الجمعة، 19 أغسطس 2016

فتاة القبو


قصة رعب قصيرة بعنوان ... (فتاة القبو)

اليوم أعود إلى قريتي وإلى داري القديمة، هنا ولدت وعشت أجمل أيام حياتي حتى سن العاشرة، عندما قرر أبي أن موعد الرحيل قد جاء وقرر وأن يحملنا معه كما يحمل المتاع، اعترضنا أنا وأختي وبكينا حتى تورمت أعيننا، هربنا واختفينا بين الزروع وقررنا ألا نعود حتى يغير أبي قراره، ولكن الجوع والخوف وبرد المساء أقنعونا بالعودة صاغرين ... أذكر أصدقائي، ومدرستي الصغيرة ومعلميها البسطاء الذين صنعوا صورة ذهنية ترسخت داخل وجداني لما يجب أن يكون عليه المعلم المحترم، العاشق لمهنته، والفاهم لخطورتها وتأثيرها، أذكر الأشجار والنباتات، والترعة الصغيرة والصيد بالبوصة، ومعدية عم (منصور) العتيقة، أذكر ذلك الفتي الأسمر المتحمس دائما (سيد) وهو يسحب عقال حمارتنا البيضاء الأصيلة ونحن على ظهرها أنا وأختي، أدعي أنني فارس وتدعي هي أنها أميرة قد خرجا لتوهما من عالم الحواديت، أذكر قريتي وبيوتها المصنوعة من القش والطوب اللبن، وطرقاتها الضيقة التي تتمايل بين البيوت بحنان وتحتضنها، أذكر حانوت عم (رجب) الوحيد من نوعه والذي تجد فيه ضالتك من الأبرة للصاروخ، وتلك الحلوى الملونة التي لم أتذوق مثيلا لها في أي مكان آخر من العالم ... كل هذا تغير اليوم، فقد تحولت قريتنا الدافئة الحنون إلى مدينة مشوهة، غريبة على نفسي  لا آلفها، بأهلها وملامحهم وملابسهم التي طالها العصر فبدلها بأخرى مزيفة مفتعلة، وبيوتها متعددة الطوابق المصنوعة من الأسمنت، وطرقاتها المرصوفة القاسية، والمحال والبوتيكات و(الكافيهات) التي ملأت كل شبر فيها.
وضعت المفتاح في القفل الصدئ فنازع قليلا ثم استجاب، دفعت الباب الخشبي العملاق فأصدر أنينا غاضبا ونفخ في وجهي دفقا من غبار السنين ثم انفتح، المكان كما تركته آخر مرة عندما رحلت عنه مع أبي تاركين جدي وجدتي ورائنا ... أخذت أجول في المكان استرجع الذكريات التي تربطني به، وبكل من عاش فيه، وجميعهم رحلوا عن هذه الدنيا في فترات سابقة، لم آت اليوم بحثا عن تلك الذكريات ولم أدعها كي تحاصرني بهذا الشكل، لقد جئت اليوم في مهمة واحدة، أبيع فيها منزل الأجداد بعد أن صار سعره خرافيا، وأعود بعدها مرتحلا إلى غربتي حيث زوجتي البريطانية وأبنائي منها.
هذه غرفة جدتي، أذكر أنها كانت تضمنا أنا وأختي إلى فراشها في الليالي الباردة وتدفئنا بحكايات الرعب التي لا تنضب من معينها أبدا، قصص وحكايات يختلط فيها الواقع بالخيال فلا نستطيع أن نعرف هل ماتقصه علينا حقيقي وحدث بالفعل أم هو ضربا من ضروب الخيال ... مازلت أشعر بالرعب بعد كل هذه السنين كلما تذكرت حكايتها عن الفتاة التي خنقها أبوها بعد علاقة آثمة مع جار لها ودفنها تحت هذا المنزل، والتي يسمع صوتها قادما من القبو في بعض الليالي، تستحم وتغني بصوت عذب، حزين، عن حبيبها الذي تشتاق له ولا تعرف له أرضا، تقول جدتي:
- كنت في مثل عمريكما عندما سمعت صوتها للمرة الأولى، يختلط صوت غنائها بصوت الماء وهو يصب من آنيته ... كنا إذا سمعناها تدثر كل منا في فراشه حتى تنتهي، فإذا ذهبنا بعدها للقبو لم نجدا أثرا لها ولا للماء الذي كانت تستحم به.
قلت متصنعا الشجاعة:
- لو كنت موجودا حينها لنزلت إلى القبو وطردتها.
قالت الجدة وهي تهز رأسها في شفقة:
- فعلها شاب صغير كان يعمل في منزلنا آن ذاك ... لاحقها المسكين إلى القبو عندما سمع صوتها، وهناك رآها وهي عارية تستحم.
- وماذا حدث بعدها؟
قالت الجدة بصوت مخيف:
- نظرت له بعيناها!
- وماذا في ذلك!؟
- كانت عيناها مرعبتين إلى أقصى درجة، يقال أنهما أكثر رعبا من الموت نفسه، حتى أن الشاب لم يحتملهما، فأصابته حالة من الحمى والهذيان، ظل بعدها عدة ليال غائبا في فراشه، لا يفيق إلا لثوان يصرخ فيها ويبكي ويخرف ببضعة كلمات عن عينيها وتأثيرهما، ثم يعود إلى النوم.
- وهل تحسنت حالته؟ ، وهل حكى لكم عما رآه؟
- لم تتحسن حالته، لقد ظل على تلك الحالة أسابيع، حتى عادت اللعينة في ليلة باردة تغني أغنيتها المشئومة فهرع إليها، ولم يستطع أحد إيقافه، وفي الصباح عندما نزلنا للقبو نبحث عنه، وجدنا جثته وقد شاب شعرها، وحالت ملامحها إلى ملامح شيخ عجوز، لقد مات المسكين  .. قتلته اللعينة!
توقفت الجدة عن الحديث، فحثثناها على الاسترسال، فقالت:
- أذكر تلك الواقعة، وأذكر الليلة التي تليها، لآن تلك اللعينة جائت فيها وظلت تغني وتستحم حتى الصباح وكأنها تحتفل بفعلتها، حتى أن أبي حمل بندقيته غاضبا وقرر النزول ومواجهتها ولكن دموع أمي واستعطافها له بألا ينزل خوفا عليه كانا حائلا دون ذلك.
- وماذا فعلتم بعدها؟
- لا شئ، جئنا بالشيوخ، والمسحرين، وجربنا كل شئ، وصفات، أحراز، وقيات، ولكن شيئا من هذا لم يردعها ... قرر والدي سد باب القبو بجدار من الطين ولكن صوتها ظل يصل لنا من وراءه متحديا في الليالي التي كانت تظهر فيها...
- وكيف انتهى الأمر؟
نظرت الجدة لنا نظرة تحمل مزيج من الحكمة والحنان، وهي تقول:
- ياطفلي الحبيبين، ينجح الزمن دائما فيما يفشل فيه البشر ... فبمرور الزمن بدأت تلك الزيارات الغير مرغوبة تتناقص، حتى توقف تماما، وبعد سنوات طويلة نسى الجميع كل شئ عنها، وعندما تزوجت جدك، أعاد فتح القبو ووضع فيه حاجياته، فكرت يوما أن السبب في توقفها عن الظهور هو أنها قد ملت عالم البشر، أو أنها قد وجدت حبيبها الضائع أخيرا.
رعدة قوية شعرت بها في جانبي الأيسر أوقفت سيل الذكريات المنهمر، كان ذلك هو هاتفي المحمول يرتعد في جيب بنطالي بعد أن كتمت صوته كعادتي وضبطته على نسق (الهزاز)، قمت بالرد، فوجدت السمسار يخطرني بأن الشاري قد أجل موعد حضوره إلى باكر، وهو يرسل اعتذاره، أجبته مرحبا أنه لا مشكلة في ذلك، وأنا ألعنه هو والشاري في باطني على تضييع وقتي بهذه الطريقة ... لا أعرف هل سيكون مناسبا الآن أن أسافر إلى العاصمة حيث الفندق الذي أقيم فيه وأرجع مرة أخرى غدا صباحا، تذكرت أن معي بعض أدوات التخييم في سيارتي المؤجرة، سأجلبها وأخيم ليلتي هنا في غرفة جدني، قد تكون تلك فرصة مناسبة لاجترار المزيد من الذكريات.
عند منتصف الليل اكتشفت أنها كانت مجرد ليلة عادية أخرى، بعيدة تماما عن الذكريات، تناولت فيها بعض الشطائر الدسمة وكوبين من العصير، تصفحت الأنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي على جهازي اللوحي وتابعت بعض الأعمال المتأخرة، واتبعت ذلك بقراءة فصل قصير من رواية بوليسية حديثة حملتها إلكترونيا على جهازي، شعرت أخيرا بالتثاقل وبالنوم يداعب عيناي.
كنت قد غبت في النوم تماما، عندما دفعني شئ ما للاستيقاظ دفعة واحدة، أنا لا امتلك حاسة خاصة أو قدرة خارقة، ولكنني شعرت منذ اللحظة الأولى أن هناك شئ غير طبيعي، كان ذلك حين سمعت صوت خرير الماء المتقطع يأتي من أسفل وكأن هناك من يصب الماء في آنية معدنية:
- اللعنة، ما هذا الصوت؟
بدأ صوت الغناء منخفضا في البداية، ثم تعالى تدريجيا، متداخلا مع صوت الماء، كان الصوت لفتاة مراهقة تغني بصوت جميل ولكنه حزين، يأتي دون شك من ناحية القبو:
 ** واحشني ياحبيبي ... غبت عني ورحت فين **
** مش هنسى ياحبيبي ... مهما فاتت سنين **
كانت كل شعيرة في رأسي وساعداي قد انتصبت في تلك اللحظة، وتوترت كل عضلة في جسدي،  قلت بصوت عال دافعا القلق عن باطني:
- ما هذا؟ .. أنا لا أؤمن بتلك الخرافات.
نهضت من فراشي وتحركت متحسبا إلى خارج الغرفة متجها ناحية القبو، كان الصوت يتعالى كلما اقتربت، نفس الجملتين يتكرران كأنه شريط تسجيل معطل:
** واحشني ياحبيبي ... غبت عني ورحت فين **
** مش هنسى ياحبيبي ... مهما فاتت سنين **
دفعت باب القبو، فتحرك مصدرا صريرا عاليا، ترقبت للحظة ثم دخلت، هناك بالتأكيد ضوء ضعيف كضوء شمعة يأتي من نهاية القبو، بدأت قدماي ترتعدان دون إرادة مني ولكنني قررت ألا أسمح لهما بأن يردعاني، بالتأكيد هناك سبب منطقي وعلمي لما يحدث، أتذكر أنني قلت لجدتي وأنا طفل صغير (لو كنت موجودا حينها لنزلت إلى القبو وطردتها) بالتأكيد لن أجبن الآن بعد أن أصبحت رجلا قويا.
 لمحتها، كانت هناك في ركن قصي من القبو، تقف داخل (قسط) من النحاس تستحم، يسترسل شعرها على ظهرها حتى دون ركبتيها فيغطي جسدها العاري، تمسك بيمينها آنية من المعدن تصب به الماء على شعرها وتملس عليه بيسارها وهي تغني تلك الكلمات اللعينة.
بصوت مرتعد رغما عني، ناديت عليها:
- أنت، هناك؟
توقفت عن الغناء وسقط الآناء من يدها على (القسط) النحاسي فأصدر صوتا عاليا، مزعجا ... استجمعت شتات شجاعتي وأردفت بصوت خشن:
- ما هي الخدعة؟ ماذا تفعلين هنا؟
بدأت تلتفت إلى ببطأ، تذكرت كلمات جدتي عن العينين المرعبتين كالموت، فكرت أن أغمض عيناي كيلا أراهما ولكن الفضول كان أقوى مني ... حتى رأيتها فصعقتني عيناها، كان نصف رواية جدتي صحيحا، فلا أحد يمكنه احتمال رؤية هاتين العينين، ولكن ليس لكونهما مرعبتين ولكن لأنهما أجمل من أي شئ آخر في هذا العالم!.. كانت الفتاة آية من آيات الجمال والحسن، جمال لم أره من قبل بين بنات حواء، جمال أصابني بحالة من الدهشة والذهول، وأنا أردد:
- أنت جميلة جدا.
رفعت قدمها عن (القسط) النحاسي ووضعتها على الأرض واتبعتها بقدمها الأخرى، ثم بدأت تتقدم بخطوات مغوية نحوي، كنت قد فقدت الشعور بالزمان والمكان وأنا اتحرك ناحيتها بدوري حتى صرنا على بعد خطوة واحدة، نظرت لي بعينين ناعستين، وقالت بصوت يقطر عذوبة:
- هل جئت أخيرا؟
قلت كالممسوس:
- أجل.
 ألقت بنفسها نحوي ودفنت رأسها في صدري، فاحتضنتها وشعرت بدفأ جسدها في جسدي ... لا استطيع أن أصف مشاعري في تلك اللحظة، لا توجد مفردات في أبجديات البشر تصلح لوصف حالتي وما أشعر به،  وكأنني أجرب باقة جديدة من الأحاسيس والمشاعر لم يجربها إنسان من قبلي، مشاعر رائقة صافية تحلق بي بعيدا في عالم من عوالم الخيال، تجوب بي ربوع الكون في لحظات، طاقة إيجابية هائلة تشحن خلايا روحي العجوز المنهكة فتعيدها شابة غضة وكأنها ولدت بالأمس، لم أعرف كم مر من الوقت وأنا على تلك الحالة، ولكني انتبهت إلى ذلك الصوت الخشن وهو يتنحنح قائلا:
- سيدي، هل أنت بخير؟
كنت أقف هناك في القبو وقد تسرب ضوء النهار إليه،وقد انعقد ساعداي حول صدري يحتضنان الخواء:
- هل أنت بخير؟
كان هذا هو السمسار وبصحبته الشاري الذي جاء معه من أجل المنزل، يقفان أمامي ينظران إلي نظرات متعجبة، فقلت وأنا اتلفت حولي كالمجنون:
- أين هي؟ أين ذهبت؟
-  لا أحد هنا غيرك ياسيدي، جئنا إليك حسب الموعد، كان الباب مفتوحا، فدخلنا وبحثنا عنك ووجدناك هنا تقف وحدك ... هكذا!
صرخت فيه:
- أنت كاذب، لقد كانت هنا منذ لحظة واحدة!
دفعته بعنف فكاد يسقط على الأرض، وأخذت أبحث في القبو بجنون فلم أجد آثرا لما حدث في الليلة الماضية ... مرى أخرى تنحنح السمسار، وقال بصوت محرج:
-   معي الأستاذ  (شهاب)، سيدفع ثلاثة ملايين من أجل المنزل.
صرخت فيه مرة أخرى وأنا أطرده هو وصاحبه إلى خارج القبو وخارج المنزل، قائلا:
-  لن أبيع، المنزل ليس للبيع!
أغلقت الباب وراءهما وجسوت على ركبتيي، أغمضت ناظري وأنا أحاول استعادة المشاعر الجميلة البكر التي أحسست بها الليلة الماضية، شعرت بالضيق عندما فشلت في استعادتها وكأنها تسربت عبر ثقوب روحي كما يتسرب الماء من المصفاة، عدت إلى القبو وأنا أصرخ بجنون:
- أين أنت؟ أين أنت ؟
شهور طويلة مرت على تلك الليلة، هجرت فيها كل شئ في الخارج عائلتي، عملي، حياتي، لازمت فيها هذا المنزل، أسهر كل ليلة حتى ضوء الفجر، انتظر النداء فلا يأتي أبدا، نحل جسدي وشاب كل شعري واستطالت لحيتي وهزلت صحتي، من يراني الآن لن يعرفني، أسمعهم يتحدثون في الخارج عن أصابتي بالخبال ويقولون (ندهته النداهه)، ولكنهم هم المخابيل، فهم لم يروها، ولم يجربوا دفقة واحدة من تلك المشاعر التي منحتني إياها في تلك الليلة، أشعر بالأسى من أجلهم، كيف يقضون أعمارهم ويموتون دون أن يجربوا تلك المشاعر... اليأس لن يتسرب إلى نفسي، أعرف أنها ستعود إلى مرة أخرى، وعندما تعود لن أتركها ترحل وحدها هذه المرة، سأرحل معها دون شك،أشعر أن الليلة هي الليلة المنتظرة .... أشعر بذلك يقينا! ... أسمع صوتها قادما الآن، تنادي علي، أنا قادم:
** واحشني ياحبيبي ... غبت عني ورحت فين **
** مش هنسى ياحبيبي ... مهما فاتت سنين **

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق