قصة رعب قصيرة بعنوان ... (الترياق)
شعر بالدهشة الشديدة، وتسائل لماذا
غابت تلك الذكرى في ثنايا عقله ثلاثين عاما ثم ظهرت الآن فجأة وبهذه الطريقة، لم يفكر
يوما فيما حدث ليلتها ولم يحاول تفسيره ولم يقصه على أحد، وكأنه حذف من خلايا عقله
أو غاب في إحدى غرفاته الخلفية ولم يعاوده إلا من لحظات قليلة، عندما روادته تلك
الذكرى، قوية، طازجة، واضحة المعالم والتفاصيل كأنها حدثت بالأمس!!!
في تلك الليلة المظلمة ذات القمر
النحيل الباهت، كان هناك مع صديق له عند ترعة القرية التي أوشكت على الجفاف في هذا
الموسم، اختارا تلك البقعة ذات التربة الطينية أسفل شجرة الكافور العملاقة بعد
تمحيص، كان أمامهما عمل هام يمكن أن يتكسبا منه بضعة قروش، كانا يلتقطان الضفادع ويختاران
السمين والصالح من بينها ويحتفظان به في دلو صغير يحوي بعض الماء العكر، كان هناك
اتفاق عمل بين صديقه هذا وقريب له من طلاب الجامعة بأن يشتري الأخير حصادهما من
الضفادع، لا يعرف ما سيفعله بها، قد يقوم بتشريحها ودراسة أعضائها الداخلية، رأى
البعض يفعلون ذلك من قبل، أو يطعمها لسحلية الأجوانا خاصته أو يصنع منها حساء
أفخاذ الضفادع الفرنسي، لا يأبه طالما الموضوع فيه قروش وربح، وهذا يعني لطفل مثله،
الحلوى والسكاكر، الكثير منها، وكذلك المرطبات والمقرمشات، وقد يؤجر دراجة من (عم
مجدي) لساعة أو اثنتين، وإذا كان الصيد وفيرا وزادت الغلة يمكنه أن يؤجر تلك
الماكينة الصارخة التي يسمونها (فيسبا) ويستمتع الأطفال المغامرون بالسقوط من
عليها أوالاصطدام بها في الجدران وأعمدة الإنارة...
غادره صديقه قبل منتصف الليل بساعة
ليفرغ الدلو الممتلأ في حمام منزله حتى يمكن استخدامه لمواصلة الصيد لساعة أخرى،
لا يعرف ماذا كان سيفعل والدا صديقه إذا استيقظ أحدهما لدخول الحمام ووجد تلك
الضفادع تمرح فيه، عموما لا يوجد عقوبة يمكنها أن تردعه، فقد تبلدت مشاعره تماما
منذ زمن وأصبح يستقبل أي عقوبة من أبويه بابتسامة بلهاء، ساخرة، أظنهما يأسا تماما
من إصلاحه ... كان يجلس على صخرة يلوك قطعة من الخبز من شطيرة يحملها معه كمؤنة
لرحلة الصيد تلك، كان طعم الشطيرة ورائحتها كريهين للغاية، يبدو أنها تشبعت برائحة
الضفادع التي تغطي يداه وجسده ... فجأة بدأت المياة تتوتر في منتصف الترعة ثم أخذت
في التحرك تلك الحركة الموجية على شكل دوائر متحدة المركز آخذة في الاتساع، قبل أن
يشق مركزها ذلك الرأس البشري (حسبه في البداية كذلك!) متجها ناحية البر، وكلما
اقترب اتبعه جزء آخر من جسده المتشح بالسواد كالليل، ذكره ذلك بتلك الصور المعتمة
التي تظهر وحش (لوخ نيس) يشق ماء البحيرة برأسه ورقبته.
لم يستطع تمييز ملامح هذا الشخص أو ذلك
الكيان الأسود الشبيه بالبشر، أصابته حالة من الرعب جمدته في مكانه وسقطت الشطيرة
من يده واللقيمات عن فمه، كتم أنفاسه آملا ألا يتنبه ذلك القادم لوجوده، وهو شئ
مستحيل الحدوث، خاصة أن ذلك الكيان غادر الترعة في تلك النقطة التي تبعد عن مكانه
ثلاثة أمتار فقط، التفت ناحيته، فطالعته عيناه الحمراويين كجمرتين من الجحيم، لا
لم يكن بشريا، ولم يكن وجهه يحمل أي ملامح يمكن وصفها من ملامح البشر أو من غيرهم،
مجرد كتلة من السواد في وسطها عينان ملتهبتان وجسد عملاق وحضور قوي يطبق على الروح
... تولى الكيان عنه وتوجه مباشرة إلى شجرة الكافور واقترب منها بخطوات متئدة، كان
يحمل بكلتا يديه صندوق صغير أسود اللون، جثا على ركبتيه وأخذ يحفر الأرض بمخالبه
تحت الشجرة ، وضع الصندوق في الحفرة وأهال عليه التراب مرة أخرى، قام بعدها وتوجه
عائدا إلى الترعة وفي طريقه التفت ناحيته وقال بصوت عميق كأنه يخرج من باطن
القبور:
-
يمكنك أن تعود لتأخذه بعد ثلاثين عاما، ستفعل!
قبل أن يتوجه إلى داخل الترعة ويغيب في
نفس النقطة التي جاء منها.
-
اعتقد أن الغلة ستكون رائعة، علينا فقط أن نكمل الصيد
حتى الفجر.
كان هذا هو صوت صديقه، بعد أن عاد من
منزله يحمل في يده الدلو الفارغ.
-
ماذا بك؟ لماذا لا ترد؟ لماذا أنت شاحب كالأشباح؟ هل
أصبت بالمرض؟
طاردته تلك الذكرى اللحوح في الأيام
التالية، كانت تهاجمه في كل وقت صباحا أو مساء، وتغادره مخلفة وراءها ذلك الصداع
الرهيب الذي يكاد يمزق خلايا رأسه، كانت ذكرى عجيبة، ذكرى مصحوبة بالصورة والصوت
والرائحة، يسترجعها في كل مرة كأنه يعيش داخلها، وتذهب عنه وقد تركته ضعيفا،
ومضعضعا، وعاجزا عن الكلام، ولم يفلح أي علاج في تخليصه من تلك الذكرى أو درء
آثارها ... ضاقت نفسه بها وبأثرها ولم يعد يستطيع التحمل أكثر من ذلك، أصبح متوترا
سريع الغضب، ينفجر لأقل الأسباب على غير عادته، تداعت علاقاته بالجميع، في البيت
والعمل وحتى في الشارع، وعندما استشار طبيبا، أجرى له فحصا طبيا كاملا وصعقه
بالنتيجة، كان مصابا بذلك المرض الخبيث يلتهم خلايا مخه، تعجب الطبيب من عدم شعوره
بآثار ذلك المرض الذي استشرى من قبل، ويبدو أن الوضع كان سيئا للغاية كما ظهر على
وجه الطبيب وهو يوصيه بالمواظبة على العلاج على أي حال! واللجوء إلى المولى
بالدعاء فالمعجزات تحدث أحيانا! وهو شاهد على بعضها، والأهم من ذلك كله، التمتع
بما بقى له من أيام في هذه الحياة الدنيا!!
قد يكون هذا هو السبب الذي ذهب به إلى
هناك، في نفس المكان الذي حدثت فيه تلك الذكرى ... وقف وهو يمسك بيده ذلك الصندوق
الأسود بعد أن نجح في انتزاعه من تحت شجرة الكافور العجوز، ألقاه في سيارته وغادر
مباشرة إلى منزله في المدينة الكبيرة التي يعمل فيها بعد أن هجر قريته منذ سنوات
طويلة ولم يعد إليها إلا اليوم عندما حاصرته وأوجعته تلك الذكرى المريرة وإيقظت
داخله ذلك الجانب من الماضي الذي كان خفيا عنه.
عندما وصل إلى المنزل حاول فتح الصندوق
فاستعصى، لم يكن في حالة تسمح لي بالتروي وإيجاد الآليات العاقلة لفتحه فكانت
المطرقة والأزميل هما الحل السريع، وداخل الصندوق وجد تلك القنينة الزجاجية
الممتلئة حتى منتصفها بسائل أرجواني رائق، ومكتوب عليها بخط شيطاني مرتعش كلمة
واحدة (ترياق).
ساءت حالته بعد ذلك كثيرا وانهارت حياته
مع تداعي صحته تماما، لم يعد بداخل رأسه ما يمكنك أن تسميه مخا، بل هي آلة شيطانية
لصنع الصداع والألم، حاول المقاومة وجرب العديد من وسائل العلاج وطرقه حتى تملكه
اليأس في النهاية، ساعتها أصبحت فكرة استخدام ذلك الترياق من الصندوق الأسود فكرة
ملائمة، وفعلها! ... الغريب أنه عندما تجرع ذلك السائل الأرجواني زال الألم
مباشرة، وعندما أجرى الفحوص الطبية في الأيام التالية، فوجئ الأطباء وسط حالة من الدهشة
والذهول التي تملكتهم أن المرض الخبيث قد زال عن مخه تماما، بل أنه استرد عافيه ويشعر
الآن أن جسده بحال أفضل مما كان عليه في السنوات الماضية، يبدو أن ذلك المخلوق
الذي قابله في الصغر لم يكن شيطانا كما ظن، بل هو ملاك كريم جاء ليحمل له الأمل
بعد أن تملك منه اليأس والمرض.
شهور مرت على تلك الواقعة، عادت فيها
حياته إلى القمة بعد أن كانت قد بلغت القاع، وعادت كل مياهها إلى مجاريها، العمل، الصحة،
الأسرة، وغابت تلك الذكرى وأحداثها الأخيرة في ثنايا عقله الخلفية وحسب أنها ستبقى
هناك للأبد ... حتى كانت تلك الليلة، كان ليلتها في غرفة مكتبه المفضلة بمنزله
والتي يقضي بها معظم أوقاته بعيدا عن إزعاج زوجته وأطفالها الملاعين، كان أراجع
بعض الأوراق الخاصة بالعمل حتى أوشك على الانتهاء بعد أن بلغ به الأرهاق مبلغا،
أخذ يتثاءب كفرس نهر عجوز، فجأة رآه هناك يقف أمامه في منتصف الغرفة يتشح بالظل
والظلام رغم إضاءة الغرفة الجيدة وكأنه جاء بهما معه، كانت ملامحه كما يتذكرها
تماما، كتلة من السواد يتخللها عينين بلون النار ونفس الحضور الجاثومي:
-
لقد جئتك في الموعد.
رد بصوت مرتعد، غطى عليه صوت ضربات قلبه
الذي أوشك على القفز خارج صدره:
-
مرحبا.
نظر له الكيان بحدقتين لا ترمشان،
تلقيان باللهيب نحوه، فأردف:
-
شكرا لك، لقد شفاني الترياق.
-
لم تكن مريضا.
-
ولكن التحاليل والفحوصات!
تحرك الكيان خطوة مقتربا منه فأرجف،
فقال له:
-
لم يكن مرضا، ولكن دليل وعلامة على أنك أصبحت جاهزا
لتناول الترياق.
ردد الكلمات خلفه ببلاهة:
-
دليل، علامة، ترياق.
-
ثلاثون عاما، استغرقها جسدك ليصبح جاهزا لتناول الترياق.
شعر بأنه يغرق وسط كل تلك الألغاز االغامضة
التي تجمعه بهذا الكيان، فاستجمع شجاعته وهو يحاول أن يقول بنبرة قوية:
-
ماذا تقصد؟
-
لقد أودعت البذرة داخلك في تلك الليلة.
-
أي بذرة؟
فتجاهل الكيان سؤاله، واستطرد قائلا:
-
واحتاجت البذرة كل تلك الأعوام حتى تنمو داخلك وتبدل
جسدك وترتقى به من أجل هذه اللحظة، هي أعوام طويلة بالنسبة لأعماركم القصيرة وأيام
قليلة معدودة بالنسبة لأعمارنا التي تناهز الخلود.
اقترب خطوة أخرى حتى صار أمامه تماما،
ثم قال:
-
عندها أصبحت جاهزا لتناول ترياق التحول النهائي، دفعت
إلى ذلك دفعا، حتى فعلتها.
قال بصوت مرتعش:
-
أنا لا أفهم شيئا، ماذا تريد مني؟
-
لا شئ، سوى إنك تمثل مسكني الجديد، وكان يجب أن يجهز
المسكن لاستقبال الساكن الجديد.
حاول الحركة فوجد جسده عاجزا عنها كأنه
أصيب بالشلل تماما، صرخ فلم يغادر الصوت حلقه، اقترب الكيان أكثر حتى صار في
مواجهته تماما:
-
شعور رائع أن تحصل على جسد جديد، يمكننا أن نعيش دونه
ولكن ليس لفترة طويلة، الشئ الصعب فقط هو البحث عن الجسد المناسب ثم تجهيزه لتحمل
وجودك القوي لفترة طويلة.
قرب الكيان وجهه، فشعر بلهيب عينيه
يحرق وجهه ويجففان الماء في عينيه، قبل أن ينتقل ألم الحريق إلى خلايا جسده كلها،
ألم لا يوصف، وكأنه يسلخ حيا، حاول استجماع ما بقي من طاقته في صرخة يائسة، وهو يقول
بحروف ممزقة:
-
أنت شيطان مريد.
سمعه وهو يغيب عن الوعي تدريجيا:
-
لم أدع غير ذلك.
هل كان يبتسم ساخرا وهو يقولها، لن يعرف
أبدا فقد غاب عن الوعي ولم يستعده بعدها أبدا ....
.. (تمت) ..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق