الثلاثاء، 30 أغسطس 2016

قدرة خوارقية


قصة قصيرة بعنوان ... (قدرة خوارقية)
قصة قصيرة بعنوان ... (قدرة خوارقية)
بعد نصف ساعة من البحث العبثي عن موقع خال في تلك المنطقة المزدحمة بوسط العاصمة، صففت سيارتي بعد معركة قصيرة وفاصل من السباب والتقريع المتبادل بيني وبين آخر سابقني بسيارته نحو ذلك الموقع الذي خلا بمعجزة إلهية فسبقته، ترجلت من السيارة، التقطت حقيبة الكتف التي بها جهاز الحاسب المحمول وبعض الأوراق الخاصة بالعمل، سرت بخطوات متعجلة نحو البناية التي فيها شركتي التي أعمل بها، لمحت بطرف عيني ذلك الشاب الواقف قرب مدخل البناية مترصدا للداخل والخارج منها بنظرات مريبة، وعندما مررت بجواره سمعت تلك الكلمات تصدر منه:
-          هذا القادم يبدو هدفا سهلا، سأخطف الحقيبة من يده، وأعدو بسرعة، وأقفز على الدراجة البخارية خلف صديقي الذي ينتظرني متأهبا هناك.
لم يكن يتحدث بتلك الكلمات بالطبع، وإلا سيكون حينها مؤهلا للقب اللص الأكثر سذاجة وهو يعلن عن جريمته قبل القيام بها! .. لم تكن كلمات نطق بها لسانه ولكنها أفكار كانت تعتمل في ذهنه، استطعت أنا سماعها بسبب تلك القدرة التي اكتسبتها بعد حادثة الصاعقة الكهربية التي تعرضت لها مؤخرا وألقت بي في المشفى بين الحياة والموت لشهور، نجوت منها في النهاية عكس توقعات الجميع لسوء حالتي آنذاك! ومكتسبا أيضا تلك القدرة الخوارقية التي تسمح لي بسماع أفكار الآخريين، بعضها فقط، قبضت بشدة على حقيبتي، ونظرت إليه بتحدي وأنا أقول له بلهجة خشنة:
-          لا تفكر حتى في المحاولة؟
نظر لي بدهشة، وقال متسائلا:
-          عم تتكلم؟ من أنت؟ هل أعرفك؟
أشرت بسبابتي إلى حارسي الأمن، اللذان انتبها إلى أن هناك مشكلة، وبدأ أحدهما يقترب بالفعل مستطلعا ما يحدث:
-          هل ترى هذين؟
-          نعم أراهما.
-          إذا عليك أن ترحل، قبل أن أطلب منهما التحقق من سبب وقوفك هنا؟
علا صوته، وهو يقول:
-          (مالك) أنت؟.. ما الذي أعطاك الحق لتصرح لي بالوقوف هنا؟.. هل تظن نفسك رئيس جمهورية الشارع؟
كان الحارس قد وصل، أشار لي بالتحية فهو يعرفني بالطبع، ثم وجه حديثه إلى الشاب بلهجة جادة:
-          ما الذي يحدث هنا؟
أجاب الشاب بضيق وهو يدبر مبتعدا في خطوات ثقيلة:
-          هذا المجنون يحاول افتعال معركة.
قبل أن يتلفظ بسبة قبيحة، رددت عليها بمثلها وحرصت على أن أوصلها لمسامعه قبل أن يغيب ... اضطررت للكذب على رجل الأمن الذي تسائل عن سبب المشادة، فقلت له أنني رأيت صورة هذا اللص في الجريدة من قبل وشككت في وقفته المريبة أمام الشركة، فطلبت منه الانصراف، وهكذا بدأت المشكلة.
بعد دقائق كنت أقف أمام مكتب مديري في العمل وجلا، يتآكلني القلق، فقد أخبرني الجميع أنه يسأل عني بحماس منذ الصباح، ويكرر السؤال كل دقيقتين حتى ظنوا أنه سيرسل الحاجب للبحث عني في الطرقات كأي طفل تائه ... تنحنحت، فأشار لي بالجلوس، كان حاجبيه منعقدين وينظر إلى بعض الأوراق أمامه ويقلبها بين يديه، لم أشأ أن أقاطعه فقد يوغر ذلك صدره علي أكثر، خاصة أنني لاحظت أنه يتجنب النظر إلي وهذه أشارة إلى مشاكل قادمة، فجأة سمعت تلك الكلمات تنبعث من عقله:
-          ماذا أفعل؟ كيف أخبره أن الإدارة العليا قامت بفصله بعد أن تخطى الحد المسموح من الإجازات وأيام الغياب؟.. اللعنة على تلك الإدارة التي لا تعتبر ولا تراعي العوامل الإنسانية، لقد كان هذا المسكين يصارع الموت والمرض منذ أيام، وها نحن نتخلى عنه بخسة، والأسوء من ذلك أنها تضعني أنا في الصدارة في هذا الموقف الحقير، وتطالبني بأن أخبره بنفسي وأتفاوض معه على مستحقاته، سأتشاغل بتلك الأوراق قليلا حتى استجمع شجاعتي.
شعرت بفورة من الغضب تتملك باطني بعدما سمعته، ظهرت ملامحه على وجهي الذي احتقن بدوره واصطبغ بذلك اللون الأحمر الدموي:
-          اللعنة عليكم جميعا.
ارتج على الرجل، فسقطت الأوراق من يده وفغر فاه في دهشة، فأردفت قائلا:
-          بعد كل تلك السنوات تتخلون عني مع أول عثرة، سحقا لك ولإدارتك العليا وللشركة وكل من فيها.
-          كيف تجروء.
هجمت عليه وأمسكت بتلابيبه، وقلت بصوت هادر:
-          لن انتظر حتى تفصولني أيها الأنذال، أنا مستقيل من شركتكم الحقيرة تلك، ها هي عهدتكم.
ألقيت حقيبتي في وجهه ودفعته للخلف فارتد للوراء في كرسيه الوثير ذي العجلات، كان الرجل على وشك الإصابة بأزمة قلبية وهو يصرخ:
-          الأمن، الأمن، أنت مرفود، أنت مطرود، اتصلوا بالشرطة، لقد تعدى علي.
كنت أقف بعدها بساعة مع زميل لي داخل محل بقالة صغير قريب من الشركة، كنت ارتشف زجاجة مياة غازية دعاني عليها زميلي الذي يحاول تهدئتي بعد تلك الفضيحة التي أحدثتها في الشركة، والتي شهدها جميع العاملين ورجال الأمن وهم يستنقذون المدير من بين براثني، كنت قد بدأت أهدء بالفعل واستشعر حجم الكارثة التي فعلتها، قال لي زميلي:
-          هل أنت أفضل الآن؟
-          نعم.
-          ما كل هذا؟ ما الذي حدث؟
في تلك اللحظة كان صاحب المحل يحسب السعر لسيدة أربعينية تبدو عليها سمات الاحترام والوقار، كانت السيدة قد اشترت سلعا كثيرة من ضمنها عددا من أكياس اللحم المجمدة، وصلتني تلك الفكرة من عقل صاحب المحل:
-          أخيرا، تخلصت من أكياس اللحم الفاسدة تلك، كانت فكرة جيدة أن ألصق عليها تاريخ صلاحية غير منتهي.
اندفعت بين السيدة وصاحب المحل، أمسكت بأحد أكياس اللحم المجمدة، ألقيت به بعيدا وأنا أقول لها:
-          حذار ياسيدتي هذه البضاعة فاسدة، وهذا الرجل مدلس!
أوصلني زميلي إلى منزلي في سيارتي بعد معركة أخرى في محل البقالة، استقبلتني زوجتي بابتسامة حانية، حاولت أن أبادلها بأخرى تخفي وراءها عنت اليوم، أخذت بيدي وأجلستني على طاولة السفرة، وقالت لي:
-          طعام الغذاء جاهز، سأحضره لك أولا كما تحب، ثم يمكنك بعدها أن تغتسل وتستريح.
تحركت في اتجاه المطبخ بخطوات هادئة ولكن انبعثت منها دون أن تدري تلك الفكرة:
-          الطعام جاهز بالسم الناقع، لم أعد أطيق الحياة وأنت فيها، الحياة لا تتسع لكلانا.
شعرت بالذعر، وجال بخاطري أنه حتى زوجتي تريد قتلي، لماذا أصبحت عبئا على الجميع اليوم؟ عبئا يجعلهم يريدون الخلاص مني، صرخت بها:
-          لن آكل.
فتوقفت للحظة ثم استدارات عائدة وهي تقول:
-          لا مشكلة ولكن عليك أن تتناول الدواء.
أخرجت من جيبها علبة صفراء، وبدأت تفتحها وتلك الفكرة تدور بعقلها:
-          لقد عملت حساب ذلك أيها اللعين، العلبة أيضا ممتلئة حتى آخرها بأقراص السم، لا مفر لك اليوم، قرار إعدامك صدر وسينفذ.
-          لن اتناول الدواء أيضا، ليس الآن.
توجهت نحو غرفة النوم وهي تقول بنبرة هادئة تختلف عما في باطنها:
-          كما تريد، إذا أردت شيئا أنت تعرف اسمي، فقط نادي علي.
أخذت النار تشتعل داخلي، ماذا أفعل الآن؟ حتى زوجتي!.. هل ضاق بي العالم إلى هذا الحد، اللعنة على تلك القدرة التي جعلتني أرى القبح والخسة  والضعة في الآخريين، خاطبت نفسي:
-          تلك الخائنة، بعد كل مافعلته من أجلها، كنت لها زوج وحارس وسائق وماكينة صراف آلي، وفي النهاية تحاول قتلي، ولكن لماذا؟ ما الذي فعلته خطأ وجعلها تكرهني وترتجي موتي لتلك الدرجة، يجب أن أعرف، يجب، لحقت بها إلى غرفة النوم لأعرف.
بعد نصف ساعة دق جرس الباب، تجاهلته في البداية ولكنه كان لحوحا، سمجا، لا يعرف الصبر، فتوجهت إليه مترنحا وفتحته:
-          كيف حالك؟
كان هذا هو صديقي الطبيب النفسي:
-          بخير، ما الذي أتى بك؟
-          أريد أن أطمئن عليك.
-          أنا بخير، فقط كان يومي مليئا بالشجار والمشاحنات.
-          زوجتك اتصلت بي اليوم صباحا، إنها تشكو منك لتوقفك عن تناول دواءك في الأيام الأخيرة.
قلت بضيق وعدم فهم حقيقي:
-          أي دواء، ولماذا تتصل بك؟
-          لإنني إضافة إلى كوني صديقك فأنا أيضا طبيبك المعالج الذي يتابع حالتك منذ خروجك من المشفى، خصوصا مع حالات الفصام والهلاوس التي كانت تصيبك بعدها، وبرأت منها بفضل الله، والعلاج والدواء، وكذلك فضل زوجتك التي عانت معك كثيرا ولم تتخل عنك للحظة.
شعرت بالقلق، وقلت بصوت مرتعش:
-          فصام، هلاوس، ماذا تعني؟
-          يبدو إن المشكلة عاودت الظهور لامتناعك عن الدوا...
قاطعته صارخا بصوت هادر:
-          عن أي شئ تتحدث؟
صمت للحظة ثم قال بصوت هادئ:
-          سيكون عليك أن تهدء قليلا حتى أوضح لك طبيعة حالتك، والأهم أن تعود لتناول الدواء حتى لا تتدهور حالتك أكثر ويصبح السيطرة عليها صعبا.
قلت بنفاذ صبر وبلهجة خشنة:
-          هيا تكلم، أريد أن أفهم؟
تتذكر تلك الصاعقة الكهربية التي تعرضت لها والفترة التي قضيتها في المشفى بين الحياة والموت، وشفائك منها في النهاية.
-          أجل.
-          لم يكن الشفاء كاملا، فقد بقى لديك ضرر جانبي احتاج للكثير من العلاج بعدها، حالة من الفصام جعلتك تظن أنك قادر على قراءة أفكار الآخريين.
-          ولكن هذا شئ حقيقي بالفعل.
-          لا ليس حقيقيا، بل هي حالة فصام وهلاوس سمعية قام عقلك بتفسيرها على أنها كذلك، خدعة من عقلك؛ جعلك تصدق أن لديك قدرة فوقية لكون هذا أسهل بكثير من الاعتراف بالمرض.
صمت للحظة، ثم تابع:
-          ولكن مع العلاج والمتابعة والجلسات واعترافك بأنك مريض أولا ومواجهتك للمرض ثانيا، تراجع المرض وانحسر، واستطعت أخيرا أن تعود لعملك وأن تعيش حياة طبيعية، ولكن يبدو أنك أهملت العلاج فبلا بلا بلا بلا ...
كنت أراه يتحدث أمامي ويحرك فمه ولكني لا أسمع ما يقول، كانت خاطرة واحدة تسيطر على عقلي وحواسي، هل كل ما حدث اليوم كان مجرد هلاوس مرضية؟.. هل تعاركت مع نصف سكان القاهرة اليوم وخسرت وظيفتي بسبب حالة فصام لعينة؟
انتهى صديقي الطبيب من الحديث وقرر المغادرة، ولكنه قبل أن يذهب أوصاني بتناول حبتين من الدواء الآن، وأن أزوره في عيادته غدا لتقييم حالتي ووضع خطة علاجية جديدة، أغلقت الباب خلفه، وقررت أن أبحث عن علبة الدواء، أجل إنها تلك العلبة الصفراء التي كانت تحملها زوجتي، سأبحث عنها في غرفة النوم، دخلت غرفة النوم ووجدت العلبة، وجدتها هناك على الأرض بجانب جسد زوجتي المسجى، وعيناها اللتان تحدقان إلى الفراغ، وتلك الزرقة التي علت وجهها وآثار الأصابع على رقبتها ... أجل آثار أصابعي أنا!!
.. (تمت) ..

الاثنين، 29 أغسطس 2016

رعب في فترة الخطوبة

قصة قصيرة بعنوان (رعب في فترة الخطوبة...( 
نسبية الزمن نظرية علمية طرحها العبقري (إلبرت إينشتاين) في بدايات القرن السابق، وشخصيا وجدت عليها الدليل مؤخرا بعد أن وضعت في بنصري الأيمن ذلك الخاتم الذي يسمونه خاتم الخطوبة ... والدليل على نسبية الزمن هي تلك الأحاديث الهاتفية اليومية التي نقضي فيها الساعات كل مساء أنا وتلك الفتاة الرقيقة كنسمة الصيف التي أدعوها خطيبتي، فلا نشعر بها إلا كثوان قليلة لا تسمن ولا تغني.
وأحاديث المخطوبين ليست كلها في العشق والهوى، ولكنها تتنقل سريعا بين فقرات الأخبار اليومية والموضوعات العامة إلى اهتماماتي الشخصية كالرياضة ومباراة القمة المنتظرة بين (الأهلي والزمالك)، وما سيفعله (الأندر تيكر) غدا في مواجهته مع (الوحش)، وزميلي اللعين في العمل الذي يتملق المدير على حسابي، ثم نتبع ذلك باهتمامتها الشخصية في الموضة وأنواع (المكياج) وهل يجب وضع قاعدة على الوجه قبل وضع المساحيق، وزميلاتها اللاتي يغرن منها ويحسدنها على رشاقتها ... بالطبع يتخلل ذلك الكثير، بل الكثير جدا من كلمات الحب وهمسات العشاق ويستمر ذلك حتى ساعات الصباح الأولى أو حتى يفاجئنا والدها مغضبا، متوعدا فيغلق الهاتف في وجهي بعد أن يسمعني محاضرة طويلة عن الأصول والعيب، أو يقطع سلك الهاتف ويصادر (العدة) ويحتفظ بها في الصوان المغلق، وهي أشياء لا تعوقنا أبدا عن العودة للحديث في اليوم التالي.
في تلك الليلة كنت مرهقا بشدة بسبب ظروف العمل وبدأ النوم يداعب جفوني، وأخذت فترات صمتي واستماعي تزداد، واكتسبت ردودي تلك الصفة الميكانيكية (آه ... هممم ... أممم ... آه ثانية) .. وأدركت تلك الشقية التي تجمع بين جمال الملائكة وذكاء الشاطين ذلك، فقالت لي منبهة:
-
يبدو أن توشك على المغادرة.
انتبهت إلى ذلك التعليق واستغرقني الأمر نصف دقيقة حتى أحيط بمبناه وإن غاب عني معناه، فقلت متسائلا:
-
أغادر!! إلى أين؟
أطلقت تلك الضحكة العذبة التي تجعل قلبي في كل مرة يسمعها موشكا على القفز من صدري مرتحلا إليها، وقالت بصوت أكسبته لهجة متعاطفة:
-
إلى عالم الأرز بالحليب.
ضحكت مرة أخرى وهي تردف:
-
يمكنك أن تذهب للنوم ونكمل حديثنا غدا.
-
لا ... أنا مستيقظ وبقوة.
-
هل أنت متأكد؟
-
أجل!
صمتت للحظة ثم قالت:
-
لأضمن ذلك سأحكي لك قصة رعب حقيقية حدثت لجارتنا.
أطلقت ضحكة ساخرة ضايقتها فأبدت تبرما طفوليا محببا ... ولكنني عندما فكرت للحظة وجدت أن الفكرة لا بأس بها، فالقصة لن ترعبني بحال ولكنها سترعبها هي وسأبدو ساعتها شجاعا صنديدا لا أخشى شئ وأنا أحاول بعث الطمأنة في نفسها ... فقلت مبديا الاهتمام:
-
فكرة رائعة، هي هات ما عندك.
حاولت أن تجعل صوتها مرعبا فزاده ذلك لطفا وعذوبة وهي تقص علي تلك القصة المرعبة قائلة:
-
أنت تعرف جارتنا (أم سعيد) تلك التي حضرت خطوبتنا العام الماضي ... منذ شهور قليلة ماتت إبنتها ذات الأعوام الستة، صدمتها سيارة وهي تعبر الطريق أمام المدرسة ... لم تتحمل المسكينة فقدان إبنتها الوحيدة فحزنت حزنا شديدا ودخلت في نوبة هستيرية شديدة من الصراخ والبكاء تلتها حالة من الذهول، وتحولت إلى نبتة بشرية، لا تنتبه لما حولها، ولا تنطق إلا باسم ابنتها الذي تردده طوال الوقت، وكأنها صارت في عالم آخر غير عالمنا ... والأغرب أنها بعد الدفن مكثت بجوار القبر لثلاثة أيام وليال متواصلة، ولم يفلح أحد في دفعها للمغادرة بأي وسيلة، ثلاثة أيام كاملة امتنعت فيها عن الأكل والشرب وحتى الكلام وهي تنظر إلى قبر إبنتها تناجيها حتى غابت عن الوعي فحملوها إلى منزلها، وهي على تلك الحال منذ ذلك الحين.
شعرت بأن هذه القصة غير حقيقية وأن خطيبتي تختلق أحادثها اختلاقا، فقلت:
-
هل انتهت القصة ... إنها غير مرعبة بالمرة؟
-
لا ... بل بدأت للتو!
ثم استطردت قائلة:
-
أنت تعرف إن منزلنا بجوار المقابر ... في تلك الليلة كنا جالسين في غرفة المعيشة عندما سمعنا صوت بكاء طفلة يتردد في الجوار وكأنه قادم من الخلاء أمام المنزل ... أنا لست متطيرة بطبعي ولكنني عرفت هذا الصوت إنه صوت بكاء بنت جارتنا (أم سعيد) المتوفاة.
قلت ساخرا:
-
وتقولين إنك لست متطيرة.
فتجاهلت السخرية في كلامي وهي تقول:
-
وتكرر ذلك في الليالي التالية، وزاد على البكاء تلك الكلمات الملتاعة (أمي ... أين أنت يا أمي!) ... بعض الرجال الشجعان خرجوا للبحث عن مصدر الصوت وجميعهم لاحق المصدر إلى داخل المقابر قبل أن يفشل في العثور على صاحبته.
صمتت للحظة كنت قد بدأت أشعر بالتوجس بالفعل، فقلت متلهفا:
-
وماذا حدث بعدها؟
-
استمر الحال لعدة ليال لم نذق فيها طعم النوم، وكانت جارتنا (أم سعيد) في منزلها غائبة عن الوعي لا تشعر بما يحدث، حتى اختفى الصوت وتوقفت تلك الظاهرة من تلقاء نفسها.
كنت أشعر بالقليل من الخوف وببعض القشعريرة تعبث بأقدامي، قد يكون ذلك بسبب جلوسي عليها لفترة طويلة أو بسبب القصة والتي بدت لي الآن مرعبة بالفعل ... عموما سأدعي أنني لست خائفا وأن تلك القصة لم تحرك شعرة واحدة في جسدي، وذلك رغم أن جو الرعب حاضر تماما في ذلك المقر الصحراوي البعيد عن أي عمران حيث أعمل في مناوبات نصف شهرية، وحيث لا يوجد أحد غيري سوى القلة من العاملين ورجال الأمن المنحوسين أمثالي، والذين يختفون جميعهم تماما بعد الغروب ولا يمكن الاستعانة بأيا منهم إذا احتجت له.
مبكرا وقبل الفجر بساعتين أنهيت حديثي مع خطيبتي التي اكتشفت فيها بعدا جديدا الليلة، هو أنها تستطيع أن تكون مرعبة .. كان لدي بعض الأعمال أريد الانتهاء منها قبل النوم، فتمنيت لها بصوت مرعب أحلاما سعيدة لا تزورها فيها بنت (أم سعيد) المتوفاة والتي تبحث عن أمها، أنا أيضا استطيع أن أكون مرعبا إذا أردت.
بعد ساعة بلغ مني الأرهاق مبلغا وثقل جفناي، ووقررت أن أخلد إلى النوم ... كنت على فراشي في تلك الحالة الأثيرية المخدرة التي تسبق النوم، وفجأة وصل إلى مسامعي ذلك البكاء، تنبهت مرة واحدة وتأكدت بالفعل أنه صوت بكاء، بكاء طفلة صغيرة، والأغرب أن الصوت يعلو كأن صاحبته تقترب، أصبت بحالة شديدة من الرعب اعتقد أن لون شعر رأسي قد حال كله للأبيض سأتفحص ذلك في المرآه عندما ينتهي ذلك لو قدر له الانتهاء ... تسائلت، من أين أتت تلك الطفلة الباكية في تلك المنطقة النائية؟ لا يوجد قرى أو مدن قريبة ولا مضارب لقبائل البدو ولا أماكن للرعي، نحن هنا في قلب الصحراء في منطقة أقرب للعدم، ولولا أعمال التعدين في بطن تلك الأرض البكر لما أنشأ هذا المقر، لما جئ بأمثالي إليه.
كان الصوت يتعالى وبدأت ألاحظ أن البكاء تتخلله بعض الكلمات (أمي ... أين أنت يا أمي!) ... اللعنة إنها تلك القصة اللعينة تتكرر معي الآن ... كان الصوت قد صار قريبا جدا وكأنه الآن داخل المقر ... حدثتني نفسي بأن أفعل أشياء كثيرة ولكن الرعب الذي تملكني أعجزني عن أي فعل ... كان صوت البكاء قد صار الآن أمام غرفتي تماما، وبدأت تلك الطرقات العنيفة على بابها، انكمشت في فراشي وأنا أصرخ:
-
أرحلي أيها اللعينة، أمك ليست هنا!
دق جرس الهاتف مرة واحدة فسقطت من فوق الفراش فزعا، قبل أن اعتدل والتقط (السماعة)، كان ذلك هو صوت خطيبتي وهي تقول بصوت متثائب:
-
منك لله، لقد جائتني في الحلم تسأل عن أمها.
لم أعرف بماذا أرد، فقد كان صوت البكاء المرتفع والطرقات على الباب يكادان يمزقان خلايا عقلي، ولكنها سبقتني وهي تقول:
-
لماذا أنت صامت؟ لا تقلق لقد تخلصت منها!
صرخت فيها بحثا عن حبل للنجاة من هذا المأزق المخيف:
-
تخلصت منها!! ... كيف فعلت ذلك؟
-
طلبت منها أن تتركني وتذهب إليك؟ ... تستحق هذا العقاب على سخريتك من قصتي!
قبل أن تردف:
-
لماذ لا ترد؟ ... لماذ لا ترد؟ ... أين ذهبت؟
.... )
تمت( ....
 للمزيد زوروا صفحتنا لقراءة المزيد من قصص الرعب ...