السبت، 24 يونيو 2017

المنزل المسكون


قصة رعب قصيرة بعنوان ... (المنزل المسكون – الجزء الأول)
عندما دخلت المجلة هذا الصباح، استقبلني الجميع بابتسامة متشفية، وأخبروني أن رئيس التحرير يبحث عني، وملامحه الغاضبة لا تنبئ بخير ... توجهت إلى مكتبه بخطوات متوجسة، قلقة، كنت أفكر ما الذي فعلته خطأ وسيعاقبني عليه رئيس التحرير ... طرقت الباب طرقة واحدة خافتة، فجاءني صوته الغليظ من الداخل، بنبرة عالية، آمرة:
-          ادخل.
فتحت الباب، فرمقني بنظرة سريعة، ثم عاد إلى الورق الذي أمامه يخط عليه بالقلم الجاف خطوطا بعصبية، يشطب على تحقيقات، ومقالات، ويعلق تعليقا وقحا على أخرى، ويطلب التعديل في غيرها، ويعفو عن القليل مما سيسمح له بالنشر في العدد القادم من المجلة ... اقتربت من مكتبه دون أن يدعوني، وجلست على المقعد المواجه ... استمر في عمله لدقائق، فتنحنحت، كي أنبهه إلى وجودي، فنحى الورق جانبا، ثم حدقني بنظرة نارية وهو يقول:
-          أعجبني التحقيق الأخير لك.
قلت بعفوية:
-          أي تحقيق، أنا لم ينشر لي أي شئ مؤخرا.
انتبهت إلى الفخ الذي ينصبه لي، ولكن متأخرا، فقد صرخ في وجهي بحدة وهو يقول:
-          إذا ما الدور الذي تقوم به في هذه الجريدة، لتستحق عليه راتبا آخر الشهر؟
ارتج علي، وبدأت أتلجلج، وأنا اقول:
-          أنا أجلب إعلانات، وأقوم بالمراجعة والتنسيق، و ...
قاطعني بصرخة أكثر حدة، كادت تطيح بي من فوق مقعدي على الأرض:
-          أنت صحفي، وهذا يعني مقالات، وتحقيقات.
صمت لكسر من الثانية، ثم أردف بصوت غليظ:
-          هذه الأشياء لا تكفي ... الجميع يفعلها بطبيعة الحال، ولكنهم يأتوني أيضا بمقالات وتحقيقات رائعة.
-          لقد أعددت بالفعل بعض المقالات، ولكنك رفضتها جميعا.
برق الشر في عينيه، فاستدركت بسرعة:
-          أقصد أنها لم ترق للمستوى الذي تبحث عنه ... حضرتك.
أخذ ينفس أنفاسا سريعة، متقطعة، كالثور الموشك على الهجوم، ثم زفر زفيرا طويلا ... وهو يمد يده لدرج مكتبه، ويلتقط ملفا ورقيا، ويلقيه إلي، وهو يقول بصوت متوعد:
-          هذه هي فرصتك الأخيرة.
التقطت الملف، وقرأت عنوانه، ورددته بصوت خافت:
-          المنازل المسكونة!
أومأ رئيس التحرير برأسه، وهو يقول:
-          أجل، أريد تحقيقا عن المنازل المسكونة ... ولكنني أريده مختلفا، ولا أريده مقتبسا من مواقع النت، ولا المصادر المشبوهة.
قلت بحذر:
-          وكيف سيكون مختلفا!؟
ابتسم ابتسامة أشبه بابتسامة الذئب الذي تنكر في ثياب جدة (ذات الرداء الأحمر)، وهي تسألها عن سبب فمها الكبير، قبل أن يقول:
-          ستكتب المقال، أثناء إقامتك داخل واحد من أشهر المنازل المسكونة في البلاد.
اتسعت ابتسامته أكثر، وهو يردف:
-          منزل (الدندراوي).
***
منزل (الدندراوي) ... يعود تاريخ هذا المنزل إلى قرنين من الزمان، عندما وصل إلى تلك القرية رجل ثري اسمه الحاج (يوسف الدندراوي)، وعرض على الفلاحين أسعارا لا يمكن رفضها لشراء أراضيهم، أسعار تزيد ثلاث مرات عن قيمة الأرض الحقيقة في هذا الزمن ... وبعد وقت قصير كان قد أصبح مالكا لأكثر من نصف أراضي الجوار، حينها خصص تلك التلة المرتفعة، البعيدة عن العمران، لتشييد منزله الخاص، الذي شيده على الطراز القوطي، بأعمدته، ونافوراته، وجرجوناته، وحديقته الواسعة الممتلئة بالتماثيل التي تمثل وحوشا، وشياطين، ومخلوقات أسطورية قبيحة، وأسواره العالية ذات الحراب المدببة ... كان المنزل أشبه بقصر مهيب، مرعب، يثير القشعريرة في نفس كل من رآه، وبخاصة في الليالي القمرية الباردة حينما تسقط على مبانيه أشعة القمر الفضية فتصنع خيالات رهيبة، مفزعة، وعندما يتسلق الضباب التلة، ويزحف على المنزل، فيكتنفه، ويزيد غموضه ... كان المنزل مكون من طابقين، وعلية تصعد إلى برج يستخدم لتربية الحمام، ملحق بالمنزل (أسطبل) للخيول، وحظيرة للدواب، والدواجن، ومنزل صغير في أطراف الحديقة من غرفتين لإقامة البواب.
لا يوضح التاريخ كيف ساءت الأمور، ولكن بالتأكيد كان للناس أسبابهم التي جعلتهم يهابون الحاج (يوسف الدندراوي)، ويتشائمون منه، وينسبون له كل مصيبة في حياتهم، البعض يتحدث أن خدم المنزل سربوا لأهليهم، أن الحاج (يوسف) كان يمارس الطقوس الساحرية، يقضي معظم وقته في عليته المشئومة، التي تنبعث منها أحيانا أصوات مرعبة، تشيب الشعر فوق الرؤوس، أصوات هي خليط بين عويل الشياطين في سقر، وهزيم الرعد، وعزيف الجان، وزمجرة الوحوش في البرية ... البعض يتحدثون عن أوبئة أصابت أهل القرية، ودوابهم، والبعض يتحدث عن أطفال، وعذارى اختفوا، وقبور دنست، وجثث سرقت منها ... في النهاية تجمعت أصابع الاتهام لتشير نحو الحاج (يوسف الدندراوي) بقوة.
وفي ليلة ظلماء، قمرها محاق، تجمع عدد كبير من أهل القرية، معظمهم من الشباب الثائر، وممن يحملون في قلوبهم لظى الانتقام على خسارتهم في أطفالهم، ودوابهم، حملوا مشاعلهم وتوجهوا إلى منزل (الدندراوي)، الذي خرج لمواجهتهم بشجاعة، فطالبوه بالرحيل عن قريتهم، ولكنه كان فظا في رده، وذكرهم أنه يملك قريتهم وأراضيها، وأنهم يعيشون في خيره، ثم أخذ يسبهم، وينهرهم، حتى أصابه الحجر الأول في رأسه، فشجها، وأعجز لسانه عن النطق، بعدها هجم عليه الشباب المتحمس بالعصي، والحجارة وأجهزوا عليه بقسوة، واستمروا بعدها في ضربه، وتحطيم عظامه لدقائق، ثم علقوا جثته على باب منزله، لقد تمكن منهم شيطان السادية في تلك الليلة، وأوغر صدورهم، فكان له ما تمنى.
كان هذا هو الفصل الأول في قصة منزل (الدندراوي)، تواترت بعدها الشائعات عن المنزل، وعن شبح (الدندراوي) الذي يقطنه، ويهاجم من يفكر في الإقامة فيه أو الاقتراب منه، ظل المنزل خاليا لسنوات، ثم اشتراه تاجر قطن (أرمني)، ليقيم فيه مع زوجته وإبنه الرضيع، لينتهي ذلك أيضا بحادثة مروعة، ذبح فيها التاجر زوجته، وأبنه، وشنق نفسه بحبل طويل معلق إلى ثرية كبيرة في منتصف البهو، الغريب أنه مثل بجثتيهما، وانتزع رأسيهما ووضعهما على طاولة خشبية في العلية ... بعد ذلك قطن البعض منزل (الدندراوي) على فترات متباعدة، وفي كل مرة كان قاطنيه يهجرونه، بعد التعرض لأشياء مروعة، وكوارث، ومشاهدات مرعبة لأشباح، ومخلوقات تمرح فيه، وأصوات مرعبة تنبعث من غرفاته، ومن وراء جدرانه ... وهكذا هجره الجميع بعد أن انتشرت سمعته السيئة، وأصبح من أشهر المنازل المسكونة في البلاد.
***
انتهيت من قراءة سريعة، وعامة لمحتوى الملف، وكعادتي دائما في القراءة، بأن أبدء بفكرة عامة عن الموضوع، ثم أعرج على التفاصيل في وقت لاحق، وهناك في هذا الملف الكثير جدا من التفاصيل عن الوقائع الرهيبة التي حدثت في  المنزل (الدندراوي) ... وضعت الملف جانبا، والتفت إلى ذلك الرجل الجالس بجانبي على مقود ذلك الخلاط، الذي يمخضنا في الطريق الوعر، الملئ بالمطبات نحو منزل (الدندراوي)، عفوا لم يكن خلاطا ولكنها سيارة عتيقة، متحجرة العظام، والفرش، يصدر محركها أصواتا مزعجة، وترتج بعنف فوق المطبات، فتصيبك بالصداع، وتمزج أعضاءك الداخلية، حتى تكاد تقئ معدتك ... قلت له بإعياء:
-          هل اقتربنا.
نظر لي نظرة مطولة، متفحصة، ثم قال:
-          نحن الآن نصعد التلة ... بعد اليمين القادم خلف الأشجار، سيظهر المنزل.
ثبت ناظري على الزجاج الأمامي، كنت متحمسا لرؤية هذا المنزل، وبالفعل بمجرد أن تجاوزت السيارة الأشجار وتحولت إلى ناحية اليمين، انطلقت من فمي شهقة عالية، كتمتها بيميني، وانا أقول بصوت متهدج من الدهشة:
-          إنه مخيف ...
قال قائد السيارة، والذي هو أيضا المشرف على المنزل، والقائم بتأجيره لمصلحة مالكه:
-          هذا هو الانطباع الدائم لكل من يشاهد منزل (الدندراوي) للمرة الأولى.
ارتسمت على وجهه ابتسامة متهكمة، وهو يضغط مزود الوقود، لتتقافز السيارة بسرعة نحو منزل (الدندراوي) ... دقائق قليلة، ووصلنا إلى وجهتنا، فصف سيارته بجانب البوابة، وترجلنا منها ... دفع البوابة بقوة، وهو يقول:
-          تفضل.
كنت مازلت عاجزا عن الكلام من الانبهار، والدهشة ... كنت أعرف شكل المنزل من وصفه في الملف الذي سلمه لي رئيس التحرير، ولكن هناك شيئا ما بخصوصه يبعث القشعريرة في باطنك عندما تنظر إليه بعينيك، وهناك قوة خاصة، مرعبة، تجثم على روحك عندما تلجه بقدميك ... قلت بدهشة:
-          الحديقة منمقة، وأشجارها ونباتتها مهذبة، والممرات، والرخاميات نظيفة  ... هل هناك من يهتم بكل هذا!؟
-          بالطبع، الحديقة، والمنزل والأثاث، وكل شئ يتم الاهتمام به حتى يظل نظيفا ومنظما.
قلت متعجبا:
-          ما الهدف من ذلك إذا كان المنزل مهجورا!؟
أطلق ضحكة ساخرة، وهو يقول:
-          بالفعل هذا المنزل خال من السكان، ولكن هناك الكثيرون ممن يأتون لزيارته، والتقاط الصور الفوتواغرافية، وأحيانا يخاطر البعض كما فعلت أنت ويؤجره لبضعة أيام، على أمل أن يحظوا بفرصة للتعرف على أشباحه.
-          وهل هذا مجز!؟
-          إلى حد ما.
كنا قد عبرنا الحديقة ووصلنا إلى الباب الداخلي للمنزل، ففتحه بمفتاح كبير، ودفعه، ودعاني للدخول، فقلت له متسائلا:
-          ومن هو صاحب المكان؟
-          خواجة من بلاد بره... وهو لا يأتي إلى هنا أبدا.
-          إذا من الذي يدير المكان.
-          الأستاذ (عبد العليم) المحامي هو الذي يتواصل مع الخواجة، بعد ان أوكله الأخير بهذا الأمر ...  وأنا طبعا كما ترى أشرف على المكان وأهتم بنظافته، وأدفع فواتير الماء، والكهرباء، وأتعامل مع المستأجرين.
وضع الرجل حقيبتي أمام الباب، وناولني ورقه فيه اسمه، ورقم هاتفه، فقلت بسرعة:
-          ألن تدخل!؟
-          لا ... أنا لا أدخل إلا للضرورة ... هذا هو رقم هاتفي، لو احتجت لأي شئ كلمني ... وسأعود بعد أسبوع لأقلك من هنا.
قالها، ورحل مسرعا دون أن يلتفت خلفه.
***
حملت الحقيبة إلى داخل المنزل، وضعتها في البهو، وقمت بجولة سريعة في المنزل ... كان المنزل نظيفا ومؤثثا بأثاث القصور، لوحات من عصر النهضة، تماثيل، مكتبات ضخمة في كل غرفة، ومليئة عن آخرها بالكتب، مدافئ تقليدية من الملاط تحتل جدرا كاملا في كل غرفة، ثريات كبيرة، أسرة ضخمة بأعمدة ذهبية، خزانات ملابس من خشب (الأرو) ترتفع ثلاثة أمتار وتمس السقف ... اخترت غرفة من عشرة غرف في الدور الثاني، أفرغت حقيبتي، وغيرت ثيابي، وارتديت منامتي، سيكون هناك جولات في المكان، أمامي أسبوعا بأكمله لاكتشف المكان.
ألقيت نظرة من النافذة، كان الليل قد بدأ يرخي سدوله على الكون، والمنظر في الخارج صار مهيبا بحق، مع ذلك الضباب الذي بدأ يتكون أسفل التلة، ويزحف صاعدا عليها نحو منزل (الدندراوي) ... التقطت الملف، ونزلت إلى الدور الأول حيث البهو المتسع، اخترت مقعدا إلى جوار المدفأة التي لم تعمل منذ عشرات السنين، بدأت اتصفح الملف من جديد ... الحقيقة أنني لا أؤمن بتلك الترهات التي تتحدث عن المنازل المسكونة، والأشباح، والعفاريت ... لا يوجد شئ اسمه منزل مسكون ... وكل القصص التي تتحدث عن المنازل المسكونة هي محض افتراءات، إختلقها البشر لأغراض شخصية، وحتى لو انتفت تلك الأغراض، فعلى أفضل تقدير يمكننا القول أنها ظواهر عجزت العقول القاصرة عن فهمها، فنسبوها للخرافات الشائعة، وإنه لو قررنا البحث والتدقيق فيها من جديد، لأمكننا إيجاد تفسير علمي، ومنطقي لها ... كلام جميل ومنمق يصلح كبداية لتحقيقي القادم عن أكذوبة المنازل المسكونة، وأنا شخصيا كنت مقتنعا به قبل ثوان قليلة، وحتى ظهور ذلك الشبح لرجل مسن يرتدي ملابس كلاسيكية، على المقعد المواجه لي فجأة، وكأنه خرج من العدم، وهو يضع قدما فوق الأخرى، ويدخن (البايب) باحترافية، ويراقبني بنظرات جمدت الدم في عروقي.
شعرت برعب رهيب في تلك اللحظة، عجزت عن النطق، وتسارعت دقات قلبي، وشعرت بالدماء تقفز إلى رأسي، وبالقشعرية الباردة تنسحب فوق عمودي الفقري وأطرافي، كنت عاجزا عن التفكير في رد فعل مناسب لما يحدث، أفكر في أن انطلق هاربا من المكان، ولكن ركبتاي المرتعدتين لم تسمحا لي بذلك ... انتبهت إلى أن ذلك الشبح ذو الملامح الغربية، والصلعة، والفودين المكتسيين بشعر أبيض مخملي، يحاول التحدث إلي، كان فمه يتحرك ولكن صوته لا يخرج، وكأنه مشهد في التلفاز، وهناك من ضغط ذر كاتم الصوت ... كان يكرر نفس الكلمات مرات، ومرات ... قلت بحروف مختلجة، مرتعشة:
-          ماذا تقول!؟
فجأة انطلق صوته عاليا، قويا، وانفجر داخل أذني، عقلي، فمزق خلاياهما، وهو يقول:
-          اهرب بسرعة ... إنه هنا!
سقطت على الأرض من الفزع، كان الصوت غليظا، وأجوفا كأنه قادم من أعماق بئر، كان صوتا عاليا، مرعبا، وغير بشريا ... اعتدلت بسرعة، وأنا انظر نحو الشبح، فوجدته قد اختفى فجأة، كما ظهر فجأة ... ألقيت بجسدي على المقعد، وأنا أشعر بإرهاق شديد بتأثير تلك الصدمة التي تعرضت لها، كانت كل خلية في جسدي ترتعد بهستيرية، قلت لنفسي بصوت خافت، مرتعد:
-          ترى ماذا ينتظرني في هذا المكان؟
جاءتني الإجابة أسرع مما توقعت، مع تلك الأصابع القوية، الغليظة، التي قبضت على كتفي ...
.. (انتهى الجزء الأول – ويليه الجزء الثاني والأخير) ..


قصة رعب قصيرة بعنوان ... (المنزل المسكون – الجزء الثاني)

ملخص ما سبق ... يجد الصحفي الشاب نفسه مطالبا بإعداد تحقيق عن المنازل المسكونة، مع إصرار رئيس التحرير على أن يقوم بذلك أثناء تواجده داخل واحد من أشهر تلك المنازل المسكونة في البلاد ... منزل (الدندراوي)، ومع الدقائق الأولى لتواجده في هذا المنزل يجد نفسه في مواجه مع شبح رجل مسن في ملابس كلاسيكية، يصرخ هذا الأخير في وجهه برسالة تحذيرية، ثم يختفي، ويتركه يتساءل عما سوف يواجهه في هذا المنزل المخيف، ولا تتأخر الإجابة كثيرا مع تلك الأصابع القوية، الغليظة، التي قبضت على كتفه ...

.
التفت بسرعة إلى الخلف، في محاولة لرؤية ذلك القابض على كتفي، ولكنني لم أجد أحدا هناك، أخذت أدور على عقبي، وأنا أتلفت يمينا ويسارا، شعرت بالدهشة والذعر، هناك من كان يقبض على كتفي بأصابع قوية منذ لحظة واحدة، فأين ذهب!؟... ما زلت أشعر بالألم في كتفي من أثر تلك القبضة، ولكنني لا أجد أثرا لصاحبها الآن ... ترى هل كنت أتخيل ذلك!؟ ... فككت أزرار منامتي، وكشفت عن كتفي، فوجدت تلك الآثار عليه، آثار لخمس كدمات صنعتها خمسة أصابع غليظة، قوية!
توجهت مباشرة إلى غرفتي في الدور الثاني، كنت أرتقي الدرج بخطوات سريعة، وأنا أفكر فيما حدث، كنت أحمل يقينا منذ ساعة واحدة أنه لا يوجد شئ اسمه منزل مسكون، وأن الحالات التي ترصد ظواهر شبحية، هي حالات قابلة للتفسير بالقليل من التحليل العلمي والمنطقي، إذا كيف يمكن تفسير ما حدث لي منذ قليل ... هناك نظرية لا أتذكر صاحبها تدعي أن هناك بعض الأماكن لها القدرة على تركيز الطاقة الكونية في بؤر للطاقة، وأن تلك البؤر تؤثر في البشر إذا اقتربوا منها، وتجعل عقولهم تعمل بصورة غير منطقية، وهذا يجعلهم يرون أشباحا، وعفاريتا، وغيرها من المخلوقات الخوارقية، ولأن عقولهم لا تعمل كما يجب فهذا يدفعهم أحيانا لارتكاب أفعال تؤذيهم، وتؤذي من حولهم ... أجل هذا هو التفسير المنطقي ... على الأقل هذا التفسير سيسمح لي أن أعتبر ما حدث مجرد لعبة عقلية، وقد يجعلني هذا استطيع النوم حتى الصباح.
أغلقت باب الغرفة من الداخل بالمفتاح، أجل هناك تفسير لما حدث ولكن الأمان ضروري، هناك هاجس وصوت خافت في ركن بعيد داخل عقلي يخبرني بذلك ... أعددت الفراش للنوم، ودخلت فيه، والتقطت الملف الورقي الذي يتحدث عن التاريخ الرهيب لمنزل (الدندراوي)، وقررت القراءة فيه قليلا قبل النوم.
***
في ثلاثينيات القرن العشرين ... حل بمنزل (الدندراوي) مخرج سينمائي بريطاني، ومعه فريق من المصورين لإعداد فيلما تسجيليا عن المنزل ... قضوا في المنزل يومين كاملين دون أن يلاحظوا ما يريب، وقاموا بتصوير جميع اللقطات التي كان يرغبون في تصويرها من أجل الفيلم، وعندما حان ميعاد الرحيل، اكتشفوا غياب أحدهم، واحد من فريق المصورين ... انتشر الجميع في المكان بحثا عنه، قبل أن تنبعث صرخات هائلة، متألمة، متعذبة، كأن صاحبها يشوى حيا، أو أن هناك من ينتزع أطرافه، كانت الصرخات قادمة من العلية، وقبل أن يتحرك أحدهم لإغاثة الصارخ، سقط المصور المسكين من نافذة العلية التي ترتفع عشرة أمتار، ليرتطم جسده بالأرض بقوة، ويستقر عليها جثة هامدة، لقد كان هذا المصور هو آخر ضحايا منزل (الدندراوي) المسجلين رسميا ... كان موته يحمل لغزا غامضا، لغز يصعب تفسيره تفسيرا منطقيا، فقط كانت العظام في جسد المصور محطمة، ومهشمة كليا، بنسبة تزيد عن الخمسة والتسعين بالمائة، وهذا لا يتوافق مع حادثة سقوط من مسافة عشرة أمتار فقط، والأغرب من ذلك أن نافذة العلية الوحيدة، والتي من المفترض أن المصور قد سقط منها، كانت ضيقة ولا يتجاوز قطر دائرتها العشرين سنتيمتر، كوة صغيرة لا تسمح بمرور جسد طفل صغير، فماذ عن جسد المصور البالغ ... ولمن يمتلك بعض الخيال الأسود يمكن تفسير ما حدث بأن المصور قد تم سحق جسده سحقا عنيفا، قبل أن يتم إلقاؤه من نافذة العلية، لغز آخر يضاف إلى ألغاز منزل (الدندراوي) التي لا تنتهي ...
***
لم يكن خيار قراءة تلك الأشياء قبل النوم، خيارا صائبا، وهكذا كانت النتيجة الطبيعية كم هائل من الكوابيس حاصرتني طوال الليل، وأرقت منامي ... كوابيس جميعها عن هذا المخلوق الأسود المتشح بالسواد، الذي يطاردني في أرجاء منزل (الدندراوي)، أحاول الهرب منه بكل قوتي، أعدو من غرفة إلى غرفة، وفي النهاية يحاصرني في إحداها، ويمد نحوي كفا مخلبية، تتلظى أصابعها بنار سوداء كقلب الشيطان، أصرخ في فزع، أصرخ حتى تكاد روحي تقفز من حلقي، أصرخ حتى استيقظ من النوم، وأنا ألهث من الإجهاد، وقد بلل العرق كل ذرة في كياني، أجرع بعض الماء وأحاول أن أهدئ من روعي، كي أعود إلى النوم ليبدء الكابوس التالي، من حيث توقف الأول ... اللعنة!
استيقظت في الصباح، وقد انتفخت عيناي من التعب والإرهاق، وقلة النوم، فأصبحتا أشبه بعيني الضفدع، توجهت إلى دورة المياة للاغتسال، وقفت على الحوض، وأنا أكيل بكلتا يدي الماء البارد من الصنبور، وألقيه على وجهي، فجأة شعرت بذلك البرد القارص، المريب، يكتنف المكان، وبتلك الرعدة الباردة تسري على رقبتي، وظهري، حانت مني نظرة إلى المرآة أمامي، فصعقت وأنا أرى ذلك الوجه المرعب، وهو يحدق في المرآة من فوق كتفي الأيسر، التفت بسرعة، وأنا أصرخ في فزع، فلم أجد أحدا هناك كالعادة، عدت بسرعة بناظري إلى المرآة فوجدت ذلك الوجه قد اختفى ... هذه ليست خيالات، أنا أذكر الوجه بملامحه، وجه إمرأة مهترئ، متحلل، يحمل زرقة الموت، لها شعر طويل، أشعث، غجري، أتذكر أيضا أن هناك حبلا كان ملتفا حول رقبتها، حبلا في آخره عقدة مركبة، حبلا بدا لي كمشنقة ... انتبهت إلى أن حدة البرد قد ازدادت أكثر، حتى أن بخار الماء بدأ يتجمع فوق سطح المرآة، مسحته بسرعة بيدي حتى استطيع رؤية وجهي مجددا، فانزلقت قطرات الماء على سطح المرآة مكونة جملة يمكن قراءتها بوضوح، تمتمت بها بصوت خافت، مرتعد:
-          اهرب ... إنه هنا!
***
تناولت إفطارا سريعا، لقد صدق مشرف المنزل عندما أخبرني أن الثلاجة ستكون ممتلئة عن آخرها بما يكفيني من الطعام والشراب لأسبوع وأكثر ... تخاطرني الآن تلك الفكرة بأنه لا فائدة سأجنيها من البقاء هنا، في هذا المنزل المخيف!...  لماذا لا أرحل عائدا إلى منزلي، وأكتب مقالتي فيه، أو على المقهي الذي يواجهه، وأسلمها إلى رئيس التحرير الأسبوع القادم، من سيخبره بأنني لم أبق هنا أسبوعا كاملا، ولا أحسبه سيأتي هنا ليكتشف ذلك بنفسه ... لا أجد جريرة في خداع ذلك السادي، المتطرف، الذي يعشق تعذيب الآخريين ... سأدع تلك الفكرة تختمر قليلا في عقلي قبل التنفيذ، والآن علي أن أقوم بجولة أخرى في هذا المنزل، وأعرف من أين أبدء هذه المرة.
العلية ... كل الطرق تؤدي إلى العلية ... كان ما قرأته في ملف منزل (الدندراوي) كافيا ليجعلني أشك في أن تلك العلية هي موطن الشر الأساسي ... كان هناك درج صخري دائري، ضيق يقود من الدور الثاني نحو رواق قصير، في طرف من هذا الرواق باب خشبي بمزلاج متحرك من الصلب يؤدي إلى العلية، وفي الطرف الثاني منه سلم معدني ، منزلق، يصعد نحو البرج الأوحد في منزل (الدندراوي)، برج الحمام ... دفعت باب العلية بحذر، فأصدرت مفصلاته الحديدية الصدئة صريرا مفزعا، دخلت بخطوات متحسسة، متحسبة كانت هناك إضاءة خافتة في المكان بفعل أشعة شمس الصباح التي تخترق النافذة الزجاجية الوحيدة في المكان، نظرت للنافذة، وتمتمت بصوت خافت:
-          مستحيل!
قلتها عندما تذكرت قصة المصور التي سقط منها، كانت النافذة ضيقة بالفعل، والحل الوحيد كي يعبر جسد المصور منها هو أن يتم سحقه أو مطه طوليا، مثل بطل قصة الرائعون الأربعة (مستر فانتاستك) ... كانت العلية عبارة عن غرفة مربعة متسعة، عالية السقف، يشغل جدار منها مكتبة مليئة بكتب السحر، والشياطين، كتب صفراء، ومخطوطات جلدية، وبرديات، التقطت كتابا منها يحمل عنوانا بلغة لا أعرفها تبدو كخربشات أظافر الشياطين، الكتاب يحمل على أوراقه الصفراء، أرقاما، ورموزا، وكلمات بتلك اللغة اللعينة، وصور مريعة تشيب الشعر فوق الرؤوس، صور لشخص يتم شق جوفه بسكين من رقبته وحتى عانته، بواسطة مجموعة من الشياطين ذات القرون والذيول التي تشبه الحراب، وصورة أخرى تمثل شخصا آخر يتم إحراقه في فرن عتيق، وغيرها من الصور الرهيبة التي تبعث في نفسك القشعريرة، والغثيان، والرغبة في القئ.
لم يكن (يوسف الدندراوي) مظلوما، لقد كان ساحرا ملعونا بالفعل، ومن الواضح أنه كان يمارس طقوسه في هذا المكان، ورغم أن المكان ممتلئ عن آخره بقطع الأثاث واللوحات العتيقة، والأدوات المنزلية التالفة، والكراكيب، إضافة إلى أكوام مكدسة من الأوراق يغطيها الغبار، وخيوط العنكبوت، إلا أنه بقليل من الخيال تستطيع أن تقول أن تلك الطاولة هناك، كانت تستخدم في تلك الطقوس الرهيبة، وتلك الأواني الزجاجية كانت تستخدم في إعداد الخلطات الملعونة، وتلك الأدوات الحادة كانت تستخدم في تقطيع المخلوقات سيئة الحظ التي تقع في يد (الدندراوي).
فجأة، انبعث صوت ضحكة طفولية في المكان، ولمحت على ضوء الشمس الساقط على الحائط أمامي، خيال طفل يجري في المكان، ضحكة أخرى عابثة، إنها قادمة من ذلك الركن، خلف تلك الكومة من الكراكيب، اقتربت منها بحذر، أسمع صوت حركة خافتة يأتي من وراءها، قلت متسائلا بصوت مرتعد:
-          هل من أحد هنا!؟
مددت رأسي ونظرت إلى ذلك الركن، فلم أجد فيه إلا تلك الدمية الصغيرة، الملقاة فيه دون عناية، التقطتها بسرعة، وأخذت أتفحصها، إنها دمية عتيقة لعروس، مصنوعة من الخشب، والقماش المبطن، تحدق فيك بعينين من الخرز، كانت الدمية مغطاة بالغبار، وعندما حاولت أن أنفظها من الغبار، انتشر الغبار في المكان، وغطى يدي، وثيابي، ووجهي، فأخذت أسعل بجنون ... فجأة انطلق ذلك الصوت الذي أثار رعبي، وجعل قلبي يسقط بين قدمي، إنه صوت باب العلية الخشبي وهو يغلق، ومزلاجه المعدني وهو يسحب ... لقد حبست في هذا المكان.
***
ساعات طويلة قضيتها داخل العلية، لقد حل المساء الآن، وأمسى المكان مظلما إلا من أشعة القمر الفضية التي تخترق زجاج النافذة، وتضفي للمكان القليل من الحياة، لولا ذلك لجننت من الرعب ... في الساعة الأولى حاولت تحطيم الباب بكتفي، فنجحت في تحطيم كتفي فقط، حاولت العبث في المزلاج، ومحاولة تحريكة دون جدوى، لقد أصبحت أسير في هذا المكان، هناك من خطط لذلك ببراعة، وقد أموت هنا من الجوع والعطش، إنها الجريمة الكاملة، لقد كان رئيس التحرير يكرهني لقلة عملي، فهل دفعه هذا الكره ليخطط لقتلي بتلك الطريقة البارعة ... من يدر قد يفعلها!؟... الآن أدق الباب بيدي مرة أو مرتين كل ربع ساعة، وأصرخ طلبا لنجدة، وأعرف أنه لا أحد سيسمعني في هذا المكان المجهول.
فجأة وصل إلى مسامعي صوت خطوات يأتي من الرواق خلف الباب، هناك بالتأكيد من يقترب من الباب، فكرت أن أطلب النجدة، ثم تخيلت أن القادم قد لا يحمل النجدة، قد يحمل شيئا مريعا، مرعبا، ككل شئ في هذا المنزل اللعين ... أسمع الآن صوت المزلاج وهو يتحرك، تراجعت للخلف، التقطت ذراعا خشبيا، ووقفت متأهبا، أتابع الباب الخشبي، وهو يفتح، قبل أن تنطلق صرخة من فمي، وأنا أزفر بارتياح وأنا أقول:
-          (عطية) ... ما الذي جاء بك إلى هنا؟
كان (عطية) هو مصور حديث التعيين في المجلة، وهو شاب في مثل عمري، بادرني قائلا:
-          (رائد) ... لماذا تختبئ هنا!؟ ... أنا أبحث عنك منذ ساعة.
اندفعت لخارج (العلية)، واحتضنته وسط دهشته، وقلقه من رد فعلي المبالغ فيه، تذكرت شيئا فتراجعت إلى الخلف وأنا أقول:
-          هل أنت من أغلقت هذا الباب!؟
-          بالطبع لا.
قلت بصوت حذر:
-          إذا ما الذي جاء بك إلى هنا !؟
أطلق سبة، وهو يقول:
-          لقد أرسلني رئيس التحرير لأقيم معك هذا الأسبوع، بحجة أنني قد التقط صورا تجعل التحقيق غنيا!
ضحكت بسخرية، كنت أشعر بالراحة، وبأن رئيس التحرير ليس قاتلا، ولا شيطانا مريدا في النهاية كما كنت أحسبه، فها هو يشفق علي، ويرسل شخصا ليكون بصحبتي في هذا الجحيم.
قاطع تلك الأفكار صوت (عطية) وهو يقول:
-          كما أنه يريد التأكد من أنك لن تترك المكان قبل نهاية الأسبوع، فهو واثق أنك ستفعلها لو بقيت فيه وحدك.
فكرت، إذا هذا اللعين يفهمني تماما!... واصل (عطية) حديثه قائلا:
-          كما أنني لم آتي هنا وحدي!
***
صحبني (عطية) إلى الدو الأرضي ليعرفني بذلك الرجل المسن، الوقور، ذو الشعر الأشيب، الذي يرتدي معطفا أنيقا، ويضع نظارة طبية فوق عينيه، اللتان تنبضان بالذكاء، والحيوية رغم سنه، تقدم الرجل نحوي، مرحبا بي، فبادرته:
-          (رائد وافي) صحفي شاب.
وأشرت إلى (عطية):
-          وهذا (عطية) مصور صحفي، بالتأكيد تعرفت عليه سابقا.
أومأ الرجا برأسه، وهو يشد على يدي، وعلى وجهه ابتسامة واسعة، واثقة، وهو يقول:
-          الدكتور (كمال عثمان)، دكتوراه في الأدب، والفلسفة ... والأهم من ذلك.
توقف للحظة، ثم أردف:
-          خبير في شئون الماورائيات.
.. (انتهى الجزء الثاني – ويليه الجزء الثالث) ..
**ملحوظة هامة** لمن لا يعرف الدكتور (كمال عثمان) يمكنه مراجعة قصتي (صائدوا الموتى) و (الصارخ) ...
 

قصة رعب قصيرة بعنوان ... (المنزل المسكون – الجزء الثالث)
ملخص ما سبق ... بأمر من رئيس التحرير الغاضب، يجد الصحفي الشاب (رائد وافي) نفسه مضطرا للإقامة أسبوعا في منزل (الدندراوي) المسكون ، من أجل كتابة تحقيق عن المنازل المسكونة! ... ومع الليلة الأولى له هناك يتلقى رسالتين تحذيرتين من أشباح المنزل، قبل أن يجد نفسه محبوسا في العلية، بعد أن أغلق الباب عليه بفعل فاعل، حاول الخروج لساعات طويلة استخدم فيها كافة الطرق، ثم يأس من ذلك تماما، قبل أن ينقذه زميله في الجريدة المصور (عطية) الذي حضر ليقيم معه في المكان، مصطحبا خبير الماورائيات الشهير الدكتور (كمال عثمان) ...
.
-          لقد وافق الدكتور (كمال) مشكورا، على أن يرافقنا في هذه المهمة، بعدما طلب منه رئيس التحرير ذلك.
قالها (عطية)، فجال بذهني، أن دجال مثل هذا الرجل، هو ما كان ينقص تلك المهمة المشئومة بالفعل!..  ألا يكفي ما حدث!؟ إن عقلي يوشك على الجنون مما رآه، ولست بحاجة للمزيد من أعمال الدجل والشعوذة حتى أجن تماما... قال الدكتور (كمال) وكأنه قرأ على ملامح وجهي، ما جال بذهني:
-          هذا ليس عملا أتكسب منه أجرا، أنا مهتم فقط بدراسة الظواهر الفورتية ... وما قرأته عن تاريخ هذا المنزل دفعني للموافقة على المجئ إلى هنا، وأتمنى أن استطيع تقديم يد المساعدة.
قلت بحرج:
-          عذرا يا دكتور (كمال)، فأنا أشعر ببعض التوتر، والاضطراب، فأنا لم أكن أؤمن بكل تلك الأشياء، ولكن ما تعرضت له في الأربعة وعشرين ساعة الماضية سحق كل قناعاتي.
دعانا الدكتور (كمال) للجلوس، وطلب مني أن أحكي ما تعرضت له تفصيليا، ففعلت، وعندما انتهيت، خلع نظارته الطبية وأخذ ينظف عدساتها بقطعة من القماش، وهو يطرق بناظريه إلى الأرض، مفكرا فيما حكيته له، قبل أن يعيدها فوق عينيه، وهو يتوجه إلي بالكلام قائلا:
-          ظاهرة الأشباح، والمنازل المسكونة، والأشياء المسكونة بشكل عام، كالعرائس، والعربات، والأدوات المنزلية، وغيرها، هي أكثر الظواهر انتشار في عالم الماورائيات، ورغم ذلك تظل هي الأكثر غموضا، فلا أحد يستطيع أن يفسرها تفسيرا مقنعا، ولا منطقيا.
صمت للحظة التقط فيها أنفاسه، ثم أردف:
-          هناك فقط بعض النظريات، شخصيا لا أميل إلى نظرية الأرواح الهائمة التي ترتبط بالمكان، فجميعنا يعلم أين تذهب الروح بعدما تغادر الجسد.
قال (عطية) بسرعة:
-          إلى خالقها.
أومأ الدكتور (كمال) برأسه وهو يقول:
-          هناك أيضا نظرية البؤر التي تجمع الطاقة وتؤثر على حواس البشر حين يقتربون منها، وتجعلهم يرون ويفعلون أشياء عجيبة، ويميل لهذه النظرية العديد من المهتمين بهذا المجال لكونها تحمل صياغة علمية محببة، وهناك أيضا نظرية تتبنى فكرة أن حوادث القتل العنيفة ينتج عنها كما هائلا من الطاقة تحتجز في مكان حدوثها، ثم تبدء تلك الطاقة في تفريغ شحناتها تدريجيا على هيئة دفقات، ينتج عنها مشاهدات، وأصوات، وإعادة أحيانا لأحداث جريمة القتل ... وهناك نظرية أخرى أميل لها أنا شخصيا، وهي نظرية المخلوقات القرينة.
أطرق إلى الأرض مجددا في صمت، فحثثته على الحديث، وأنا اسأله:
-          ما هي المخلوقات القرينة!؟
ابتسم، وهو يقول:
-          هناك العديد من المخلوقات في هذا الكون، لا تدركها حواس الإنسان العادي، بل أن هناك أكوان موازية تعيش فيها مخلوقات لا يعلم أحد بوجودها وينجح بعضها في التسرب إلى عالمنا، ويسبب العديد من المشاكل.
قال (عطية) ببساطة:
-          لا أفهم شيئا ... هل تقصد الجان!؟
-          ما أريد قوله أن هناك بعض المخلوقات التي تقترن بالإنسان وتلتصق به طيلة حياته دون أن يدرك ذلك، وعندما يموت هذا الإنسان ميتة بشعة، أو يقتل بعنف، يقوم قرينه أحيانا بتكرار بعض الأفعال والتصرفات التي كان يفعلها الإنسان في حياته.
قلت بسرعة ودون اقتناع:
-          وكيف نتأكد من وجود تلك المخلوقات، إذا كنا لا ندرك هذا الوجود بحواسنا!؟
ابتسم الدكتور (كمال) ابتسامة، واسعة، واثقة، وهو يقول:
-          البعض يفعل.
لم أفهم ما يقصده الدكتور (كمال)، ولكن قبل أن أساله، سبقني (عطية) وهو يتساءل:
-          وهل تلك المخلوقات شريرة، ومؤذية!؟
-          بعضها كذلك.
***
 في صباح اليوم التالي، توجهت إلى غرفة (عطية) التي اختارها ليقيم فيها بجانب غرفتي، أنا والدكتور (كمال)، كان بابها مفتوحا، فطرقته طرقات خفيفة، وحينما لم أتلق ردا، دخلت الغرفة، وبحثت عن عطية فيها فلم أجده، وبنظره سريعة أدركت أن لم ينم في فراشه، كما أنه لم يفرغ حقيبته بعد! فهي كما تركها إلى جوار فراشه ... شعرت بالقلق، وقررت أن أبحث عنه في أرجاء المنزل ... قابلت الدكتور (كمال) في الرواق، كان في طريقه إلى غرفتي، وعندما لمح إمارات القلق والتوتر على وجهي، سألني:
-          ماذا حدث!؟
-          (عطية)، لم يقض الليلة في غرفته.
-          إذا دعنا نفترق ونبحث عنه.
توجهت أنا إلى الدور الأرضي لأبحث فيه وفي الحديقة، وتركت الدكتور (كمال) ليبحث في غرف الدور الأول، بعد ربع ساعة عدت إلى الدكتور (كمال)، ومن ملامح وجهه، أدركت أنه هو أيضا فشل في العثور على أي أثر (لعطية)، بادرته قائلا:
-          هل بحثت في العلية؟
-          لا.
-          إذا دعنا نبحث فيها.
صعدنا الدرج الصخري نحو العلية بخطوات سريعة، لمحت بابها مفتوحا، أنا متأكد أنني أغلقت هذا الباب خلفي بعد حادثة الأمس، تلك العلية اللعينة مصرة على أن تكون عاملا مشتركا في كل الغموض الذي يكتنف هذا المنزل، اندفعت في الرواق، واقتحمت العلية، وخلفي الدكتور (كمال) يجتهد للحاق بي، قبل أن أصيح بدهشة:
-          (عطية) ... ماذا تفعل هنا!؟
كان (عطية) يقف هناك، مواجها لأحد الجدران يكاد وجهه يلتصق به، توجهت نحو بسرعة، وأنا أعيد النداء عليه، ولكنه لم يرد، وظل متجمدا كالتمثال أمام ذلك الجدار، اقتربت منه، ووضعت يدي على كتفه، وهززته، فلم يستجب، قال الدكتور (كمال):
-          يبدو أنه تحت تأثير صدمة ما.
فجأة انتبه (عطية)، والتفت لي، وهو يقول بملامح مذعورة، مستغيثة:
-          الشبح ... لقد كان هنا.
ثم سقط على الأرض مغشيا عليه.
***
في الليلة السابقة، صعدنا ثلاثتنا إلى غرف النوم، دخل (عطية) إلى غرفته، واغتسل، واعتزم تغيير ثيابه، وإفراغ حقيبته، جلس على الفراش يفكر في تلك المهمة السخيفة التي أوكله بها رئيس التحرير، فجأة تنبه إلى أنه ليس وحده في الغرفة، فهناك في منتصفها تماما، يقف ذلك الشيخ الهرم، ذو الملامح القاسية، يرتدي جلبابا على جسده، وعمامة تعلو رأسه، أشار ذلك الشيخ (لعطية) كي يلحق به ... تردد (عطية) لثانية، ولكن تلك النظرة الحادة، التي رمقه بها الشيخ، وحركات يده العصبية، جعلته يلحق به .... كان الشيخ يسير في خطوات واثقة في الرواق، متجها نحو الدرج الذي يصعد إلى العلية، تبعه (عطية) بخطوات متوترة، قلقلة،لاحظ أن جسده يصنع ظلا على جدار الرواق، عكس جسد ذلك الشيخ الذي لا يخلف ظلا خلفه، هو ليس خبيرا في الأشباح، ولكن بالتأكيد هذا الذي يسبقه، ويطالبه باللحاق به، هو شبحا بالتأكيد ... وصل الشيخ إلى أول سلمات الدرج وارتقاها، ثم اختفى ... توقف (عطية)، وأخذ يتلفت يمينا ويسارا بحثا عن ذلك الشيخ، فكر أن يعود إلى غرفته ، أو أن يتوجه إلى غرفة (رائد)، والدكتور (كمال) ويخبرهما بما حدث، ولكن نداء الحماقة داخل عقله كان أقوى من أي صوت آخر، فقد أخبره أن عليه أن يصعد العلية، ويكتشف لماذا طلب منه الشبح أن يلحق به إلى هناك!
عندما وصل (عطية) إلى العلية، كان ذلك الشبح ينتظره هناك، كان يقف أمام طاوله خشبية، يمزج بعض السوائل في آنية ذهبية، وهو يمسك في يده رقا جلديا عتيقا، كان يحرك فمه كأنه يقرأ شيئا مكتوبا في هذا الرق ... اقترب (عطية) من الشبح، الذي استدار وضغط حجرا بارزا في الجدار، فانفتحت فيه فجوة صغيرة، وضع فيها الرق، ثم أغلقها بنفس الطريقة التي فتحها بها ... اقترب (عطية) أكثر ليرى، حينها التفت له الشبح، وقد تحول وجهه إلى جمجمة يشتعل محجري عينيها بنار ملتهبة، صرخ فيه الشبح صرخة حادة اخترقت طبلتي أذنه، وشعر بها تنتهك خلايا مخه وتمزقها، ثم أظلم كل شئ فجأة ...
***
**الجزء التالي يرويه الدكتور (كمال عثمان) **
منذ اللحظة الأولى التي وصلت فيها إلى ذلك المنزل، استشعرت تلك الطاقة السلبية الهائلة التي تسري فيه، ورأيت العديد من المخلوقات، التي اجتذبتها تلك الطاقة، ولكنني أعرف أنها ليست مصدرها، هناك كيان قوي وشرير في هذا المكان ... لم أخبر صاحبي بذلك طبعا، لا أريد أن أخيفهما، وأزيد متاعبهما، كما أن خبرتي في صنوف البشر تجعلني أدرك أن (رائد) هذا متشكك ومندفع بطبعة، كما أن (عطية) يحمل طبيعة قلقة، متوترة، من الأفضل ألا أخبرهما بكل ما أراه.
كانت ليلتي الأولى هادئة، ولكن في الصباح التالي اكتشفنا اختفاء (عطية)، وعندما بحثنا عنه وجدناه متجمدا أمام أحد جدران العلية، أعرف تلك الحالة، رأيتها في بعض من تعرضوا لمس أو اتصال بمخلوقات ماورائية، دون أن يمتلكوا القدرة على تحمل ذلك، إنها صدمة مؤقتة، وستزول بعد قليل ... أعدنا (عطية) إلى غرفته، وعندما أفاق حكى لنا عن تجربة الأمس ... يمكنني أن أفهم ما يحدث وما حدث في اليوم السابق، هناك إشارات منذرة، تحذر من البقاء في هذا المنزل ... استأذنت (رائد)، و(عطية)، وتوجهت إلى العلية وحدي، بحثت عن ذلك الرق الذي حكى (عطية) أن الشبح أخفاه في فجوة بالجدار، بالفعل كانت هناك صخرة بارزة في نفس المكان الذي تجمد (عطية) أمامه، ضغطت الصخرة، فانفتحت الفجوة، مددت يدي إلى داخلها، فمست أصابعي ذلك الرق الجلدي، فالتقطته، وألقيت نظره على ما فيه، قبل أن ينتصب شعر رأسي، أنا أعرف ذلك الرق، وتلك اللعنة الرهيبة التي يحملها بين سطوره .... هنا وصل إلى مسامعي صوت صرخات تنبعث من الدور الأول، عرفت فيها صوتي (رائد)، و(عطية) ... اندفعت بسرعة إلى الخارج، ونزلت الدرج بأقصى سرعة تسمح بها مفاصل قدمي في هذا العمر ... كانت الصرخات تتواصل من غرفة (عطية)، توجهت إليها مباشرة، واقتحتمها بسرعة، فلمحت (رائد)، و (عطية) وقد صعدا على الفراش بقدميهما، كانت ملامح وجهيهما تشي بحالة الرعب، والفزع التي تكتنفهما، كانا يصرخان بفزع، وهما يحدقان بعينين جاحظتين إلى ذلك الشئ المرعب الذي يحاصرهما.
.. (انتهى الجزء الثالث – ويليه الجزء الرابع) ..
 

قصة رعب قصيرة بعنوان ... (المنزل المسكون – الجزء الرابع)
ملخص ما سبق ... تتصاعد وتيرة الأحداث داخل منزل (الدندراوي) المسكون، بداية برسالتين تحذيريتين للصحفي (رائد وافي) من شبحين لرجل مسن، وإمرأة مشنوقة، مطالبين إياه بسرعة الرحيل... وشبح آخر للمالك الأول للمنزل، الحاج (يوسف الدندراوي) نفسه، يقود المصور (عطية) نحو العلية، ليريه سرا مخفيا في أحد الجدران، قبل أن يكتشف الدكتور (كمال عثمان) ذلك السر الذي يحمل لعنة رهيبة على رق من الجلد، ولكنه ينتبه إلى صرخات صاحبيه المستغيثة، القادمة من غرفة (عطية)، فيهرع إليهما على الفور...
.
كان (عطية) ممدا على فراشه، وهو لا يزال يشعر ببعض التعب، والإرهاق، من أثر الصدمة التي تعرض لها سابقا، كنت أجلس على طرف الفراش أحاول التخفيف عنه، وطمأنته ... فجأة جحظت عيناه، وشهق شهقة حادة، وهو ينظر إلى شئ ما خلفي، التفت بسرعة، فصعقني المنظر الرهيب، والمرعب، فمن كل المنافذ، من فتحات التهوية، والنافذة، والباب، وثقوب في الجدران، انسابت المئات، بل الآلاف من العقارب السوداء، القبيحة، وقد انتصبت أذنابها، وهي تحرك مخالبها في جشع، فيصدر عنها أصوات حفيف عالية، تصم الآذان ... بدأت تلك العقارب تقترب كالسيل العرم، وهي تتجمع وتحاصرنا وتوشك على أن تفتك بنا ... قفزت على الفراش بكلتا قدمي، ووقفت فوقه، وحذا (عطية) حذوي في محاولة للابتعاد عن العقارب، ولكن تلك العقارب البشعة، بدأت تعتلي قوائم الفراش الخشبية، بسرعة رهيبة، وسرعان ما غطت جحافلها الفراش، وحاصرتنا في ركن منه ... فجأة اقتحم الدكتور (كمال) الغرفة، وهو يصيح:
-          ماذا يحدث هنا!؟
لم يجبه أيا منا، وقد تشاغلنا بالعقارب التي أمست على مسافة سنتيمترات قليلة من أقدامنا، مرة أخرى كرر الدكتور (كمال) سؤاله فصحت فيه بغيظ:
-          ألا ترى!؟
تقدم الدكتور (كمال) إلى وسط الغرفة، وهو يطأ تلك العقارب بقدمه، حتى صار في منتصف بحيرة العقارب،التي صار عددها الآن بالملايين، وبدأ بعضها يعتلي قدميه، ورجله، ثم بدأت الآلاف منها تغطي صدره، ورأسه، حتى اختفى تحتها تماما، أخذ (عطية) يصرخ في هستيرية، فقد كان المنظر مرعبا بحق، لقد اختفى ذلك المسكين تحت سيل العقارب ... لاحظت أن العقارب قد توقفت عن الاقتراب أكثر، واكتفت بمحاصرتنا، فقلت رافعا صوتي، وقد بدا لي أن الدكتور (كمال) غير مبال بتلك العقارب التي تغطي جسده، وهو يقف بثبات في مكانه:
-          هل أنت بخير يا دكتور!؟
رفع الدكتور (كمال) ذراعيه إلى جانبيه على غرار فيلم (تيتانك)، ثم ضمها في تصفيقة قوية، فاختفت كل العقارب في لحظة واحدة، قال (عطية) بصوت لاهث، متهدج، وعيناه زائغتين، تبحثان عن أي أثر لتلك العقارب التي اختفت تماما:
-          كيف فعلتها!؟
ابتسم الدكتور (كمال) وهو يقول:
-          لم أفعل شيئا، لقد كان كل ذلك وهما.
ثم توقف للحظة وهو يردف:
-          المزيد من الرسائل التحذيرية التي تدعونا لمغادرة هذا المكان على الفور.
***
-          وهما أو غير وهم!.. أنا لن أبقى هنا لحظة واحدة.
قالها (عطية) وهو يجرجر حقيبة سفره في بهو الدور الأرضي، متوجها ناحية باب المنزل، وهو يردف:
-          لقد اكتفيت بهذا القدر من الأشباح ... أنا راحل.
كنا نلاحقه، أنا والدكتور (كمال) في محاول لإثناؤه عما انتواه، فجأة حدثت هزة قوية في المكان، فصحت بحدة:
-          إنه زلزال.
كانت الجدران تهتز وتتراقص بجنون، سقطنا على الأرض، وأخذنا نتدحرج من جانب إلى الآخر مع تمايل الأرض التي بدت كسطح قارب يطفو فوق بحر هائج، صرخت بالدكتور (كمال) الذي كان يحاول الاعتدال، وهو ينازع تلك الهزات القوية، قائلا:
-          هل هذا أيضا وهم !؟
-          لا أعلم.
في تلك اللحظة انبعث صوت مرعب في المكان، قبل أن تنشق الأرض تماما تحت قدم (عطية)، الذي شهق في ذعر، بعد أن فقد توازانه، وسقط في الشق الذي ابتلعه في لحظة واحدة هو وحقيبته، أخذ (عطية) يصرخ صرخات طويلة مستغيثة، مبتعدة، كأن صاحبها يواصل السقوط نحو مركز الأرض، اندفعت بسرعة أنا والدكتور (كمال) في محاولة لإنقاذه، ولكن الشق التأم بسرعة، وتوقف الزلزال في لحظة واحدة وعاد كل شئ كما كان، ولكن هذه المرة دون (عطية)، الذي ابتلعته الأرض.
للحظات وقفنا في وجوم، وقد أعجزتنا الصدمة عن النطق، ننظر في جزع نحو تلك النقطة التي اختفى فيها (عطية) ... التفت إلى الدكتور (كمال)، وأنا أكرر بصوت مبحوح سؤالي السابق بصيغة عكسية:
-          هل ما حدث الآن كان حقيقيا!؟
تلفت الدكتور (كمال) حوله بقلق، ثم قال وهو يشيح بكفيه:
-          انظر إلى الأثاث!؟
-          ماذا به!؟
-          لم تتحرك قطعة واحدة من مكانها ... أي زلزال هذا الذي يتلاعب بالبشر فقط، ويتجاهل الجماد.
-          هل تقصد أننا نتوهم ماحدث!؟ إذا أين ذهب (عطية)!؟
أخذ الدكتور (كمال) يفكر لبرهة، وقد ارتسمت على ملامحه إمارات القلق والتوتر للمرة الأولى:
-          في العادة لا أتأثر بتلك الأشياء، ولكن ما حدث الآن كان قويا للغاية، قويا جدا.
خطرت على بالي فكرة مرعبة، فتوجهت مباشرة إلى باب المنزل، وحاولت فتحه، فوجدته مغلقا، فصحت:
-          الباب مغلق.
انتبه الدكتور (كمال) لحديثي، فأقبل مسرعا، وجرب بنفسه، قبل أن يعلق:
-          بالفعل، إنه كذلك.
قلت متوترا:
-          هيا نبحث عن مخرج آخر:
انطلقنا نبحث عن مخرج آخر، فوجدنا بالفعل بابا خلفيا للمطبخ، وباب آخر يفتح مباشرة على الحديقة من غرفة المكتب الرئيسية، ومجموعة من النوافذ في جميع الغرف، للأسف، كانت جميعها مغلقة، ومحكمة الإغلاق، حتى أن محاولات تحطيمها، واقتحامها بالقوة فشلت جميعها فشلا ذريعا، فقد كانت الأبواب ثقيلة من خشب الزان، وكذلك النوافذ كانت مدعمة بأطر وقضبان حديدية وأقفال من الخارج، لا يمكن الوصول إليها ... قال الدكتور (كمال):
-          لا داعي لأن تتعب نفسك، نحن محتجزين ... هناك من يرغب في بقائنا هنا!
زفرت بحدة وأنا ألقي بسيخ حديدي انتزعته من المدفأة في محاولة لاقتحام إحدى النوافذ به دون جدوي، وأنا أسأله بغيظ:
-          هل تقصد أن هناك أحدا في الخارج، دبر لآن يحتجزنا هنا!
قال وهو يمط شفتيه:
-          لا ... أقصد أن هناك أحدا من الداخل فعلها.
قالها وتوجه إلى الأريكة الموجودة في البهو، وجلس عليها مربعا قدميه، وأخرج من جيبه ذلك الرق الجلدي، وأشار لي به، فتوجهت نحوه، وجلست بمواجهته، وأنا أسأل بفضول:
-          ما هذا!؟
***
لم يكن الحاج (يوسف الدندراوي) بريئا قط، فقد تشرب عن أبيه أعمال السحر والدجل وهو بعد طفل صغير، وعندما مات أباه حل هو محله، وظل يمارس هذا العمل لفترة طويلة، يصنع أعمالا، ويفك أعمالا، ويفرق بين زوجين، يجلب الحبيب، ويؤذي فلان أو فلانه بالتسليط عليهم مقابل أجر من مبغضيهم، وغيرها من الأعمال التي كانت خليطا بين الدجل، والشعوذة، والسحر الأسود، والاستعاذة بالجن والشياطين، وقد نجح بالفعل في تكوين ثروة صغيرة من هذا العمل في قريته، حتى كان ذلك اليوم الذي اصطحبه فيه بعض لصوص الآثار لإزالة رصد وعمل سفلي عن أحد المقابر التي يظنون أن بها كنزا ما، ولم تكن تلك هي المرة الأولى التي يتعامل فيها مع لصوص الآثار والمقابر، لقد كان العمل معهم مجزيا، وكما هو متعارف عليه فإن الأقدمين كانوا يحمون مقابرهم بحراس من الجان، يرصدون من يحاول سرقة تلك القبور وانتهاك حرمتها، لهذا كان اللصوص يستعينون بأمثال الحاج (يوسف الدندراوي) لإزالة ذلك الرصد ... في العادة لم يكن يفعل شيئا، كان فقط يؤدي أمامهم بعض الطقوس الوهمية، ثم يخبرهم أن القبر الآن أصبح آمنا لمغتصبيه!
في ذلك اليوم كان القبر خاليا، ومحبطا كما قرأ على وجه اللصوص، وأخبره كبيرهم بأنهم لم يجدو في القبر إلا ذلك الصندوق الخشبي المهترئ، والذي يحوي داخله رقا جلديا مكتوبا عليه حروفا مبهمة بلغة المساخيط، وقد أعطاه كبير اللصوص ذلك الصندوق نظيرا لأجره عندما طلب هو ذلك، فاللصوص لم يكونوا يهتمون إلا بالذهب، والفضة، والأشياء القيمة الخفيفة، التي يمكن بيعها بسهولة.
لقد عرف الحاج (يوسف الدندراوي) سر هذا الرق من اللحظة الأولى التي وقعت فيها عيناه عليه، إنه رق عتيق ولكن ليس بعتق القبر نفسه، يبدو أن أحدهم قد أخفاه في هذا القبر، حتى لا تطاله الأيدي، وللتخلص من الشر الذي فيه، كان الرق يحوي تعويذة ملعونة لاستدعاء شيطان يدعى (ياهمور)، شيطان ذو قدرات هائلة، إذا أمكن تسخيره فإنه قادر على الأتيان بأعمال رهيبة لا يقدر عليها غيره من الجان والشياطين، أعمال يمكنها أن تدر أموال رهيبة على الحاج (يوسف الدندراوي) إذا أحسن استغلال تلك الفرصة، كما يراها من وجهة نظره، الصعوبة كانت افي السيطرة على ذلك الشيطان واستحضاره للقيام بهذه الأعمال، وصرفه بطريقة سليمة عندما ينتهي ... المشكلة الأكبر التي واجهت الحاج (يوسف الدندراوي) هي تلك الأشياء التي تتطلبها تلك التعويذة، أشياء جعلته يقترف أعمالا ملعونة، جعلته يقتحم قبور الموتى، ويقتطع أجزاء من أجسادهم، وجعلته يخطف ويذبح الأطفال ،والعذارى، ويسفك دمائهم على النصب، هكذا احتاج الحاج (يوسف الدندراوي) لمكان جديد لا يعرفه فيه أحد، ولمنزل كبير يقيم فيه، ويمارس طقوسه الشيطانية، دون أن يشعر به أحد.
***
قال الدكتور (كمال):
-          وهكذا انتقل إلى هنا وأنشأ هذا المنزل.
قلت:
-          وهل هذا هو سر منزل (الدندراوي) المسكون!؟ هل تلك الطقوس من أعمال السحر والشعوذة هي سبب ذلك.
-          تقريبا، فمن سوء حظ الحاج (يوسف الدندراوي)، أن الناس هنا شعروا بما يفعله، وفي ذلك اليوم الذي ثار فيه الشباب، وجاؤا لهذا المنزل للانتقام منه، عندما نسبوا له كل الكوارث التي حاقت بقريتهم، كان هذا الأخير قد استحضر هذا الشيطان، ولم يسعفه الوقت ليصرفه، وعندما غضب أهل القرية من رد الحاج (يوسف الدندراوي) عليهم، عبث الشيطان (ياهمور) بعقولهم، واستفز الشر في باطنهم، فانقضوا على صاحب المنزل وفتكوا به بعنف وقسوة.
صمت لبرهة، فسألته:
-          هل تعني!؟
قاطعني بسرعة:
-          أجل هذا الشيطان ما زال هنا، في هذا المنزل، وهو سبب كل ما حاق بساكنيه ... لقد استحضره الحاج (يوسف الدندراوي)، ولم يصرفه أبدا!
***
بعد ليلة طويلة، قاسية، غاب الدكتور (كمال) في النوم على تلك الأريكة في الدور الأرضي، بعد أن قررنا ألا نعود إلى غرفنا ... أنهى الدكتور (كمال) حديثه بأن الطريقة الوحيدة للقضاء على لعنة هذا المنزل هي بصرف ذلك الشيطان، المدعو (ياهمور)، وهو شئ لن يكون سهلا، ولا متاحا، ويحتاج لتضحية ... ضممت مقعدين إلى جوار بعضهما، وأرحت جسدي عليهما في محاولة للحصول على قسط من النوم ... انتظمت أنفاسي أخيرا، وبدأت المرئيات تزوغ أمام ناظري، توطئة للذهاب في النوم بدوري، فجأة انتبهت إلى ذلك الشخص الذي يقف على الدرج، ويشير لي بيده ... تنبهت حواسي دفعة واحدة واعتدلت في مقعدي، قبل أن أتمتم بصوت خافت متهدج بعد أن تعرفت على ذلك الرجل الذي يشير لي من على الدرج:
-          (عطية)!
أشار لي (عطية) بسبابته قائمة أمام فمه، يدعوني للصمت، ثم أشار لي بيده الأخرى أن ألحق به، أشرت بدوري إلى الدكتور (كمال) الغائب في النوم إلى جواري، فحرك (عطية) سبابته يمينا ويسارا، يطالبني ألا أوقظه، ثم أشار لي مرة أخرى للحاق به، وهو يعتلي الدرج صاعدا نحو الدور الأول ... فلحقت به!
.. (انتهى الجزء الرابع – ويليه الجزء الخامس والأخير) ..

قصة رعب قصيرة بعنوان ... (المنزل المسكون – الجزء الخامس)
ملخص ما سبق ... تستمر موجات الرعب المتلاحقة التي يتعرض لها الصحفي (رائد وافي) وبصحبته المصور (عطية)، وخبير الماورائيات الدكتور (كمال عثمان) داخل منزل (الدندراوي) المسكون، فبعد حالات الظهور لأشباح تحاول تحذيرهم، وتدعوهم للهرب، يتعرضون لهجوم سيل من العقارب القبيحة، المرعبة، وزلزال شديد القوة، يتسبب في انشقاق الأرض، وابتلاع (عطية) المسكين، قبل أن تعود الأرض لتلتئم من جديد، كأن شيئا لم يكن!.. يكتشف الدكتور (كمال) أن السبب في هذا اللعنة هو أن المنزل مسكون بكيان شيطاني يدعى (ياهمور)، قام باستحضاره الحاج (يوسف الدندراوي)، وقتل قبل أن يصرفه!.. وبعد ليلة عصيبة، يحاول الصحفي (رائد) أن ينال قسطا من النوم، فيفاجأ بعودة (عطية)! الذي يدعوه للحاق به!
.
لحقت (بعطية) الذي كان يصعد الدرج بخطوات ثابتة، متأدة، ودون أن يلتفت خلفه ... وصل إلى الدور الأول، وتوجه مباشرة إلى غرفته، ودخلها، فتبعته ... ولكن عندما لحقت به إلى داخل الغرفة لم أجد له أثرا بها، أخذت أتلفت يمينا، ويسارا، بحثا عنه، ثم توجهت إلى دورة المياة، فلم أجده هناك أيضا!.. كانت المفاجأة عندما خرجت من دورة المياة! فقد وجدته هناك، يقف أمام بابها، ينظر لي نظرة خبيثة لم أعهدها منه سابقا ... قال لي بصوت متحشرج، غليظ:
-          هل كنت تبحث عني؟
قلت بغضب، وعصبية:
-          ما هذا العبث!؟ أين ذهبت يا (عطية)!؟
اتسعت ابتسامته أكثر، وهو يشير إلى صدره بسبابته، وهو يقول بنفس ذلك الصوت الغريب:
-          (عطية) هنا في الداخل.
لم أفهم، ما يقصده، ولكنني بدأت أشعر بالتوتر، حاولت التراجع إلى الخلف، فقبض بكفيه على ساعدي، وهو يصرخ في وجهي بصوت عاصف، بنبرة مرعبة، شيطانية، كأنها تخرج من أعماق جب:
-          لقد سمعت ما كنتما تتحدثان فيه منذ قليل.
أسقط في يدي، وسقط قلبي في قدمي، هذا ليس (عطية) بالتأكيد، وليس شبحا من أشباح المنزل التي اعتدت ظهورها، هذا شئ آخر مرعب، مرعب للغاية ... حاولت انتزاع نفسي من قبضته، فرفعني لأعلى كأنني دمية صغيرة، وتبدلت سحنته، فضاقت عينيه، وتشققت شفتاه وبرزت منها أسنان مدببة حادة، واستطالت أذنيه، وأبيضت مقلتا عينيه، فصارتا ككرتين من البياض تحدقان في بقسوة ... كنت ارتعد من الخوف، كانت ملامح وجهه مرعبة بحق، يمكنك أن ترى فيها ملامح (عطية) متداخلة مع تلك الملامح الشيطانية .... صرخ ذلك الشيطان في وجهي، بصوته الرهيب، قائلا:
-          أنا من كنتما تتحدثان عنه، أنا صاحب هذا المنزل.
بدأ يعتصرني بقبضته، فشعرت أن قفصي صدري يوشك على الانسحاق، ثم بدأ يغوص، اللعنة، إنه يغوص في أرض الغرفة، وهو يسحبني معه، كنت عاجزا عن المقاومة، كنت عاجزا حتى عن النطق، شعور رهيب هذا الذي يكتنفي، وأنا أغوص مع ذلك الشيطان في أرض الغرفة، التي أصبحت مائعة كالسوائل، أحاول أن أفكر في طبيعة المكان الذي سيصطحبني إليه، أو ما سيفعله بي هذا اللعين!.. كان جسدي قد غاب في أرض الغرفة حتى رقبته، استجمعت كل طاقتي، في صرخة واحدة مستغيثة، انطلقت تشق أجواء الليل، ثم أظلم كل شئ بعدها.
***
**الجزء التالي يرويه الدكتور (كمال عثمان) **
مرة أخرى أبحث في منزل (الدندراوي) عن صاحبي، فلا أجد لإيهما أثرا، لقد اختفى (عطية) قبل ساعات، والآن يختفي (رائد) أيضا ... قبل قليل استيقظت من النوم على صرخة قادمة من الدور الأول، عرفت فيها صوت (رائد)، ففزعت إلى غرفته فلم أجده، وبحثت عنه في كل الغرف فباءت محاولاتي كلها بالفشل ... أنا الآن وحدي في المنزل.
اعتصر عقلي محاولا الوصول إلى فكرة للخروج من هذا المأزق، أفكر دائما في ذلك الرق الجلدي وتلك التعويذة الشيطانية التي يحتويها، أنا أفهم التعويذة واستطيع استخدامها لصرف هذا الشيطان، وتحرير هذا المنزل من لعنته، المشكلة هي أن تلك التعويذة يجب قرائتها، على الدخان المتصاعد من حرق سائل لعين يتم تحضيره بخلط بعض العطارات والكيماويات، مع جزء من رحم إمرأة متوفاة، وقطعة من قلب طفل رضيع، وجرامات قليلة من دم الشخص الذي يقرأ التعويذة ، دم الشخص الذي قام باستحضار الشيطان وأطلق تلك اللعنة ... تعويذة ملعونة، ولإطلاقها يحتاج الأمر لأعمال نجسة لا يمكن لإنسان طبيعي أن يقترفها، ولو وجد ذلك الشيطان البشري الذي يسمح له ضميرة بفعلها، فمعنى هذا أن صرف (ياهمور)، يحتاج لقطرات من دماء الحاج (يوسف الدندراوي) الذي تحلل جسده من عقود، وتحول إلى تراب مختلط بأديم الأرض.
أشعر الآن بصداع شديد، على من أكذب بالضبط!؟ عمري لم يعد يسمح بمثل هذا التوتر، والقلق ... أخرجت هاتفي المحمول وحدقت في شاشته، لا يوجد إشارة، هو على هذا الحال، منذ وطأت قدماي هذا المنزل الملعون، لقد تحول إلى قطعة من الخردة، لا فائدة لها ... فجأة وجدت نفسي أمام باب العلية، لقد قادتني قدماي دون أن انتبه إليها، أتذكر الآن الحلم الذي حلمت به قبل أن توقظني صرخات (رائد)، كان الحلم إعادة لتلك اللحظات التي عثرت فيها على الرق الجلدي المخفي بالجدار، أنا أمتلك تلك الموهبة من الصغر، وتلك الحاسة التي تنبأني ببعض الأمور من خلال رسالات ذهنية تصل إلى عقلي أثناء النوم، وتكون غالبا على صورة حلم ... هناك شئ ما في هذه العلية، شئ قد يساعدني على الخروج من هذا المأزق، وعلي أن أصل إليه بالتأكيد.
دخلت العلية فلمحت شبح الحاج (يوسف الدندراوي) يقف هناك إلى جوار الجدار الذي عثرت على الرق في فجوة فيه، في الواقع أنا أشاهد تلك الأشباح وكيانات أخرى طيلة الوقت، ولكنني لا أتحدث عن ذلك مع صاحبي حتى لا أزيد مخاوفهما، تلك هي موهبتي التي اعتدتها وأصبحت قادرا على إخفاءها! وإضافة إلى شبح الحاج (يوسف الدندرواي)، أرى في هذا المنزل شبح لرجل مسن في ملابس كلاسيكية، يحمل ملامح غربية، وإمرأة يلتف حول رقبتها حبل مشنقة، وغيرهما، أحيانا تحاول تلك الأشباح والكيانات التواصل معي، وأحيانا تهيم في المكان كأنها لا تشعر بوجودي ... تجاهلت كل ذلك، وتوجهت إلى ذلك الحجر البارز في الجدار وضغطه، فانفتحت الفجوة، مددت يدي إلى داخلها، في المرة السابقة عثرت على الرق فيها، ممدت يدي أكثر، وأخذت أحركها يمينا ويسارا، فاصطدمت يدي بشئ ما، فأخرجته، وأخذت أتفحصه بفضول، كان ذلك الشئ قنينة صغيرة من الزجاج، بحجم الأصبع، ممتلأة حتى منتصفها بسائل أخضر، فيروزي، وضعتها في جيبي بسرعة في نفس اللحظة التي شعرت فيها بدفقة هائلة من الطاقة السلبية تحل على المكان، دفقة تملأ روحك بالاكتئاب، والضيق، وتشعرك أن الخير قد انتهى من هذا العالم، التفت بسرعة للخلف، فوجدت (عطية) يقف عند باب العلية، ينظر لي، وعلى وجهه ابتسامة خبيثة، أنا لن أنخدع بهذا، سألته بصوت حاولت أن أجعله قويا، ثابتا:
-          لماذا تتلبس بجسد هذا المسكين!؟ هيا أخرج منه ودعني أرى وجهك القبيح!
وعندما فعل شعرت بالندم الشديد على طلبي هذا، لقد كان ذلك الشيطان يحمل ملامح مرعبة، مخيفة، لم أر مثلها في حياتي، وذلك رغم أنني رأيت الكثير، كان يحمل ملامحا قبيحة، شريرة، يكفي النظر إليها ليذهب عقل الإنسان، وروعه، بل وحياته أيضا ... قال بصوت لا يقل وطأة عن ملامحه ، وقد تجسد خارج جسد (عطية) الذي سقط على الأرض كالدمية التالفة، وغاب فيها كأنه سقط في بحيرة من الرمال المتحركة:
-          إذا كنت تحتمل رؤيتي فها أنا ذا أمامك ... قل لي ماذا تشعر الآن وقد أجبت طلبك؟
***
غاب جسدي في أرض الغرفة، وأظلم كل شئ بعدها، لم أعد أشعر بقبضة ذلك الشيطان التي كانت تعتصر جسدي منذ لحظات، لم أعد أشعر بوجوده من الأساس، لقد ذهب! وترك جسدي يغرق في الأرض ببطء كفقاعة صابون، يغرق في تلك العتمة المائعة التي لا ترى معها أي بصيص من الضوء ولا الأمل، الحرارة ترتفع مع كل قدم أهبط فيه لأسفل، الجو ثقيل وخانق، التنفس أصبح صعبا ولكنه ممكنا، هناك أصوات مرعبة تقترب، لا أعرف هلي هي بكاء، أم نواح، أم عواء، مازلت لا أرى شيئا، ظلام محكم يغلق جميع المنافذ أمام عيني، أتساءل هل هو ظلام حقا أم أنني قد أصبت بالعمى، فجأة اصطدمت قدمي بأرض صلبة!.. ترى هل وصلت إلى القاع!؟ للحظات وقفت مكاني، أصوات النواح والعواء ترتفع من حولي، وكذلك درجة الحرارة التي أصبحت تلفح كل ذرة في جسدي، وكأنني داخل أتون فرن مشتعل ... شعور بالعجز واليأس، هل مت وبدأ عذابي؟ هل هذه هي النهاية؟.. اللعنة على رئيس التحرير، اللعنة على وظيفة الصحفي التي كنت أتمناها طيلة حياني، اللعنة على كل شئ! أنا لا استحق هذه النهاية المروعة!
فجأة انتبهت إلى صوت خطوات تقترب مني، فقلت محدثا صاحبها الذي يلهث في جشع:
-          أنت ... هل هناك أحد هنا؟
كان رد فعله رهيبا، ومخيفا بشكل يفوق أي توقع، فقد انقض علي مباشرة، وهو يصرخ بكلمات غريبة ولغة لا أعلمها، قبل أن يغرس أظافره في وجهي وجسدي، ويحاول أن يغرس أسنانه في كتفي، كانت المفاجاة مروعة، أخذت أقاومه وهو يواصل هجماته، لم أكن أره بسبب ظلمة المكان ، ولكنني شعرت أنه إنسان متوسط الحجم، ولكن يتصرف كالحيوان الضاري، كان يصرخ بهستيرية وهو مازال يخمش في جسدي ويحاول أن يعضني بأسنانه، ولكنني كنت أبعده عني، أخير تمكنت من التملص منه، ودفعته دفعة قوية، وأنا اصرخ:
-          ابتعد عني أيها المجنون.
ثم انطلقت أعدو هاربا، على غير هدى، ثوان وانطلقت صرخاتي المتألمة، المذعورة من جديد، فقد وطأت قدمي نارا، أو جمرات ملتهبة ... قفزت للخلف وسقطت على الأرض، وأنا أشعر بآلام حروق رهيبة في باطن قدمي، أخذت أتحسس مكان الحرق، لقد كانت شديدة، ومؤلمة للغاية ... أخذت أتسمع ما حولي، فطالعتني أصوات النواح، والعواء، اللعنة ما هذا المكان؟ ظلام، وكائنات مسعورة، جو حار خانق، وأرض تتلظى بالجمرات! أين أنا بحق!؟ هل مت وذهبت إلى الجحيم!؟
***
**الجزء التالي يرويه الدكتور (كمال عثمان) **
-          أريدك ضيفا على جحيمي الخاص.
قالها ذلك الشيطان المرعب بصوته الرهيب، قبل أن يمس الجدار، فينشق عن بوابة خلفها ظلمة حالكه، فقلت بقلق:
-          وإذا رفضت، ماذا ستفعل!؟
قال بنفس الصوت الذي تشعر به يمزق خلايا مخك، وينتهك روحك وراحتك:
-          أنا لا استطيع أن أجبرك، هناك شئ مختلف بخصوصك يمنعني من ذلك، أنت تعرف هذا بالتأكيد.
تنهدت بارتياح، وأنا أقول:
-          إذا أنا أرفض الذهاب.
كانت ملامحه قبيحة، ومرعبة، ولا ترى فيها إلا الشر الخالص الذي يطبق على روحك، إلا أنني لمحت شبح ابتسامه على وجهه وهو يقول:
-          وماذا عن صاحبيك؟
-          ماذا عنهما!؟
-          ألا تريد إنقاذهما؟
فهمت ما يرمي إليه، فأردف وهو يشير إلى البوابة:
-          يمكنك الدخول وإخراجهما من هناك إذا أردت، لن أمنعك.
قالها ثم اختفى مرة واحدة، مع تلك العاصفة من الهواء الساخن، خبيث الرائحة التي هبت في وجهي، وتلك الضحكة ذات القهقهة العالية، المتشفية التي يجيدها كل الأشرار، ويصرون عليها.
***
 **الجزء التالي يرويه أيضا الدكتور (كمال عثمان) **
لم أتردد في الدخول عبر تلك البوابة، أعلم أنه فخ، وأن الخروج منه سيكون أمر صعبا، إن لم يكن مستحيلا ... ما هذا المكان بحق!؟... لقد كان الشيطان (ياهمور) محقا في وصفه بالجحيم، المكان ملئ بالبشر الذين يهيمون فيه، ويبكون، وينوحون، معظمهم قد أصيب بالفعل بالجنون ويتصرف بهستيرية، وعدائية كالحيوانات، من الواضح أيضا أنهم جميعا مصابون بالعمى، فهم يتحركون بغير هدى، ويتصادمون، ويتقاتلون، ويفتكون بعضهم بعضا ... المكان مظلم، مقبض، كأنه فجوة في قلب العدم، الهواء ثقيل يصعب استنشاقه، ويشعرك باكتئاب، وعجز، وبأن الخير قد انتهى من الوجود، هناك برك من الجمر والحمم في كل مكان يطأها هؤلاء المساكين فتحرق أجسادهم ... من ثياب هؤلاء البشر، وملامحهم يمكنك أن تستنج أن هذا الشيطان قضى آلاف السنين يخطف البشر الذين يوقعهم حظهم العاثر في يده إلى ذلك الجحيم من مختلف العصور والبلدان.
عواء مرعب، ثم عبر ذلك الكائن ذو الحدبة والوجه الشبيه بالسحلية إلى جواري، كان حجمه كحجم البشر، ويعدو على قدمين بطريقة تذكرك بالديناصورات الجارحة، ابتعدت بسرعة فواصل هو طريقة، وقبض على واحد من البشر بأنيابه، وأخذ يهزه بقوة يمينا، ويسارا، وسط صرخات ذلك المسكين، وألمه، قبل أن يطوحه جانبا، ويواصل العدو بحثا عن شخصا آخر ليعذبه، لقد كان المكان مليئا بأشباه هذا الكائن، ويفعلون ما يفعله، ليزيدوا آلام المساكين، وعذابهم ... كان علي الآن أن أبحث، عن (رائد)، و(عطية)، أتساءل هل ستنفعني تلك الموهبة والشفافية التي أمتلكها في العثور عليهما بسرعة، وقبل فوات الأوان!
***
أبكي، أصرخ، ألطم وجهي بيدي وأخمشه بأظافري، جسدي ملئ بالحروق، أشعر بالآلام في كل عضلة من جسدي، الأمل قد مات في باطني منذ فترة طويلة، تعرضت للعديد من الهجمات من البشر، ومخلوقات أخرى لا أعلم شكلها بسبب العمى والظلمة، ولكنني أدرك شرها، وجشعها، أنا موشك على الجنون، في الواقع لا أعرف لماذا لم أجن حتى الآن! يبدو أنني أقوى مما حسبت، لا أعلم كم قضيت في هذا الجحيم، لقد فقدت الأحساس بالزمن، قد أكون قضيت هنا ساعات، أو دهر لا استطيع التفرقة وسط هذا الجحيم وعذابه الأبدي.
ابتعدت عن الأصوات، وتكومت على نفسي وأنا أفكر، إذا كان هذا هو الموت فهو أسوء بكثير مما ظننت، وإذا لم يكن ذلك موتا، فلم لا يأتي الموت ويريحني، فجأة قبضت تلك الأصابع على ساعدي، فصرخت بفزع، ونهضت معتزما الهرب، فجاءني ذلك الصوت الذي بدا أعذب من أي صوت سمعته في حياتي، وهو يقول مطمئنا:
-          هذا أنا يا (رائد).
-          دكتور (كمال) ... أهذا أنت!؟
-          أجل.
قلت بلهفة، وبصوت متهدج:
-          كيف استطعت الوصول إلى هنا؟
صمت للحظة، ثم قال بصوت قلق لم أعتده منه:
-          صدق أو لا تصدق، لقد اخترت المجئ إلى هنا في محاولة لإخراجك.
شعرت بالرغبة في تقبيل يد هذا الرجل وقدمه، فقلت وأنا احتضنه:
-          وكيف عثرت علي في هذه الظلمة.
قال باقتضاب:
-          استطيع الرؤية.
تذكرت (عطية)، فسألته بسرعة:
-          هل سنبحث عن (عطية)؟
-          إنه معي هنا، لقد عثرت عليه قبلك، ولكنه مصاب بالذهول.
سحب يدي، ووضعها على كتف (عطية)، فأخذت أتحسس يده ووجهه، وأنا اتمتم:
-          (عطية)، هل أنت بخير يا صديقي؟ هل أنت بخير؟
لم أتلق ردا، فقال لي الدكتور (كمال):
-          إنه في حالة صدمة، هيا علينا أن التحرك بسرعة.
أخذنا نسير لساعة، يسحبنا الدكتور (كمال) من إيدينا، ينبهنا للطريق، ويحذرنا من الأخطار، ويرشدنا إلى المخرج، ولكنه توقف مرة واحدة، فسألته بحذر:
-          ماذا هناك؟
قال بصوت يحمل الكثير من التوتر:
-          لقد ضللت طريق الخروج، والعتمة تزداد مع كل لحظة، ولو لم نخرج سريعا، سأصبح مثلكما أسيرا لهذه الظلمة للأبد.
شعرت بالخوف الشديد، ولم أعرف بماذا أرد، فالتزمت الصمت للحظات، فجأة توترت قبضة الدكتور (كمال) على كفي، وهو يقول:
-          هل تسمع هذا الصوت!؟
أجبته بأنني لا أسمع أي شئ، فقال الدكتور (كمال) وقد بدت الراحة على صوته:
-          أنا أسمع الصوت، أسمعه جيدا، وأعرف صاحبه.
ثم بدأ في التحرك مجددا، وهو يقول:
-          هيا بنا ... المخرج من هنا.
***
تركت نفسي ليد الدكتور (كمال) وسرت خلفه كالطفل وهو يمسك بيد أبيه ليعبر به الطريق، كنت قد بدأت استعيد الأمل مجددا، وكانت خطوات الدكتور (كمال) تتسارع، إنه يعرف الطريق بالتأكيد ... فجأة لمحت ذلك الضوء القادم من بعيد، واستطعت سماع ذلك الصوت، القوي، الذي يتكرر في دئابة (دكتور كمال ... دكتور كمال ... خالي ... أين أنت؟)، فالتفت إلى الدكتور (كمال) فاستطعت أن أرى ملامح وجهه، إن الظلمة تزول، نحن في طريقنا للنجاة، كان الدكتور (كمال) يقبض على يدي، ويد (عطية) المسكين الذي يسير معنا كالدمية، وهو يتوجه ناحية الضوء، كان حاجبيه منعقدين، وقد بدت ملامح العزم، والتركيز، والثقة واضحة على وجهة، لا أعرف لماذا بدا لي هذا العجوز كبطل خارق قادم مباشرة من عوالم (مارفل) ... قلت بصوت مرتعد من الفرح:
-          أنا أرى مجددا.
التفت لي الدكتور (كمال)، وابتسم في وجهي ابتسامة أبوية، وقطع الخطوات الفاصلة فجوة مضيئة وقد بدت العلية خلفها، وفي وسطها شاب، قوي، ممشوق، يواصل النداء على الدكتور (كمال) مرارا، وتكرار، ودون يأس.
قفزنا ثلاثتنا نحو الفجوة المضيئة، لنسقط داخل العلية، ونتدحرج أمام ذلك الشاب الذي قال بذهول:
-          كيف خرجتم من الحائط!؟
اندفع الشاب نحو الدكتور (كمال)، وساعده على النهوض، فقال الأخير بصوت ممتن:
-          (محسن) ... كنت أعرف أنك ستفعلها.
قال الشاب:
-          لقد حضرت في الموعد المحدد طبقا لاتفاقنا، ودخلت ...
قلت مقاطعا بصوت منهك، لاهث:
-          كيف استطعت الدخول!؟ المنزل محكم الإغلاق.
-          لا لم يكن مغلقا، لقد فتحه لي مشرف المنزل وهو الآن في الدور الأرضي ينتظر بقلق بعد أن أخبرته أنني لن أرحمه لو حدث شئ للدكتور (كمال).
ربت الدكتور (كمال)، على كتف الشاب، ثم وجه كلامه لي موضحا:
-          لم يكن المنزل مغلقا، تلك كانت لعبة من ألعاب الوهم التي يجيدها الشيطان (ياهمور) ليحتجزنا في المنزل.
تمتم الشاب وهو يمط شفتيه:
-          شيطان ... (ياهمور) ... أنت لا تضيع وقتك أبدا يا خالي.
ابتسم الدكتور (كمال)، وهو يقول:
-          سأحكي لك كل شئ يا (محسن) ولكن ليس الآن.
أومأ الشاب الذي عرفت بعد ذلك أنه ضابط بجهاز المباحث برتبة نقيب، وأنه إبن أخت الدكتور (كمال عثمان) المتوفاة، وشريكة الدائم في مغامراته الخوارقية، وإنه حضر إلى منزل (الدندراوي) طبقا لاتفاق مسبق مع الدكتور (كمال) بأن يحضر إذا لم تصله رسالة منه لمدة يومين ... وعندما وصل إلى المنزل بحث عن خاله في كل مكان فلم يجده، وعندما صعد إلى العلية، وجد هاتف الدكتور (كمال) المحمول الذي تركه عامدا قبل الدخول إلى جحيم الشيطان (ياهمور) لإنقاذنا... وكان الهاتف يحوي على شاشته رسالة تركها له الدكتور (كمال)، الذي كان بارعا، وذكيا، واستطاع توقع الفخ الذي نصبه له الشيطان، واستعد له، كان نص الرسالة كالتالي:
** (محسن)، أنا هنا قريب جدا منك، نادي علي بصوت عالي، وسأجدك **
***
فجأة ارتج المكان بقوة شديدة، وانبعثت فيه ريح ساخنة، خبيثة الرائحة، إنه زلزال آخر، سقطت على ركبتي وأنا أشعر بذلك الحضور القوي في المكان، كانت العلية ترتج، وكنا نتقاذف بين جدرانها كالدمى، هنا سمعت ذلك الصوت المرعب، صوت رهيب أشاب شعر رأسي في لحظة واحدة، صوت لم أسمع مثله من قبل، صوت بدا أن صاحبه غاضب للغاية، ولا ينتوي خيرا، وما زاد الطين البلة، أن الأرض قد بدأت تنشق مجددا توطئة لابتلاعنا، صاح الدكتور (كمال):
-          إنه (ياهمور)، وهو غاضب للغاية.
صرخت بفزع، وأنا أتدحرج بعيد عن الفجوات والشقوق في أرض العلية، وأنا أمسك بذراع (عطية) لأبعده هو أيضا، وأنا أقول:
-          لا ... لا أريد العودة لذلك الجحيم مرة أخرى.
قال الدكتور (كمال) بصوت ملئ بالعزم، والتصميم:
-          لن يحدث هذا أبدا.
ثم أخرج من جيبه قنينة صغيرة من الزجاج به سائل أخضر، أراقه على الأرض، ثم أخرج من جيبه الرق الجلدي، وبدأ يبحث في جيبه عن شئ آخر، ثم التفت إلى النقيب (محسن) وهو يقول له:
-          ولاعة.
برد فعل سريع، فهم النقيب (محسن) ما يطلبه منه خاله، فأخرج من جيبه، ولاعة فضية، وأشعلها بسرعة، وتدحرج على الأرض بحركة رشيقة، وألقى الولاعة على السائل الأخضر الذي أراقه خاله الدكتور (كمال)، فاضطرمت النار في السائل، وتصاعد دخان كثيف بنفس اللون، أومأ الدكتور (كمال) برأسه، ثم بدأ يقرأ التعويذة من الرق الجلدي، كلمات غريبة، بلغة غير مفهومة، ما في جعبة هذا المسن من الخبرات، والقدرات لا ينتهي أبدا ... كانت الشقوق، تتزايد، وحرارة الغرفة، وريحها الخبيث ترتفع، وذلك العواء الغاضب يهيج أكثر، وأكثر، ثوان ويبتلعنا ذلك الجحيم مجددا، ولكن هذه المرة بلا أي أمل في النجاة، مالت أرض الغرفة بحدة، ووجدتني أتدحرج أنا و(عطية) نحو أحد الشقوق، ونحن نصرخ ففي فزع، لقد أعاد الرعب (لعطية) القدرة على الصراخ، ولكن قبل أن يبتلعنا الشق أنهى الدكتور (كمال) التعويذة، وألقى بها في النار المشتعلة بذلك السائل، فاحترقت فيها ... انبعثت صرخة عالية قوية، أكثر رعبا من كل ما سبقها، ثم توقف كل شئ دفعة واحدة، توقف الزلزال، وغابت الريح الخبيثة، وعادت أرضية العلية، وجدرانها لما كانت عليه، اعتدل الدكتور (كمال) وهو يقول:
-          لقد انتهى كل شئ.
صمت للحظة، ثم أردف:
-          انتهت لعنة منزل (الدندراوي) إلى الأبد.
قلت بصوت مرتعش، متسائلا:
-          و(ياهمور)!؟
قال وهو يعاونني على النهوض:
-          ذهب من حيث جاء، لقد صرفته بتعويذه (يوسف الدندراوي) نفسها، وبالسائل اللعين الذي حضره هو بنفسه، وارتكب في سبيل ذلك مئات الخطايا.
***
** خبر من جريد محلية ... حوادث ... صحفي ومصور يتهجمان على رئيس تحرير مجلة شهيرة، ويكيلان له علقة ساخنة في مكتبه، تتسبب في دخوله إلى المشفى بشج في الرأس، وكسر في عظام الساعد، وذلك بعد أن أوكل لهما الأخير مهمة خطيرة، كادت تودي بحياتهما **
.. (تمت) ..