قصة رعب قصيرة بعنوان ... (نابش قبور)
كان هناك في تلك الليلة، يمسك بيده رفشا
قصيرا يزيح به التراب عن ذلك الغطاء الحجري، كانت عملية صعبة ومرهقة للغاية بسبب
ذلك القوام الرغوي لحبات التربة الرطبة بفعل الأمطار التي هطلت بغزارة في اليومين
السابقين، إتكأ براحتيه على كلتا ركبتيه ليتلقط بعض أنفاسه المتقطعة قبل أن يعتدل
وهو يجول ببصره في المكان، شعر بأنه داخل واحدة من قصص الرعب الكلاسيكية، فالقمر
المكتمل يرسل ضوئه الفضي ليمتزج مع القليل من الغيوم التي تغطي عبائة الليل
البارد، فيشكلان معا مزيجا لونيا فريدا يضفي حياة خاصة على تلك القبور الحجرية ذات
الشاهدين والتي تمتد إلا ما لا نهاية في صفوف غير منتظمة، وفي خلفية هذا المشهد
يمتد صف من أشجار الكافور العملاقة المتشابكة وقد اتشحت بسواد الليل وكئابته فبدت
كفصيلة من العماليق جائت من العوالم الخيالية لتقف حارسة على تلك القبور، تدفع
عنها من يحاول أن يدنسها أو يقلق راحة من وجدوا سلامهم أخيرا في باطنها.
لمن يملك بعض الخيال الخصب كان المشهد
كافيا لبث الرعب في روعه وإصابته بالخبال تماما، خاصة مع تلك الخلفية الصوتية التي
تصنعها بعض المخلوقات الليلية التي يحور الخواء أصواتها فيكسبها صدى وعمقا فلا
تدرك هل هي مناجاة أم صراخ أم عويل، أو هي آنات معذبة صادرة مباشرة من قلب الجحيم،
الشئ المؤكد أن وراء هذه الأصوات مخلوقات خطرة تمتلك أنياب أو مخالب أو ما هو أخطر
من كليهما، يمنعها فقط عن تمزيقك أنها لا تدرك وجودك هنا على مقربة منها ... أما
هو فلم يكن يمتلك رفاهية الخيال الخصب تلك! كان جهازه العصبي قد انسحق تماما وتحول
إلى كومة من الركام، هو لم ينل قسطا من النوم لأيام لا يكاد يحصيها حتى صار جل
مراده هو أن يغفو لعشرة دقائق فقط دون أن يشعر بأن هناك من يطارده محاولا القصاص
منه، يعرف أنه أخطأ خطأ فادحا، ولكنه يرى أن ذلك كان اضطراريا ، لو عاد به الزمن مرة
أخرى إلى تلك اللحظة الصعبة لما تغير قراره، كان عليه أن يختار بين نفسه وصديق
عمره، وهو اختار نفسه! .. فمن يلومه؟
كان التراب قد انحسر عن الغطاء الحجري، جثا على
ركبتيه، فتح حقيبة ظهره، وأخرج منها مطرقة ووتد من الصلب القاسي وبدأ يستخدمهما
لتحطيم الغطاء الذي يسد فوهة القبر، كان يشعر مع كل طرقة بأن المطرقة تهوي على
خلايا مخه فتهتكها وتمزقها أربا، كان الصوت عاليا إلى درجة كافية لإيقاظ الموتى! فماذا
عن أهل القرية؟ كان يتحسبهم وينتظر ظهورهم بين لحظة وأخرى ليقبضوا عليه بالجرم
المشهود، وينزلوا به عقاب نابشي القبور
وهو في عرف وتقاليد الريف المصري لن يكون عقابا سهلا، وقد ينتهي به الحال كما
انتهى بأصحاب هذه الدار.
كان التعب والأرهاق قد بلغا منه مبلغا شديدا، وكان
التراب والعرق يغطيان كل ذرة من كيانة حتى بات يشعر أنهما يجريان الآن في عروقه مع
الدماء، لم تكن حالته الصحية أفضل حالا، فغياب
النوم وقلة الطعام ، وثالث الأثافي ذلك الضغط العصبي الذي تعرض له في الفترة
الأخيرة، يستطيعون جميعا معا أن يذهبوا بصحته بلا عودة ... كان العمل يتقدم ببطأ
شديد، يتحمس لدقيقتين فيطرق بأقصى قوة
ولكن سرعان ماتخزله قوته فيرتاح لثلاثة دقائق يحاول فيها التقاط أنفاسه بصعوبة،
قبل أن يعتصر إرادته ويجبر نفسه على العودة للعمل مرة أخرى، حتى أثمر ذلك الجهد أخيرا
وبدأ الغطاء الحجري يتشقق مزعنا.
تنهد في ظفر وأقعى جالسا طلبا لفترة راحة
جديدة، سقطت عيناه على اللوح الرخامي الذي يزين المقبرة، كان اسم صديق عمره قد صار
يحمل لقبا جديدا، لقب المرحوم، والفضل في ذلك يرجع له هو.
لم يكن ذهنه بحال أفضل من جسده
المكدود، ولكنه يتذكر كيف بدأ كل هذا، يتذكر تماما...
...
- ما
الذي فعلته أيها الأحمق؟
- لم
يكن لدي حلا آخر يا صديقي، تعلم الضائقة المالية التي أمر بها، وتلك الشيكات التي
كان يجب علي سدادها، كنت مضطرا، ولكنني أعدك أن أعيد المبلغ الناقص بعد أسبوع.
- هذا
مبلغ كبير ولا يمكنني أن أخفي غيابه ليوم واحد، وأنت تقول أسبوع!
- أرجوك،
أنت صديق الوحيد، يجب عليك بحق الصداقة أن تعينني في عثرتي ... ولكن لا تقلق، زوجتي لديها قطعة أرض وقد اتفقت
مع مشتر، سيكون المبلغ بين يدي خلال أيام، أنا لا أطلب منك الكثير.
- هذا
يفوق الكثير، أجل نحن أصدقاء ولكن هذه أمانة ولا يمكنني أن أخون الأمانة، وحتى لو
فعلت، سيعود (رئيس العمل) بعد يومين من إجازته وسيفضح المبلغ المختلس!
- إذا
امنحني يومين فقط وأعدك أن أسوي المبلغ الناقص قبل نهايتهما.
- موافق،
ولكن لو تأخرت، أنت تعرف ما سأفعله.
- أعرف.
دفع تلك الخاطرة عن ذهنه وهو يشمر عن ساعديه ويعود ليطرق بقوة على رأس الغطاء الحجري
الذي بدأ يتداعى وظهرت ثغرة صغيرة في منتصفه، اتسعت الثغرة تدريجيا مما زاد حماسته
ودفع بالمزيد من الطاقة في عروقة، وسرعان ما تحطم الغطاء مخلفا مجموعة من الأحجار
الصغيرة تمكن من إزالتها بسهولة ليظهر خلفها جدار طيني هش لن يكون عائقا صعبا
أمامه الآن، يمكنه الآن أن يستريح قليلا قبل أن يكمل تلك المهمة المشئومة.
جلس على الأرض وأراح ظهره إلى جدار
القبر وأغلق عينيه وأخذ يسترجع الأحداث التي تلت قتله لصديقه! .. أجل لقد فعلها،
لقد قتل صديقه الوحيد، كان مضطرا لذلك بعد أن تراجع المشتري عن شراء الأرض ، وبعد
أن ارتاد كل السبل وفشل في أن يعيد المبلغ في الوقت المتفق عليه، وفي أن يقنع
صديقة بمنحه المزيد من الوقت، في تلك اللحظة غاب المنطق عن عقله تماما، وعلا صوت
الشيطان داخل أروقة عقلة فأطاعه إلى قتل صديقه، بل وفي تصوير ذلك ببراعة على أنه
انتحار من صديقه النادم على اختلاس الأمانة، تلك الأمانة التي اختلسها هو واتهم
فيها صديقه المغدور ... كانت خطة بارعة بحق، رسمها ونفذها بإتقان فنجحت معها كل
مساعيه، تذكر كيف رسم البراءة على محياه مختلطة بالذهول، وتذكر براعته في التمثيل
ودموع التماسيح التي سالت على وجنتيه، وكيف رثا صديقه بكلمات طيبة أنكرها الآخرون
واصفين صديقه بالمختلس، فتشاجر معهم لائما إياهم على الإساءة إلى ذكرى صديقه قائلا
(إنه كان مضطرا لفعل ما فعل بالتأكيد!).
أيام وليالي طويلة قضاها بعد تلك الواقعة في
صراع مع نفسه وضميره، يحاول أن يكتم صوتهما ، ويأبيان إلا أن يوجعاه بتلك الذكريات
عنه مع صديقه، يدفع تلك الذكرى إلى قاع ذهنه فيكتشف أنها مرتبطة بذكرى أخرى وأخرى
تطفو محلها، كحلقات في سلسلة طويلة من الذكريات، كلها عن صديقه المقتول بيده ... وأخيرا
عندما خال أنه قد تخطى تلك المرحلة، وهدأ صوت ضميره أخيرا وتشاغل عن آلام الماضي
بمتاعب الحاضر، بدأ التداعي ... في تلك الليلة كان مستلقيا على فراشه، يغلق كلتا
عينيه بشدة، يحاول جاهدا أن يجلب إليهما النوم فلا يستطيع، فجأه راوده ذلك الشعور
الغريب الذي يتملك أي أنسان بأن هناك من ينظر إليه ويراقبه، فتح عينيه وكان ما رآه
مرعبا بحق، فبجانبه وعلى نفس الفراش، بل وعلى نفس الوساده كان صديقه القتيل ممدا
على جانبه الأيمن وهو يحدق إليه بعينين لا ترمشان، ألجمته المفاجأة وتلعثمت
الكلمات على لسانه وهو ينطق باسم صديقه، لكن شبح صديقه لم يمهله وهو يصرخ في وجهه
بكلمة واحدة وبصوت كأنه ياتي من أعماق الجحيم:
- قاتل.
يمكننا أن نتصور ضروبا من ردود الأفعال
تجاه هذا الموقف الغرائبي المخيف، منها أن يتوقف قلبه فيموت رعبا، أو يفقد عقله
ويتحول إلى مجذوب محترف، أو على أقل تقدير يشيب شعره أو يفقد وعيه، ولكنه تجاوز كل
ذلك وهو يقفز من الفراش قفزة طويلة وهو يطلق صرخات حادة مولولة، قبل أن يضغط على
قابس النور ليكتشف أن شبح صديقه القتيل قد اختفى تماما، لم يدرك كم مر عليه من الوقت
وهو يفترش أرض الغرفة، يبكي ويولول ويندب حظه ويلعن فعلته، ويتلفت حوله بين الحين
والآخر متأهبا لعودة شبح صديقه مرة أخرى ليكمل ما بدأه ... في النهاية استطاع أن
يهدأ ويتماسك ويقنع نفسه بأن ما حدث مجرد أضغاث أحلام وأن عليه أن يتوقف عن
التفكير فيها ولا يغرق نفسه في المزيد من الخرافات، ولكن عندما رآه للمرة الثانية
في تلك الليلة أدرك ان ما حدث ليس حلما، بل هو حقيقة مفزعة، كان ذلك وهو يغادر دوره المياة حيث كان صديقه
هناك، يقف في الردهة مستندا على الثلاجة بسماجة وهو يردد نفس الكلمة (قاتل).
لم يكن مستغربا بعد ذلك أن يراه مئات
المرات في كل مكان وزمان دون نسق واضح أو تأثرا بمؤثر خاص، كان يفاجئ به في كل مرة
يفعل نفس ما يفعله ويردد نفس كلمته، حتى في الحافلة وهو عائد من عمله عندما راودته
سنة قصيرة من النوم صحا منها ليجد صديقه جالسا على المقعد الذي يجاوره وهو يردد
نفس الكلمة الملعونة ، لم يشعر بنفسه وهو يصرخ ويدفع الناس حوله في الحافلة ويقفز
منها أثناء سيرها، كان طبيعيا أن ينعته الجميع يومها بالجنون ويتهامسون بعدها حول
صحته العقلية، كان صديقه شبحا شديد الجرأة بحق، لا ينتظر تلك الظروف الشبحية الخاصة
والمتعارف عليها في قاموس الأشباح حتى يظهر، ولكنه كان يظهر في كل وقت، وحتى وسط
مئات الأشخاص فلا يراه أو يسمعه غيره.
كان بديهيا أن يتحطم جهازه العصبي
تماما، وكان بديهيا أن يفقد عمله ويبتعد عنه المقربون، فمن ذا الذي يحتمل شخصا
مجنونا يرى أشباحا في شمس الظهيرة ويتبع ذلك في كل مرة بفاصل طويل من الصراخ
والعويل، حاول مع الكثير من الأطباء النفسيين فكانت النتيجة أنه ابتلع صيدلية
كاملة من العقاقير المهدئة والمنومة وروى تاريخ حياته ألف مرة متجاوزا واقعة قتل
صديقه، لكن كل هذا لم يفلح في أن يوقف زيارات شبح صديقه المنتظمة والتي غالبا ما
كانت تأتي في أسوأ الأوقات فتزيد حالته طرا.
في النهاية دفعه اليأس إلى واحد من
هؤلاء الدجالين الذين يجيدون التعامل مع الأشباح السمجة، فأملى عليه تلك الوصفه
الرهيبة بأن ينبش قبر صديقه ويحرق ما بقى من رفاته بعد أن يصب عليها بعضا من
السائل من تلك القارورة العتيقة، على أن يفعل ذلك بنفسه في ليلة مكتملة القمر،
ناوله القارورة وأتى على ما بقى لديه من المال ... في الواقع هو لم يعد يحتاج لمال
ولا لزوجة ولا لعمل ولا لأي شئ آخر، هو فقط يحتاج للتخلص من تلك اللعنة الرهيبة
حتى يستطيع النوم ولو لساعة واحدة.
توقفت خواطره عند تلك النقطة مع ذلك
العواء الحزين لذئب وحيد أو لكلب يحاول مستظرفا أن يقلد صوت الذئب أو لمستذئب
يناجي القمر ويبحث عن فريسة جديدة تحت ضوءه ... عاد به ذلك العواء إلى الحاضر فقام
متعجلا وقد زادته الذكريات الأليمة تصميما ... أخذ ينازع الجدار الطيني بيده
وبقدمه وبالرفش حتى تهاوى تماما، وبدت من
خلفها فجوة نحو ظلمة القبر تنبعث منها رائحة عطنة، أشاح بوجهه للحظه وغطى فمه
وأنفه بياقة قميصه، مد يده الممسكة بمصباح يدوي إلى داخل ظلمة الفجوة واستطاع أن
يميز ذلك الكفن االمهترئ المدد على مصطبة حجرية، راودته فكرة ليست في وقتها، أن
هذه ليست هي الطريقة الشرعية التي يجب أن يدفن بها صديقه، كان من الأولى أن يوارى
جسده التراب أو على الأقل يهال عليه منه قدرا كافيا، وفكر أن تلك الطريقة هي أقرب
لما كان يفعله الفراعنة قديما بموتاهم لعل ذلك هو السبب الذي جعل صديقه يطارده بعد
موته، بالتأكيد لم يجد الراحة في قبره ... فجأة شعر أن هناك حركة خلفة وقبل أن
يلتفت تلقى ضربه هائلة على رأسه، غاب بعدها عن الوعي تماما.
عندما عاد إليه الوعي أدرك أنه لم يغب
كثيرا، فساعته الضوئية تشير إلى أنه قد مرت دقائق قليلة فقط، كان المكان قد صار
مظلما وضيقا ومختلفا، وعلى ضوء المصباح الأصفر الذي كان ملقا على الأرض أمامه
صعقته الحقيقة، أدرك في رعب شديد أنه الآن داخل قبر صديقه وعلى بعد بوصات قليلة من
رفاته، وما أذهب صوابة تماما بلا عودة، أنه وجد الفجوة التي هتكها منذ قليل إلى
القبر قد صارت مغلقة وبإحكام، وهو الآن حبيس داخل القبر ... أطلق عواء مذعور وهو
يحاول في هستيرية أن ينبش خارجا ولكنه لم يستطع ذلك دون الأدوات التي تركها في
الخارج، شعر باليأس بعد أن تيبست عضلاته وتحطمت
أظافره فأدمت أصابعه، أخذ يصرخ ويلطم وجهه حتى غاب عن الوعي مرة أخرى.
وعندما أفاق في تلك المرة لم يكن يدرك
كم مرة غاب عن الوعي و كم مرة عاد إليه؟، وتمنى أن يكون ما فيه الآن هو كابوس شديد
البشاعة أو حالة من الهذيان أصابته بسبب الحمى، أو ياليتها تكون سكرة من سكرات
الموت فلا يتأخر عنه الأخير ويأتي ليخلصه مما هو فيه من العذاب، ولكن سرعان ما
يدرك الحقيقة المفجعة، لقد دفن حيا مع جثة صديقه الذي قتله بيديه ... كان ضوء
المصباح قد خفت قليلا ومع الضوء الخافت لمح كفن صديقه يهتز قبل أن ينشق ليبرز منه
رأس صديقه المهترئ و هو يردد كلمته الأثيرة
- قاتل
لم يعرف بماذا يرد؟ .. أو ماذا يفعل؟
.. كان عاجزا حتى عن الخوف أو الهلع!
خبا ضوء المصباح قبل أن يغيب تماما، وفي
ظلمة القبر كان يشعر بأن جسد صديقه يزحف صوبه في بطأ دؤوب، لم يكن يشعر بالخوف في
تلك المرة فقد كان يشعر بأنه نال المصير الذي يستحقه، والأهم من ذلك أنه أخيرا يستطيع
أن ينام، استلقى على ظهره وأغلق عينيه، أغلقها للابد!
جزء من خبر من جريدة محلية لا يقرؤها
أحد، بعد ذلك بفترة:
** ... موقف غريب تعرض له أهالي قرية
(....)، أثناء دفن جثمان السيد (...) من عائلة (...)، حيث فوجؤا بوجود جثة غريبة
داخل القبر لا تنتمي لعائلة المتوفى، ورغم حالة التحلل التي كانت عليها الجثة إلا
أن الثياب التي كانت عليها قد تنبأ بوجود شبهة إجرامية، وبالتحري عن صاحب الجثة من
الأوراق الرسمية التي وجدت بحوذتها، وجد أن صاحبها كان صديق لآخر متوفي من
العائلة، اسمه (....) **
.. (تمت) ..
للمزيد زوروا صفحتنا لقراءة المزيد من قصص الرعب ...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق