
هذا هو اليوم الثالث الذي تتغيب فيه الآنسة (هبة) عن العمل، أشعر بالقلق والتوتر، وهذا دفعني إلى فعل مجنون ... توجهت إلى رئيس العمل، كان قد طلب مني كوبا من القهوة، ونسخ بعض الأوراق له على ماكينة النسخ ... اقتربت من مكتبه، وتنحنحت، فنظر لي تلك النظرة السمجة، وأشاح لي بيده بفظاظة كي أضع الأشياء التي في يدي على المكتب، وأرحل، فوضعتها وأنا أقول بصوت حذر:
-          الآنسة (هبة).
أجاب دون أن ينظر لي وهو يراجع بعض الأوراق أمامه:
-          مالها!؟
-          لم تأت للعمل في الأيام الأخيرة.
التفت لي وحدجني بنظرة متفحصة، وهو يقول:
-          إنها مريضة.
قالها وعاد إلى عمله، فتنحنحت مرة أخرى، فصرخ في بحدة:
-          ماذا تريد الآن؟
قلت بصوت متلجلج، وأنا أشير إلى الحاسوب الموجود أمامه، والمسجل عليه بيانات كل العاملين:
-          كنت أريد رقم هاتفها.
 حدق في وجهي بدهشة، قبل أن يسأل يصوت غليظ:
-          لماذا؟
ازدادت الرعشة في صوتي، فخرج رغما عني مبحوحا، خائرا، أنا أقول:
-          لقد طلبت مني أن اشتري لها بعض الأشياء.
اتسعت عيناه بشدة، وهو ينظر إلى وجهي، يحاول سبر غوره، قبل أن تنطلق منه ضحكة عالية، مجلجلة، جذبت انتباه جميع الموظفين في الشركة، الذين حولو تركيزهم إلينا، وألقوا آذانهم وأعينهم ليتابعوا ما سوف يحدث، قبل أن يصرخ في وجههي بصوت عال:
-          لن أعطيها لك بالطبع أيها العاشق الصغير ... هيا أذهب من هنا وعد إلى عملك قبل أن أوقع عليك الجزاء.
أحمر وجهي واحتقن، وأنا اتابع تلك الابتسامة الشامتة التي ارتسمت على وجوه الجميع، درت على عقبي متوجها إلى المطبخ، وأنا أنظر إلى الأرض في خجل، فلاحقني ذلك اللعين بسهام كلامه الفظ قائلا:
-          عليك أن تعرف مستواك، ولا تحاول تجاوزه أبدا، وإلا ستصيبك الحياة بركلة لتذكرك بمقامك أيها العاشق.
كنت أشعر بالضيق والحرج، أفكر أن أعود لأخنقه بكلتا يدي، أو أذيقه ركله من طرف حذائي المدبب في مؤخرته، ستكون أكثر قسوة من ركلة الحياة التي يتحدث عنها هذا الأحمق ... تمتمت بصوت خفيض، لا يسمعه سواي:
-          أتمنى أن تموت أيها اللعين.
***
قال المحقق الشاب (لهبة)،التي تجلس على فراشها المعدني في غرفتها بالمستشفى، بعد أن قضت فيها اليومين السابقين غائبة عن الوعي بعد تلك التجربة المروعة التي عاشتها:
-          هل أنت بخير الآن؟
كان وجهها شاحبا للغاية، وعيناها ذابلتين، وشفتاها جافتين، وخرج صوتها خائرا، ضعيفا، وهي تقول:
-          أجل.
-          إذا قصي لي ما حدث بالضبط.
أخذت (هبة) تقص على المحقق ماحدث، وكيف أنها احتاجت رأي (سطوحي) في لوحة اشتراها صديق لها، وعندما تأخر (سطوحي) حاولت الاتصال به، فلم تتلق ردا، فقررت زيارته في مرسمه، لتعثر على جثته على تلك الحالة المريعة ... سألها المحقق عن بعض التفاصيل، فحاولت الإجابة بقدر ما سمحت لها به ذاكرتها، وحالة الأعياء التي تشعر بها في تلك اللحظة ... في النهاية شكرها المحقق، ثم أخبرها أن هناك سؤال واحد أخير:
-          هل تعني لك كلمة (فوجار) شيئا!؟
فكرت (هبة) للحظات، ثم هزت رأسها نافية، وهي تقول:
-          لا.
صمتت للحظة، ثم أردفت متسائلة:
-          هل لتلك الكلمة علاقة بمقتل (سطوحي)!؟
أومأ المحقق برأسه، وهو ينهض من مقعده قائلا:
-          أجل، لقد كتب تلك الكلمة في رسالة على هاتفه المحمول قبل مقتله، ولكن الوقت لم يسعفه لإرسالها.
شكرها المحقق قبل أن يرحل، وأعطاها بطاقته المهنية، وطلب منها الاتصال به في حال تذكر أي تفاصيل أخرى قد تفيد القضية ... للحظات تجمدت (هبة) في فراشها، وأغمضت عينيها وهي تسترجع بعض الذكريات لها مع (سطوحي) زميلها في الجامعة، ذلك الفنان الموهوب، الخدوم، الذي علمها الكثير، وكان السبب في حبها للفن واهتمامها به، سالت دمعة حارة على وجنتها، فمسحتها بسرعة، ثم تناولت بعزم هاتفها المحمول من على الكومود الموجود إلى جانب الفراش، أدخلت بعض الأرقام وضغطت زر الاتصال، وانتظرت حتى جائها صوت مجيبها من الناحية الأخرى:
-          دكتور (عبد الحميد) كنت أريد أن آخذ رأيك في أمر هام.
استمعت للحظات، ثم قالت:
-          حسنا، سأمر عليك بعد نصف ساعة في مكتبك بالجامعة.
***
طرقت (هبة) باب المكتب وقرأت اللافتة المعلقة إلى جواره، دكتور (عبد الحميد حجازي) دكتواره في تاريخ الفن وعلوم المتاحف، كانت (هبة) تشعر بإعياء شديد، ويكتنفها إحساس متواصل بالدوار، كان والديها، والأطباء قد حاولوا جاهدين أن يثنوها عن مغادرة المستشفى قبل أن تتحسن حالتها، ولكنها كانت عازمة على القدوم، فهي تشعر أن الدكتور (عبد الحميد) قد يكون لديه إجابة على أسئلتها، في النهاية سمحوا لها بالخروج على أن يصحبها أخوها الأكبر بسيارته، وينتظرها حتى تنهي مقابلتها، ويعيدها بعد ذلك إلى المنزل مباشرة ... جاءها صوت الدكتور (عبد الحميد) من داخل المكتب:
-          تفضل.
دخلت (هبة)، فنهض الدكتور (عبد الحميد) من وراء مكتبه،  مرحبا بها، ودعاها للجلوس، وطلب من الساعي أن يجلب لها مشروب، قبل أن يرتسم الأسى على وجهه، وهو يقول:
-          لقد سمعت بما حدث (لسطوحي) ... أنا آسف.
أطرقت (هبة) برأسها ولم تعرف بماذا تجيب، كان (سطوحي) هو الذي عرفها بالدكتور (عبد الحميد)، ودعاها لحضور بعض محاضراته التي يتحدث فيها عن تاريخ الفن، كما أنها شاركت في بعض الدراسات الحرة والمشاريع التي كان يقودها، فتوطدت معرفتها به، وأعجب هو بحماسها ونشاطها ... قال الدكتور (عبد الحميد) بلهجة رصينة:
-          أراك ما زلت مرهقة، وجهك الشاحب ينبئ بذلك ... كيف يمكنني مساعدتك؟
أجابت بكلمة واحدة:
-          (فوجار)!
-          ماذا؟
-          هل هناك شئ مرتبط بتاريخ الفن يدعى (فوجار)؟
بدا التفكير العميق على وجه الدكتور (عبد الحميد)، قبل أن يجيب:
-          هل تقصدين الرسام (فوجار)؟
-          هل هناك رسام بهذا الاسم، أنا لم أسمع به من قبل!
عدل الدكتور (عبد الحميد) عويناته فوق أنفه، وهو يقول:
-          لآنه لم يشتهر بسبب لوحاته، في الواقع لم يترك منها إلا القليل، ولكنه اشتهر بسبب الجرائم المروعة التي ارتكبها.
أخرجت (هبة) هاتفها المحمول، وأرت الدكتور (عبد الحميد) صورة للوحة التي يعلقها (مسعود) على جدار غرفته، فبدا الذعر على وجهه وهو يقول بصوت مبحوح:
-          هذه اللوحة ... هذه اللوحة سيئة السمعة، البعض يقول أنها ملعونة، أين عثرت على صورتها؟
***
لم أشعر بأن ساعة قد مرت علي وأنا واقف هناك أمام لوحتي، أحدق فيها بذهول ... كما هي العادة، إنها تبوح الليلة بصور جديدة ومشهد جديد، سرعان ما يختفي ما أن يأتي النهار، الليلة أرى على نسيجها صورة لرجل تبدو على ملامحه الغضب والكراهية، يشنق آخر بحبل غليظ يلفه حول عنقه،  ويشده من الطرفين، على طريقة السفاحين الهنود، والثاني يقاوم في يأس وقد جحظت عيناه من الألم والرعب ... أشياء رائعة وأفكار جميلة أملأ بها عقلي وباطني قبل النوم، من الطبيعي أن تهاجمني إذا تلك الكوابيس اللعينة ... الآن أفكر، هل كان شراء تلك اللوحة وتعليقها على جدار غرفتي فكرة جيدة؟.. أشك في ذلك!
استيقظت من النوم على رنين جرس المنبه في هاتفي المحمول، بحثت عنه، فوجدته في جيب بنطالي، فأغلقته ... إنها الآن الرابعة صباحا بالتأكيد، عجيب لقد نمت الليلة نوما عميقا دون كوابيس، فركت عيني بأصابعي وبباطن كفي حتى أزيل عنهما النوم، نهضت من فراشي متوجها لدورة المياه ...  ولكن ما هذا!؟ اللعنة! أنا لست في غرفتي، أنا في شقة واسعة، فاخرة التأثيث، أرى ذلك على ضوء بعض المصابيح الخافتة التي تضئ المكان ... أنا لم أكن نائما في فراشي، بل على أريكة وثيرة في بهو هذه الشقة!.. أنا لا أعرف هذا المكان، ولم أتواجد فيه سابقا، إذا ما الذي جاء بي إلى هنا!؟. انتبهت إلى ذلك الشئ الذي أقبض عليه في يدي الآن، إنه حبل ليفي غليظ، ألقيته على الأرض بسرعة، كأنني كنت أقبض على ثعبان ... تلفت حولي في فزع، فرأيته هناك خلف أحد المقاعد مسجا على ظهره، عيناه جاحظتين تحلقان في السقف وقد اختفت منهما الحياة للأبد ... لقد تمنيت موته منذ ساعات، وها هي أمنيتي تتحقق ... إنه رئيسي في العمل، لقد مات مشنوقا بحبل ليفي غليظ كما تبدو العلامات على رقبته، حبل كالذي كنت أمسكه في يدي منذ لحظات!
..(انتهى الجزء الثالث – ويليه الجزء الرابع)..


قصة رعب بعنوان ... (اللوحة الملعونة – الجزء الرابع)

ملخص ما سبق ... تكتشف (هبة) أن اللوحة التي اشتراها (مسعود) ويعلقها على جدار غرفته، هي لوحة ملعونة، ولها تاريخ سئ، هكذا أخبرها الدكتور (عبد الحميد حجازي) العالم بتاريخ الفن والمتاحف ... وفي الليلة نفسها يستيقظ (مسعود) من النوم ليجد نفسه في شقة مجهولة، وسرعان ما يعثر بها على جثة رئيسه في العمل، وهي مسجاة على ظهرها، وقد فارقتها الروح للأبد، وعلى رقبتها آثار شنق بحبل غليظ، كالذي وجده في يده عندما استيقظ منذ لحظات ... يتذكر (مسعود) أنه رأى ذلك المشهد منذ ساعات على نسيج لوحته، قبل أن يأوى إلى فراشه في غرفته!..
.
أربع ساعات مرت على فراري من تلك الشقة اللعينة تطاردني شياطين الرعب والقلق، كنت أهيم فيها على وجهي في شوارع العاصمة، أسير بغير هدى، فكرة واحدة تسيطر على عقلي، هل حقا قتلت رئيسي في العمل؟ هل شنقته بحبل ليفي، وبيدي هاتين؟.. لا أنكر أنني تمنيت له الموت عدة مرات في السابق، فالدنيا بدون سماجته وفظاظته ستكون أفضل بأي حال! ولكنني لم أفكر يوما أن أفعلها بنفسي، أنا لا أجروء على ذلك ... أتسائل هل للوحة التي أعلقها على جدار غرفتي علاقة بذلك!؟ لقد رأيت (جرجس) الصائغ يذبح على نسيجها، وذبح بالفعل بعدها، ورأيت رئيسي في العمل يشنق بحبل، وتحقق ذلك أيضا ... هل أكون أنا الفاعل في المرتين!؟ ... هل أكون قتلت الصائغ بسبب مشادتنا بخصوص الإيجار!؟ وقتلت رئيسي في العمل لسخريته الدائمة مني وتعمده إهانتي أمام الجميع!
كانت شمس الصباح قد بزغت وأصبحت في كبد السماء، بالتأكيد لن أتوجه للعمل اليوم، أو لا أذهب إليه أبدا! ولكن ذلك قد يبذر الشكوك حولي أكثر، حسنا، سأتغيب اليوم، وأعود للعمل من الغد، وأتظاهر بأن شيئا لم يحدث ... أشعر بعطش شديد، لقد جفف الرعب حلقي، اقتربت من (كشك) صغير يبيع الجرائد والمرطبات، اشتريت زجاجة مرطبات، وأفرغتها في جوفي دفعة واحدة، وطلبت من البائع أن يعطيني واحدة أخرى، أخذت أطالع بناظري عناوين الجرائد والمجلات المعروضة في الواجهة، لفت نظري ذلك العنوان الذي يتحدث عن مقتل رسام في مرسمه وتشويه جسده بطريقة بشعة، التقطت الجريدة بسرعة وطالعت الخبر حتى وصلت لاسم القتيل، إنه (سطوحي)، ذلك الضخم الذي جلبته (هبة) معها منذ أيام لفحص اللوحة، ولسوء حظه رأيت صورته بعدها على نسيجها، وهو يتعرض لهجوم من كائن متوحش يشبه الدب أو المستذئب، لقد ضايقتني صداقته (لهبة)، ولا أنكر أنني شعرت أيضا ببعض الغضب والحقد عليه!.. الآن الحقيقة أصبحت واضحة تماما لي، تلك اللوحة الملعونة تلتقط مشاعر الغضب داخلي، وتحولها إلى صورة لحادثة قتل على نسيجها، حادثة تتحقق بحذافيرها بعد ذلك بساعات قليلة ... قادتني قدماي دون قياد مني لأجد نفسي أمام البناية التي أسكن فيها، لأصعد إلى غرفتي، وأولج المفتاح في قفل الباب بيد مرتعشة، وأفتح الباب، خطوت إلى الداخل فوجدتهم ينتظرونني هناك.
***
قال الدكتور (عبد الحميد حجازي):
-          (فوجار ) هو رسام مجري من القرن السابع عشر، لا أدري هل كان سابقا لعصره، أو أن شيطانا كان يساعده في رسم تلك اللوحات، فهي كانت تحمل ذلك الطابع السيريالي أو كما يسمونه (الفوق واقعي) الذي لم يكن قدعرف بعد في هذا العصر ... كان من يرى لوحاته يتحدث عن تلك العوالم المرعبة والكيانات الشيطانية التي كانت تطغى عليها، وعن تلك القشعريرة التي تنتابه، والكآبة التي تتملك وجدانه، والشعور المبهم بالرعب الحيواني الذي يسيطر على باطنه عندما يرى تلك اللوحات.
سألت (هبة) بفضول:
-          هل رأيت بعضها؟
-          لا لم أرى أيا منها ... فقط أعرف تلك اللوحة بسبب شهرتها، ولآن مالكها الأخير حكى قصتها والتقط لها بعض الصور.
-          وكيف ذلك؟
ايتسم الدكتور (عبد الحميد) وهو يومئ برأسه متفهما لفضول هبة ورغبتها في معرفة المزيد، وهو يقول:
-          لهذا قصة، إذا أمهلتيني سأقصها عليك باختصار.
-          تفضل.
التقط الدكتور (عبد الحميد) شهيقا طويلا ملأ به صدره، ثم قال:
-          بدأت القصة في القرية التي كان يعيش فيها (فوجار)، وكما أخبرتك، كانت لوحاته تثير الفزع في روع كل من كان يشاهدها، أشيعت عنه إشاعات كثيرة، البعض قال إنه ساحر، أو شيطان أو إنه من نسل الشياطين، وغيرها من تلك الأشياء التي يفسر بها القرويون كل ما لا يستطيعون تفسيره.
توقف للحظة ثم أردف:
-          الكارثة بدأت مع حالات الاختفاء التي انتشرت في القرية، أطفال، رجال، نساء، شيوخ، وكما هو متوقع أشارت أصابع الاتهام إلى (فوجار) مباشرة.
-          وهل كان بريئا منها.
نهض الدكتور (عبد الحميد) من وراء مكتبه وأخذ يسير في الغرفة جيئة وذهابا، قبل أن يقول:
-          لا على العكس، لقد كان هو الفاعل ... عندما فتشت الشرطة منزله، وجدوا جثث كل من اختفى أو ما تبقى منها.
بدا الإشمئزاز على وجه (هبة) وهي تتسائل:
-          هل كان غولا ...  يأكل لحوم البشر!؟
-          لا ... كان يصنع ألوانا وأحبارا من دماء وعظام ضحاياه، ليرسم بها لوحاته الملعونة، يظن أنه بذلك يكسب كل لوحه من لوحاته روحا وحياة خاصة بها ... لقد كان مخبولا تماما.
-          وماذا حدث بعد ذلك؟
-          حاصره أهل القرية في منزله، وأحرقوه فيه، هو وجميع لوحاته.
صمت للحظة ثم أردف:
-          في الرواية يتحدثون عن لعنة أطلقها في تلك الليلة، وعن صرخات وعويل شياطين انبعثت من داخل مرسمه، ويقولون أيضا أن تلك الأصوات كانت تنبعث من اللوحات نفسها قبل أن تأتي عليها النار.
ابتلعت (هبة) ريقها، وهي تقول:
-          قصة مرعبة بحق، ولكن ماذا هذه اللوحة؟
 وأشارت بهاتفها المحمول الذي يحوي صورة لوحة (مسعود)، فأجابها الدكتور (عبد الحميد):
-          أدعى البعض أنها من لوحات (فوجار)، وأنكر الكثيرون ذلك لآنها لا تنتظم مع ذلك الطابع المخبول الذي كانت عليه لوحاته ... يقول مالكها الأخير، وهو رجل أعمال ثري، امتلك تلك اللوحة في ستينيات القرن العشرين، وهو من وثق تاريخها الأسود، وجرائم القتل التي أصابت مالكيها ومن حولهم، أن تلك اللوحة هي الوحيدة التي نجت من النار في تلك الليلة، وأن روح (فوجار) وكيانات لوحاته الشريرة احتجزت فيها، وهذا هو السبب في كون تلك اللوحة ملعونة، وتصيب من يمتلكها بتلك اللعنة.
-          وماذا حدث لهذا المالك بعدها!؟
زفر الدكتور (عبد الحميد) زفرة حادة وهو يجيب:
-          لقد كانت نهايته كنهاية (فوجار) تقريبا ... حريق شب في غرفة مكتبه أتى على كل ما فيها، وعليه هو شخصيا، فقد عثروا على رفات جثته أو ما تبقى منها على مسافة متر واحد فقط من الجدار الذي كان يعلق عليه تلك اللوحة؟
-          وماذا عن اللوحة نفسها؟
-          اختفت ... لم يعثروا عليها في ذلك اليوم، وظن الجميع أنها احترقت مع الغرفة، واختفى أثرها من التاريخ طوال كل تلك الفترة، حتى ظهرت مؤخرا لدى صديقك هذا؟.. ماذا كان اسمه؟
-          (مسعود)
***
مفاجأة مرعبة استقبلتني في الداخل عندما دلفت إلى غرفتي، أظن أن شعري قد شاب مما رأيته في تلك اللحظة ، أشعر بألم هائل في عضلة قلبي، أحاول التراجع ولكن قدماي خارتا، وتحولتا إلى عودين من المعكرونة، وعجزتا تماما عن الاستجابة ومساعدتي على الهرب، أشعر بضيق في التنفس، ودوار يكتنف عقلي، وبأن هناك صاعقة ثلجية قد ضربت كل ذرة في كياني ... غامت الموجودات أمام ناظري لثوان، ثم سقطت على الأرض فاقدا للوعي.
عندما أفقت، كانوا قد رحلوا جميعا!.. تلفت حولي في جزع، وأنا أتسائل في حيرة ورعب، هل كان ما رأيته حقيقيا!؟ أم أنها أوهام وخيالات صنعها عقلي المكدود، هل كان هناك درزينة من الشياطين يجولون ويحومون في هواء غرفتي الضيقة منذ لحظات!؟. شياطين تبدو كأنها قادمة مباشرة من أعماق الجحيم، أحدها يبدو كالمستذئب، والآخر يبدو كالمينوتور في الميثالوجيا اليونانية بجسد هائل، عضلي كأجساد البشر ورأس كرأس الثور، والثالث يطير بجناحين وله رأس ثعبان، والرابع يحمل ثلاثة رؤوس قبيحة على جذعه، وغيرها من المخلوقات التي تحمل أوصافا مرعبة وقبيحة، يعجز عقلي ولساني عن وصفها.
كنت مازلت ملقا على الأرض أشعر بالألم في كل ذرة في جسدي، زحفت إلى فراشي، واستلقيت عليه، وغبت في نوم طويل، حتى المساء ... استيقظت على رنين طويل، ملح على هاتفي المحمول، ألقيت نظرة سريعة على الرقم فلم أعرف صاحبه، ضغطت زر الرد، فجأني ذلك الصوت الأنثوي الرقيق من الناحية الأخرى وهو يقول:
-          (مسعود)!؟
-          أجل.
-          أنا (هبة).
خفق قلبي بقوة، وشعرت أنه يريد أن يقفز من صدري ... من ساعات كاد يتوقف من الرعب، وهو الآن يوشك على التوقف من شدة الفرحة، أجبت بسرعة:
-          مرحبا آنسة (هبة) ... هل أنت بخير الآن؟ ... علمت أنك ...
قاطعتني بسرعة، وبصوت جاد:
-          اللوحة يا (مسعود) ... إنها ملعونة حاول التخلص منها بسرعة!
عجزت عن الرد، فواصلت هي حديثها قائلة:
-          لقد مات (سطوحي) بسببها، أرجوك حاول التخلص منها بسرعة، قبل أن تتسبب في موت آخريين.
قلت بسرعة محاولا طمأنتها:
-          سأفعل، لا تقلقي، ولكنني أريد أن أقابلك لأفهم الموضوع بالضبط.
-          حسنا سأمر عليك غدا، ولكن لا تنتظر، عليك أن تتخلص منها الآن.
أغلقت الهاتف بسرعة، ونظرت إلى اللوحة، وأنا أتمتم بصوت خفيض:
-          حسنا، سأفعل.
هنا رأيته يظهر من العدم، يقف أمام اللوحة مباشرة هو يوليني ظهره، يحمل بين يديه فرشاته وألوانه، يرتدي سترة وبنطال ضيق وقبعة عملاقة، ثياب من الماضي البعيد، كان منهمكا في رسم أشياء على لوحتي مباشرة ... نهضت من الفراش، واقتربت بحذر، حتى صرت خلفه تماما، كانت الأشياء التي يرسمها قد بدأت تتضح، وهي تبدو لي كفتاة مذعورة بثياب النوم متكومة في ركن من الغرفة، وهناك ثعبان ضخم يقترب منها وهو فاغرا فيه ... ضربات أخرى من الفرشاة صارت صورة الفتاة أكثر وضوحا، فوجدت نفسي أصرخ بجزع:
-          لا ... لا ... ليست (هبة)!
فالتفت لي بوجهه المرعب المحترق، والمشوه، محجري عينيه الخاليين، وصرخ في بصوت مرعب، متضخم كأنه يخرج من أعماق بئر سحيق:
-          أقتلها ...
***
قال المحقق الشاب (لهبة)، شكرا لك على استقبالي في هذا الوقت المتأخر، دعته (هبة) للدخول، كان أباها وأخوها في الداخل، فسلم عليهما المحقق وهو يقول:
-          عذرا على قدومي بهذا الشكل، في هذا الوقت المتأخر.
قالت (هبة) بلهجة متعاطفة:
-          لا يوجد مشكلة ... أي شئ يساعد في القبض على قاتل (سطوحي)، أنا مستعدة لفعله.
دعا الأب الجميع للجلوس في غرفة (الصالون)، وهو يسأل المحقق عن المشروب الذي يفضله، اعتذر الأخير بأدب وهو يخرج هاتفه المحمول من جيب بنطاله، ويشغل (فيديو) مكتوم الصوت، ويناوله (لهبة) هو يقول:
-          هذا (الفيديو) صورته (كاميرا) البنك المواجه للقصر، هناك أربعة أشخاص دخلوا القصر من بوابته الرئيسية في ساعة متأخرة من ليلة الجريمة، هل يمكنك التعرف على أحدهم؟
التقطت (هبة) الهاتف، وأخذت تتابع الفيديو باهتمام، قبل تهز رأسها وهي تقول:
-          لا أعرف هذا الشخص.
تابعت المزيد، ثم أردفت:
-          ولا هذا أيضا.
اتسعت عيناها في رعب، وهي تضع يدها على فمها وتحاول كتم صرختها، وهي تقول:
-          هذا الرجل ... إنه (مسعود)!
***
غادر المحقق الشاب منزل (هبة) بعد أن حكت له كل شئ عن اللوحة الملعونة التي اشتراها (مسعود)، وعن زيارتها لمنزله بصحبة (سطوحي)، وأعطته أيضا عنوان (مسعود) ورقم هاتفه ... كانت تشعر بالضيق، لم تكن تصدق أن (مسعود) يمكنه أن يرتكب جريمة بشعة كتلك، بالتأكيد هذه اللوحة الملعونة هي التي دفعته لذلك، حاولت أن تستلقي في فراشها وتنام ولكنها لم تستطع،فحاولت أن تقرأ كتابا ليساعدها على الاسترخاء ولكنها أيضا لم تنجح في دفع تلك الأفكار عن ذهنها، أخيرا قررت التوجه إلى المطبخ لتصب لنفسها كوبا من اللبن ليساعدها على التخلص من حالة التوتر والأرق التي تكتنفها ... كانت تسير في الردهة المظلمة كباقي غرف المنزل بعد أن أوى جميع أفراد العائلة إلى فرشهم، فجأة وصل إلى مسامعها صوت حركة خافتة يأتي من داخل المطبخ ... أيكون ذلك واحدا من أهلها توجه إلى المطبخ لنفس أسبابها!؟.. من الجائز!
..(انتهى الجزء الرابع – ويليه الجزء الخامس والأخير)..
 
 
قصة رعب بعنوان ... (اللوحة الملعونة – الجزء الخامس والأخير)
ملخص ما سبق ... لوحة ملعونة تتبدل معالمها كل حين، بمشاهد مبهمة لجرائم قتل بشعة، والمرعب أكثر من ذلك، أن تلك الجرائم تقع بعد ذلك بساعات قليلة وبنفس الطرق التي أظهرتها المشاهد على اللوحة ... يمتلك تلك اللوحة شاب بائس، يجد نفسه هو المتهم الأول في جميع جرائم القتل التي كانت تلك اللوحة سببا فيه! وتزداد معاناته، عندما يكتشف أن الهدف والضحية التالية للوحة هي الفتاة التي يحبها ... والتي تعاني من الأرق والتوتر في تلك الليلة، فتتوجه إلى المطبخ لإعداد كوب من اللبن، فيصل إلى مسامعها صوت حركة خافتة تصدر من داخله ...
.
اقتربت (هبة) بخطوات حذرة من المطبخ، كانت الشقة غارقة في الظلام بعد أن أوى جميع أفراد عائلتها إلى فرشهم، إلا من ضوء (سهاري) ضعيف يضيئ الصالة، وذلك الضوء الذي يخرج من باب غرفة نومها المفتوح في آخر الردهة ...  مدت (هبة) رأسها عبر باب المطبخ، وعلى الإضاءة الخافتة الصادرة من مصباح الثلاجة، رأت شخصا ينحني داخلها ويبحث عن شئ فيها بعصبية، كان معظم جسده مختفيا وراء باب الثلاجة المفتوح ... كان أول ما جال بعقل (هبة)، أن هذا الشخص هو بالتأكيد واحد من أخوتها الذكور، تسلل إلى المطبخ لصنع شطيرة ليلية، ملقيا بتحذيرات أمه بعدم العبث في المطبخ وراء ظهره، اقتربت (هبة) أكثر بخطوات متحسسة وقررت أن تفاجئ أخيها العابث ... خطوة أخرى ثم أزاحت باب الثلاجة وهي تقول بصوت ساخر حاولت أن تكسبه نبرة تهديد مصطنعة:
-          ماذا تفعل هنا!؟
اعتدل ذلك الشخص ببطء، حتى صار وجهه في مواجهة وجهها تماما، هنا اكتشفت أنه ليس واحدا من أخوتها الذكور، لقد كان (مسعود)، ولكن هناك شيئا مختلفا في ملامحه، إنهما عينيه وحدقتيهما المشقوقتين رأسيا كالثعابين، ونابيه البارزين على جانبي فمه، وذلك اللسان المشقوق الذي يتحرك بينهما، لقد كان هو (مسعود) كما تعرفه، ولكن بهيئة ثعبانيه مرعبة ... كانت (هبة) قد بلغ منها الرعب والذعر مبلغا، كانت تريد أن تصرخ، أو تهرب، أو حتى تسقط مغشيا عليها، ولكنها شعرت بالخدر، والشلل، يتملكان كل جوارحها ... أصدر ذلك المخلوق هسيسا مرعبا، وأقترب منها أكثر حتى صار فمه على بعد بوصات من أذنيها، قبل أن يهمس فيهما بكلمات لم تسمعها في المرة الأولى، فكررها ثانية فبدت واضحة في تلك المرة:
-          ساعديني ... أرجوك ساعديني!
فجأة زال الخدر عن جسدها دفعة واحدة، وانطلقت صرخاتها عالية، مولولة ... ثوان وأضئ المكان، كان ذلك هو والدها الذي هرع إلى غرفة نومها بعد أن أفزعته صرختها، فأضاء المصباح، ومن خلفه لحق به أخوتها وأمها، التي أسرعت نحوها وجلست بجوارها على الفراش واحتضنتها، وهي تقول بلهجة مطمئنة:
-          لا تقلقي يا حبيبتي ... إنه مجرد كابوس.
قال أبوها بلهجة حانية:
-          اطمئني، أنت في فراشك وبين أهلك، لا يوجد ما يخيف.
تلفتت (هبة) حولها في جزع، كانت بالفعل على فراشها، وفي غرفة نومها ... كان الفزع والحيرة مازالا يرسمان معالمهما على وجهها، هل كان ما رأته حقا حلما أو كابوسا، لقد كان شديد الوضوح، وكان مرعبا للغاية ... أردف أبوها قائلا:
-          ما تعرضت له في الأيام الماضية كان قاسيا يا بنيتي، عليك أن تريحي جسدك وعقلك يا حبيبتي.
أشارت أمها لأبيها وأخوتها كي يرحلوا، وهي تقول:
-          هيا، عودي إلى النوم يافتاتي، سأكون إلى جانبك الليلة.
أراحت (هبة) رأسها إلى الوسادة، وأغمضت عينيها، وعقلها مازال مستيقظا يفكر في هذا الكابوس المرعب، هل كان ما رأته حلما، أم رؤية ورسالة من عقلها الباطن؟
***
لحظة مرعبة أخرى عشتها عندما التفت لي ذلك الشبح، وصرخ في وجهي:
-          أقتلها!
كان صوته ضخما، عميقا، كصوت الرعد، خرج من فمه كريح عاصفة، أطاحت بي إلى الخلف أكثر من مترين، لأسقط على فراشي ... كان رد فعلي سريعا للغاية، نهضت من سقطتي، وتوجهت مباشرة إلى باب غرفتي، وهربت من المكان ... لن أقضي لحظة أخرى في تلك الغرفة بحضرة شياطينها، وشبحها، ولوحتها الملعونة ... كنت أعدو على درج البناية اتلفت خلفي تحسبا أن يكون ذلك الشبح في أثري ... أشعر بالخوف على نفسي حقا! ولكنني أشعر بالخوف أكثر على (هبة)، التي اختارتها اللوحة الملعونة كي تكون ضحيتها التالية، ويدعوني ذلك الشبح لأقتلها بنفسي ... لا لن أقتلها! لن أفعل ذلك أبدا، مهما كان الثمن غاليا.
قادتني قدماي إلى ذلك الفندق الحقير، في ذلك الحي الشعبي بقلب العاصمة، أعرف المكان جيدا، وقضيت فيه بعض الليالي من قبل بصحبة البق والقمل والعفن الذي يغطي الجدران، وأثاثه القذر، كل هذا لا يهم، المهم ألا أقضي ليلتي بصحبة تلك اللوحة الملعونة ... كان عامل الفندق يعرفني، وبالتالي لم يسألني عن اسمي ولا بطاقتي، وهو يناولني مفتاح الغرفة، ويتناول إيجار ليلتين ... دلفت إلى الغرفة فاستقبلني جوها الخانق، وتلك الرائحة العضوية السيئة، ألقيت نفسي على الفراش الذي تغطيه ملاءة اختفى بياضها أسفل تلك البقع ذات الألوان المتعددة، والتي يمكن أن تنشط مخيلتك، فتعتبرها كلعبة للتسلية وانت تفكر في مصدر كل بقعة من تلك البقع ... أغمضت عيني، وغبت في النوم، أنام كثيرا جدا في الأيام الأخيرة، المفروض أن يكون الأمر عكس ذلك تماما مع كل تلك الضغوط العصبية التي أتعرض لها ... ولكن ها أنا أغيب فيه مرة أخرى، كان آخر ما خطر على عقلي قبل النوم، هو صورة (هبة) وابتسامتها الآثرة وعينيها الخلابتين.
نمت عدة ساعات، واستيقظت قرب الفجر، توجهت إلى ذلك الحوض المعلق إلى جدار الغرفة، فغسلت وجهي ببضعة دفقات من الماء، لا يوجد داعي لدخول الحمام، ففي هذا الفندق الحمام مشترك، ودخوله بالدور ويعتبر ضربا من المستحيلات، وحتى لو نجحت في دخوله فسيفزعك ما ستراه في الداخل ... عدت إلى فراشي وجلست عليه، ألقيت نظرة على ساعتي إنها الرابعة صباحا، زفرت زفرة طويلة قطعتها بفزع، بعد أن وقعت عيناي عليها، انتصب شعر رأسي وسرت القشعريرة الباردة على عمودي الفقري، ورقبتي، ووجدت نفسي أصرخ في جزع:
-          اللعنة!
فأمامي على الجدار المقابل، كانت لوحتي الملعونة معلقة في براءة، لقد جاءت خلفي، لقد قررت ملاحقتي ... حاولت الهرب منها وتركت غرفتي بما فيها، فطاردتني تلك الملعونة إلى ذلك المكان الحقير... نظرت إلى نسيجها، كان ذلك المشهد الذي يمثل (هبة) محاصرة بذلك الثعبان الضخم ماثلا على نسيجها ... تمتمت بفزع:
-          يا إلهي ماذا أفعل!؟  كيف أتخلص من تلك اللعنة!؟
***
مرة أخرى أجول في شوارع العاصمة حتى تطلع شمس الصباح، وتعود الحياة إلي شوارعها التي كانت نائمة، أتوجه الآن إلى العمل، هذه هي الفكرة الوحيدة التي خطرت لي، بالتأكيد لن تطاردني تلك اللوحة الملعونة إلى هناك، كما أن ذهابي للعمل فرصة لرؤية (هبة)، وكذلك ينأى بي عن الشكوك عندما يكتشفون مقتل رئيسي في العمل ... وصلت إلى أول الشارع الذي فيه الشركة التي أعمل بها، عندها لمحت سيارة الشرطة التي تقف أمام بنايتها، وحولها ينتشر مجموعة من الجنود يقفون في ترقب أمام مدخل البناية ... استدرت على عقبي مبتعدا، لا أحتاج للكثير من الذكاء لأعرف أنهم هنا يبحثون عني ليقبضوا علي، ترى في أي تهمة؟ مقتل الصائغ، أم مقتل رئيسي في العمل، أم (سطوحي)؟ أم أن الشرطة اكتشفت كل الحقيقة، وتبحث عني لقتل ثلاثتتهم!؟
أخرجت هاتفي المحمول، كانت آخر مكالمة مسجلة عليه من (هبة)، ضغطت زر الاتصال، وانتظرت في قلق مترقبا أن يتوقف الرنين السمج، وأسمع صوتها الرقيق يرد علي من الطرف الآخر، ولكن هذا لم يحدث أبدا! حاولت مرات ومرات، وفي كل مرة لا أتلقى ردا!. لقد وعدتني (هبة) بأن تمر علي اليوم، هل أعود إلى غرفتي وانتظرها هناك، ولكن إذا كانت الشرطة عرفت الطريق إلى عملي، فهم بالتاكيد يعرفون أيضا الطريق إلى سكني، وهم ينتظرونني هناك ينصبون المصيدة وينتظرون الفأر أن يقع فيها، لا لن أفعل، لن أعود إلى غرفتي أبدا!
بعد ساعات طويلة من السير أدمت قدمي، وأحرقت فيها أكواب القهوة والشاي معدتي عندما كنت ألجأ للجلوس على بعض المقاهي لأريح على مقاعدها جسدي المنهك ... أخيرا حل المساء، وهناك فكرة تسيطر الآن على عقلي، لا أعرف هل هي فكرة تحمل بعض المنطق، أم أن الأرهاق والتعب هما اللذان يصوران ذلك لعقلي، أفكر أن أعود الآن إلى ذلك الفندق الحقير، وأحاول التخلص من تلك اللوحة اللعينة بأي وسيلة، كما أنه في النهاية مكان مناسب للاختباء في تلك الظروف.
***
اللعنة ... ماذا أفعل لكي أقضي على تلك اللوحة الأبدية، لقد جربت اشعال النار فيها فلم تتاثر، جربت تمزيقها بمطواة، عشرات الطعنات والشقوق، عادت بعدها لتلتئم كان شيئا لم يكن، ماذا أفعل حتى أتخلص منها!؟ أخذت أصرخ في هستيرية، أمسكت باللوحة بغضب وتوجهت إلى النافذة وألقيت بها على امتداد ذراعي إلى خارج النافذة، لتسقط في مكب للنفايات بذلك الشارع الخلفي الملاصق لظهر الفندق، ذلك الشارع الممتلأ عن آخرة بأكياس القمامة والنفايات ... صرخت وأنا أزفر بعصبية:
-          إذهبي أيتها اللعينة ... مصيرك مع القمامة!
الآن يمكنني أن أرتاح قليلا، أشعر بحاجة شديدة للنوم.
***
لم يفلح إلحاح والدي (هبة) أو تحذيراتهما في أن يثنياها عن الذهاب للعمل في هذا اليوم، كانت تعلم أنها لو تغيبت يوما آخر فلن يرحمها ذلك البغيض رئيسها في العمل من العقاب، هكذا وجدت نفسها على مكتبها وأمامها أطنان من العمل المتأخر، الغريب أنها علمت أن رئيسها في العمل لم يحضر هذا اليوم، ولا اليوم الذي قبله، وهذا أشعرها بالراحة، لأن هذا يمنحها متسعا من الوقت لإنهاء أعمالها المتأخرة قبل ظهوره، وتقريعه المتوقع لها ... سألت زملاءها في العمل عن (مسعود)، وعلمت  منهم أنه متغيب هو الآخر، على الأقل هي تعرف السبب، والآخرين في الشركة أصبحوا يعرفونه أيضا بعد ساعات عندما جاء ذلك المحقق الشاب، المتحمس للشركة بصحبة رجال الشرطة للسؤال عن (مسعود) بعد أن أخفقوا في العثور عليه في غرفته.
اتصلت (هبة) بأمها لتخبرها بأنها ستتأخر في العمل حتى التاسعة مساء، وذلك كي لا تشعر بالقلق عليها، ولتبلغ أيضا أخاها الأصغر بالموعد الذي سيحضر فيه لها، بعد أن رفض أبوها أن تقود السيارة بنفسها هذا الصباح، خوفا من أن تعاودها حالة التعب والدوار، وأصر على أن يصحبها أخوها للعمل صباحا ويعيدها في المساء.
أنهت (هبة) عملها في الموعد المحدد، فأخرجت هاتفها للاتصال بأخيها، كانت هناك خمسة وعشرون اتصالا لم ترد عليها، لقد نست هاتفها على وضع الصامت، فكرت أن معظم تلك الاتصالات من والديها، وستقوم بمراجعتها بعدما تعود للمنزل ... وضعت الهاتف في حقيبتها، ووقفت أمام البناية تنتظر في صبر وصول أخيها، فجأة لمحت شيئا يلمع من شارع الخدمات الضيق المجاور لبناية الشركة، هي تعلم أن ذلك الشارع مغلق وفيه مداخل خلفية للبنايات المطلة عليه، ويستخدم عادة في التحميل أو التفريغ ... هناك شئ بالفعل يلمع داخل ذلك الشارع، أو هو أنعكاس إضاءة أعمدة الإنارة على شئ ما يتحرك ... دفعها الفضول للاقتراب اكثر، لم تشعر بنفسها وهي تلج ذلك الشارع وتمشي فيه حتى منتصفه، لا يوجد أي أثر لذلك الشئ اللامع، فجأة، تدحرجت علبة معدنية من الطرف المغلق للشارع حتى توقفت أمام حذاءها ... كان ذلك الطرف مكدسا بصناديق خشبية ضخمة تصلح لإخفاء فيل، بدأت (هبة) تشعر بالقلق، وبأن دخولها لهذا المكان وحدها لم يكن تصرفا ذكيا، فتمتمت بصوت مرتعش وهي تتراجع للخلف:
-          هل من أحد هنا!؟
هنا فتح الجحيم أبوابه، فمن خلف أحد الصناديق خرج ذلك الثعبان العملاق، ثعبان ضخم بحجم ثعبان (البوا) العملاق، يزحف ناحيتها برأس وقائمة منتصبتين (كالكوبرا الملكية)، وبذيل يصلصل كحية الجرس، وبعينين تلمعان بضوء أصفر مرعب، إي خليط شيطاني هذا في هذا الثعبان الضخم الذي يحاصرها في ذلك الشارع الضيق، ويقترب منها مشرعا أنياب يزيد طول الواحد منها عن الخمس بوصات، ولسان مشقوق يعبث بينهما في جشع، فكرت للحظة، هل يكون هذا أيضا كابوس ككابوس الأمس؟ لا إنه ليس كابوسا، إنها حقيقة مرعبة ... حاولت (هبة) الهرب ولكن الفرصة كانت قد ضاعت، فقد زحف ذلك الثعبان وأغلق مدخل الشارع عليها، وبدأ يقترب منها مركزا عينيه المنومتين إلى عينيها، أخذت (هبة) تتراجع، حتى صار الحائط في ظهرها، فغطت وجهها برعب وأخذت تصرخ في جنون هستيري.
-          طااااااخ!
كان ذلك هو صوت عيار ناري انطلق من مدخل الشارع، وأصاب الثعبان الضخم في جذعه، فسقط متكوما على الأرض، فتحت (هبة) عينيها لتلمح ذلك المحقق الشاب وهو يصوب مسدسه ناحية الثعبان المتكوم بجرح دامي في جزعه، على الأرض على بعد متر واحد من موقعها، بادرها المحقق الشاب:
-          هل أنت بخير؟
أومأت برأسها ... فجأة اعتدل الثعبان العملاق، ثم زحف بسرعة هائلة ناحية الجدار المغلق في نهاية الشارع، طارده المحقق برصاصته، التي أصابت جميعها الجدار، ولم تفلح أيا منها في إصابة الثعبان، الذي زحف صعودا على الجدار بطريقة مذهلة لا تفعلها الثعابين وبسرعة كبيرة حتى اختفى عند سطح البناية ... هرع المحقق الشاب نحو (هبة) وعاونها على النهوض، وهو يقول:
-          أي شيطان هذا؟
  شكرته (هبة)، قائله:
-          شكرا لك ... لولا ظهورك المفاجئ لصرت فريسة سائغة له ... لقد أنقذت حياتي!
-          ليس ظهورا مفاجئا، كنا نراقبك على أمل أن يحاول (مسعود) التواصل معك ... لم نعثر عليه حتى الآن.
ابتسمت (هبة):
-          لقد كان هذا من حسن حظي.
***
مرة أخرى استيقظ في مكان لا أعرفه، ليست شقة هذه المرة بكل تلك اللوحات المنتشرة في المكان، وأدوات الرسم، والفرشات والألوان، يبدو المكان كمعرض أو مرسم، هناك مكتب في صدر المكان عليه جهاز حاسوب، أشعر بآلام رهيبة في الجانب الأيسر من بطني، تحسست موضع الألم، فغرق كفي و غرقت أصابعي بالدماء اللذجة، هناك جرح غائر في بطني، تسيل منه الدماء، تلفت حولي في ذعر، فوجدتها هناك معلقة على الجدار، تنظر لي بسخرية سوداء، إنها لوحتي الملعونة مرة أخرى، جلبتني إلى هذا المكان الذي لا أعرفه!
ألمح صورة ضوئية في إطار فوق المكتب، أمسكتها  بيدي الغارقة بالدماء، ونظرت فيها، إنني أعرف صاحبها، إنه (سطوحي) صديق (هبة)، يظهر في الصورة وهو يتسلم درعا أو جائزة من شخص ما، يبدو أن هذا المكان هو مرسمه.
أشعر بضعف ودوار شديدين، جلست على الأرض واسندت ظهري إلى الجدار، ألقيت نظرة على لوحتي الملعونة، لقد تغير المشهد على نسيجها، لم استطع تبين المشهد الجديد من موقعي هذا، ولم أقو على القيام والاقتراب لرؤيته ... ألم شديد من الجرح، وشعور بالخدر يتسرب إلى نصفي الأيسر، أتساءل ما سبب هذا الجرح؟ هل ذهبت في رحلة أخرى من رحلاتي التي ترسلني فيها تلك اللوحة الملعونة نائما، وأصبت فيها إصابة خطيرة!؟ تبدو بالفعل خطيرة ومميتة!
استلقيت على جانبي الأيمن، أخرجت هاتفي المحمول، وضبطت المنبه فيه على أن يرن كل عشر دقائق، لا أريد أن أنام الآن، واستيقظ لأجد نفسي، وقد ارتكبت كارثة أخرى، اعتقد أن اللعنة على وشك الانتهاء، لقد كانت حياتي بائسة بما يكفي، وموتي الآن إذا كان سينهي هذه اللعنة لن يكون سيئا ... فجأة دق جرس الهاتف، نظرت بعينين زائغتين إلى شاشته، إنها رقمها ... تدفقت الطاقة في عروقي دفعة واحدة، ووجدت نفسي اعتدل متناسيا جرحي القاتل، وأنا أضغط على زر الإجابة في الهاتف قائلا:
-          آنسة (هبة)!
-          (مسعود) أين أنت، الجميع يبحثون عنك!؟
صمت للحظة، ثم رددت بصوت خائر، ضعيف:
-          صدقيني يا آنسة (هبة) ... أنا لم ارتكب أي جريمة، ولم أقتل أحدا، إنها تلك اللوحة الملعونة وشياطينها، إنها هي المسئولة عن كل ذلك.
-          أعرف يا (مسعود) ... عذرا لم انتبه لمكالماتك إلا الآن.
ألم رهيب اكتنف جرحي، فتأوهت بصوت خافت، ضغطت على أسناني وأنا أجيب بصوت ضعيف:
-          لا يوجد مشكلة، المهم أنك اتصلت بي في النهاية، كنت أريد أن أبرئ نفسي أمامك قبل أن ...
لم استطع أن أكمل، فجاءني صوتها القلق:
-          قبل ماذا يا (مسعود)!؟ ولماذا يبدو صوتك ضعيفا متألما!؟
استجمعت بعض قوتي كي أجيب:
-          لا تقلقي ستنتهي اللعنة بعد قليل.
جاء صوتها ملتاعا:
-          أين أنت يا (مسعود)؟
-          لقد جاءت بي اللوحة رغما عني، إلى مرسم (سطوحي)!
قالت بسرعة:
-          إذا ابق مكانك ... أنا قادمة؟
-          انتظري ... كنت أريد أنا أصارحك بشئ واحد أخير.
-          صارحني عندما أصل إليك.
-          لا ... هذا هو الوقت المناسب ... أريد ان أخبرك أنك إنسانة رائعة، الملاك الوحيد في حياتي الممتلئة عن آخرها بالشياطين ... أنا ... أنا أحبك.
أغلقت الهاتف بسرعة دون أن انتظر ردة فعلها ... لا أريد ان أسمع ردها، لا يهمني، المهم انني أعترفت لها بحبي وهذا يكفي ... الآن يمكنني أن أموت مرتاحا ... الآن أرى أن حياتي لم تكن بهذا السوء!
***
خارت قواي تماما، أشعر بالخدر الآن في كل جسدي، هل هذه هي عوارض الموت، نظرت إلى تلك اللوحة الملعونة، أشعر بأن ضحكاتها الساخرة، الظافرة، تصل إلى مسامعي ... استجمعت آخر قطرات من طاقتي، نهضت بصعوبة شديدة وأنا استند إلى الجدار، أخذت أجرر قدمي متوجها صوب اللوحة، الآن أرى المشهد المرسوم على نسيجها، ابتسمت بسخرية، فقد كان المشهد يعرض شاب جاثيا على ركبتيه تحاصره الشياطين من كل جانب، تنتظر اللحظة المناسبة لتهاجمه وتفترسه، وكان ذلك الشاب يشبهني تماما، تمتمت بصوت خفيض:
-          هذا هو مشهد النهاية إذا!
فجأة صعقتني تلك الخاطرة، (هبة) في طريقها إلى هنا، وقد يعرضها ذلك للخطر، يجب أن اتصرف بسرعة، تلفت حولي في جزع بحثا عن شئ يساعدني، لمحت في ركن من المكان مجموعة من الحاويات عليها علامة (خطر)، أعلم أن الرسامين يحتاجون أحيانا للبنزين والأثير لخلطها بمواد الرسم ... توجهت ناحيتها وأنا مازلت أجرر قدمي من التعب، سقطت على الأرض، وخلت أنني لن استطيع النهوض، ولكنني بإرادة حديدية نهصت من جديد وخطوت خطوتين أخريين حتى وصلت إلى تلك الحاويات، رفعت الغطاء عن إحداها وتشممت الرائحة، وابتسمت بظفر وأنا أنظر إلى اللوحة، وأخاطبها قائلا:
-          استعدي للمحرقة أيتها اللعينة.
فجأة انطلقت تلك الصرخات المفزعة، كانت لتروعني وتشيب شعري في ظروف أخرى، ولكن عندما تكون على مسافة خطوات قليلة من الموت لا شئ يمكنه أن يفزعك ... ومع تلك الصرخات الشيطاينة المفزعة تحررت الشياطين من سطح اللوحة وأخذت تجول في المكان، كانت تتحرك في دوائر أنا في مركزها، تقترب مني، تصرخ في أذني، تمس جسدي فأشعر بلمستها كقضمة السقيع، سقطت على الأرض مجددا، وقد غامت المرئيات أمام عيني، أشعر أنني سأغيب عن الوعي، سأغيب إلى الأبد ... فجأة جائتني تلك الفكرة، وكأن حالتي تلك قد جعلت عقلي أكثر صفاء، وقدرة على التفكير، أعرف الآن كيف أتخلص من تلك اللعينة! سأحرق المكان ولكن ذلك لن يكون كافيا، فقد جربت النار معها من قبل، ولكنني الآن امتلك خطة أخرى.
بيدين مرتعشتين استندت عليهما، واعتدلت من جديد، قبل أن انهض من سقطتي، حملت إحدى الحاويات وأخذت أفرغ ما بها في المكان، ثم أشعلت ولاعتي وألقيتها على السائل الحارق فاشتعلت النيران في المكان في ثانية واحدة، قبل أن أتوجه إلى لوحتي الملعونة، وأنا أتجاهل كل تلك الشياطين التي تحوم، وتتقافز، حولي، وفي طريقي التقطت أنبوبين من الألوان، ونزعت غطائهما بأسناني بعنف، وبصقتهما في جانب من المكان الذي توهج تماما بلظى النيران، التي تلفح وجهي وجسدي وتحرقهما، لم أبالي بكل تلك الآلام، ولا بغياب الأوكسجين من الجو الذي يخنقني ... واصلت خطواتي الأخيرة، حتى أصبحت أمام اللوحة تماما، أفرغت أنبوبي الألوان على كفي، وأنا أتحدث إلى اللوحة قائلا بكراهية:
-          ما رأيك في أن أضيف مشهدا جديدا إلى نسيجك، ايتها الملعونة!
وبسرعة أخذت أمسح بكل تلك الألوان التي في كفي على نسيج اللوحة، وأنا أحرك يدي حركات دائرية، كنت أبذل اقصى جهدي لأخفي كل معالمها تحت تلك البقع اللونية التي أصنعها بيدي في حماس ... تغيرت صرخات الشياطين، وبدت مرعوبة، متألمة، وهي تحاول العودة إلى اللوحة فتصطدم بالغطاء اللوني الذي صنعته فوقها، فتسقط على الأرض لتلهمها النيران ... استمر ذلك الوضع الجنوي للحظات أخرى حتى التهمت النيران كل الشياطين، صرخت في ظفر:
-          لقد هزمتك إيتها اللعينة!
فجأة خرجت يدان مخلبيتان من اللوحة وسحبتني إلى داخلها، فوجدت نفسي أسقط في بئر عميق مظلم، بلا قاع.
***
 وصلت (هبة) إلى المكان فصعقتها تلك النيران التي تلتهمه بسرعة كبيرة، لحظات ووصل المحقق المتحمس، ومعه رجال الشرطة، وسيارتي إطفاء ... بعد ساعة تمكنت الجهود من السيطرة على النيران وإطفاؤها حتى آخر شرارة ... كانت النيران قد أتت على جميع اللوحات وأدوات الرسم التي تفحمت جميعها، بحثوا جيدا في المكان، فلم يعثروا على أي أثر (لمسعود) ولا للوحته الملعونة، لقد اختفيا كلاهما، أو اكلتهما النيران حتى آخر ذرة ...
***
لا لم تكن تلك النهاية التي توقعتها ... أنا راوي القصة إذا كنتم قد لاحظتم ذلك بالفعل من أول سطر فيها، وراوي القصة لا يموت في قصته، هذا شئ منطقي بالطبع، بالتأكيد لم أمت رغم أنني اقتربت من ذلك كثيرا، ليتني مت! كان هذا سيضع حدا لبؤس حياتي، ولكن هاهي حياتي البائسة تتواصل داخل ذلك العالم المرعب الذي صنعه ذلك الرسام المخبول داخل لوحته الملعونة، بعد أن نجح في جذبي وأسري إلى داخلها، لأعيش فيها للأبد، بلا أي أمل في النجاة، ولا الخروج ... لقد نجحت بالفعل في غلق تلك البوابة، وأوقفت لعنتها عن عالمي، ولكن هذا قضى أيضا علي أي أمل لي في العودة إليه، قد أعيش هنا آلاف السنين، في ذلك العالم اللعين، مع ذلك المجنون وشياطينه الخبيثة ... يخفف عني العذاب أحيانا، تلك اللحظات التي أفكر فيها في حبيبتي (هبة) وفستانها الأخضر، وعينيها الخضراوين كلون توكتها التي تعقص بها شعرها الأشقر الذهبي.
.. (تمت) ..

هناك تعليق واحد:

  1. مرحبا
    هذه القصه بالذات لا يجب مقارنتها بباقي قصصك الاخري فأنا اعتبرها غلطه كبيره منك كمؤلف قصص رعب
    القصه طويله جدا بصوره مملة دون سبب أو داعي لذلك ودون تشويق كافي و ايضا اسلوبك الذي حاولت أن تقلد فيه الاستاذ احمد خالد توفيق جعلها مسخا و جريمه متكاملة الأركان
    كل ما قرأت لك كان يرتقي الي أدب الرعب الراقي الذي كان يذكرني بإدجار الان بو
    ارجو الاتغضب من كلامي فهذا حقك علي ككاتب رعب ممتاز و هذا ايضا حقي عليك كقارئ أضاع من وقته قرابة الساعة في هذه القصه .

    تحياتي لك

    ردحذف