الخميس، 11 أغسطس 2016

مطعم متميز!



قصة قصيرة بعنوان  ... (مطعم متميز!)


هل يجب أن تكون السكين إلى يسار الصحن والشوكة على يمينه؟ هل يجب أن تكون هناك ملعقة خاصة للحساء؟ هل نطبق المنشقة ونضعها على أرجلنا، أم نشنق بها أنفسنا؟ تفاصيل كثيرة لا ألقي لها بالا، ما أهتم به حقا هو الطعام وجودته ... لماذا كل هذا التأخير؟ أكاد أموت جوعا، انظر إلى أخي وأختي وهما يلهوان بأدوات الطعام، وإلى أمي وهي تجاهد للسيطرة عليهما ومنعهما من تحطيم الأكواب والصحون، وأبي وهو يتجاهل كل هذا ويتصفح أحد مواقع التواصل الاجتماعي على هاتفه المحمول.
انتظار الطعام في مطعم هو نوع من أنواع التعذيب، ولكنه يكون مقبولا وبل ومحببا إذا كان بقاءك في المنزل يعرضك لأنواع أكثر قسوة من التعذيب كالمذاكره والقيام بالواجبات المنزلية ورعاية أخويك الشقيين، كما أنه يدفعك إلى حالة من التأمل وأنت تتشاغل عنه مصطنعا اهتماما بكل شئ حولك وكأنك تراه لأول مرة، السقف، الأرضية، وضعية أدوات الطعام، اللوحات على الحائط، ذلك الحاجز المصنوع من الخشب المعشق (الأرابيسك) الذي يمكنك أن ترى من خلاله الرواق الذي يؤدي إلى المطبخ.
افتتح هذا المطعم منذ شهرين فقط بالقرب من منزلنا، كنا نراه دائما ونحن في طريقنا من المنزل أو إليه، اليوم قررنا أن نجربه، أتمنى أن تكون جودة الطعام فيه كمظهره وطريقه تأثيثه، اللذان يتميزان بالذوق الراقي والتصميم (الكلاسيكي) البسيط ... أتأمل الحائط أمامي فتثير اهتمامي لوحتان، الأولى تمثل شجرة سوداء عملاقة تتفرع منها جذوع طويلة ومتشابكة، ولا يوجد عليها ورقة شجر واحدة، والثانية كانت لثلاثة أوعية أوسطهم به بذور سوداء وتنبت من أسفله جذور داكنة، ما هذا الذوق الأسود الكئيب؟ رسوم جميلة وأصلية رسمت بألوان (الأكريليك)، ولكنها تبعث فيك مشاعر (ال .. أحم .)، يبدو أن الطعام في الطريق! أرى النادل يخرج من المطبخ وهو يحمل بعض أوعية الطعام، استطيع أن ألمحه عبر حاجز (الأرابيسك)، بالتأكيد هذا الطعام لنا، فلا أحد غيرنا في المطعم الآن.
أخيرا وصل النادل ووضع الطعام على الطاولة أمامنا وانصرف بتهذيب وهو يسأل عن أي طلبات أخرى لنا، لم يكن أحدنا منتبها للرد على سؤاله، فقد انطلق أخي وأختي يتصارعان على نيل حظا وافرا من طبق المقبلات قبل الآخريين، وأمي تحثهما على التروي وتحدثهما في يأس عن الأدب والذوق، أما أبي فتجاهل كل هذا كعادته، وهو يتلمظ قطع (الجمبري) من طبق المأكلوات البحرية الذي طلبه لنفسه، اقتنعت الآن أن طريقة أبي مجدية في بعض الأوقات، فمتابعة أفعال هذين الشيطانين تثير أعصابك، كما أنها  قادرة على إفساد شهيتك تماما، لذا حذوت حذوه وقربت طبق الشواء خاصتي وبدأت أقطع شريحة اللحم إلى مكعبات صغيرة وأصفها في طبقي كعادتي، غرزت الشوكة في أولها ورفعتها نحو فمي الذي سال اللعاب منه ... فجأة قاطعتني تلك اللمحة المرعبة التي غيبت شهيتي في لحظة ليحل محلها الرعب والخوف ... أقسم أني رأيت النادل عبر ذلك الحاجز وقد استطالت أظافره وحال لون وجهه إلى اللون الأزرق الشاحب، بل أنني متأكدة من رؤيتي لأنيابه وهي تنمو إلى خارج فمه في لحظه، حاولت التحقق مما رأيت ولكنه كان قد اختفى داخل المطبخ.
هل ما رأيته كان حقيقيا؟ أم هو وهم بفعل الجوع وتلك الرؤية الشبحية عبر حاجز (الأرابيسك) ... لا استطيع تناول الطعام الآن فصورة النادل المفزعة لا تفارق مخيلتي ... ناديت عليه عدة مرات، بحجة أنني أريد بعض (الكاتشب) فلم أتلق إجابة ... لست شجاعة بطبعي ولكنني فضولية كما أن عقلي نجح في إقناعي بأن ما رأيته كان مجرد وهم لحظي وخدعة بصرية، لذا أقترح علي عقلي اللعين بأن أتأكد مما رأيته بنفسي، يبدو أن الجزء المغامر فيه والذي يتغذى على أفلام (الأكشن) والرعب هو الذي يحركه الآن ... قررت التسلل إلى المطبخ لألقي نظرة أخرى على هذا النادل، استأذنت أبي للذهاب إلى دورة المياه التي تقع في آخر الرواق، تحركت نحوها بحذر، اسمع بعد الجلبة تأتي من ناحية المطبخ، اقتربت منه ببطأ وخطوات متحسسة، تلفت خلفي فتأكدت أن لا أحدا من عائلتي منتبه لي الآن، فجميعهم منشغلين بالإتيان على ما تبقى من الطعام.

فتحت باب المطبخ وانتظرت لحظة، أشعر بدقات قلبي تتعالى وبالدماء الباردة تندفع بقوة في أوردة عنقي، تقدمت إلى الداخل بأقدام مرتجفة، لا أحد هنا، المكان بارد، مظلم، ومقبض ... تساءلت، إذا من أين يأتي النادل بكل هذا الطعام؟ شعرت بالحيرة، الخوف والقلق يعربدان داخلي، فكرت في العودة والاكتفاء بإنجاز الوصول إلى هنا ومحاولة تناسي كل ما حدث، لكن شعرت بالحركة فتواريت وراء موقد عملاق، لمحت ذلك المخلوق المريع يخرج من ركن مظلم من أركان المطبخ، لم يكن ما رأيته وهما بل كان تحولا ولكنه كان في بدايته، الآن التحول قد اكتمل تماما وأرى النادل أمامي وقد تحول إلى غول بملامح مشوهه ومرعبة ... يقترب ذلك الغول من موقعي فتتزايد الرعدة في جسدي، يزيح الموقد العملاق بدفعه من يده كأنه يحرك لعبة صغيرة، ينظر إلى وهو يبتسم بفم مشوه ملئ بالأنياب المغروسة في شفتيه الغليظتين، يمد يداه وكفيه المعروقتين الزرقاوين نحوي فتستطيل مخالبه أكثر وتتشابك فتذكرني بتلك اللوحة التي رأيتها سابقا ... انطلقت مني صرخة هائلة تصم الآذان، لا أعرف من أين جئت بتلك الطاقة ولا أي معجزة آلهية مكنتني من مراوغته والإفلات من بين براثنه والهروب إلى خارج المطبخ، عدوت نحو طاولة عائلتي وصرخت فيهم:
- هناك غول في الداخل، إنه يلاحقني، هيا نهرب!
لم يعيرني أحد منهم اهتمام وهم مستمرين في تناول الطعام بنهم وتلذذ، أمسكت بيد أمي و جذبتها نحوي ولكنها تابعت تناول الطعام باليد الاخري، لماذا يأكل أخواي بهذا الهدوء والدعة هذا ليس من عاداتهما؟ لماذا ترك أبي هاتفة المحمول وانتبه إلى الطعام فقط؟ لا شئ طبيعي مما يحدث الآن، هل أنا في حلم أو كابوس مرعب ... انتبهت خلفي فرأيته يسير نحوي بخطوات متأدة وعلى وجهه المشوه ابتسامة خبيثة، لعينة، شعرت بعيناي تزوغان وبأقدامي تتحول إلى عودين من المكرونة جيدة الطهو، سقطت على الأرض وأنا أطلق صرخات متلاحقة كصفير قطار، زحفت للخلف حتى التصق ظهري بالحائط فشعرت ببرودته وكأني داخل ثلاجة، دفنت رأسي بين ركبتاي، وأغلقت عيناي، وأطبقت كفاي على أذناي ، واتبعت طريقة النعامة في الهرب بتجاهل الخطر وهي بالطبع طريقة غير مجدية مع الغيلان!.. أشعر به يقترب مني حتى صار على بعد خطوة واحدة، أشعر بأنفاسه الكريهة وبيده تتحسس وجهي وشعري:
- بنيتي
هذا الصوت، إنها أمي!.. نعم هي أمي!.. كانت أمي متكأة على الأرض أمامي تحاول تهدئتي، ألقيت بنفسي بين ذراعيها وانطلقت في نوبة من البكاء حتى غرقت دموعي كتفيها.
- ما خطبك؟
- غول ... هناك!
أشرت بأصبعي تجاه المطبخ، كان جسدي ينتفض، الكلمات ترتعش على لساني، فقالت أمي مترفقة:
- لا تقلقي يابنيتي، لا يوجد ما يخيف.
فقلت لها بحيرة وتوتر وأنا اتلفت حولي:
- لا، لقد رأيته بعيناي هاتين.
وضعت أمي أصابعها برفق على فمي لإسكاتي، وهي تقول:
- يبدو أنك كنت مرهقة، فأصابك النوم ... هذا مجرد كابوس.
- ماذا؟ لا هذا المطعم غير طبيعي، والنادل ليس إلا غولا مرعبا.
قالت أمي:
- ولكن الطعام كان لذيذا.
نظرت إليها بتعجب وهي تعتدل في جلستها لتقف وتنضم إلى باقي العائلة وهم يقفون بجوار الطاولة في صف واحد يذكرك بطابور الصباح في المدرسة، شعرت بالقلق وأنا أقول:
- ماذا تفعلون؟ لماذا لا يصدقني أحدكم؟
خرج النادل من المطبخ على هيئته البشرية وانضم إلى الطابور ووقف في منتصفه تماما، ووجه حديثه لي وعلى وجهه ابتسامة ماكرة:
- من سيدفع ثمن الوجبة؟
في اللحظات التالية ساد الرعب وخرج عن السيطرة تماما، كنت أصرخ بتلك الصرخات الهستيرية وأنا أرى الجميع، النادل، أبي ،أمي، أخواي، يتحولون إلى تلك الهيئة المرعبة، هيئة الغيلان، نظر لي الغول الذي يقف في المنتصف، وقال بصوت خشن، متحشرج، وهو يشير بمخلبه إلى صحن اللحم المشوي خاصتي الذي لم أتذوق شيئا مما فيه:
- مطعمنا المميز يقدم خيارين لرواده، إما أن تأكل من طعامنا فتكون منا أو تكون أنت الطعام، فماذا تختارين؟
.
** لم يكن القرار سهلا،  ترددت كثيرا قبل الاختيار، ولكن بما أني أتحدث اليكم الآن فمن الواضح أنني فضلت الخيار الأول ... كما أن أن المطعم كان مميزا بحق، فالمكان كان هادئا، راقيا، حسن التأثيث، والطعام فيه أكثر من رائع، واكتشفت أيضا أن اللحم البشري ليس سيئا إذا أحسن تتبيله و طهوه، فهو لا يختلف كثيرا عن طعم صدر الدجاج ... لذيذ! **

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق