ملامحي الطفولية،
وطبيعتي الخجولة، وجسدي النحيل، وصوتي الخافت، وعيناي المنكسرتان والمطرقتان دائما
نحو الأرض، كلها علامات لا تخفى على الفتيات المتنمرات في مدرستي، علامات تشي بأني
فريسة وضحية نموذجية لهجماتهن العاتية ... الشئ الوحيد الذي يمنعهن عني هو صديقتي
الوحيدة، وجارتي، وتوأم روحي، فهي على النقيض مني تماما بجرأتها وقامتها الممشوقة،
وجسدها القوي، الرياضي، وملامحها الأنثوية رغم صغر عمرنا، وقدرتها الخاصة على
إسكات المتنمرات، وإخراسهن، بل والنيل منهن أمام الجميع إذا تطلب الأمر ... أنا في
أمان طالما أنا معها وفي حمايتها ...
في كل صباح، تمر علي
صديقتي لنتوجه معا إلى المدرسة، ونحن ننوء بثقل حقائبنا المدرسية الممتلأة عن
آخرها بالكتب، والدفاتر الدراسية، فمدرستنا العتيقة مازالت تتبع الوسائل التعليمية
التقليدية، وكذا كل شئ في بلدتنا البعيدة، المتطرفة، وأهلها الذي تشعر من ملابسهم،
وتصرفاتهم بأنهم خرجوا مباشرة من الكتب الكلاسيكية القديمة، أما عن التقنيات والوسائل
المعاصرة فيبدو أنها ضلت الطريق إلى بلدتنا، وعجزت تماما عن الوصول إليها وإلى
أهلها ... يقطع طريقنا إلى المدرسة غابة وارفة الأشجار، نعبرها أنا وصديقتي لنختصر
بذلك أكثر من ساعةمن الزمنمقارنة بالطريق الرئيسي، الممهد الذي يدور حول الغابة
... في الواقع هذا الطريق المختصر لم يعن يوما الوصول باكرا إلى المدرسة، فتلك
الساعة التي وفرناها كنا نستهلكها في اللعب والعبث داخل الغابة، كنا نعدو، ونتسلق
الأشجار، ونلعب الغميضة، ونتسابق في جمع الفطر والأحجار الجميلة وبيض الطيور، أما
لعبتنا المفضلة فكانت لعبة (ذات الرداء الأحمر)، كانت صديقتي تخرج من جعبتها وشاحا
أحمر اللون، وتلفه حول عنقي، ثم تعدو لتختفي بين الأشجار و الآجام، قبل أن يرتفع
صوتها مقلدا صوت الذئب:
-
عووووووووو ...
فأمثل أني مرعوبة،
وأنا أتلفت حولي، وأنا أصيح بصوت مسرحي مرتفع:
-
ما هذا!؟ أنا خائفة، لقد أخطأت بتجاهلي لكلام أمي، عندما
نصحتني بأن أتوجه مباشرة إلى جدتي ...
تصيح صديقتي من
مخبأها خلف الأشجار، بصوت غليظ، متحشرج:
-
من أنت يا فتاة؟ وما الذي جاء بك إلى هنا؟
-
اسمي (ذات الرداء الأحمر)، وأنا ذاهبة بالطعام إلى جدتي!
يسود الصمت للحظات،
ثم تقفز صديقتي من مخبأها بين الأشجار، وهي تغطي وجهها بوشاح أبيض شفاف يغطي
ملامحها، ولكن لا يخفيها بشكل كامل، وهي تقول:
-
أنا جدتك أيتها الصغيرة.
ثم تشير إلى حقيبتي
المدرسية، وهي تقول:
-
هيا ناوليني سلة الطعام.
فأعطيها الحقيبة،
وأنا أحدق في ملامحها أسفل الوشاح، قبل أن أسألها بسذاجة مبالغ فيها:
-
لماذا تبدو عيناك أكبر ياجدتي!؟
-
حتى أراك بصورة جيدة يا طفلتي.
-
لماذا كبرت أذناك يا جدتي!؟
-
حتى أسمعك بهما جيدا!؟
-
ولماذا تبرز أسنانك بتلك الطريقة!؟
فتصمت لثوان ثم تزيل
الوشاح، وتكشر عن أسنانها، وترسم ملامح مرعبة على وجهها وهي تقول:
-
حتى آكلك بهم.
وتبدء المطاردة، أنا
أدعي الخوف، وأحاول الهرب، وهي تمثل دور الذئب الشره الذي يلاحق فريسته ... ونستمر
في الجري واللعب حتى نتعب، فنسقط على الأرض، ونتمدد على العشب، نحن نقهقه، ونلهث،
ونتبادل الدعابات، طفلتان سعيدتان، راضيتان عن الحياة، تعلو ضحكاتهما حتى تطال السماء ...
***
متى أتخذت الأمور
منعطفا مروعا، وحزينا، كان ذلك بعد شهور عندما أصابني داء (الحصبة)، فوجدت نفسي
أسيرة غرفتي لثلاثة أسابيع كاملة، لا أخرج منها أبدا ، ولا أنال من الزيارات إلا
القليل، بسبب مرضي المعدي ... في تلك الأسابيع الثلاث كانت صديقتي تذهب للمدرسة
وحدها كل صباح، أما المساء فكانت فتقضيه معي في محادثة هاتفية تطول لساعات، تحكي فيها
عن كل كبيرة وصغيرة حدثت لها في يومها، كانت دائما تخبرتني أنها تشعر بالملل
والضيق، وأنها لا تجد من تلعب معه، حتى أنها صارت تصل مبكرا للمدرسة، فما عادت لها
رغبة في التسكع من دوني، وفي كل مرة كانت تنهي محادثتنا بالدعاء لي، وتشجيعي على
التعافي سريعا، حتى نعود لألعابنا الأثيرة في الغابة ...
في تلك الأمسية، سمعت
صوت أم صديقتي في منزلنا، كانت منهارة وتبكي بحرقة، كانت تقول أنها خائفة على إبنتها
التي غادرت المدرسة ولكنها لم تعد إلى المنزل حتى الآن، كانت تشعر بالخوف والقلق الشديدين
عليها ... صدمني ما سمعته، فغادرت غرفتي
رغم تعليمات الطبيب، وأسرعت إلى أم صديقتي لأفهم منها ماحدث، وأنا أرتعد من المرض،
وأرتعد أكثر خوفا وقلقا على صديقتي ...
خرج والدي، ووالدها، ورجال البلدة جميعا بحثا عنها، وكل ساعة كان أحدهم يعود ويسألنا
هل عادت أم لا!؟ وهذا يعني أنهم فشلوا في العثور عليها، كانت قلوبنا ترتجف،
وأعصابنا تحترق، مع كل لحظة تمر ولا نعرف فيها خبر صديقتي الغائبة، بكينا كثيرا،
وكانت كل محاولتنا لطمأنة بعضنا البعض تبدو ركيكة، وهزيلة، وغير منطقية، وبدأ
اليأس يتسرب إلى باطننا ... وعند منتصف الليل عاد بها الرجال، عادوا بها جثة
هامدة، بعد أن عثروا عليها ملقاة في حفرة على جانب الطريق السريع، مغطاة بفروع
الأشجار وأوراقها، بعد أن قتلت، ودق عنقها بفعل فاعل، هو نفسه ذلك الفاعل الذي
ألقاها في تلك الحفرة ...
لا أتذكر ما حدث لي
بعدما سمعت بذلك الخبر، صرخة واحدة، غبت بعدها عن الوعي مباشرة، ودخلت في حالة
مرضية ، ضاعف من بأسها مرضي، مع حزني ولوعتي على صديقتي، كنت استيقظ، فأتذكر
ماحدث، فأدخل في نوبة هستيرية من الصراخ والبكاء، تنتهي بي فاقدة للوعي من جديد!..
استمرت تلك الحالة معي لأسبوع كامل، بدأت بعدها صحتي تتحسن قليلا، وإن استمرت
نفسيتي المحطمة على حالها ... أصبح الحزن والاكتئاب رفيقاي الدائمين، وأصبح البكاء
والدموع جزء لا يتجزء من ملامح وجهي، شهرين آخرين قضيتهما في منزلي على تلك الحالة
لا أقوى على مغادرته ... الآن أعرف القصة كاملة بعض أن قبضت الشرطة على الفاعلين
الملاعين، ثلاثة من الشباب العابث من بلدة مجاورة، كانوا في حالة سكر أو تحت تأثير
المخدرات، وهم يقودون سيارتهم بتهور على الطريق السريع في نفس الوقت الذي كانت
تعبره صديقتي لسوء حظها، أوقفوا السيارة، ونزلوا منها وحاولوا التحرش بصديقتي
والاعتداء عليها، بعد أن جذبهم جمالها وملامحها الأنثوية التي يحسدها عليهما
الجميع واللذان تحولا إلى نقمة عليها في تلك اللحظة ... قاومتهم صديقتي بشجاعة وجرأة
حتى أعجزتهم، عندها قتلوها وألقوا بجسدها على جانب الطريق وفروا بسيارتهم ... الآن
قبضت عليهم الشرطة ويحاكمون، وسيعلقون على المشانق قريبا، لو لم تحجزهم الشرطة
بعيدا عن أهل بلدتنا لمزقناهم أربا، وأحرقنا أشلاءهم ... فتلك الجريمة كانت جديدة
على بلدتنا الآمنة، إنها من الأشياء الحديثة اللعينة التي جلبها التقدم والمعاصرة معهما...
اللعنة على كليهما!
***
مرت الشهور ، واقترب
العام الدراسي من نهايته، ولكني لم أتعاف أبدا مما حدث، كان الجميع يشعرون بالشفقة
تجاهي، حتى الفتيات المتنمرات كان حزني أقوى من رغباتهم الشريرة في تعذيبي، هجرت
الجميع، وصرت وحيدة، ومنعزلة، وقليلة الكلام والمشتركة أكثر مما كنت، حتى أصبحت أيقونة البلدة الحزينة
التي لا يوجد شئ في هذه الدنيا يمكن أن يسعدها ... في البداية كانت أمي تصطحبني
إلى المدرسة في الصباح، وتأتي في المساء لتعيدني إلى المنزل، ولكن بعد فترة قررت
أن أذهب إلى المدرسة وحدي، حتى لا أحمل أمي بما لا طاقة لها به، ... كنت أمر
بالغابة فينعصر قلبي بذكريات هذا المكان مع صديقتي ، وتزرف عيناي بعض العبرات، ثم
ابتعد واتخذ الطريق الطويل الذي يلتف حول الغابة ... حتى كان آخر يوم في العام
الدراسي، وجدت شيئا ما يدفعني لاجتياز الطريق المختصر عبر الغابة ... كل شجرة وكل
صخرة وكل مجرى مائي، كلها تذكرني بلحظة من لحظات الهناء مع صديقتي، ورغم كونها ذكرى
طيبة، إلا أنها كانت تجلب معها ذكرى مقيتة عن تلك اللحظة التي عرفت فيها بمقتل
صديقتي، وهذا ينشط خيالي اللعين الذي يبدأ في بث فيض من الخيالات الرهيبة التي
تمزق باطني عن الرعب الذي عاشته صديقتي في لحظات حياتها الأخيرة، ومقاومتها للقتلة
الملاعين من أجل عفتها، قبل أن يدق عنقها أحدهم، ويلقي بها على الأرض بعد لفظت آخر
أنفاسها ...
-
عوووووووووووو
قطع ذلك الصوت المفاجئ
حبل الأفكار والذكريات ... إنه ليس صوت ذئب، أنه يبدو أكثر كصوت شخص يحاول تقليد
صوت الذئب ... انتصب شعر رأسي عندما تردد الصوت ثانية، إن من يطلق ذلك الصوت يقلد
صوت صديقتي عندما كنا نلعب لعبة (ذات الرداء الأحمر) ... شعرت بالقشعريرة تسري في
جسدي، وبأطرافي تتجمد من الرعب، بدأت أتراجع للخلف ، ثم استدرت على عقبي، وعدوت بأقصى
سرعة في الاتجاه المضاد للذي جاء منه
الصوت، قبل أن أتوقف بذعر، ويرتج علي، عندما جاء الصوت مرة أخرى ولكن تلك المرة
جاء من الاتجاه الذي أعدو إليه:
-
عوووووووووووووووووووو
هل أنا محاصرة بأكثر
من شخص يحاولون إرعابي، هل هم المتنمرات قرروا أخيرا النيل مني!؟ أم أنا على وشك
التعرض لما تعرضت له صديقتي، وأقتل على يد بعض العابثين ... هناك جاءني ذلك الصوت
الغليظ المتحشرج الذي أعرفه جيدا:
-
من أنت يا فتاة؟ وما الذي جاء بك إلى هنا؟
لم أنطق بحرف واحد، وأخذت
ألهث بجنون وأنا أحدق في الشجيرات والآجام التي تهتز، فجاءني نفس الصوت من خلفها:
-
أنت (ذات الرداء الأحمر)، وبالتأكيد ذاهبة كعادتك
بالطعام إلى جدتك!
صرخت بفزع:
-
من أنت!؟ وماذا تريد مني!؟
هنا انشقت الشجيرات
وخرجت من خلفها فتاة في ملابس أعرفها، تضع على وجهها وشاحا أبيضا يغطي ملامحها، ثم قالت بنفس
الصوت ... صوت صديقتي المقتولة:
-
ألا تعرفينني ياطفلتي!؟
نطقت باسمها وقد تحول
ذعري إلى هستيريا جنونية، وغامت المرئيات أمام عيني، فأجابتني:
-
لا أنا جدتك ياصغيرتي!؟
ثم خلعت الوشاح الذي
يخفي وجهها، فرأيت تحته وجه صديقتي الميتة، إنه كما أذكره في آخر مرة رأيتها،
ولكنه الآن شاحبة كأن وجهها مغطى بالجير الأبيض، تكسو شفتاها زرقة الموت، وذلك
السواد الذي يحيط بعينيها، رأسها يتدلى على صدرها بشكل مرعب بسبب عنقها الذي دق
لحظة موتها ... تقدمت نحوي، فصرخت برعب، وحاولت التراجع، ولكن جسدي كان مشلولا
تماما، قلبي يؤلمني وهو ينبض بجنون، أشهق في جشع محاولة سحب بعض ذرات الأوكسجين
إلى جسدي المنهك، الضعيف، ولكني لا استطيع، قواي تخور تماما، فأسقط على الأرض، وقد
بدأت الأشياء تتراقص وتغيم أمام عيني، لمحتها تتقدم مني أكثر وهي تتكلم بصوت لا
أسمعه، ولكني أشعر أنها تحاول طمأنتني ... فجأة اختفى الألم، وتبدل الخوف في لحظة
واحدة بطمأنينة ورضا، قلبي لم يعد ينبض بقوة، بل لم يعد ينبض من الأساس، فكرة
واحدة سيطرت على عقلي في اللحظات الأخيرة، فكرة أشعرتني بالراحة وهي أن شملي قد
اجتمع مجددا بصديقتي التي أفتقدتها، ثم توقف كل شئ،توقف للأبد ...
***
بعد عشرة سنوات ... اقتربت
من الغابة مجموعة من (اللوادر) والجرارات والحصادات الضخمة، عليها عدد كبير من
العمال في ملابسهم البرتقالية، وقبعات الحماية الصفراء الصلبة، في الجرار الأمامي،
تحدث السائق إلى الشاب الذي بجلس بجواره:
-
مرة أخرى يزيلون غابة قديمة، ويقيمون محلها مركزا
تجاريا، ومجمع سكني ضخم بكامل المرفقات!.. هذا ينقل بلدتكم العتيقة إلى موقع جديد
ويغير حياتكم بالكامل، في النهاية تدور العجلة ولا تتوقف، وينتصر التقدم، ويستبدل
القديم بالحديث والمعاصر.
أومأ الثاني وهو من
أهل البلدة برأسه، وبدا على وجهه أنه غير
مقتنع بما يقوله السائق، الذي عاد يسأله بلهجة ساخرة:
-
هل صحيح ما يحكونة عن تلك الغابة!؟
أجاب الثاني بضيق:
-
وماذا يقولون!؟
-
يقولون أن فتاتين قتلتا في ذلك المكان، وأن أرواحهما
تهيمان فيه منذ ذلك الوقت.
زفر الثاني وهو يقول:
-
أجل هذا صحيح ... ومعظم أهل القرية سمع غنائهما في
الليالي القمرية الباردة.
حدق السائق في وجهه،
قبل أن يسأله:
-
وماذا كانا يغنيان!؟
زفر الشاب زفره
طويلة، وهو يقول في نفس اللحظة التي بدأت الحصادات في جز أول الأشجار:
-
أغنيات طفولية من قصة (ذات الرداء الأحمر) ...
.. (تمت) ..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق