قصة رعب قصيرة بعنوان ... (شبح محطة وقود)
لتزجية الوقت على هذا الطريق المنعزل،
الغارق في الظلام، والمرصوف بمطبات خالصة يتخللها بعض المساحات الممهدة القليلة،
والذي يذهب بي نحو تلك القرية، حيث الوحدة الصحية التي أقضي فيها فترة تكليفي، قال
لي سائق سيارة الأجرة:
-
أترى تلك اللوحة هناك؟
كانت هناك على جانب الطريق لوحة قديمة،
صدئة، منبعجة، تشير بحروف حائلة أن هناك محطة وقود على بعد كيلومتر واحد من هذا
المكان.
-
أجل
-
لا يوجد أي محطة وقود هنا!
-
وما الهدف منها إذا؟
قال بصوت حاول أن يجعله مرعبا، فبدا
ساذجا رغما عنه:
-
في الماضي، كانت هناك محطة صغيرة بالفعل على هذا الطريق
، ولكنها تعرضت لحريق هائل أتى عليها وراح ضحيته عامل شاب ورجل عجوز كان يعمل
بالمقصف التابع للمحطة.
قلت ساخرا:
-
إذا لماذا لا يزيلون تلك اللوحة أيضا؟
-
هم يفعلون، ولكنها تعود من تلقاء نفسها في كل مرة.
أطلقت ضحكة مقتضبة، وأنا أقول متهكما:
-
هي لوحة شبحية إذا!
-
ليست اللوحة وحدها، فالمحطة أيضا تعود للظهور من فترة
لأخرى ... بعض السائقين من زملائي يقسمون
أنهم رأوها في بعض الليالي قائمة في مكانها القديم! بل وتقدم خدماتها أيضا! ولكن
أحد منهم لم يجرؤ على الاقتراب ليجرب تلك الخدمات ... الحل الأمثل عندما تقابل مثل
هذه الأشياء هو أن تتجاهلها وتمضي في طريقك وتقرأ ما تيسر لك من القرآن، وصدقني لو
كنت تعمل في هذا (الكار) ستقابل مثل تلك الأشياء كثيرا!
ثم أشار بسبابته إلى موقع على جانب الطريق
به أطلال لمبنى قديم متهدم وقد غطى التراب كل معالمه فأخفاها، وبعض الحطام
والنباتات الشوكية المتناثرة هنا وهناك، وقال:
-
هذه هي آثار المحطة القديمة، هي على تلك الحال منذ خمسين
عاما أو يزيد ... إلا بالطبع في تلك الليالي التي تفتح فيها أبوابها للعمل.
ثم أتبع ذلك بضحكة رقيعة، تعمد أن يجعلها
عالية ومفاجئة، وهو يتابعني بنظرة جانبية ليرى ردة فعلي، فتعمدت بدوري أن أغيظه
وأبدو غير مكترثا، وأنا أقول:
-
تحدث كثيرا!
غابت تلك الذكرى في جب عميق داخل ثنايا
عقلي، في ذلك المكان الذي أخزن فيها الترهات والخزعبلات التي لا أنتوي استعادتها
أبدا، ولكنني استعدتها في تلك الليلة عندما رجعت مرة أخرى لتلك القرية بعد غيابي
عنها سنين لانتهاء فترة تكليفي والتحاقي بالعمل في المشفى العام في مدينتي وتواتر فصول حياتي
بعدها بين العمل، والزواج، وإنجاب طفلة رقيقة اسميتها (قمر) ليكون اسمها كهيئتها ...
ولكنني الليلة أعود لأقدم واجب العزاء لأحد الأصدقاء الذي تعرفت عليهم أثناء فترة
تكليفي هناك، ولم ينقطع بيننا رباط الود والتواصل حتى اليوم.
كنت أقود سيارتي الخاصة التي اشتريتها
مؤخرا، لأنهي بها عهد طويل من (بهدلة) سيارات الأجرة وسماجة سائقيها ... تنبهت إلى
مؤشر الوقود الذي أضاء باللون الأصفر مهددا بأن السيارة على وشك أن تفقد وعيها
عطشا ... أخذت أقوم بحسابات سريعة، أذكر أنني سمعت الميكانيكي النصاب الذي أعهد له
بتصليح سيارتي يقول (أن السيارة يمكنها أن تسير ثلاثين كيلومترا بعد إضاءة مؤشر
الوقود)، وجدت أن ذلك غير كافيا للعودة، سيكون علي أن اتقدم في طريقي الآن عسى أن
أجد محطة وقود جديدة على الطريق وإن كان هذا غير محتملا، والاحتمال الأكبر هو أن الوقود
المتبقي سيكون كافيا ليصل بى إلى القرية، حينها يمكنني الحصول على المساعدة هناك.
عندها لمحت أضواء تلك المحطة في نفس
المكان الذي أشار لي عليه السائق السمج منذ سنوات، أبطأت سرعة سيارتي وأنا استعيد
الذكرى، شعرت ببعض القلق والتردد في البداية، ولكن شجعني على المضي ودخول المحطة
تلك السيارة التي تتزود بالوقود هناك وصاحبها يقف خارجها يتحدث بحماس مع عامل
المحطة الشاب، قلت لنفسي (بالتأكيد قاموا ببناء محطة على أثر القديمة، فالطريق كان
يحتاج دائما لمحطة وقود وخدمات).
عاودني القلق مرة أخرى عندما انتبهت أن
المحطة لا تبدو جديدة، فحالة مبانيها تشي بأنه قد مر على إنشائها عقود وكذلك طرز
المباني وآلات ضخ الوقود الضخمة المنتفخة التي تذكرك بمحطات الوقود في أفلام
الأبيض والأسود قديما ... كان الرجل الذي يسبقني قد أنهى تزويد سيارته العتيقة
بالوقود فدخل إليها وهو يلوح بالتحية للعامل، قام بتشغيل محرك السيارة فأصدر الأخير
صوت عالي كشهقة المحتضر، ثم بدأت السيارة تهتز بعنف وكأنها على وشك أن تنقلب على
ظهرها، أخيرا بدأت تتحرك ببطأ شديد مغادرة المحطة ... تسائلت من أين أتى هذا الرجل
بتلك السيارة العتيقة المتداعية، فأجابني عقلي البارع بأن هذا النوع من السيارات
يستخدم في المناطق النائية والقرى دون ترخيص حيث لا شرطة مرور ولا رقابة، ويستخدمها
أصحابها داخل نطاق قريتهم (للمشاوير) السريعة، جدي نفسه كان يمتلك سيارة (فورد)
يستخدمها بنفس الطريقة في قريته وحتى آخر عمره، اعتقد أن آخر ترخيص لها قد صدر في
عهد الملكة (تي) شخصيا.
أوقفت سيارتي إلى جوار آلة الضخ وأنا
مازلت أنازع مخاوفي، فنظر لي العامل متسائلا،
فقلت:
-
(صفيحة) واحدة.
-
ماذا؟
-
عشرون لترا!
فأومأ برأسه متفهما، ثم شرع في ملأ
السيارة بالوقود، شعرت بأن مخاوفي لم تكن في محلها، فالمحطة رغم كل شئ هي محطة
وقود عادية، وبها وقود أيضا!
-
لقد انتهيت
أخرجت من حافظتي ورقة من فئة المائة
جنيه، وناولتها له من نافذة السيارة.
-
هذا مبلغ كبير بحق، ألا يوجد معك خمس جنيهات؟
-
خمس جنيهات!
-
أجل، ثمن الوقود، أربع جنيهات وستون قرشا فقط.
نظرت له بدهشة وأنا أقول:
-
كيف هذا؟ ماذا وضعت في الخزان؟ ... لو زودته بماء مجاري
فلن يكون ذلك بخمس جنيهات! ... أتسخر مني؟
كان يعيد المائة جنيه لي مرة أخرى،
فانتبهت إلى تلك الحروق المرعبة في يده، نظرت إلى وجهه فأبصرت نصف وجهه الآخر الذي
كان غير مواجها لي في البداية، كان محترقا هو الآخر، حروق هائلة من الدرجة الرابعة
التهمت الجلد واللحم وتركت كرة عينه البيضاء معلقة وسط كل تلك التشوهات السوداء
والندوب التي تمثل ما بقي من وجهه.
كرر سؤاله مرة أخرى:
-
ألا يوجد معك خمس جنيهات؟
انتبهت إلى السؤال، فقلت متعجلا وبصوت
اختلج برعشة:
-
لا!
-
إذا سأسأل (عم محمود).
ثم توجه إلى المقصف مناديا (عم محمود)،
ذلك العجوز الذي خرج من المقصف متوكأ على عصاه الغليظه وتقدم في بطأ ولكن بنشاط ناحيتنا:
-
ماذا تريد يا (صبحي)؟
-
هل معك (فكة) هذا المبلغ؟
ثم ناوله ورقة المائة جنيه، فأمسكها
العجوز وأخذ يقلبها بحيرة، ثم اقترب من نافذة سيارتي وهو يقول بلهجة مؤدبة:
-
لا يوجد معي (فكة) لمثل هذا المبلغ الضخم.
كاد قلبي يتوقف، وكادت الصرخة تنطلق رغما
عني، وأنا أرى وجه العجوز المحترق أيضا ولكن بدرجة أكبر من العامل الشاب، واصل (عم
محمود) حديثه وهو يشير إلى الطريق:
-
إذا كنت سترجع من نفس الطريق، أكون قد جهزت لك المبلغ
المتبقي، عذرا فلا يوجد معي الآن ما يكفي.
قلت بسرعة بصوت مبحوح:
-
لا يوجد مشكلة.
وقبل أن أتلقى ردا، أدرت محرك سيارتي بيد
مرتعدة، وانطلقت بها مبتعدا بسرعة هائلة وكأن شياطين الكون تطاردني، قلت لنفسي في محاولة
يائسة لإعادة الثبات إلى روعي (من الممكن أن يكون كل ما حدث الليلة له سبب منطقي، رجلان
في وجهيهما حروق مروعة، يعملان في محطة وقود صممت على طراز قديم تبيع الوقود
بسعر أقل من سعر الماء، ويعتبران المائة
جنيه مبلغ ضخم، كلها أشياء يمكن أن يحدث أيا منها بمفردة واجتماعها معا جاء من قبيل
المصادفة ... على أي حال لن أعرج على المحطة في عودتي، وليذهب المبلغ المتبقي إلى
الجحيم، أنا بخير الآن ولن أجرب حظي الليلة مرة ثانية).
لم استطع أن أمنع عقلي من التفكير فيما
حدث أثناء العزاء، فسألني صديقي صاحب المكان عن حالي ولماذا أبدو قلقا؟ فقلت متذرعا بأنني أشعر بالقليل من
التعب والإرهاق ... كنت أفكر فيما على فعله أثناء عودتي عندما أمر بجوار المحطة،
فكرت للحظة أن أبيت في القرية حتى الصباح ولكنني وجدت أنه من الصعب أن أجد مكانا
للمبيت ولن يكون مناسبا أن أطلب المبيت لدى صديقي في تلك الظروف، سيكون علي أن
استجمع شجاعتي وأعود الليلة.
عندما مررت بجوار محطة الوقود عائدا في
تلك الليلة، تأكدت تماما أن كل ما حدث لي سابقا كان من الأمور الخارقة التي تسحق
جميع القواعد الفيزيقية والمنطقية، فأمامي وعلى مسافة مائتي متر كان المكان قد عاد
إلى صورته القديمة، أطلال متهدمة، واختفت المحطة بمافيها وما كانت عليه منذ ساعات،
ضغطت بقدمي على دواسة السرعة بقوة وعصبية، فقفز مؤشر السرعة إلى أقصى اليمين وأخذت
السيارة تتقافز فوق مطبات الطريق كالثور الهائج في لعبة (الروديو)، كانت السرعة
خطيرة مع حالة الطريق، ولكني كنت عازما على تجاوز ذلك المكان بأقصى سرعة.
-
أين تذهب، كنا ننتظرك!
كان ذلك هو صوت العجوز (عم محمود) ذو
الوجه المحترق الذي فوجئت به داخل سيارتي يجلس على المقعد الذي يجاور مقعدي، ضغطت المكابح بقوة فدارت السيارة حول نفسها عدة
مرات ثم بدأت تزحف عشرات الأمتار قبل أن تتوقف داخل سحابة من الغبار.
-
عليك أن تكون أكثر حذرا، القيادة بتهور تؤدي دائما إلى كوارث.
نظرت إليه عاجز عن الأتيان بأي رد فعل،
لمحت في المرأة العامل (صبحي) يجلس في المقعد الخلفي مبتسما بوجهه النصف محترق،
فصرخت في هستيريا:
-
ماذا تريدان مني؟ إرحلا!
قال (عم محمود) بهدوء:
-
لا يصح يابني.
كان الرعب الحيواني قد تمكن مني، فكرت
أن أفتح الباب وأقفز من السيارة هاربا، ولكن ذلك الشلل الذي اعترى كل عضو في جسدي
من الخوف وقف حائلا دون ذلك، كررت بصوت مرتعد:
-
ماذا تريدان؟
مد (عم محمود) يده، ووضع في يدي رزمة
من الأوراق النقدية، وهو يقول:
-
هذا حقك، المبلغ المتبقي من المائة جنيه خاصتك.
أخذتها منه دون أن أنبث ببنت شفة، أشعر
بأنني سأغيب عن الوعي في أي لحظة، فالتفت (عم محمود) إلى (صبحي) قائلا:
-
الحق حق، أليس كذلك؟
فأومأ (صبحي) برأسه موافقا ... وجه لي
(عم محمود) ملاحظة أخيرة قبل أن يختفي كلاهما وأجد نفسي وحدي في السيارة ترتعد كل
خلية في جسدي، أحمل في يدي رزمة من العملات من فئة الجنيه القديم الفاخر قبل أن يصيبه
الهزال وسوء التغذية وتحرشات الدولار، يتردد في ذهني صدى آخر كلمات قال (عم محمود)
أو شبحه:
-
لا تنس أن تمر بنا عندما تعود من هنا مرة أخرى، سنكون
دائما في انتظارك!
(تمت)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق