ملخص ما سبق ... أحداث غامضة ومرعبة،
عن طبيب يجد نفسه في مواجهة مع مريضه بعد موته بساعات قليلة ... وعن حارس المقابر
الذي يطارد شبحا يحسبه لصا ينتهك حرمة المقابر، قبل أن تسحبه يد قوية بعنف إلى
داخل أحد القبور المفتوحة ... وعن شاب يهاجم عامل في محطة بنزين، ثم ينهار ويسقط
ميتا، لتأتي بعدها المفاجأة من الطبيب الشرعي، عندما يعلن أن صاحب تلك الجثة مات
منذ ثلاثة أيام كاملة ... كل هذا يدفع النقيب (محسن) لاستشارة خاله الدكتور (كمال
عثمان) أستاذ الأدب والفلسفة، وخبير الماورائيات الشهير.
...
حدق النقيب (محسن) بذعر في طبق
البازلاء الذي وضعه أمامه الدكتور (كمال عثمان)، وهو يدعوه لتناوله:
-
تفضل بالهناء والشفاء ... لقد طهوته لك بنفسي.
كان الطبق يحوي أشياء غامضة سوداء
اللون تسبح فوق سائل أخضر هلامي، سميك القوام، وله رائحه حريفة، ونفاذة تزكم الأنف
والعقل ... تردد النقيب (محسن) للحظات، فحثه خاله على تذوقه، فالتقط بعض السائل
على طرف ملعقته، وقربه من فمه بحذر، وكتم أنفاسه وهو يدسه فيه، ويبتلعه بصعوبة
هائلة، كان طعمه أسوء كثيرا من شكله ورائحته، حينها سأله خاله الدكتور (كمال):
-
ما رأيك في طهوي!؟
قال كاذبا:
-
رائع!
-
أتعلم أن هذه هي أول مرة أطهو فيها طعاما منذ عشرة سنين
كاملة!
حدث النقيب (محسن) نفسه في مخيلته، ولم
ينطق بها:
-
أنه كان من الأفضل للبشرية أن تستمر لعشرين أو ثلاثين
سنة أخرى دون طهو ...
واصل الدكتور (كمال) دعوته لإبن أخته
بمواصلة تناول الطعام، فوجد النقيب (محسن) أنه عليه أن يشغل خاله بأي شئ، حتى
يتخلص من هذه البازلاء الشريرة، حتى ولو صبها في جيب بنطاله، فقال له:
-
لم تخبرني بعد برأيك في هذه القضية يادكتور.
نهض الدكتور (كمال) من على طاولة
الطعام، وأخذ يسير في المكان جيئة، وذهابا، وهو يلمع عويناته بقطعه من النسيج، تلك
الحركة العصبية التي يفعلها لاإراديا عندما ينشغل عقله بالتفكير في أمر ما، ثم قال:
-
ميت يسير على قدميه، أهذا ما تحاول قوله!؟
أومأ النقيب (محسن) برأسه وهو يجيب:
-
هذا رأي الطبيب الشرعي!
توقف الدكتور (كمال) عن السير، ثم قال:
-
هناك احتمال بين إثنين ... إما أن الطبيب الشرعي أحمق أو
أن هذا الشاب تعرض لهجوم من أحد الكيانات المقتحمة ...
-
أنا أثق في الطبيب الشرعي، ماذا تعني بتلك الأشياء
المقتحمة!؟
تحرك الدكتور (كمال) عائدا، إلى النقيب
(محسن) الذي كان مازال جالسا على طاولة الطعام، وعندما لمح طبق البازلاء الذي
أمامه خاليا، ابتسم برضا، وهو يجيب:
-
حتى أجيبك على هذا السؤال أحتاج أن أعود إلى كتبي
ومراجعي، أما أنت فلديك نقطة لتبدء منها تحرياتك.
-
وما هي!؟
-
ذلك الجندي الذي شارك في اعتقال الشاب واختفى بعدها، إن
كانت الأمور كما أظن واعتقد، فذلك الجندي في خطر وكذا أهله وجيرانه ... حاول أن
تعثر عليه بسرعة.
حيا النقيب (محسن) خاله ووعده بلقاء في
اليوم التالي، وتوجه ناحية باب الفيلا، فاستوقفه الدكتور (كمال)، وهو يناوله آنيه
مغطاة، فسأله النقيب (محسن) بدهشة:
-
ما هذه!؟
-
المزيد من البازلاء، أرى أنها أعجبتك.
***
كولومبيا، منطقة الأنديز، قرية جبلية
بالقرب من ساحل البحر الكاريبي ... حدث غير عادي ومناسبة خاصة ستنعقد بالقرية مساء
الليلة، عدد كبير من الزوار جاؤا لحضور تلك المناسبة، رغم وعورة الطريق إلى تلك
القرية، بينهم ذلك الرجل الأربعيني ذو العوينات، والمعطف الأنيق، والملامح
الشرقية، والشعر الذي بدأ الشيب يتسلل إلى خصلاته في سن مبكر، إنه الدكتور (كمال
عثمان) ولكن قبل عقدين من الزمن، عندما قرر أن يجول الكرة الأرضية ويكتسب المزيد
من الخبرات عن عالم الماورائيات، وأن يلحق بكل خبرة أو تجربة ليتعلم منها حتى لو
كانت في آخر العالم ... الليلة هي ليلة (الفيدامورتا)، وهي الليلة التي سيعيد فيها
ساحر القرية ميتا إلى الحياة، ويجعله يسير من جديد على قدميه، وقد يجعله يتحدث إلى
زوجته وأولاده، ويودعهم ثم يعود إلى قبره! ... يعلم الدكتور (كمال عثمان) أنه لا
أحدا إلا الخالق يمكنه أن يعيد الحياة إلى شخص بعد أن فارقته إلى بارئها، بالتأكيد
هناك خدعة، وهو جاء اليوم، وتكلف عناء السفر والانتقال ليكشف تلك الخدعة أو ليتعلم
درسا جديدا عن الماورائيات...
في منتصف الليل تجمع أهل القرية،
وزائريها، وتوجهوا إلى ساحة القبور، وإلى قبر بعينه يحتوي جسد شخص مات منذ يومين
فقط، وتحلقوا حوله ... وفي وسط الحلقة أشعل الساحر نارا، وأخذ يلقي فيها بقطع
البخور فتصاعد الدخان الملون ذو الرائحة النفاذة ... بدأ الساحر طقوسه وأخذ يتلو
بعض التعاويذ، ويصب بعض السوائل من آنية يحملها على قبر الميت، كانت زوجة الميت
وولديه بين الحضور، وكانت الرهبة والتوتر والخوف تعلوا وجوه الجميع، لقد نجح
الساحر بحركاته المسرحية في تجهيز الجميع لتقبل أي شئ يأتي بعد ذلك ... الشخص
الوحيد الذي لم يتأثر بكل تلك الأشياء هو الدكتور (كمال عثمان) الذي كان يراقب ما
يحدث بعيني صقر ... في تلك اللحظة فتح الساحر جربندة كان يحملها على خصره، فخرج
منها ذلك الكائن الأثيري ، الذي يشبه قنديل البحر بأهدابه التي تتحرك حركة تماوجية،
ورأسه المضئ كالمصباح ... حلق الكائن في الهواء متوجها ناحية القبر، لم يبد أن أحد
من الموجودين في المكان يرى ذلك الكائن، عدا الدكتور (كمال عثمان) الذي كان يراه
بتلك الموهبة الخوارقية التي اكتسبها منذ الصغر، وجعلته يرى ويستشعر أشياء لا يحيط
بها الآخرون، كان الساحر قد بدأ يحرك جسده في رقصة هستيرية، وهو يلهج ببعض الجمل
ذات الإيقاع الموسيقي التي تنتهي جميعا بكلمة (فيدا مورتا)، وكان الوجوم والرعب قد
بلغا من نفوس الحاضرين مبلغه، وهم ينقلون أبصارهم بين الساحر وبين القبر في توتر...
وصل الكائن إلى القبر فغاص مباشرة فيه واختفى داخل التربة الطينية، فصرخ الساحر في
ظفر وتوقف تماما عما كان يفعله، وساد الصمت والترقب لعدة لحظات ... فجأة شقت قبضة
يد معروقة سطح التربة، فانبعثت الشهقات من الحاضرين، وتعالت الصرخات عندما بدأ
الميت يشق طريقة في التربة الطينية خارجا من القبر ... لحظات رهيبة، ومرعبة، البعض
أغشي عليهم بالفعل ومن بينهم زوجة الميت الذي صار الآن خارج قبره، يحدق في
الموجودين بعينين زائغتين، أما البعض الآخر فقد سقط على الأرض من التأثر والرعب
... تحرك الميت ناحية الساحر، الذي أخذ يصرخ في الجميع:
-
هل رأيتم هل رأيتم؟ .. الآن سأعيده من جديد إلى قبره.
مسح الساحر على رأس الميت في حركة
مسرحية، فلمعت عيناه بضوء لم يره الحاضرون، ثم بدأ ذلك الكائن الأثيري يغادر جسده
عبر أذنه اليسرى، وما أن غادر الكائن الأثيري الجسد حتى سقط الميت على الأرض
مباشرة، حلق الكائن الأثيري عائدا إلى جربندة الساحر، الذي أمر الحاضرين بأن
يعيدوا دفن الميت في قبره، وإلا ستنالهم لعناته، وقدراته الرهيبة، التي يجب أن
يتقوها بالتبركات والمنح والهبات، مجرد نصاب آخر يستغل قصر بصر وبصيرة البشر
ليوهمهم بالكذب بأشياء مستحيلة الحدوث من أجل فائدته الشخصية، حقيقة أدركها
الدكتور (كمال عثمان) من اللحظة الأولى، ولكن تلك التجربة كانت إيجابية بالنسبة له،
فقد رأى فيها كائن مقتحم للمرة الأولى في حياته، وكانت بداية للمزيد من الخبرات عن
الكائنات المقتحمة، وقدراتها على اقتحام أجساد البشر، وقدراتها المتفاوتة...
***
دق جرس الباب ففتخت تلك المرأة الشابة الباب،
قبل أن تصيح بدهشة:
-
(صبيح) ... ما الذي جاء بك مبكرا هذا الأسبوع، لم أكن
أتوقع عودتك قبل نهايته ...
ثم حدقت في وجهه وعينيه اللتان بديتا
لها زجاجيتين،وتحملان نظرة قاسية لم تعتدها في زوجها، فسألته بقلق:
-
هل أنت مريض!؟.. أخبرني بالله عليك هل هناك مشكلة في
العمل!؟
تجاوزها إلى داخل المنزل وجلس على
مقعده المفضل في الردهة، فاقتربت منه زوجته وربتت على كتفيه، فلم يبد أنه يشعر
بوجودها من الأساس، فقالت له بصوت قلق:
-
حسنا يا حبيبيى، استرح وسأصنع لك الطعام الذي تحبه، وبعد
أن تأكل سيكون لنا حديثا آخر.
دخلت المرأة إلى المطبخ، وأخذت تعد
بعضا من صنوف الطعام التي يمكن إعدادها بسرعة، والتي يحبها زوجها (صبيح) ويطلبها
منها في العادة، عندما يعود من عمله كجندي في الشرطة في نهاية كل أسبوع ... فجأة
شعرت بذلك الهاجس أن هناك شيئا خلفها، فالتفت بسرعة، فرأت (صبيح) يقف خلفها، ويحدق
فيها بنظرات مرعبة، فصرخت في فزع، ثم بصقت في صدرها كعادة النساء في المناطق
الشعبية عندما يشعرن بالفزع، قبل أن تخاطبه لائمة:
-
(صبيح) لقد أخفتني.
اقترب منها (صبيح) وهو يحمل تلك
النظرات الرهيبة على عينيه، فصاحت بفزع:
-
أنت تخيفني بحق، ما الذي جرى لك!؟
توقفت الكلمات في حلقها، عندما هجم
عليها (صبيح) بعنف وأطبق على رقبتها بأصابعه، وبدأ يخنقها بعنف ...
***
أنهى الدكتور (كمال عثمان) رواية
تجربته الأولى مع الكائنات المقتحمة التي يرويها لإبن أخيه النقيب (محسن) الذي بدا
متأثرا بتلك الرواية، ثم أردف وهو يربت على كتابه الأثير بأوراقه الصفراء المتآكلة
وغلافه المصنوع من الجلد السميك الذي أصابه العفن في بعض أجزائه فأعطاه رائحة قوية
نفاذة رائحة الزمن، وهو يقول:
-
منذ ذلك الحين واجهت تلك الكائنات المقتحمة أكثر من مرة،
وعرفت عنها الكثير من تلك الكتب والمخطوطات، وهي ليست نوعا واحد بعينه بل هي أنواع
متعددة بقدرات مختلفة، بعضها رهيب ومرعب وشرير، وبعضها يمكن السيطرة عليه وتطويعه.
تذكر النقيب (محسن) ما كان خاله يرويه
له دائما عن تلك الأبعاد الموازية التي تحيط بعالمنا وتعيش فيها مخلوقات شريرة
تتوق للنفاذ إلى عالمنا ولا تقدر، إلا في حالات وظروف خاصة فتأتي إلى عالمنا لتعيث
فيه الفساد، هو شخصيا حارب كائنا من تلك العوالم مع خاله كان يسمى (صائد الموتى)،
وكان يهدف إلى جلب جيشا من عالمه إلى عالمنا، ولكنه لم ينجح لحسن الحظ... سأل
النقيب (محسن) خاله:
-
وما الفائدة التي تكتسبها تلك الكائنات من اقتحام
الأجساد البشرية والاستحواذ عليها.
-
بعضها تقتات على طاقة تلك الأجساد، وبعضها تفعل ذلك من
أجل الشر الخالص فقط، وبعضها تفعله حتى تستطيع الاستمرار في هذا العالم الذي لا
يناسب طبيعتها الفيزيفية لفترة أطول.
صمت الدكتور (كمال) للحظات ثم قال:
-
الآن أريد أن أعرف كل ما لديك حتى نستطيع أن نتأكد من
أننا في أثر كائن من تلك الكائنات.
تنحنح النقيب (محسن) والتقط أنفاسه
لثوان ثم قال:
-
التحريات التي أجريتها تمتلأ بالوقائع الغامضة والألغاز،
أولها ذلك الشاب الذي هاجم عامل المحطة، ومات أثناء القبض عليه، عرفنا أنه طبيب
اختفى من المستشفى التي يعمل بها تاركا خلفه لغزا آخر ...
سأله الدكتور (كمال) بفضول:
-
وما هو؟
مط النقيب (محسن) شفتيه وبدا على وجهه
علامات عدم الفهم، وهو يجيب:
-
وجدوا في غرفته جثة مريض مات في نفس اليوم ونقل إلى
مشرحة المستشفى، ولم يعرف أحد لماذا جلب الطبيب تلك الجثة إلى غرفته وتركها هناك.
صمت النقيب (محسن)، فحثه خاله على
الاسترسال، فقال:
-
والأغرب أنهم وجدوا في مشرحة المستشفى نفسها جثة أخرى لم
يعرف أحد كيف جائت إلى المستشفى ووصلت إلى هذا المكان.
سأله الدكتور (كمال) وقد بدأت علامات
الفكر والتركيز ترتسم على وجهه:
-
ولمن هذه الجثة!؟
-
علمنا أنها لحارس مقابر، اختفى قبل ذلك بأيام بعد أن
جاءنا بلاغ بأنه عبث في أحد القبور وأخرج منها جثة حديثة الدفن، وألقاها خارج
القبر وتركها هناك.
سأله الدكتور (كمال) مجددا:
-
وماذا عن الجندي الذي اختفى بعد حادثة محطة البنزينّ؟
زفر النقيب (محسن) بحدة وهو يقول:
-
الجندي (صبيح المنياوي) لقد عثرنا عليه في منزله، في
بلدته الجنوبية، أقصد عثرنا على جثته ... اللعنة ما كل هذا الحديث عن الجثث ...
توقف الدكتور (كمال) عن الكلام لدقائق،
وبدا أنه يفكر فيما سمعه، ويحلله، واحترم النقيب (محسن) ذلك، وأخذ يحدق في وجهه
منتظرا ما سوف يقوله ... أخيرا خلع الدكتور (كمال)عويناته ووضعها على سطح المكتب
وهو يقول بلهجة جادة:
-
أرى أننا أمام نموذج واضح، ومحدد.
-
وما هو!؟
التقط الدكتور (كمال) شهيقا طويلا، ثم
قال:
-
يمكننا أن نحلل ما حدث ونضعه في إطار زمني كالتالي ...
جثة في مقبرة يتركها حارس مقابر، ثم ينتقل بعدها إلى مشرحة بها جثة أخرى، ثم تنتقل
تلك الجثة إلى غرفة الطبيب، وبعدها نجد الطبيب نفسه يهاجم عامل في محطة بنزين، قبل
أن يقبض عليه جندي، ويختفي بعدها ونجد جثته في منزله.
فغر النقيب (محسن) فاه وهو يتسائل
بدهشة:
-
وما الذي يعنيه كل ذلك؟
-
يعني أننا نطارد شيئا شريرا يتنقل من جسد إلى آخر بسرعة
كبيره، وبقدرة هائلة لا تفرق بين أجساد الأحياء والأموات، وفي انتقاله هذا يترك
وراءه ضحايا وقتلى ليس لهم أي ذنب إلا أنهم وقعوا مصادفة في طريقه ...
.. (نهاية الجزء الثاني – يليه الجزء الثالث)
..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق