قصة رعب قصيرة بعنوان ... (تحت الأنقاض
– الجزء الأول)
يقول من خاض تلك التجربة، وعاش ليحكي
بعدها، أن الموضوع يبدء بصوت (طقطقة) قوي، ومكتوم، لا يمكن تحديد مصدره، يتكرر على
فترات متباعدة، وفي كل مرة يستمر لثوان قليلة، مفزعة ... ويفسر أهل الخبرة ذلك الصوت،
بأنه صوت انفصال وتحطم الروابط بين الأعمدة والفواصل الخرسانية، بسبب تعرضها
للأحمال العالية، طوليا، وعرضيا ... يلي
ذلك هزة خفيفة، يحسبها المرء زلزالا في البداية، ولكن عندما تتزايد حدة تلك الهزة،
ويتضاعف طولها الموجي، تدرك بأن الموضوع أكبر من مجرد زلزال، عندها تنبعث تلك
الأصوات الرهيبة، المرعبة، التي تجمد الدم في عروقك، وتجعلك تظن أن الجحيم قد فتح أبوابه،
قبل أن تدرك من الغبار المتساقط، وأعمدة المنزل وجدارنه وهي تتراقص أمامك، والأثاث
الذي يتطاير من حولك كالدمى ولعب الأطفال، أن تلك الأصوات هي أصوات تحطم أساسات
ودعامات البناية التي تسكن فيها، إشارة إلى أنها ستنهار على رؤوس قاطنيها بعد ثوان
قليلة ... تندفع بسرعة نحو باب الشقة، ومنه إلى خارجها، تهبط الدرج بقفزات طويلة، وأنت
تدفع السكان، المتصارخون حولك في ملابس نومهم، تهرعون جميعا نحو مدخل البناية، في
جنون، وهستيرية، فجأة ينهار بكم الدرج، وتجد نفسك، وإياهم تتساقطون من فوقه، وسط
عاصفة من الغبار، والحصى، والشظايا الخرسانية ... يستمر الصراخ، والفوضى، وعاصفة
الركام، لثوان ... فجأة، تجد نفسك محتجزا في مكان أضيق من القبر، وأكثر منه ظلمة،
تحاول الحركة فتعجز عن ذلك، يصل الصخب إلى مسامعك للحظات، قبل أن يهدء كل شئ،
وتغيب عن الوعي، أو عن الحياة، لن يكون الفارق كبيرا ... هذا بالضبط ما حدث معي
حرفيا، وأنا في الثلاثين من عمري!
كانت نشأتي في بيئة متواضعة ماديا،
ولكنها غنية أخلاقيا، ولكنني لم أشعر يوما بأن الأخلاق يمكنها أن تغني عن المادة،
أنت لن تأكل أخلاقا، ولن تشرب صفات حميدة، ولن ترتدي سلوكا حسن ... هكذا قررت بعد
الانتهاء من دراستي الجامعية أن أسافر للخارج، وأن أضاعف جهدي في العمل هناك لأجمع
ثروة في فترة قصيرة، عندها أعود لبلدي مظفرا، وأعيش فيه حياة أفضل من تلك التي
عاشها أهلي ... قضيت في الخارج تسع سنوات، ورجعت بعد أن نجحت فيما كنت أصبو إليه، أنا
الآن أملك ثروة صغيرة، مكنتني من شراء شقة فاخرة، في برج سكني، بأحد أرقى مناطق
العاصمة، ليكون عشا للزوجية يجمعني بالفتاة التي سأختارها بنفسي، وأثق أنها لن
ترفضني لفقري، وضيق حالي، ويتبقى من تلك الثروة ما يكفي لمشروع صغير أؤمن به
حياتي، ومستقبلي ... أرى نظرات الحسد والغيرة في عيون الآخرين، فأقابلها بإزدراء،
فأصحاب تلك النظرات حمقى، وكسالى، تركوا أنفسهم فريسة لواقعهم المرير، أما أنا فقد
تمردت على واقعي، وسعيت إلى تغييره، ونجحت في ذلك ... تقريبا! حتى حدثت الكارثة!
***
لم أكن في حال يسمح لي بأن أتابع ما
يحدث فوق سطح الأرض الآن، بالتأكيد هناك عاصفة من الأخبار، والنقاشات المجتمعية عن
ذلك البرج السكني ذو العشرين طابقا، الذي
انهار في حي راق في وسط العاصمة، مخلفا كارثة راح ضحيتها المئات من الآمنين في
منازلهم، وآخرين غيرهم، لا يحصي عددهم غير الله، محتجزين أسفل أطنان من الأنقاض
والركام، كنت أنا واحد من هؤلاء ... عندما استعدت الوعي، كنت راقدا على ظهري داخل فجوة
مظلمة، لا يتثناها بصيص الضوء، فجوة عفوية صنعتها جلاميد الحطام، والأنقاض، والكتل
الخرسانية المحطمة التي يبرز منها أصلها أسياخا من الحديد، لو تزحزحت بوصات قليلة
لمزقت جسدي تماما ... لا استطيع الاعتدال، ولكن يمكنني التقلب على جانبي بحذر حتى
لا تمزقني الأسياخ ... المكان ضيق للغاية، ولكنه ليس خانقا، فالهواء يصله عبر فجوات منتشرة في الجدار، من
الواضح أنني لست بعيدا عن السطح، فأصوات سيارات الأسعاف، والمطافئ تصل إلى مسامعي خافتة
... ويصل إلى مسامعي أيضا، صرخات بعض المحتجزين مثلي وأناتهم، ولكنها تأتي من بعيد،
وكأنها قادمة من أعماق بئر ... أصرخ أنا أيضا، وأنادي من على سطح الأرض، على أمل
أن يسمعني أحدهم، فيعرف مكاني ويأتي لإنقاذي.
أشعر بآلام في ذراعي الأيسر وكلتا
قدمي، في الغالب أن بهم كسورا، وأشعر أيضا بالدماء تسيل من بعض الجروح المنتشرة في
جسدي، وبجميع عضلات جسدي تأن من الوجع، والإجهاد، والتوتر ... كلها أشياء يمكن
نسيانها عندما تفكر في أنك مدفون في جب ضيق أسفل أطنان من الحطام، وأن أمل الخروج
من هذا القبر حيا هو أمل ضئيل للغاية ... بح صوتي من الصراخ فتوقفت وأنا ألهث لالتقاط
بعض الأنفاس، غيرت وضع جسدي في محاولة لإراحته بالقدر الذي يسمح به ضيق المكان،
كنت أحاول الإنصات، لا أعرف لماذا اختفت الأصوات التي كانت تصل إلى مسامعي منذ
دقائق، وساد الصمت، والسكون محلها، هل يأس الذين كانوا يطلبون المساعدة!؟ أم
ماتوا!؟ ... ومتى تأتي المساعدة من الخارج، صرخت بأقصى صوت سمحت به حنجرتي
المختنقة بالغبار:
-
أين أنتم؟ أنا هنا؟... ساعدوني!
هنا سمعت صوت طفل ينادي بصوت ملهوف،
مختنق بالدموع:
-
أمي ... أمي!
كان الصوت قريبا للغاية ... لم يكن
يفصلني عنه إلا أمتار قليلة، قد يكون صاحبه خلف تلك الكتلة الخرسانية، صحت بلهفة:
-
من أنت؟ أنا أسمعك يا صغيري.
أجاب الطفل:
-
أنا (شادي) ... ماذا يحدث يا (عمو)!؟... أين نحن!؟
-
هل أنت وحدك يا (شادي)!؟
-
أمي هنا ولكنها لا تتكلم ... وهناك الكثير من الدماء ...
هل ماتت أمي يا (عمو)!؟ ... هناك سيخ حديدي.
قاطعته بسرعة:
-
لا تخف يا (شادي)، أنا معك هنا، قل لي كم عمرك.
-
عشر سنوات.
فكرت للحظة ثم سألته:
-
هل تستطيع التحرك يا (شادي).
-
أجل.
-
إذا حاول الاقتراب من صوتي.
-
وأمي!؟
-
أتركها ترتاح ...
دقيقة من الصمت، ثم جاءني صوت (شادي)
من مكان أكثر قربا، وهو يقول:
-
ماذا سنفعل لأمي يا (عمو)!؟
-
بعد قليل تصل النجدة، ويخرجونا من هنا، سيكون هناك أطباء
ومسعفون، لا تقلق يا صغيري.
سألني بصوت مبحوح:
-
هل سننجوا يا (عمو)!؟
-
بالتأكيد يا صغيري.
أخذت اتبادل أطراف الحديث مع (شادي)،
كنت أحاول طمأنته، وإبعاد تفكيره عن الكارثة التي تحيط بنا، وأشجعه وأبث فيه روح
الأمل، كنت اشعر بمسئولية تجاه ذلك الطفل الذي ألقى به القدر في طريقي في هذه
الظروف الصعبة، كان من الواضح أن أمه قد ماتت، ولكنني لم أصارحه بذلك، عندما شعرت
أنه يعلم ولكنه يرفض التصديق ... علمت من (شادي) أنه كان يسكن في الطابق الثاني
عشر مع أبيه المحامي وأمه الطبيبة، أي في الطابق الذي يعلو طابقي بثلاثة طوابق،
بالطبع لم استطع التعرف عل والديه أو تذكر ملامحهما! ففي برج مكون من عشرين طابق،
ومن أكثر من مائة شقة، من الصعب أن تميز جيرانك أو تتعرف عليهم إلا لو كان هناك
مشاجرة أو خلاف أو مصيبة كالتي نحن فيها.
مضت ساعات طويلة ونحن على نفس الحال،
قال لي (شادي):
-
لقد تأخر الإنقاذ، أنا عطشان وجائع.
كنت أيضا أشعر بالجوع والعطش، لم يكن
معي ساعة، ولكنني اعتقد أنه قد مر علينا أكثر من عشر ساعات في هذا الجب ... قلت
مشجعا:
-
أصبر قليلا يا (شادي)، أعرف أنك قوي وتستطيع التحمل.
لم يرد علي، فقلت مردفا:
-
حاول أن تنام قليلا وعندما تصحو سيكون كل شئ على مايرام.
كنت أنا أيضا مجهدا للغاية، وهكذا وجدت
نفسي آخذ بنصيحتي (لشادي) وأغيب في النوم بدوري ... لم أعرف كم مضى علي من الوقت
وأنا غائب في النوم، ولكنني استيقظت على صوت (شادي) وهو يصيح، وينادي علي:
-
(عمو) ... (عمو)، ما هذا الصوت!؟
انتبهت إلى صوت آلات الحفر والقطع الذي
يقترب من موقعنا، فتنبهت حواسي دفعة واحدة، فصرخت (بشادي) مستبشرا:
-
إنها النجدة، هيا أرفع صوتك معي حتى ندلهم على موقعنا.
أخذت أصيح، وأنادي بحماس، وأصنع صخبا
وضجيجا بدق أسياخ الحديد بالحجارة، لأكثر من ساعة حتى كادت روحي تغادر جسدي، ولكن
صوت الآلات بدأ يتراجع، قال (شادي) بإحباط:
-
إنهم يبتعدون.
كنت أشعر بإحباط رهيب أنا أيضا، ولكنني
تصنعت الثبات وأنا أجيب بصوت حاولت أن أمزجه ببعض الثقة، ولكنه جاء خائرا، ضعيفا:
-
سيعودون بالتأكيد.
ليلة أخرى أو يوم آخر، في الواقع أصبحت
عاجزا عند تحديد الوقت في الخارج، ولكنني كنت أقضي وقتي في تبادل أطراف الحديث مع
هذا الطفل الشجاع (شادي)، الذي قال لي بصوت حزين:
-
أنا أعرف يا (عمو).
-
تعرف ماذا يا (شادي).
-
أن أمي ماتت ولن تعود للحياة.
عجزت عن الرد لدقيقة، وأنا أحفر
بأظافري في عجز تلك الكتلة الخرسانية التي تفصلني عن (شادي)، فقاطع هذا الأخير
صمتي وهو يقول:
-
كم مضى علينا ونحن هنا يا (عمو)!؟
-
ليلتين.
-
وكم نستطيع التحمل دون طعام أو شراب.
كنت أشعر بآلام رهيبة تتفصد بها كل ذرة
في جسدي، تحول جوفي إلى حجر جاف، يغلبني الضعف والأعياء، أحاول فقط التماسك من أجل
هذا الصغير، أفكر أحيانا أن أمه كانت أفضل حظا منا، لأنها ماتت دون ان تتذوق كل
هذا القدر من العذاب، ولكنني أجبته متحاملا:
-
نحن اقوياء ونستطيع تحمل ذلك لأيام طويلة.
غبت في النوم من جديد، وفكرة واحدة
تسيطر علي عقلي، وهي أنني لن أخرج من هذا القبر أبدا ... نمت لساعات طويلة، ثم
استيقظت فجأة على صوت خافت وحركة في المكان، ثم شعرت بذلك الشئ يتحسس جسدي في جشع
...
.. (انتهى
الجزء الأول – ويليه الجزء الثاني والأخير) ..
قصة رعب قصيرة بعنوان ... (تحت الأنقاض
– الجزء الثاني والأخير)
ملخص ما سبق ... تسع سنوات من العمل في
الخارج، انتهت بشراء تلك الشقة الفاخرة في أحد الأبراج بأرقى أحياء العاصمة، كان
الأمر ليكون رائعا لو لم ينهار ذلك البرج فوق رأسه، ليجد نفسه مدفونا داخل جب ضيق
أسفل أطنان من الأنقاض، والركام ... قبل أن يكتشف أنه ليس وحيدا، وأن هناك طفل
صغير اسمه (شادي) مدفون بالقرب منه لا يفصلهما إلا جدار من الكتل الخرسانية ...
ليلتين قضاهما في ذلك الجب يزجي وقته بتبادل أطراف الحديث مع (شادي)، قبل أن ينتبه
فجأة إلى تلك الحركة الخافتة داخل الجب، وذلك الشئ الذي يتحسس جسده.
.
صرخت في فزع، ومددت يدي بعفوية إلى ذلك
الشئ الذي يتحسس جسدي، وقبضت عليه، فعقرني في باطن كفي، فألقيت به بقوة نحو الكتلة
الخرسانية، فأصدر صوتا حادا كالصرير، ثم انطلق هاربا، وأنا أطوح بقدمي، وساعدي في
محاولة لإصابته رغم ضيق المكان، حتى اختفى تماما، من الواضح أنه قد خرج من الفجوة
التي جاء منها، كان الجب مظلما، ولكنني استطعت التعرف على مهاجمي ... جائني صوت
(شادي) قلقا من وراء الكتلة الخرسانية:
-
ماذا يحدث يا (عمو)!؟ هل أنت بخير!؟.
-
أجل يا (شادي) أنا بخير ... لقد كان فأرا!
صمت (شادي) للحظة قبل أن يسأل بصوت
مندهش:
-
وماذا يريد الفأر!؟
كنت في تلك اللحظة أتفحص ذلك الشئ الذي
أسقطه الفأر أثناء هروبه، كان شيئا أسطونيا، مرنا، دافئ الملمس، صرخت بفزع، وأنا ألقيه
جانبا:
-
اللعنة ... إنه أصبع بشري.
-
ماذا!؟
قالها (شادي) بقلق ... لم أخبره
بالحقيقة، لم أكن استطيع أن أخبره أن الفئران تمرح في الفجوات، والممرات أسفل
الأنقاض، وتلتهم أجساد الموتى، ومن يعلم قد يدفعها الجشع، والجوع لمهاجمة الأحياء
المحتجزين أيضا ... رفعت صوتي وأنا أقول (لشادي):
-
لا شئ، لقد كان فأرا جبانا وهرب.
-
لو جاءني هذا الفأر لأكلته، مع كل هذا الجوع والعطش اللذان
أشعر بهما في تلك اللحظة.
ابتسمت بمشقة، وأنا أقول:
-
عندك حق ... الفأر التالي سنأكله.
كنت أشعر بآلام رهيبة، آلام لا يمكن
وصفها بكلمات بسيطة، كانت شفتاي ولساني وحلقي قد تشققوا جميعا من أثر الجفاف،
وتحولوا إلى أحجار جافة، كما أن اليأس قد بدأ يهيمن على روحي وباطني ... كنت
أتظاهر بالتماسك والثبات من أجل (شادي) الذي بدا أكثر تماسكا مني، وهو يقول:
-
أشعر أن النجاة قريبة ... أليس كذلك؟
لم استطع الرد، فأردف هو:
-
بالتأكيد لديهم أجهزة، تجعلهم يستطيعون معرفة موقعنا.
مرة أخرى عجزت عن الرد، فسألني (شادي):
-
لماذا لا ترد يا (عمو) !؟
فأجبته بصعوبة، وبحروف متلجلجة:
-
أشعر بالإرهاق يا صغيري ... سامحني.
أجاب (شادي) بسرعة، وهو يكرر ما قلته
له سابقا:
-
أنت قوي يا (عمو)، وتستطيع التحمل.
فاجأني رده، فوجدت نفسي أضحك ضحكة
طويلة، متفهمة، كنت أشعر أن تلك الكلمات نجحت في دفق قدرا ضئيلا من الطاقة في
عروقي ... استمر (شادي) في حديثه المشجع، لقد استدارت الطاولة، وتغيرت المقاعد،
وأصبح ذلك الطفل الشجاع هو الذي يحاول الآن بث الأمل، والطمأنينة في صدري، ولكنني
كنت عاجزا، خائرا، موشك على الاستسلام.
بعد فترة طويلة من محاولات (شادي) الدؤوبة
لتشجيعي، يقابلها عجزي عن استعادة بأسي، أو أن أبادله حديثه المشجع بالمثل، قال
لي:
-
أظن أننا قضينا هنا ثلاث ليال أو أربع.
أجبته بصوت متهالك:
-
أظنها دهرا!
صمت (شادي) لبرهة، ثم قال بصوت ملهوف:
-
(عمو) ... أرجوك لا تمت.
سمعته، فابتسمت، وأنا أرد بضعف:
-
سأحاول يا صغيري.
غبت عن الوعي بعدها لساعات طويلة، أو
لأيام، لا أعلم!.. كنت أفيق للحظات على صوت (شادي)، وكلماته المشجعة، فأرد عليه
ببضعة كلمات خائرة، ثم أغيب عن الوعي مجددا ... كنت أعرف أن نقص السوائل، والجفاف،
والجروح، واليأس قد تمكنت جميعها من جسدي، وأنني موشك على الموت بعد ساعات ...
فجأة انتبهت إلى صوت (شادي) الذي كان ينادي علي، ويصرخ بإسمي من فترة دون أن
أسمعه، فقلت بسرعة:
-
ماذا هناك يا (شادي)!؟
-
إنها آلات الحفر عادت من جديد ...إنها قريبة جدا تلك
المرة!
احتجت ثوان طويلة كي أفهم ما قاله، فقد
كان عقلي بحالة سيئة كجسدي تماما، بالفعل كانت اصوات آلات الحفر قريبة جدا من
موقعنا، شعرت بالإدرينالين يتدفق في عروقي، وتنبهت حواسي، وجوارحي دفعة واحدة مع
هذا الأمل الموشك ... أخذت أصرخ بأعلى صوت تستطيع حنجرتي أن تصنعه، وأطرق على
أسياخ الحديد بقطعة من الحجر بكل ما تبقى في جعبتي من قوة، أعرف أن هذا هو الأمل الأخير،
لو ذهب فستكون تلك هي نهايتي بالتأكيد ... فجأة، توقفت آلات الحفر لثوان، ثم عادت
تحفر فوق رأسي مباشرة، لقد سمعوني، لقد عرفوا مكاني، أخذت أبكي، وأنتحب، وألهج
بالدعاء، والحمد، وأنا أواصل الصراخ والطرق حتى انشق ثقب صغير في سقف الجب، وانبثق
منه شعاع ضوء الصباح فأصاب عيني بآلام قوية، كأنما صبت عليهما مادة كاوية ... اتسع
الثقب، وتساقط الغبار وقطع الركام على رأسي فغطت جسدي كله، ولكنني لم أتوقف لحظة
عن الصراخ، والنداء، هنا سمعت صوت قادم من فوقي، يصيح بفرحة ودهشة، وهو يقول:
-
هناك أحياء هنا!
فأجبت بسرعة:
-
أجل ... أنا هنا ... أنا هنا.
لقد نجوت، دخلت في نوبة حادة من
البكاء، حاولت التحدث إلى (شادي) لأخبره أن النجدة قد وصلت، ولكنه لم يرد، حاولت
مرات ومرات ولكن لا رد، قد يكون عاجز عن سماعي بسبب الصخب ... اتسعت الفجوة أكثر
وأكثر، وأضاء نور الصبح القبر المظلم الذي كنت مدفونا فيه، وامتدت مجموعة من
الأيادي تساعدني على الخروج، وهم فرحون، مستبشرون، أسمع كلمات تتناقل بينهم:
-
إنه بطل، كيف تحمل خمسة أيام كاملة تحت الأنقاض، لقد
يأسنا من العثور على أحياء بعد اليوم الثاني.
كانت أطرافي عاجزة تماما عن حملي،
فأعانني الرجال، وحملوني، ومددوني على محفة ... اقترب مني أحدهم وهو يقول بابتسامة
واسعة:
-
أنا رئيس فرقة الإنقاذ.
-
شكرا لك ... اعطني يدك ويد أفراد فريقك لأقبلها.
قال وهو يربت على كتفي:
-
العفو ... هذا واجبنا.
قبل أن يسأل بسرعة:
-
هل كنت وحدك بالأسفل؟
صحت بلهفة:
-
لا ... هناك طفل اسمه (شادي)، محتجز خلف الجدار
الخرساني، أرجوكم أخرجوه.
تركني الرجل، وتوجه بسرعة ليوجه
تعليماته إلى فريقه ... حمل رجلين المحفة نحو سيارة الإسعاف، صحت بأعلى صوتي، رغم
الوهن الذي كنت أشعر به وهم يدخلوني إلى سيارة الأسعاف:
-
أرجوكم ساعدوا (شادي).
ثم غبت عن الوعي...
***
أيام طويلة قضيتها في المشفى، صبوا فيها في
عروقي مائة لتر من السوائل والعقاقير، ودسوا فيها في فمي آلاف الأقراص والكبسولات
... كنت في معظمها غائبا عن الوعي، أفيق لثوان قليلة، أسأل فيها عن (شادي)
فيطمئنوني ببضعة كلمات مبهمة، ثم أغيب بعدها عن الوعي من جديد.
-
كيف حالك الآن؟
انتبهت إلى ذلك الصوت الذي اشعر أنني
أعرف صاحبه ... فتحت عيني بصعوبة لأطالع وجه رئيس فرقة الإنقاذ، هو الآن يبدوا
مختلفا بعد أن أزال الغبار الذي كان يغطي وجهه وثيابه في المرة الأولى التي رأيته
فيها، هو الآن يرتدي قميص، وبنطال نظيفين، ويصفف شعرة بعناية.
-
هل تذكرني؟
-
بالطبع ... أنا لست جاحدا لهذه الدرجة، أنت أنقذت حياتي
منذ أيام قليلة ... شكرا لك.
صمت الرجل للحظة، ثم قال:
-
كنت أريد أن أسألك عن شئ.
-
أنا أيضا، أريد أن أسألك عن (شادي)، هل هو بخير؟
ارتسم القلق، والتوتر على وجه الرجل،
وهو يقول:
-
إنه نفس الموضوع الذي كنت اريدك بخصوصه.
قلت بلهفة:
-
إذا تفضل أسأل، ولكن أرحني أولا، هل عثرتم عليه، وهل هو
بخير الآن!؟
أشاح الرجل بوجهه، وبدا كأنه لا يريد النظر
في عيني، وهو يقول:
-
لقد عثرنا عليه ... ولكن
قاطعته بحدة، وتوتر:
-
ولكن ماذا؟
تردد للحظات، ثم نظر لي نظرة مشفقة وهو
يقول:
-
لقد كان ميتا!
صرخت في فزع، وأنا أهب من على فراشي:
-
ميتا !!! إذا فقد تأخرتم في الوصول إليه بالتأكيد!
تخاذلت قدماي عن حملي، فانهرت، لولا
ذلك الرجل الذي تلقفني، وأعادني لفراشي وهو يقول:
-
أرجوك اهدء، أنت لم تستعد عافيتك بعد.
كنت في حالة شديدة من الصدمة، أشعر
برغبة في البكاء، والصراخ، وأنا أتذكر (شادي) ذلك الطفل الشجاع، الذي كان رفيقي
الوحيد في المحنة ... ربت الرجل على كتفي مواسيا وهو يقول:
-
نحن لم نتأخر ... لقد مات بالفعل منذ اللحظات الأولى
للانهيار.
-
ماذا تقصد؟
-
لقد عثرنا عليه كما أخبرتنا خلف الجدار الخرساني، عثرنا
عليه وهو يحتضن أمه، بعد أن اخترقت جسديهما أسياخ الحديد الحادة، فمزقتهما ... ومن
حالة الجثتين، أؤكد لك أن الوفاة حدثت مع اللحظات الأولى للانهيار.
صرخت في وجهه بعصبية:
-
هذا كذب ... لقد كان (شادي) يتحدث معي، ويصبرني، ويشجعني،
طوال الأيام الخمسة، وحتى دقائق قليلة قبل إنقاذي، بالتأكيد هناك خطأ ما ... بالتأكيد
أنت تتحدث عن طفل آخر.
-
هذا عجيب.
قالها الرجل، وهو يخرج هاتفه المحمول،
ويشغل ملفا صوتيا عليه، لطفل يتكلم بمرح مع والديه، عرفت الصوت مباشرة، فقلت
بسرعة:
-
هذا صوت (شادي).
مط الرجل شفتيه في دهشة:
-
لقد حصلت على هذا الملف الصوتي من أبيه، الذي جاء لمكان
الحادث، وتعرف على جثة زوجته وإبنه.
كنت في حالة ذهول وحزن شديدين ... نهض
الرجل، وتوجه إلى باب الغرفة، وهو يقول بلهجة مواسية:
-
ما حدث لك هو معجزة بكل المقاييس ... صدقني في مجال مثل
مجال عملي نرى هذه المعجزات كل يوم، ولكن كل معجزة يكون هناك سببا لحدوثها، وعليك
أن تكتشف بنفسك هذا السبب ...
صمت للحظة ثم أردف:
-
كنت أشعر بفضول شديد لأعرف كيف علمت بوجود جثة طفل اسمه
(شادي) خلف الجدار الخرساني، من الواضح أن نجاتك من تحت الأنقاض لم تكن هي معجزتك
الوحيدة.
***
بعد أيام خرجت من المشفى بعد أن تحسنت
حالتي الصحية، رغم أن حالتي النفسية كانت في الحضيض، توجهت مباشرة لمقابلة والد
(شادي)، ذلك الرجل الذي فجع في موت زوجته وإبنه، كنت آمل أن يخبرني بأن (شادي) الذي
كان معي تحت الأنقاض هو طفل آخر غير إبنه الذي مات في حضن أمه، ولكن بعد مقابلتي
له تأكدت أنهما نفس الشخص، فجميع المعلومات التي أخبرني بها (شادي) عن نفسه، وعن
أمه، وأبيه، كانت صحيحة، حتى أن الرجل كاد يجن، وهو يسألني كيف عرفت كل تلك
المعلومات، لم استطع أن أخبره بالحقيقة، لآنني أنا نفسي عاجز تماما عن إدراكها ...
أسأل نفسي سؤالا، وأتهرب من الإجابة عليه، هل كان ذلك الطفل الذي قضى معي خمسة
أيام في القبر، والذي كان سببا مؤكدا لنجاتي، هل كان شبحا!؟
استمرت حالتي النفسية في التدهور، كنت
كلما تذكرت (شادي) أصاب بنوبة قلق حادة، تصيب جسدي بالشلل التام، وتعجزني حتى عن
التنفس، حتى أنني كنت أشعر أن روحي توشك أن تغادر جسدي، يليها نوبة بكاء تستمر
لساعات طويلة، زهدت الطعام، والشراب، وجميع متاع الحياة، فنحل جسدي بشدة، وأصابني
الأعياء، والهزال، المرض، حاول معي الأطباء، ولكن حالتي لم تتحسن، ولم يستجيب
جسدي، ولا روحي للعلاج، وبدا أنني مستمر في الانهيار والتدهور إلى النهاية، حتى
كانت تلك الليلة.
في تلك الليلة غبت في النوم بعد ساعات
طويلة من الأرق، كعادتي في الفترة الأخيرة، وبعد ساعة استيقظت على ذلك الهاجس الذي
يشعر النائم بأن هناك من يراقبه أثناء نومه، وعندما استيقظت وجدته يقف هناك إلى
جوار فراشي، لم أتبين ملامحه بسبب الظلام، ولكني تعرفت على صوته وهو يقول لي:
-
لا تقلق على يا (عمو)، أنا بخير.
قلت بصوت مبحوح:
-
أهذا أنت يا (شادي)!؟
-
أجل ... لقد جئت كي أذكرك بوعدك.
-
أي وعد
-
لقد وعدتني أن تحاول، ولا تستسلم.
مددت يدي للمصباح المعلق إلى جوار
فراشي، وأضأته بسرعة، فوجدت أنه الغرفة خالية، ولا أحد بها غيري، هل كان هذا
حلما!؟.. سؤال أعجز تماما عن إيجاد إجابة شافيه عنه.
***
-
وماذا حدث بعدها ياجداه!؟
قالها لي حفيدي الأكبر ذو الإثنى عشرة
عاما، وأنا أجلس في حديقة منزلي وحولي أحفادي الثلاثة، فأجبته:
-
بعدها تغيرت حياتي مائة وثمانين درجة، بعد تلك الليلة
استعدت حياتي تماما، وقررت ألا استسلم، وأن أجعل لنجاتي من تلك الكارثة قيمة وفائدة
لي وللآخرين.
-
وماذا فعلت؟
قالتها حفيدتي الوسطى، فربتت على رأسها
وأنا أقول:
-
قمت بتأسيس مؤسسة خيرية بما تبقى من المال معي، وبأموال
التعويض، وأسميتها مؤسسة (شادي) لرعاية منكوبي الكوارث والأزمات، ونجحت تلك
المؤسسة نجاحا كبيرا، وذاع صيتها، وكانت سببا في مساعدة ونجاة الكثيرين ممن تعرضوا
للكوارث والنكبات، وتضخمت تلك المؤسسة وصار لها فروعا كثيرة داخل البلاد وخارجها
وصار اسمها معروفا لدى الجميع ... أما عني فقد عدت إلى منزل عائلتي في الحي الفقير
الذي نشأت فيه، وتزوجت من إمرأة صالحة، وأنجبت أباكم، وربيته فأحسنت تربيته
وتعليمه.
صمت لحظة لالتقط أنفاسي، وأنا أضم
أحفادي الثلاثة إلى صدري:
-
حتى جئتم أنتم لتضيئوا لي آخر أيام حياتي ...
انفض أحفادي الثلاثة ليواصلون لعبهم في
الحديقة حولي، كنت أتابعهم في سعادة ورضا، لقد جاوزت الثمانين عاما منذ أيام، عندما
أنظر إلى أحفادي، وأتذكر تجربتي، استطيع أن أقول أن حياتي كانت مثمرة بالفعل ...
انضم طفل رابع إلى أحفادي وأخذ يعدو معهم ويلعب حولهم، قبل أن ينفصل عنهم، ويقترب
مني ويجلس على المقعد المجاور، وهو يقول بصوته الذي لم يفارقني طوال الخمسين عاما
الماضية:
-
هل كنت تقص عليهم قصتك تحت الأنقاض يا (عمو)؟
أجبته بابتسامة:
-
أجل.
-
وهل صدقوها؟
-
لا أحد يصدقها يا صغيري (شادي).
في تلك اللحظة غمز الحفيد الأصغر لأخوه
الأكبر، وأشار إلى جده الذي يجلس على مقعد ويتحدث إلى المقعد الخالي بجواره، وقال:
-
ماذا يفعل الجد!؟
جذبه أخوه من ذراعه وهو يقول:
-
لا تشغل بالك، يقول أبي أن الجد مريض، ويتخيل أحيانا أن
هناك أشخاصا حوله يتحدث معهم، هيا نكمل لعبتنا.
-
هيا بنا.
.. (تمت) ..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق