قصة رعب قصيرة بعنوان
... (القلادة)
مسحت المرأة بمنديلها
القطني تلك الدموع التي سالت على وجنتيها، قبل أن تدخل في نوبة هستيرية من البكاء،
وهي تلهث، وتنشج نشيجا متقطعا ... نظر لها الرجل الذي يشاركها غرفة ركاب الفئة
الأولى في القطار الدولي السريع، في دهشة، وهو يسألها:
-
ماذا بك يا ياسيدتي!؟
-
إبنتي لقد قتلوها؟
-
من هم!؟
-
الشياطين ... مصاصوا الدماء!
حدق الرجل في وجهها
للحظات، ثم مد يده ليصافحها وهو يرسم على وجهه ابتسامة متعاطفة، وهو يقول:
-
(جاك كولت) ... طبيب نفسي.
صافحته المرأة، وهي تكفكف
دموعها، وتقدم نفسها بدورها، بصوت متهدج من أثر البكاء:
-
عذرا على مضايقتك بمشاكلي، أنا (ليلى كوجر).
حياها الرجل بإيماءة
من رأسه، وهو يقول:
-
لا يوجد مشكلة ... كيف يمكنني مساعدتك!؟
قالت (ليلى) بحرج:
-
أعتذر منك مرة أخرى، سامحني، لقد مررت الفترة السابقة
بتجربة قاسية، مؤلمة، وكلما جاءت بعض تفاصيلها على مخيلتي، أعجز عن تمالك نفسي.
انسحبت (ليلى) إلى نهاية
الأريكة، وأراحت رأسها على المسند، وأغلقت عينيها في محاولة للنوم على الإيقاع
الرتيب لعجلات القطار وهي تمر على فواصل القضبان، فجاءها صوت (جاك) وهو يقول:
-
أرجوك، أخبريني بقصتك؟
فتحت (ليلى) عينيها وهي
تنظر إليه نظرات حائرة ... كان من الواضح أنها تريد أن تتكلم، وتفرغ ما في جوفها
من مشاعر حزينة، مكبوتة، فاعتدلت وهي تقول:
-
كانت البداية في اليوم الذي وصلت فيه عمتي (إليزابيث) إلى
منزلنا، لحضور حفل عيد ميلاد (سارة).
-
من (سارة)؟
-
(سارة)، إبنتي التي كانت قد وصلت لتوها من المدرسة.
***
-
انظري يا أمي ... لقد أهدتني صديقتي هذه القلادة بمناسبة
عيد ميلادي ... تقول أنها قلادة الصداقة الأبدية.
تفحصت القلادة التي
بدت قديمة، وأثرية، ومخيفة بتلك الصورة المنقوشة على سطحها والتي تمثل وجها مخيفا،
كأنه وجه الشيطان نفسه:
-
يا إبنتي أنا أقدر حسن اختيارك لصديقاتك، ولكن ألا تظنين
أن صديقتك تلك غريبة الأطوار بعض الشئ!؟
-
لا إنها فتاة رقيقة، لطيفة ... لا تقلقي يا أماه سأكون
دائما عند حسن ظنك.
-
أتمنى ذلك.
مضى اليوم بشكل
طبيعي، وأقيم حفل عيد ميلاد (سارة) في نهايته، كانت في غاية السعادة، والسرور
بوجود صديقاتها، وبتلك الهدايا الرائعة التي حصلت عليها ... ولكن في وقت متأخر من
تلك الليلة، بعد أن أوينا جميعا إلى الفراش، سمعنا تلك الصرخات تنبعث من غرفة عمتي (إليزابيث)، صحونا
جميعا من النوم، وجرينا إلى هناك بسرعة كبيرة ... كنت أنا أول الواصلين، حاولت فتح
باب الغرفة ولكنه كان مغلقا من الداخل، وكان صوت عمتي الملتاع، المستغيث يتواصل من
الداخل، نظرت من ثقب الباب، فلمحت خيال شخص ما جاثما على صدرها، لم استطع أن أتبين
ملامحه، طرقت الباب طرقات عنيفة، وحاولت أن أفتحه بالقوة، كنت أشعر بالخوف على
عمتي التي توقفت صرخاتها في تلك اللحظات، صحت بزوجي أن يجلب نسخة المفتاح
الاحتياطية من المطبخ، فانطلق بسرعة وعاد وهو يحمل ثلة من المفاتيح، أخذنا نجربها
بعصبية على الباب واحدا بعد الآخر،حتى استطعنا فتحه، اندفعنا إلى الداخل، فلم نجد
في الغرفة إلا عمتي المسجاة على ظهرها فوق الفراش، وعيناها جاحظتين تحدقان في السقف،
ووجها شديد الشحوب، وهناك الكثير من الدماء تغطي عنقها، وصدرها، وثيابها.
***
قاطع (جاك) حديث
(ليلى) وهو يتساءل بحيرة:
-
هل ماتت عمتك!؟
-
أجل.
-
ولكنك قلت أن إبنتك هي التي قتلت؟
-
نعم، ولكنها لم تكن الضحية الأولى.
-
حسنا، أكملي قصتك.
***
كنا نشعر بصدمة هائلة
بعدما حدث في تلك الليلة ... اتصل زوجي بالشرطة مباشرة، فحضر فريق من المحققين، وفحصوا
مكان الجريمة، ورفعوا البصمات، واستمعوا إلى شهادتينا أنا وزوجي، قبل أن يقرروا في
النهاية أن ماحدث كان محاولة للسرقة انتهت بالقتل، وتوجهوا بعدها للبحث عن القاتل
بين المشتبه فيهم من اللصوص وإخصائي اقتحام المنازل المعروفين في المدينة ... كنت
أشعر في باطني أن من فعل ذلك ليس لصا بالتأكيد، وفي الغالب ليس بشريا أيضا ... الحقيقة،
أن عمتي (إليزابيث) كانت هي الضحية الأولى ضمن قائمة من الضحايا سقطوا لاحقا بنفس
الطريقة في الأحياء المجاورة، هذا ما عرفته بعد ذلك بفترة! ... الشئ الغريب، والذي
كان يجب أن يثير ريبتي من اللحظة الأولى، ويجعلني انتبه لما كان يحدث مبكرا، هو
أنه رغم كل تلك الضجة، والصخب اللذان حدثا في تلك الليلة إلا أن (سارة) لم تنتبه
ولم تغادر غرفتها، وعندما شعرت بالقلق وحاولت الإطمئنان عليها وجدتها نائمة في
الفراش كعادتها، وفي الصباح سألت عن العمة (إليزابيث)، فأخفينا الأمر عنها،
وأخبرناها أنها غادرت عائدة إلى منزلها،
كنا نريد إبعادها عن كل تلك الأحداث بأي طريقة.
ثلاثة أسابيع مرت على
الحادثة ... في ذلك الصباح لمحت (سارة) وهي تضع تلك القلادة التي أهدتها لها صاحبتها،
شعرت بانقباض في صدري لا أعرف السبب، ولكنني لم أعلق، بعدها صارت تلبسها طوال
الوقت، حاولت في أحدى المرات أن أطلب منها أن تخلعها، ولكنها رفضت، وغضبت غضبا
شديدا، حتى أنها احتدت علي وعلى أبيها للمرة الأولى في حياتها، لقد صارت (سارة)
عصبية جدا في الأيام الأخيرة.
في اليوم التالي، اصطحبت
سارة معي إلى المجمع التجاري، رغم أنها رفضت في البداية، وتعذرت بأنها مشغولة بشئ
ما، ولكنني أصررت على اصطحابها، فقد تغيرت (سارة) بشكل كبير في الفترة الأخيرة،
فقد قل نشاطها بشدة، فأصبحت تغادر غرفتها بالكاد، لهذا وجدتها فرصة مناسبة لنستعيد
نشاط الأم وإبنتها مجددا، بعد أن تعطل ذلك تماما بعد حادثة عمتي (إليزابيث) ... لم
ينجح ماسعيت له في ذلك اليوم، فقد كانت (سارة) عصبية للغاية، ومتوترة طوال الوقت،
حتى أنها رفضت أن تتذوق أي طعام، أو شراب، ورفضت أيضا دخول (السينما)، وتجربة الثياب
و(الإكسسوارات) المعروضة في المحال كما كانت تحب من قبل، حتى مثلجات الفستق التي تعشقها
منذ طفولتها رفضت تناولها بحدة، وألقت بها في صندوق النفايات ... في النهاية لم
أجد بدا من إنهاء تلك النزهة السمجة، والعودة إلى المنزل.
-
إنها ملعونة ... إنها تحمل قلادة الدم!
صدرت تلك الكلمات من
أمراة كانت ترتدي ثيابا سوداء، رأتنا في المجمع التجاري، فأقبلت نحونا، وهي تشير بسبابتها
نحو (سارة)، والقلادة التي ترتديها ... كانت المرأة تصرخ، وتصيح، وتردد تلك
الكلمات في أثرنا، قبضت على يد (سارة) وأسرعت الخطى مبتعدة، فلحقت بنا تلك المرأة
ولاحقتنا بكلماتها السخيفة، كنت أشعر بخجل شديد، فالناس قد بدأت تتجمع، وتتابع ما
يحدث بفضول ... توقفت بغضب والتفت إلى المرأة، وصرخت في وجهها:
-
إرحلي أيتها اللعينة.
حدقت المرأة في وجهي
للحظات، ثم تمتمت في أذني بصوت خافت، يحمل لهجة متعاطفة:
-
احذري، إنها ترتدي قلادة السائرين نهارا، كي لا تفضح
أشعة الشمس السر الذي تخفيه، إنها تحمل لعنة الدم بالتأكيد.
ثم ابتعدت في خطوات
سريعة وهي تتلفت خلفها، وتحدق (سارة) بنظرات كارهة.
***
قال (جاك) في محاولة
لتحليل ما سمعه:
-
هناك تغيرات طرأت على إبنتك، تغيرات سريعة ومناقضة
لطبيعتها، هل فكرت حينها في زيارة طبيب؟
-
لا لم أفعل، فقد تسارعت الأحداث كثيرا بعد ذلك.
صمتت لحظة ثم اردفت:
-
لقد كنت أطمئن نفسي بأن ما يحدث هو مجرد إرهاصات لفترة
المراهقة التي تعيشها (سارة).
-
وهل فكرت في المخدرات؟
-
لا لم يخطر على بالي أي شئ سئ بخصوص (سارة)، طفلتي
البريئة ... لقد كنت حمقاء، أعرف ذلك الآن.
***
بعد أيام دق جرس
الباب، وعندما فتحت، طالعني الكابتن (بيتر) أكبر أبناء عمتي (إليزابيث)، والذي
يعمل محققا في الشرطة، لم أره منذ العزاء، بادرني (بيتر) قائلا:
-
كيف حالك يا (ليلى)؟.. كنت أريد أن أتحدث إليك في موضوع
ما.
-
بالتأكيد، تفضل ... هل طرأ جديد في قضية عمتي؟
-
تقرير الطبيب الشرعي يتحدث عن آثار أنياب حادة تخترق الوريد
العنقي، وآثار لحمض نووي بشري مجهول، وأن السبب الرئيسي للوفاةهو فقر الدم الحاد.
تذكرت ما رأيته من
ثقب الباب في تلك الليلة، وذلك الشخص الغامض الذي كان يجثم على صدر عمتي (إليزابيث)،
هل كان يمتص رحيق الحياة من عنقها، قلت بصوت مبحوح:
-
وكأنك تتحدث عن مصاص دماء!؟
ابتسم في مرارة وهو
يقول:
-
أجل، الأساطير والقصص التي كان يخيفوننا بها في الطفولة،
تتحول الآن إلى حقيقة مرعبة.
صمت للحظة، ثم أردف:
-
ولكن هذا ليس السبب في مجيئي الآن.
قلت في دهشة:
-
وما السبب إذا!؟
-
(سارة).
صحت بقلق:
-
ما بها!؟
أشار بيده لطمأنتي،
وهو يقول:
-
هي بخير، إطمئني.
ثم أردف بصوت خافت:
-
على ما أعتقد.
-
ما الذي يحدث يا (بيتر)!؟ أخبرني أرجوك.
زفر بحدة، وهو يقول:
-
لقد أخبرني صديقي المحقق الذي يعمل على قضية أمي، أن
المخبر الذي وضعه لمراقبة منزلكم على أمل أن يظهر القاتل، لاحظ ...
صمت للحظة، فأشرت له
بيدي بعصبية، لأحثه على الاسترسال:
-
لاحظ أن (سارة) تتسلل من المنزل ليلا.
-
ماذا؟
-
وليس ذلك فقط، لقد حاول المخبر ملاحقتها أكثر من مرة،
ولكنها كانت تنجح في الهرب والاختفاء منه في كل مرة ... يقول المخبر أنها شبح أو
شيطان، ففي لحظة تكون أمامه، وفي اللحظة التالية تختفي كالعدم في ظلمة الليل.
كنت أحدق في وجه
بذهول، فألقى في وجهي القنبلة الأخيرة:
-
في كل ليلة خرجت فيها إبنتك، سقطت فيها ضحية جديدة!
صرخت في وجهه:
-
ماذا تقول!؟ هل تعني أن طفلتي قاتلة!؟ ... أنت مجنون!
قاطعني بسؤال، ارتج
علي:
-
هل تأكل إبنتك أو تشرب في الأيام الأخيرة؟
أخذت المشاهد تتلاحق
في مخيلتي، بالفعل كانت (سارة) ترفض أن تأكل معنا، وكانت تأخذ الطعام إلى غرفتها على
غير عادتها في الفترة الأخيرة، قاطع أفكاري بسؤال جديد:
-
هل تذهب إبنتك إلى المدرسة؟
-
أجل بالطبع؟
أنا أذهب للعمل مبكرا
وأعود في وقت متأخر من اليوم، فأجد (سارة) في غرفتها، اعتادت (سارة) أن تذهب
للمدرسة وحدها سيرا، فالمدرسة ليست بعيدة عن المنزل، وكذلك تفعل في العودة، قال (بيتر)
مقاطعا أفكاري مجددا:
-
إبنتك لا تذهب للمدرسة منذ أسبوعين، يمكنك أن تسألي في
المدرسة لتتأكدي.
شعرت بالدوار
والغثيان فسقطت على الأريكة، كنت عاجزة تماما عن النطق، لا استطيع أن أصدق أي شئ
على صغيرتي (سارة)، ولكنني أشعر بأن هناك خطبا ما، توجه (بيتر) إلى الباب وهو
يقول:
-
سيأتي المحققون للتحقيق معها غدا، آثرت أن أخبرك بنفسي
حتى لا تتعرضين لصدمة.
***
في الليل توجهت إلى
غرفة (سارة)، كانت نائمة في فراشها، اقتربت منها بعينين حمراوين من أثر البكاء
نهارا بأكمله ... كانت قد دفعت الغطاء بقدميها إلى آخر الفراش فقررت أن أغطيها
مجددا كالعادة، لمحت القلادة اللعينة معلقة على صدرها، مددت يدي بعفوية لأخلعها،
فقبضت على ساعدي بقوة آلمتني، وفتحت عينيها ببطأ، وهي تقول بصوت رقيع لم أسمعه
يخرج من حنجرتها من قبل:
-
هاها، هل تظنين أنني لم أسمع حديثك مع العم (بيتر) صباح
اليوم، لقد سمعت كل شئ.
انقلبت مقلتا عينيها،
وتحولتا إلى كرتين من السواد، فصرخت في وجهها، وأنا أحاول انتزاع ساعدي من قبضتها:
-
ما أنت!؟ أنت لست إبنتي (سارة).
أجابت بضحكة شيطانية
ساخرة:
-
حقا.
أخير خلصت ساعدي من
قبضتها، وتوجهت بسرعة ناحية باب الغرفة، فوجدتها أمامي تسد الطريق، كيف استطاعت
النهوض والوصول لهذا المكان بتلك السرعة، أجفلت بشدة وتراجعت للخلف، فتقدمت مني،
تحاصرني في ركن من الغرف، رائحة شعرها وجسدها تبعث الخدر في جسدي، أعجز عن الهرب
أو المقاومة، تمد رأسها نحو عنقي، ملامح وجهها تتبدل إلى ملامح أخرى مرعبة،
شيطانية، تذكرني بذلك الوجه المرسوم على القلادة، أرى انيابها تستطيل، أعرف أنها
ستغرسها في عنقي بعد لحظة، حاولت المقاومة، ولكن ذلك الخدر يجعلني خائرة، كأنني في
حلم من تلك الأحلام التي يتابع فيها الإنسان نفسه من مقعد المشاهد، وهو عاجز تماما
عن أن يأتي بأي ردة فعل ... تقترب الأنياب الحادة من عنقي، فجأة يقتحم زوجي
الغرفة، وهو يوجه بندقية الصيد، تجاه ذلك الشيطان الذي يتقمص جسد (سارة)، وهو يصرخ
قائلا:
-
تراجعي أيتها الشيطانة!
اللحظات التالية كانت
رهيبة للغاية، كلما تذكرتها انتصب شعر رأسي، وسرت تلك القشعريرة الباردة في أوصالي،
وارتعد جسدي وروحي كأنما أصيبا بصاعقة كهربية ... فقد قفزت تلك الشيطانة إلى السقف
وتعلقت به كالعنكبوت، رأسا على عقب، كان رجليها قد تحورا بشكل مرعب، وانحنى مفصلي ركبتيهما للخلف مثل أقدام الطيور
والحشرات، كان شعرها منتصبا فوق رأسها، وازدادت ملامح وجهها قبحا ورعبا ... وجه
زوجي البندقية إلى تلك الشيطانة التي أخذت تعدو على السقف والجدران بأطرافها
المرعبة، المتحورة، بسرعة كبيرة:
-
طاااااخ.
أطلق زوجي رصاصة من
بندقيته لم تصب هدفها، فصرخت به:
-
لا تفعل، إنها (سارة).
أرتج على زوجي، وخفض
بندقيته، كانت تلك اللحظات كافية لتلك الشيطانة كي تقفز من مكانها، وتحط خلفي،
قبضت على جسدي بزراعيها بقوة كالكلابات، حاولت المقاومة دون جدوى، وجه زوجي
البندقية مرة أخرى ولكنه كان عاجزا عن استخدامها حتى لا يصيبني ... قبضت تلك
الشيطانة بيدها على شعر رأسي وجذبته بشدة، لتكشف عن رقبتي ... كنت أحرك يدي بحركات
عشوائية في محاولات يائسة لدفع أنيابها بعيدا عن وريدي الوداجي، فاصطدمت يدي
بالقلادة الشيطانية المعلقة على صدرها، فجذبتها بحدة، فخلعتها، أطلقت تلك الشيطانة
صرخة حادة مزقت طبلتي أذني، ثم سقطت على الأرض، وقد تبدلت ملامحها إلى ملامح
(سارة) مرة أخرى، ولكنها كانت شاحبة، وغائبة عن الوعي، وقد همدت حركتها تماما،
وهناك ثقبين داميين في رقبتها، أراهما الآن للمرة الأولى ... اقترب زوجي بحذر
ليتفحصها، قبل أن ينظر لي بأسى، وقد رسم الحزن ملامحه على وجهه، وهو يقول:
-
لقد ماتت ... (سارة) ماتت.
***
قال (جاك):
-
هل ماتت حقا!؟
أجابت (ليلى) وقد
عاودت الدموع سريانها على وجنتيها:
-
أجل ماتت ... والغريب أن الطبيب الشرعي بعد فحصه للجثة، لم
يصدق أن صاحبتها قد ماتت لتوها، فحالة الجثة تنبئ بأن صاحبتها قد ماتت قبل ذلك بأسبوعين،
أو أكثر!
-
عجبا ... وماذا فعلتم بعد ذلك!؟
-
لا شئ! ماذا يمكننا أن نفعل؟
-
وماذا عن القلادة؟
-
بحثت عنها كثيرا فيما بعد، ولكنني لم أجدها؟
صمتت (ليلى) لبرهة،
ثم عاودت حديثها قائلة:
-
لقد كان ذلك منذ شهور ... كانت الصدمة رهيبة، لم أنجح
أنا أو أباها في تقبلها، أو احتمالها، وأصبنا بحالة شديدة من الاكتئاب، هل تفهم
صعوبة أن يتلقى أب، وأم العزاء في صغيرتهم الوحيدة؟.. وليت الأمر انتهى عند ذلك،
فالشياطين اللعينة لم ترحم إبنتي في حياتها، ولا بعد موتها.
ردد (جاك) الكلمات
الأخيرة في دهشة:
-
بعد موتها ... ماذا تقصدين!؟
-
بعد أربعين يوما من موت (سارة)، ودفنها في مقابر عائلة
زوجي، اتصل اللحاد به، وأخبره، أن هناك من نبش قبر (سارة)، وسرق جثمانها منه.
دخلت (ليلى) في نوبة
بكاء جديدة، وهي تقول بكلمات غير واضحة بأثر البكاء:
-
(سارة) المسكينة ... أكاد أجن، بل أنني جننت بالفعل،
أتخيل في الليل أنني أسمع صوتها، وأراها تقف في حديقة المنزل أو خارج نافذتي ... بالتأكيد
ماتت وهي غاضبة مني وناقمة علي، لآنني لم أساعدها وأقف بجانبها كما كنت أعدها
دائما ... حتى أن زوجي لم يحتمل صراخي، وبكائي الذي لا ينقطع، وطلب مني أن أسافر
إلى بيت أمي في الجنوب حتى تهدء أعصابي.
ربت (جاك) على كتف
(ليلى)، وهو يحاول تهدئتها، فقد احتدت نوبة بكائها وتعالى صوتها بشدة ... احتاجت
(ليلى) لدقائق حتى تستعيد رباطة جأشها، أسندت رأسها إلى المقعد، وشكرت (جاك) على
تعاطفه معها ... كان (جاك) ما زال يحاول هضم ما سمعه، يعلم يقينا إن (ليلى) مريضة
بالهلاوس أو الفصام، أو كلاهما، فهي تتحدث عن أشياء من خارج هذا العالم، هو لم
يحاول أن يعارضها فقد يؤدي ذلك إلى نتيجة سيئة ... أخرج (جاك) بطاقته المهنية ومنحها
(لليلى) وهو يقول:
-
هذه بطاقتي، إذا كان لديك وقت فحاولي أن تمري علي في
عيادتي، يمكنني مساعدتك.
التقطت (ليلى) منه
البطاقة شاكرة، وقد أراحها كثيرا أن حكت قصتها، وتخلصت من بعض ما ينوء به كاهلها
... استأذن (جاك) من (ليلى) بأنه عليه التوجه إلى دورة المياة، خرج من الغرفة
وأغلق الباب خلفه وهو يومئ (ليلى) برأسه مشجعا ... تمتم (جاك) وهو يسير في الممر
متوجها إلى دورة المياة في العربة الأخيرة من القطار:
-
يالحظي ... حتى في الإجازة أتعثر في المرضى النفسيين ...
العالم أصبح ممتلئ عن آخره بالمجانيين.
اصطدم (جاك) بتلك
الفتاة التي كانت قادمة من الجهة العكسية من آخر الممر، وهي ترتدي ملابس النوم،
اعتذر لها (جاك) فلم تجب، فمط هذا الأخير شفتيه ثم دخل دورة المياة.
غسل (جاك) وجهه
بدفقات من الماء البارد، وهو ينظر في المرآة إلى عينيه الحمراوين من الإجهاد، جالت
بخاطرة القصة التي روتها (ليلى)، عن إبنتها (سارة) التي تحولت إلى شيطانة، وتلك
القلادة الملعونة، فجأة جحظت عينا (جاك)، وارتسم الذعر على وجهه، وهو يتذكر ملامح
تلك الفتاة التي اصطدمت به في الممر، وتلك القلادة المرعبة التي كانت معلقة على
صدرها، يتذكر الآن أن تلك الفتاة كانت متوجهة ناحية غرفة القطار التي بها (ليلى)
... خرج (جاك) بسرعة من دورة المياة، وانطلق يعدو في الممر ... عندما اقترب، لمح
باب الغرفة مفتوحا، ومن الباب المفتوح رأى (ليلى) مسجاة على الأرض، بعينين مفتوحتين،
تحدقان نحو الفراغ، ووجه شاحب لا تبدو فيه أثار الحياة ... دلف (جاك) إلى الغرفة
بسرعة، وأقعى على جسد (ليلى) يتفحصه، قبل أن يرتسم الأسف على وجهه، بعد ان تأكد من
أن الحياة قد فارقت جسدها، فحص عنقها فوجد فيه ثقبين غائرين، يقطران ببعض قطرات
الدماء ... صرخ (جاك) في إحباط:
-
اللعنة ... لقد كانت صادقة.
فجاة سقط شئ ما من سقف
الغرفة على أنف (جاك)، تبدو كقطرة ماء ... فركها بين إبهامه وسبابته، وتفحصها قبل
أن يكتشف أنها قطرة دماء دافئة ... عندما سقطت القطرة الثانية، وجه (جاك) ناظريه نحو
السقف، فصعقه مشهد تلك الفتاة المعلقة عليه رأسا على عقب، فوقه تماما، وملامحها
الشيطانية، وشعرها المنتصب، وعينيها السوداوين كقلب الشيطان، وتلك الابتسامة
المرعبة التي أبرزت أنيابها التي تقطر بدماء (ليلى) ... حاول (جاك) أن ينطق بأي
كلمة، ولكن تلك الشيطانة لم تمهله، وانقضت عليه بقوة كالضواري.
.. (تمت) ..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق