قصة رعب قصيرة بعنوان
... (الخواجة سبيرو – الجزء الأول)
الخواجة (سبيرو) صاحب
العمارة، يأكل الأطفال ... حقيقة يدركها كل طفل في هذه العمارة التي أقطن إحدى
شقاتها أنا وجدتي بهذا الحي الشعبي بمدينة إقليمية ... لماذا يشكك الكبار في هذا
القول!؟، ويسخرون منه، ويقولون أن الخواجة (سبيرو) مجرد عجوز، مسكين، هجره أهله
وعادوا إلى بلدهم (اليونان)، وتركوه وحيدا
في هذا السن بعد أن رفض الذهاب معهم وأصر على أنه ليس (يونانيا)، وأن هذا البلد هو
بلده كالآخريين، فهو يرى أنه لا يختلف كثيرا عن بائع الخبز، وبائعة الخضار،
والقصاب، واللبان، وغيرهم من أهل هذا البلد، فهو مثلهم، ولد فيه، وتربى فيه،
وسيموت أيضا فيه، خبر حاراته، ومسالكه، وتشرب بثقافته، واصطبغ بصبغته ... لولا تلك
الملامح، واللكنة التي ورثهما عن أبويه، وكلمة (الخواجة) التي يصر الجميع على أن
يسبق بها اسمه، لصار مثلهم تماما.
أنا غير مقتنعة بكل
ذلك، أنا طفلة في العاشرة من عمري، ونحن الأطفال نمتلك شفافية خاصة، تجعلنا ندرك،
أن هذا الرجل آكل أطفال محترف، تكفي نظرة واحدة إلى ملامحة المرعبة، بذقنة
النابتة، وشعره المنكوش، الغير مشذب، وأسنانه المهترأة، المصفرة، من أعوام طويلة
من التدخين وأكل لحوم الأطفال، وعينيه الباردة، الميتة، كعيني القرش، وخطواته
العرجاء على الدرج، لنفر جميعا من أمامه، ويلجأ كل طفل فينا إلى بيته وأهله، أو
يختفي أسفل فراشه وهو يرتعد.
تقول (جدتي):
-
أنت مخطئة يا (لولا) ... (سبيرو) رجل طيب.
فأقول أنا بعناد:
-
أنت تقولين هذا يا جدتي، لأنه يتعامل معك باحترام،
ويبتسم دائما في وجهك ... أما معنا فهو لئيم، ويرمقنا دائما بتلك النظرات المخيفة،
أكاد أقرأ في عينيه، رغبته في تذوق طعم لحمي.
تنفجر (جدتي) بضحكة
طويلة، ساخرة، وهي تربت على كتفي قائلة:
-
خيالك واسع يا (لولا)، هذا الرجل في الثمانين من عمره،
أظنه يجد مشقة في تناول الزبادي، واللبن الرائب، فهل تظنينه قادرا على هضم لحم
الأطفال الأشقياء مثلك؟
تقرصني (جدتي)
مداعبة، وتدغدغني في بطني وأسفل ذراعي، وهي تقول:
-
تعالي هنا أيتها الشقية.
فأزوغ منها، وأنا
أطلق ضحكات مرحة، فتنهض هي وتتظاهر بمطاردتي بقدمين أنهكما الروماتيد، فأجري، وأتقافز
حولها، وأنا أواصل ضحكاتي السعيدة، كنت أحب (جدتي) كثيرا، وكانت هي تحبني أيضا،
حتى أنها كانت تخبر أعمامي عندما يأتون لزيارتها:
-
(لولا) هي أختكم الصغيرة، ولها مالكم وأكثر.
طرقات على الباب،
فتتوقف (جدتي) عن مطاردتي واللعب معي، وتشير لي كي أفتح الباب، فأقول لها:
-
حسنا سأفتح الباب، وبعدها نكمل اللعب.
أسرعت إلى الباب،
وفتحته، قبل أن تنطلق صرختي عالية مدوية، أفزعت (جدتي)، التي هرعت إلي، وهي تقول
بصوت قلق، متوتر:
-
ماذا حدث يا (لولا)؟
قبل أن تلمح الطارق الذي
يقف أمام الباب، فتبتسم وهي ترحب به قائلة:
-
أهلا يا خواجة (سبيرو).
وتتابعني بنظرات
ساخرة، وأنا أعدو في الشقة بهستيرية، باحثة عن مكان لأختبئ فيه!
***
علمت من (جدتي)، أن الخواجة (سبيرو) كان يعيش مع أخته
التوأم، العجوز، العانس (جانيت)، والتي عادت إلى وطنها قبل ذلك بعشر سنوات، أنا لم
أرها بعيني، ولكنني رأيت صورا (فوتواغرافية) تجمعها (بجدتي)، فقد كانتا صديقتين
مقربتين ... والحق يقال إن ملامح (جانيت) لا تمت بصلة إلى توأمها المرعب، فقد كانت
تحمل حسنا، وجمالا غربيين لم تخفهما السنون، عكس الخواجة (سبيرو) بملامحه المرعب،
ونظراته التي تسير القشعريرة في الأبدان والنفوس ... سألت (جدتي):
-
لماذا سافرت (جانيت) وتركت أخيها وحده؟
-
لا أعلم، لم تخبرني أبدا ... سألت يوما عنها الخواجة
(سبيرو)، فأخبرني أنها سافرت وعادت إلى وطنها للعلاج من أزمة صحية ألمت بها، الغريب
أنها فعلت ذلك دون أن تودعني، ودون أن تترك لي عنوانا لمراسلتها، والأغرب أنها لم
تخبرني يوما بأنها تعاني من مشاكل صحية.
قلت بنبرة واثقة:
-
إذا فقد قتلها، وأخفى جثتها في مكان ما.
انفجرت جدتي ضاحكة،
وهي تردد:
-
خيال طفولي خصب.
قاطعت ضحكتها، وأنا
أسأل:
-
وهل سألته عنها بعد ذلك؟
أجابت، وهي تواصل
تنقية الأرز بأصابع خبيرة من الصحن الذي أمامها على الطاولة:
-
سألته كثيرا، وكان يخبرني في كل مرة أنها بخير، وأنها
تواصل العلاج، وبعد فترة توقفت عن السؤال، وتوقف هو عن الإجابة.
تذكرت شيئا في تلك
اللحظة، فسألت جدتي:
-
هل تذكرين (بهية)؟
فكرت (جدتي) للحظة،
ثم أجابت:
-
هل تقصدين (بهية)، إبنة البواب السابق!؟
-
أجل هي، أنا أتذكرها لأنها كانت فتاة طيبة، تلعب معي
كثيرا، وتساعدك وتساعد جميع السكان في الأعمال المنزلية.
-
أجل أتذكرها.
-
لقد اختفت منذ عامين، بالتأكيد قتلها الخواجة (سبيرو)
أيضا!
صمتت (جدتي) للحظات
وهي تسترجع الأحداث، وارتسمت على وجهها إمارات الحزن وهي تقول:
-
لقد روع اختفاؤها أباها، وأمها التي كادت تصاب بالجنون،
عندما أشاعوا أنها هربت مع حبيبها ... بحث الجميع عنها كثيرا حتى يئسوا، ولم
ينجحوا في العثور عليها.
أومأت برأسي في ظفر،
وأنا أشعر أنني أثبتت وجهة نظري، وأنا أقول:
-
أترين؟ حادثتي اختفاء ... يمكن أن أجزم أن الخواجة
(سبيرو) وراءهما.
أطلقت (جدتي) ضحكة
ساخرة، وهي تضمني إليها بقوة، وتحتضنني، وهي تهمس في أذني:
-
سيشقى ذلك الرجل الذي ستكونين من نصيبه في يوم من
الأيام، في وجود ذلك العقل الشرير، وتلك المخيلة الخصبة ... سأخبره وأريح ضميري عندما
يأتي حتى لا يتفاجئ بعد ذلك.
قلت وأنا أتصنع
الغضب:
-
بماذا ستخبريه؟
-
سأقول له أن (لولا) شريرة، وخبيثه، ولا تنخدع بجمالها
وملامحها البريئة.
***
بعد ذلك بيومين كنا
نلعب أنا وصديقتي الأنتيم على (الباسطة) أمام باب شقتي، لعبة (السلم والثعبان)،
قالت صديقتي وهي تلقي بالنرد:
-
يقولون أن (كريم) اختفى.
-
(كريم) ذلك الفتي الصغير، المتلعثم.
-
أجل هو.
ألقيت النرد بدوري:
-
بالتأكيد الخواجة (سبيرو) هو الفاعل.
صمت للحظة، وأنا أحرك
قطعتي على اللوحة، قبل أن أردف:
-
لماذا لا يصدق الكبار ذلك!؟
-
لآنه لئيم، يتظاهر أمامهم بأنه عجوز، وحيد، مسكين.
فجأة، فتح الباب
المواجهة، وظهر خلفه الخواجة (سبيرو) الذي رمقنا بنظرات حارقة، وهو يتحرك بخطوات
عرجاء إلى خارج شقته، انطلقنا أنا وصديقتي نعدو هاربين كالعادة، دخلت أنا شقتي
وأغلقت الباب خلفي، وأخذت أراقب الخواجة (سبيرو) وهو ينزل الدرج من العين السحرية في
الباب، أما صديقتي فقد فرت نازلة على الدرج نحو باب العمارة.
عندما تأكدت أن
الخواجة (سبيرو) قد ذهب، فتحت الباب وخرجت إلى (الباسطة)، أخذت أنادي على صديقتي،
فلم ترد، من الواضح أنها عادت إلى بيتها، فجأة تعثرت في شئ معدني، فانحنيت على
الأرض والتقطته، قبل أن أتمتم بصوت خافت:
-
إنها سلسلة مفاتيح.
فحصت السلسة، فوجدت
فيها (ميدالية) ذات وجهين، عليها كلمات بلغة أجنبية لا أفهما، متصل بها ثلاثة
مفاتيح، أحدها يشبه مفتاح شقتنا، انطلقت مني صرخة، فكتمتها بكف يدي وأنا أقول:
-
إنها سلسلة مفاتيح الخواجة (سبيرو) ... لقد سقطت منه دون
أن يدري.
في اللحظات التالية
تعارك شيطانين داخل عقلي، شيطان الفضول، والحمق، يهمس لي بأن استخدم المفتاح لدخول
شقة الخواجة (سبيرو)، وإيجاد دليل على جرائمه، وشيطان الجبن، والخوف، يحذرني مما
قد أجده في الداخل ... لم يمر وقتا طويلا حتى أدركت المنتصر منهما.
***
كانت شقة الخواجة
(سبيرو) من الداخل تشبه شقتنا ولكن بشكل معكوس، كأنها صورة مرآة ... كانت الشقة
مكونة من صالة متسعة وثلاث غرف، إضافة إلى الحمام والمطبخ ... كانت صالة الخواجة
(سبيرو) نظيفة، ومنظمة بأثاثها الأنيق، المنمق، لا يوجد شئ هنا يثير الريبة، دخلت
المطبخ بخطوات مرتعشة، متوقعة أن أجد قطع من جثث الأطفال، مقطعة بالساطور على
طاولة المطبخ، أو رأس طفل يتم طهيها في الآنية، ولكن المطبخ كان خاليا أيضا مما
يريب، بل كان خاليا حتى من الطعام، والشراب، إلا من نصف زجاجة لبن في البراد،
وعلبتي حبوب في الصوان، هذا الرجل لا يأكل كثيرا من طعام البشر ... فتحت الغرفة
الأولى، فكانت غرفة نوم الخواجة (سبيرو)، نفس النظام، والنظافة، والأساس الأنيق،
أما الغرفة الثانية فكانت مذهلة، كانت هناك الآلاف من الصحف والمجلات باللغة
العربية واللغات الأجنبية، مصفوفة من الأرض حتى السقف، وهناك دراجة بخارية عتيقة
من ايام الحرب العالمية مستندة إلى الجدار، ومجموعات كبيرة من العملات،
والأسطوانات، وشرائط التسجيل، والطوابع، وأشياء أخرى لا أعرف ما هي في خزانة ضخمة من الزجاج، هذا الرجل جامع لكل
ما يمكن جمعه، بالتأكيد بين هذه المجموعات أشياء قيمة، وغالية الثمن.
توجهت إلى الغرفة
الثالثة فكان بابها مقفولا بالمفتاح، بحثت بين المفاتيح الثلاث الموجودة في
السلسلة، حتى عثرت على واحد مناسب من بينها، أولجته في القفل، وأدرته فأصدر تكة
صغيرة، حركت مقبض الباب، وفتحت الباب ببطء.
-
لو كنت مكانك لما فعلت هذا أبدا.
كان هذا هو صوت
الخواجة (سبيرو) الذي عاد إلى منزله، ليضبطني متلبسة بالجرم، كان يرمقني بنظرات
كارهة، متوعدة، تحمل نوايا مفزعة.
..(انتهى الجزء الأول
– ويليه الجزء الثاني والأخير)..
قصة رعب قصيرة بعنوان
... (الخواجة سبيرو – الجزء الثاني والأخير)
ملخص ما سبق ...
(لولا) فتاة صغيرة في العاشرة من عمرها، تحمل يقينا جامحا بأن جارها ذلك العجوز،
الهرم، الخواجة (سبيرو)، من أكلة لحوم الأطفال، كما أنها تنسب له في خيالها كل
جرائم الاختفاء التي حدثت في المنطقة في السنوات الأخيرة ... تعثر (لولا) مصادفة على
سلسلة مفاتيح شقة الخواجة (سبيرو)، فتقرر اقتحام شقته في غيابه بحثا عن الدليل
الذي يثبت جرائمه، ولكنه يفاجئها بعودته إلى الشقة، فتجد نفسها وجها لوجه أمام أكبر
مخاوفها.
.
-
ماذا تفعلين هنا أيتها الشقية!؟
قالها الخواجة (سبيرو)
وهو يقترب مني بخطوات عرجاء، وفي عينيه نظرات شريرة، متوعدة ... تحركت مبتعدة عن
باب الغرفة، وأنا ألصق ظهري بالحائط، كانت قدماي تحملاني بصعوبة شديدة، فركبتاي
ترتعدان بقوة من فرط الخوف والذعر، أجد صعوبة كبيرة في التنفس أو الكلام، حتى
الصراخ بدا ضربا من المستحيلات مع ذلك الرعب الذي يعجز جوارحي، أشعر بالغثيان،
والأعياء، صوت ضربات قلبي يدق بقوة في أذني، وأشعر بنبض العروق في رأسي، فالدماء
قد هربت إليه من الخوف، شعرت بأنني موشكه على فقدان الوعي في أي لحظة.
كنت مستمرة في الحركة
بمحازاة الحائط، وكان الخواجة (سبيرو) يقترب مني، وهو يحاول محاصرتي في زاوية حتى
يتمكن من الإمساك بي ... وبالفعل تحقق له ما يريد، واحتجزني في زاوية الحائط، لا
يفصله عني الآن سوى متر واحد، قال بلهجة ثعبانية، وهو يمد كلتا يديه نحوي:
-
تعالي هنا يا (لولا)، لا تخافي لن أؤذيك.
كانت نظرة الشر في
عينيه، وأصابع يديه الطويلة، الملتوية بفعل (الروماتويد)، وأظفارها القبيحة التي
توشك على القبض علي، كافية لدفق دفقة كبيرة من (الإدرينالين) في عروقي، سمحت لي
بأن أنحني متفادية ذراعيه، ثم أزوغ من جانبه، وانطلق نحو باب الشقة المفتوح بسرعة
الصاروخ، تلاحقني كلماته الغاضبة:
-
انتظري ... تعالي هنا!
غادرت شقة الخواجة
(سبيرو)، وتوجهت ناحية باب شقتنا، الذي كان مغلقا، مددت يدي لأخرج نسخة المفتاح من
جيبي التي أعطتها لي جدتي، وأولجتها في ثقب الباب، ولكني انتبهت إلى أن الخواجة
(سبيرو)، قد غادر شقته هو أيضا، قادما في أثري، مصرا على مطاردتي ... تركت المفتاح
في الباب، وأسرعت أهبط الدرج، وكل ذرة في كياني ترتعد في جنون هستيري، وأنا أتمتم
بخوف:
-
إنه قادم خلفي ... إنه قادم خلفي!
وصلت إلى مدخل
العمارة، كنت أسمع خطوات الخواجة (سبيرو) وهي تنزل الدرج في أثري، اندفعت لخارج
العمارة، فاصطدمت بذلك الطفل وسقطنا معا على الأرض، إنه (سالم)، طفل من حي مجاور،
ولكنه يفضل دائما أن يأتي لحينا ليعب معنا، صاح في، وهو يساعدني على النهوض:
-
(لولا)، هل أنت بخير!؟ لماذا ترتعدين بتلك الطريقة!؟
أشرت بسبابة مرتعشة،
ناحية مدخل البناية التي ظهر فيها الخواجة (سبيرو) في هذا اللحظة، وأنا أقول:
-
الخواجة (سبيرو)، إنه يحاول الإمساك بي.
أومأ (سالم) برأسه
متفهما، ثم أمسك بيدي، وهو يقول:
-
هيا بنا من هنا، يجب أن نهرب بسرعة.
انطلقت أعدو، بصحبة
(سالم)، يلاحقنا صوت الخواجة (سبيرو):
-
انتظري يا (لولا) ... انتظري.
***
كان (سالم) ما زال
ممسكا بيدي، وهو يعدو بي، من حارة لحارة، ومن طريق إلى طريق، حتى ابتعدنا مسافة
كبيرة عن حينا، كنت قد بدأت اشعر بالطمأنينة بعد عزوف الخواجة (سبيرو) عن اللحاق
بنا، ولكنني الآن أشعر بالقلق، فأنا لا أعرف تلك المنطقة التي أخذني إليها (سالم)،
أنا لم آتي إلى هنا من قبل، ولم أدر أنه بالقرب من حينا توجد تلك المنطقة
العشوائية المكونة من وحدات سكنية فقيرة من دور أو دورين، وعشش بدائية من الصفيح،
كما أنها غارقة في الظلمة بلا أي أعمدة للإنارة، تخلو طرقاتها العشوائية الممتلأة
بالقمامة من المارة، فقط تلمح طفل أو طفلين يعبثان أمام عشة أو بيت، وبعض الشباب
مريب الشكل، يتوارى بالظلام ليفعل شيئا سيئا أو يخطط لفعل شئ سئ ... توقفت مرة
واحدة، وسحبت يدي من يد (سالم)، وأنا أقول:
-
ما هذا المكان، أنا خائفة!؟
قال (سالم) بصوت حاول
أن يجعله مطمئنا:
-
لا تخافي سأصحبك إلى بيتي ... إنه هناك.
أشار بسبابته إلى بيت
قريب من دور واحد، مبني بالطوب الأحمر، ولم يطل من الخارج بأي طلاء، فأجبته:
-
لا ... أريد أن أعود إلى بيتي الآن.
قال وهو يعقد حاجبيه:
-
هذا خطر ... بالتأكيد الخواجة (سبيرو) مازال ينتظرك هناك
ليقبض عليك ...
ارتسم الذعر على
ملامحي، فأردف:
-
تعالي معي إلى بيتي، وبعد ساعة أو أثنتين سأعيدك إلى
منزل، بعد أن أتاكد أن الخواجة (سبيرو) قد مل من الانتظار ورحل.
سرت مع (سالم) حتى
وصلنا إلى باب بيته فطرقه بكف يده المبسوطة، كنت مازلت أشعر بالقلق، ولكني كنت
أحاول التماسك، فأي شئ سيكون أفضل من أن أقع في قبضة الخواجة (سبيرو) ... كانت تلك
الفكرة هي آخر فكرة في ذهني، حتى فتح الباب، فتحته أمرأة سمينة، مرعبة، قبيحة
الملامح، يبدو (سبيرو) إلى جانبها كملك جمال ... أطلقت صرخة ذعر قصيرة، قاطعها صوت
المرأة الأجش وهي تخاطب (سالم):
-
ماذا جلبت أيها الغراب؟
قالتها ثم التفت لي،
وهي ترمقني بنظرات حارقة، وبدون أي مقدمات مدت يدها بسرعة البرق وقبضت على رقبتي،
ثم جذبتني إلى الداخل، وأنا عاجزة عن المقاومة، بسبب المفاجأة وبسبب قوة تلك
المرأة البلدوزر ... دفعتني المرأة إلى الداخل، كنت قد بدأت في الصراخ، والاستنجاد
(بسالم)، ولكن نظره واحدة إلى وجهه، جعلتني أدرك ما يحدث، لقد استدرجني ذلك اللعين
إلى هذا المكان، استغل خوفي من الخواجة (سبيرو)، فقادني إلى ما هو أسوء ... صفعة
قوية على وجهي من كف تلك المرأة، أخرست صرخاتي في حلقي، قبل أن تحملني حملا، وتلقي
بي في زنزانة، هي عبارة عن قفص مسور من الخشب يحتل نصف الردهة، لأجد نفسي وسط
ثلاثة أطفال آخريين ... رمقتني تلك المرأة بنظرة مرعبة، جمدت الدم في عروقي، وهي
تقول:
-
حذار أن أسمع لك صوتا.
عادت إلى (سالم)، ربتت
على كتفه، وهي تخرج من صدرها بضعة وريقات نقدية وتناولها لها، فالتقطها (سالم) في جشع
وهو يقول:
-
شكرا يا (حاجة).
قبل أن ينصرف، وهو
يعد الوريقات في سعادة، وظفر.
***
كانت الأيام الثلاث
التالية رهيبة للغاية، ولا يمكن وصفها بكلمات بسيطة، بعد كل هذا العمر ما زلت أصحو
في الليل وأصرخ بهستيرية، عندما يهاجمني كابوس يقلب علي تلك الذكريات مجددا، في
تلك الأيام، لم يتوقف البكاء، والنحيب داخل هذا القفص لحظة واحدة، كانت تلك المرأة
التي يسمونها (الحاجة) تلقي لنا الفتات من الطعام والشراب، وتراقبنا بعيني صقر،
لتمنعنا من محاولة الهرب أو حتى التفكير في الخروج من القفص، حتى قضاء الحاجة كان
علينا أن نفعلها في ركن من القفض كالحيوانات ... (أحمد)، (أمجد)، و(هناء) كانوا
رفقاء الاختطاف، الأول كان يكبرني بعامين، والثاني طفل صغير لا يتجاوز الستة
أعوام، أما (هناء) فكانت في مثل عمري.
حاولت أن اسأل (أحمد)
الذي بدا أكثر خبرة، وسط دموعي المنهمرة، عما تنتوي تلك (الحاجة) أن تفعله بنا،
فأجاب بصوت متحشرج، خائر:
-
لا أعلم.
-
هل ستطلب فدية من أهلنا.
-
لا أظنها ستفعل.
صرخت في يأس:
-
إذا ماذا ستفعل بنا!؟
في اليوم الأول وصل
للمكان رجلان، يحملان حقيبتين (سامسونيت)،
سحبتنا (الحاجة) من رقابنا، كما تسحب الدواب، وألقت بنا إلى هذين الرجلين، اللذان
أمسكا بنا بقسوة وعنف، وأخذوا يجرون بعض الفحوصات الطبية، لنا بطريقة روتينية ودون
أي انفعال بالأدوات التي أخرجوها من الحقيبتين، ثم ألحقوا ذلك بسحب عينات دماء من
سواعدنا، وسط صرخات الخوف والاستجداء التي لم تنقطع لحظة من أفواهنا.
في اليوم التالي، حضر
رجل في الأربعينيات للمكان وأخذ (هناء) ورحل، كان يجرجرها بقسوة على الأرض، وكانت
هي تقاوم، وتبكي بذعر، وهي تشير لنا
بذراعها كي نساعدها، ولكننا كنا أعجز عن أن نساعدها أو نساعد حتى أنفسنا ... في
نفس اليوم مساء، حضر الرجلان صاحبا الحقائب (السامسونيت)، وتوجها مباشرة إلى غرفة
جانبية، توجهت تلك المرأة المتوحشة التي تدعى (الحاجة) نحو القفص بخطوات ثقيلة
جعلها أشبه (بالأشكيف)، فتحت باب القفص ببطء وتوجهت إلى داخل وهي تحجب باب القفص
بجسدها الثمين، قبل أن تمد يدها لتقبض على ساعد (أمجد) الصغير، الذي سار معها
باستسلام، فقادته إلى الغرفة الجانبية ... غاب الجميع فيها لثلاث ساعات قبل أن
يخرج منها الرجلان بحقائبهما، ويتوجهان مباشرة إلى خارج المكان، بعد دقائق خرجت
(الحاجة) وهي تحمل كيس قمامة أسود اللون وضعته بجوار الباب ... انتظرت لفترة ثم
سألت (أحمد) بتوجس:
-
أين (أمجد) إنه لم يخرج بعد!؟
فأجابني بعينين
محتقنتين، وبصوت مبحوح:
-
لا أظنه سيخرج أبدا.
توقف لحظة، ثم أردف:
-
أو أن بعضه قد خرج بالفعل.
-
ماذا تقصد!؟
حدق في وجهي بنظرات
يائسة، عاجزة، وهو يقول:
-
ألم تفهمين بعد؟
-
أفهم ماذا!؟
-
تلك الملعونة، وعصابتها، إنهم تجار أعضاء بشرية، يخطفون
الأطفال ويمزقون أجسادهم، ويبيعونها لمن يرغب في الشراء.
***
بعد أن أخبرني (أحمد)
بما ينتظرنا، أصابتني نوبة عصبية من القيئ، رغم أنه لم يكن هناك شيئا في بطني
لأقيئه، انتهت تلك النوبة بإغماء لم أفق منه إلا في اليوم التالي، عندها وجدت نفسي
وحدي في القفص، لقد أخذوا (أحمد) أيضا، لا أذكر كثيرا مما حدث بعد لك، كنت في حالة
سيئة للغاية، تتداخل الأفكار والذكريات في عقلي، أفقد الوعي لساعات، وأفيق لدقائق،
أتذكر فيها ما آل إليه حالي، فأدخل في نوبة من البكاء الهستيري، والقيئ، تنتهي بي
فاقدة للوعي من جديد.
في المساء وصل زوج
الأبالسة بحقائبهما، وتوجها مباشرة إلى الغرفة الجانبية، استطيع توقع ما سيحدث
الآن، سحبتني (الحاجة) من رقبتي إلى الغرفة الجانبية، فسرت معها باستسلام ... ما
أن فتحت (الحاجة) باب الغرفة، ودفعتني إلى داخلها، حتى أزكمت أنفي تلك الرائحة الكريهة التي تنبعث
منها، كان الرجلان يرتديان معطفين طبيين اختفى بياضهما أسفل بقع الدماء، وكمامتين
تغطيان وجهيهما ولا تظهرا إلا عيونهما التي تبدو كعيون الشياطين، كان المكان ضيقا،
ومضاء بمصباح (فلورسنت)، كانت الجدران مدهونة بجير أصفر، اختفى تحت بقع الدماء،
كانت أحدى الحقيبتين مفتوحة فوق طاولة جانبية، فبدا فيها عدد كبير من المشارط،
والمباضع الطبية ... مددتني (الحاجة) على فراش في منتصف الغرفة، وقيدت قدمي،
وساعدي إلى أطرافه، كنت عاجزة عن المقاومة، أو الصراخ، كنت مستسلمة تماما للمصير
الذي يحمله لي هؤلاء الشياطين ... اقترب ثلاثتهم مني وتحلقوا حولي وعلى وجوههم
ملامح مرعبة، أخرج أحد الرجلين محقن ممتلئ بسائل شفاف، وأمسك بذراعي بقسوة، وقرب
إبرة المحقن منه.
فجأة انبعثت صرخات
قوية في المكان، وأصوات تحطيم أبواب، وأصوات تهدد، قبل أن يتحطم باب الغرفة ويلجها
شرطي قوي في ملابسه الرسمية، يحمل في يمينه مسدس، وجهه إلى (الحاجة) والرجلين، ومن
خلفه لحق به مجموع من الجنود حاصروا العصابة، واقتادوهم للخارج دون أي مقاومة.
-
الحمد لله أنك بخير يا (لولا).
أنا أعرف هذا الصوت،
إنه ليس غريبا على اذني، نظرت إلى صاحب الصوت، قبل أن أصيح:
-
الخواجة (سبيرو)
كان الخواجة (سبيرو)
يفك قيودي، وهو يقول بصوت مشفق:
-
أجل أيتها الصغيرة، الشقية.
قلت بحيرة:
-
ما الذي جاء بك إلى هنا!؟
ساعدني الخواجة
(سبيرو) على الاعتدال بعد أن حررني من القيد:
-
لقد لمحتك تهربين مع ذلك الفتى اللعين ... وعندما تأخرت
في العودة إلى منزلك قبضت عليه، فاعترف لي بكل شئ من الخوف.
صمت للحظة، ثم قال
بابتسامة واسعة:
-
أنت تعرفين أن جميع الأطفال يخافون من (سبيرو)، ولا يمكن
أن يخفوا عنه شيئا.
اندفعت
نحوه واحتضنته، وأنا أقول:
-
شكرا لك يا خواجة (سبيرو)، لقد كنت غبية عندما أسأت الظن
بك، أنت ملاك.
ربت على كتفي، وهو
يقول:
-
هيا علينا أن نعود بك إلى شقتك الآن، فجدتك تكاد تموت
قلقا عليك.
***
تغيرت علاقتي تماما
بالخواجة (سبيرو) بعد هذا اليوم، أصبحت لا أخاف منه، وألوم من يفعل ذلك، أصبحت
أراه أجمل، وأطيب، وأكثر حيوية ... كنت عندما أراه يخرج من منزله اندفع نحوه واحتضنته،
فيداعبني بحنان، حفظت جدتي للخواجة (سبيرو) جميل إنقاذه لي، فأصبحت تطهو له الطعام
بعد ان أخبرتها أن مطبخه، وثلاجته خاليين تماما من صنوف الطعام، وكنت أنا احمل
الصفحة الممتلئة عن آخرها إلى منزله، وأضعها على طاولته، فكان يدعوني لتناول
الطعام معه، فكنت أشاركه الطعام أحيانا ... حكي لي عن قصة حياته، وشبابه، وحبه
لهذا الوطن، وعن أخته (جانيت) التي شاركته هذا الحب، حكى لي قصص كثيرة، من تجاربه،
وخبراته، وكنت أعشق الاستماع إليه، وقضاء الوقت معه.
في ذلك اليوم جلبت له
الطعام، فدعاني لتناوله معه فوافقت، بعد الطعام ذهبت إلى دورة المياة للاغتسال،
وذهب هو لإعداد كوب من الشاي، مع وعد بأن يقص علي قصة جديدة من قصصه ... عندما خرجت
من دورة المياة، كان الخواجة (سبيرو) ما زال في المطبخ، جلست انتظره، نادى علي من
المطبخ:
-
هل أصنع لك كوب من الشاي معي يا (لولا).
-
شكرا لك.
فجأة وقعت عيناي على
باب الغرفة الذي حاولت فتحه في المرة السابقة، فلم أفلح ... كان المفتاح في ثقب
الباب ... قمت مباشرة وتوجهت إلى الباب، أريد أن أرى ما يخفيه الخواجة (سبيرو) من
مفاجآت داخل تلك الغرفة، بالتأكيد لن يمانع بعد أن تحسنت علاقتنا مؤخرا ... فتحت
الباب ببطء، ما زلت أسمع صوت الخواجة (سبيرو) قادما من المطبخ ... طالعتني تلك
الرائحة الخانقة التي تنبعث من داخل الغرفة، جعلتني أسعل، وأنا اشعر بالحرقة في
عيني، دخلت الغرفة التي كانت مضاءة بضوء أصفر، ففاجئتني أربعة تماثيل بشرية بالحجم
الطبيعي، إنها تشبه تلك التماثيل التي رأيتها في متحف الشمع، الذي اصطحبتني له
جدتي في الصيف قبل الماضي، في منتصف الغرفة كان هناك سرير معدني عليه شئ مغطى
بملاءة ... عدت مرة أخرى لأفحص التماثيل، قبل أن تنطلق صرخة الدهشة من فمي،
فكتمتها بكفي، التمثال الأول يشبه (جانيت) أخت الخواجة (سبيرو)، بل إنها ترتدي نفس
الفستان الذي كانت ترتديه في الصورة (الفوتوغرافية) مع جدتي ... انطلقت مني صرخة
أخرى عندما طالعت التمثال الثاني، فالتمثال يشبه (بهية) بنت البواب التي اختفت منذ
سنوات، اقتربت من التمثال، وتحسسته بيد مرتعشة، فوجدت أن ملمسه ليس صلبا كتماثيل
الشمع ... في تلك اللحظة بدأت أشعر بالخوف والتوجس من جديد، فحصت التمثالين
الآخرين، كانا لرجلين لا أعرفهما، ولكنهما رجلين من كبار السن في ملابسهما الرسمية
الكاملة، قادني فضولي إلى ذلك السرير المعدني، ورفعت عنه الغطاء، قبل أن تنطلق
صرختي مدوية.
-
لماذا فتحت الغرفة؟
كان هذا الصوت هو صوت
الخواجة (سبيرو) وهو يقف على باب الغرفة، ينظر نحوي بحزن.
كنت مازلت أصرخ، بعد
أن رأيت جثة رجل مشقوقة الصدر ممدة على السرير المعدني، صاح في الخواجة (سبيرو):
-
أرجوك توقفي.
قلت بصوت مرتعش:
-
أنت قتلتهم ... وصنعت من أجسادهم تماثيل محنطة.
صمت لبرهة، وبدا أن
عمره قد تجاوز المائة عاما في تلك اللحظة، وهو يقول:
-
لا لم أقتلهم ... صدقيني.
كنت أشعر برعب هائل،
وبأنني أوشك على فقدان الوعي، فأشرت بسبابة مرتعشة إلى التماثيل:
-
هذه (جانيت) أختك، وهذه (بهية) إبنة البواب، لقد كنت
أعرفها.
صرخ الخواجة (سبيرو)
بهستيرية:
-
لقد ماتت (جانيت) وتركتني وحدي، ولكنني قررت أن استبقيها
معي، وتلك المسكينة (بهية)، سقطت على الدرج، وأصابت رأسها أصابة قاتلة ... أنا لم
اقتل أحدا، لقد كانوا جميعا موتى، قبل أن أحنطهم.
-
ولماذا تفعل ذلك؟
بدا أن سؤالي كان
مفاجئا للخواجة، فتعثرت الكلمات على لسانه وهو يقول بعصبية:
-
عندما تعيشين قرنا من الزمان وحدك، في كل يوم منه تحاولين
أن تبحثي عن شئ يسد تلك الفجوات التي تملأ حياتك، يبدء الأمر معك بهوايات بسيطة
كجمع العملة، والطوابع، والمجلات ، وينتهي بأفعال مجنونة، مرضية كتحنيط الموتى
وحفظ أجسادهم.
نكس الخواجة (سبيرو) رأسه،
واكتست ملامحه بالحزن، والهم، والندم ... ساد السكون في الغرفة لدقيقة، قبل أن أقطعه،
وأنا أقول بشجاعة وثبات، لم أعرف من أين أتيت بهما:
-
وماذا ستفعل بي!؟ هل ستحنطني مثلهم!؟
حدق في وجهي للحظات،
ثم أفسح لي الطريق، وهو يقول:
-
يمكنك أن تذهبي الآن.
لم أصدق نفسي، وأنا
اتجاوزه إلى خارج الغرفة، وانطلق بسرعة إلى باب الشقة، استوقفني صوت الخواجة (سبيرو)،
وهو يقول:
-
أرجوك يا (لولا).
-
ماذا؟
-
عديني، ألا تخبري أحدا؟
***
خرجت من باب الشقة
دون أعده بشئ، ولكنني لم أخبر أحدا بالفعل، لا أعرف السبب، قد يكون بسبب إنقاذه
لي، قد يكون لأنني تعاطفت معه، وتفهمت آلام الوحدة التي كان يعيشها في الكبر...
بعد أسبوع واحد من تلك الواقعة، توفى الخواجة (سبيرو) في فراشه، وعندما فتشوا شقته
وجدوا الغرفة الخالية، لقد أخفى الجثث المحنطة قبل موته، ولم يعرف أحد شيئا عن سره
... دفنوه في مدافن الفقراء، وآلت املاكه إلى الدولة بعد أن عجزوا عن إيجاد أقارب
له ... لم يعرف أحد غيري سر الخواجة (سبيرو)، واحتفظت أنا بهذا السر حتى سن
الأربعين، اليوم يمكنني أن أخبر أولادي بهذا السر، فقد رحل الخواجة (سبيرو) من
فترة طويلة، ولم يعد أحد في هذا العالم يحمل ذكراه، إلا تلك الطفلة التي صارت الآن
أمرأة ناضجة، ولكنها مازالت تتذكر الخواجة (سبيرو) وقصصه، وهوايته العجيبة، هواية
التحنيط.
.. (تمت) ..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق