الأحد، 14 أغسطس 2016

أرض الإلعاب



قصة رعب قصيرة بعنوان ... (أرض الإلعاب)

كنا مستغرقين تماما في اللعب أنا وصديقاتي في تلك الأرض المهجورة على حدود قريتنا، كنا نعتبرها جنتنا الخاصة وأرض السحر التي نجسد فيها كل أحلامنا من خلال ألعابنا الطفولية البريئة، لم يفلح الترهيب أن يثنينا عن المجئ هنا وكذا لم يفلح الترغيب، لا يزال صوت أمي في أذناي وهي تقول:
-          عديني، ألا تذهبي هناك مرة أخرى.
-          أعدك.
تجذب شعري بشدة وهي تمشطه (وهي وسيلة مضمونة لجعلي انتبه لكلامها)، أتأوه بصوت مكتوم، فتردف هي بصوت مخيف:
-          أتعلمين، ماذا حدث للفتيات اللاتي ذهبن هناك دون إذن أمهاتن؟
-          ماذا؟
-          لم تعد واحدة منهن ابدا.
ثم يكتسب صوتها صبغة حانية، وهي تقول:
-          عديني ثانية.
-          أعدك، ولكن لا تكوني قاسية معي مرة أخرى.
-          أنا فقط أخاف عليك.
كان وعدا صادقا في لحظتها، ولكنه كوعود الأطفال سرعان ما يتبخر مع حرارة أرواحهم الصبية، المتلهفة دائما للحرية والانطلاق، كيف يمكنني أن أضيع فرصة كهذه؟ فرصة أكون فيها بين صديقاتي، نمرح، ونلعب، ونخلق عوالمنا الخاصة التي لا يدرك وجودها غيرنا.
كانت جنة ألعابنا تلك، قطعة جدباء من الأرض لا ينبت فيها إلا بعض النباتات الشوكية المتناثرة والتي ذبل أكثرها وتغضن، كان أديمها شديد السواد كأنه اختلط برماد محترق، يحيط بها كالسوار من كل جانب أطلال بعض المنازل القديمة التي هجرها أصحابها منذ زمن بعيد ... خطر لي أن تلك الأطلال هي سبب خوف الأهالي وتحذيرهم الدائم لنا من المجئ هنا، فبين جدران تلك الأطلال كنا نلمح بعض العقارب والحيات تسعى، وأحيانا نرى ثعلبا أو كلبا بريا يبحث عن صيد له بين القوارض التي تتخذ منها جحورا، لهذا كنت حريصة دائما على ألا اقترب من تلك الأطلال.
كانت الشمس قد غابت منذ ساعات وتوارى القمر خلف بعض السحب الكثيفة فجعل منها ليلة مظلمة تماما، إلا من بعض الأضواء الشاحبة التي تنبعث على استحياء من قريتنا النائمة هناك ... لم يكن الظلام لينجح في تكدير ليلتنا المميزة،ولا أي شئ آخر، فالليلة تنضم إلينا صديقة جديدة، فتاة صغيرة تدعى (هناء) عمرها عشرة سنوات وهو تقريبا عمري عندما جئت هنا للمرة الأولى، بدت (هناء) سعيدة لأنها وجدت كل هذا العدد من الصديقات المتحمسات وكنا أيضا سعداء بانضمامها إلينا، كان اللعب والمرح في أوجه، الفتيات يتسابقن، ويتشاكسن، ويتضاحكن في سرور وبلا أي قيود، كانت الألعاب تتوالى فتارة نلعب الغميضة، وتارة نعدو متسابقين أو نجلس على الأرض لنلعب بالأحجار الصغيرة ألعاب البنات المميزة، وأحيانا كنا نقسم أنفسنا إلى مجموعات صغيرة لتلعب كل مجموعة اللعبة التي تفضلها... توقفت (هناء) عن اللعب ونظرت حولها في قلق، ثم عدت نحوي قائلة:
-          لقد تأخر الوقت، ستصاب أمي بالقلق، وسينالني منها العقاب بالتأكيد.
ابتسمت وقلت لها في غموض:
-          لا تقلقي، لن تعاقبي الليلة.
ثم دفعتها برفق لتنضم للآخرين وأنا أردف:
-          لا تضيعي الفرصة، استمتعي بوقتك، العبي، وامرحي مع صديقاتك، ولا تفكري في شئ آخر.
كانت عقارب الساعة قد قاربت الثانية عشر، وكانت البنات على نفس حماستهن و(هناء) مستمتعة وقد نست كل شئ عن العقاب ... فجأة توقفن جميعا عن اللعب ونظرن في توجس ناحية القرية، كانت هناك مجموعة من المشاعل تقترب منا ببطأ، تبادلت البنات نظرات القلق، وقالت (هناء) في خوف حقيقي:
-          يبدو أننا تأخرنا بالفعل، وجاء أهل القرية ليبحثوا عنا.
ثم نظرت نحوي وفي عينيها نظرة لائمة، وقالت:
-          ألم أقل لك، إنه العقاب؟
-          قلت لك، لن يكون هناك عقاب الليلة.
قلتها بصوت مرتفع، وأنا أنظر مباشرة في عينيها، ثم وجهت حديثي للبنات في صوت آمر:
-          لا بأس الليلة من لعبة أخيرة، اصنعن حلقة واسعة، ولتمسك كل منكن بيد صاحبتها.
استجابت البنات في صمت ووجوم، وشعرت بيد (هناء) الباردة والمرتعشة بين أصابعي، أومأت لها برأسي مشجعة، قبل أن التفت نحو الأخريات وأنا أردد والبنات يرددن خلفي:
-          دوري، دوري، دوري.
بدأت الحلقة في الدوران بطيئا، ثم أخذت في التسارع تدريجيا ومعها تعالت أصوات البنات مرددة:
-          دوري، دوري، دوري.
بصوت مرتعد قالت (هناء):
-          ماذا تفعلن !!؟
ولكنها لم تتلق ردا، أخذت الحلقة تدور في سرعة أكبر وأكبر والأصوات تعلو أكثر وأكثر، وبدأت (هناء) في الصراخ، حاولت أن تنتزع يدها من يدي ولكنها لم تستطع، وانغرست أصابعي في رسغها كالكلابات، كانت الحلقة الآن تدور في سرعة جنونية وصارت أقدامنا بالكاد تلامس الأرض وتحولت أصوات البنات إلى طنين عال يكاد يمزق طبلات الأذن، وبصرخة عالية من (هناء) اختفى كل شئ وساد السكون وعادت أرض الألعاب خالية من جديد.
اقتربت المشاعل حتى صارت في قلب المكان، كانوا مجموعة من الرجال وبينهم أمراة شابة أحمرت عيناها من كثرة البكاء وبجانبها كهل أشيب الشعر واللحية يحاول تهدئتها، انتشر الرجال في كل مكان، وبحثوا تحت كل صخرة، ووراء كل جدار، وبعد ساعة اجتمعوا وقد رسم اليأس ملامحه على وجوههم، أطلقت المرأة صرخة ملتاعة:
-          ضاعت إبنتي، ابتلعتها الأرض الملعونة.
ثم رفعت عقيرتها:
-          أين انت يا (هنااااااء)!
قبل أن تعود إلى البكاء الهستيري مرة أخرى، حلق الصمت فوق رؤوس الجميع، لم يستطع أحدهم أن يقاطع نحيب تلك المرأة وآناتها المعذبة، تبادل الجميع النظرات الحائرة المترددة للحظات، قبل أن يبدأوا رحلتهم عائدين إلى القرية وهم يجرون أذيال الخيبة، همس أحدهم في أذن جاره:
-          هذه ليست هي المرة الأولى.
-          سمعت أن هناك أخريات فقدن أيضا في نفس المكان منذ سنوات.
-          إنها تستحق لقب الأرض الملعونة عن جدارة.
ذلك قبل أن يغيبوا تماما تاركين أرض ألعابنا خالية تماما إلا من صدى ضحكاتنا الذي يتردد بين جنباتها بين الحين واﻵخر، فيجاوبه الصمت والخواء، كانت أرض الألعاب تنتظر بشغف عودتنا إليها لنؤنس وحدتها بأرواحنا البريئة.  

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق