السبت، 16 ديسمبر 2017

القرية (الجزء الخامس والأخير)


ملخص ما سبق ... بين أحداث جرت منذ أربعة قرون لذلك الطبيب وقومه جعلتهم يضطرون لاستيطان تلك الأرض، وينشؤون فيها قريتهم،  قرية (كفر الممسوس) ... يحملون داخلهم ذلك المرض اللعين، فلا يكبح شره عنهم إلا ذلك العقار الذي يصنعونه من ثمار شجرة (أم الشعور) وماء العين، وذلك الثمن الذي تعهد به الطبيب للزائر القادم من تحت الأرض من أجل إنقاذ قومه، وهو التضحية بأول طفل ذكر من نسله ... لأحداث أخرى جرت في الزمن الحاضر لشاب يعمل في توصيل الطرود، وجد نفسه أسيرا في هذا المكان، ومطاردا من طفل قبيح سماته ليست كسمات البشر، يدعوه الطفل للنزول إلى تحت الأرض، فيقرر الهرب فيجد نفسه أمام مفاجأة رهيبة، مرعبة ...
...
أخذت أصرخ برعب وهستيرية فقد كانت المفاجأة أقوى من قدرات جهازي العصبي، لقد كانوا ينتظرونني هناك، خارج الدار، يحاصرون المكان من كل الجهات، العشرات، بل المئات منهم، وجميعهم على هيئة ذلك الطفل القبيح، بل أبشع، وجوه مشوهه، وأطراف مبتورة، وأعين مفقوءة، وجلود متحللة، مهترأة ... تراجعت بسرعة مذعورا إلى داخل الدار، وأنا أصفق الباب خلفي بقوة، كان الشيخ (حسان) هناك، وعندما وقعت عيناه هو أيضا على ذلك المشهد المرعب، انطلقت صرخته بدوره، وهو يتمتم بصوت مرتعد:
-          إنها المرة الأولى ... إنها المرة الأولى.
قبضت على ساعده، وأنا أسأله بصوت مبحوح:
-          ماذا تقول؟
أطرق إلى الأرض برأسه لثوان، محاولا التقاط أنفاسه، ثم حول ناظريه إلى وجهي وهو يجيب بنفس الصوت المرتعد:
-          لقد كانوا دائما هنا ... نعلم يقينا أنهم كانوا هنا منذ البداية.
وأشار بسبابته نحو الأرض، وهو يردف:
-          أحيانا كنا نرى واحدا منهم يسير بيننا بتلك الهيئة المرعبة، فكنا نتجاهل وجوده حتى يختفي ...  لقد اعتدنا ذلك الأمر، وصار طبيعيا للجميع ... وكانت الشهور والسنين تمر دون ظهور أحدهم ... ولكن تلك هي المرة الأولى التي أرى فيها كل هذا العدد منهم، وفي مكان واحد.
غطى وجهه بكفيه، وهو يقول من تحتهما بصوت حزين، خائر:
-          إنهم يطالبون أخيرا بما هو حق لهم.
صرخت في وجهه بغضب:
-          عن أي حق تتحدث أيها العجوز؟
-          أنت ... إنهم يريدونك أنت ... كما وعدهم جدك الأول منذ أربعة قرون!
***
 بعد شهور، أنجب الطبيب طفله الأول والأخير، كما وعده الممسوس، وهذا هو الاسم الذي أطلقه أهل القرية على ذلك الكيان الذي زار مؤسس قريتهم ومنحه  العلاج، وأقام عليه العهد، وكان جنس الطفل أنثى ... عاش الطبيب بعدها لسنوات طويلة، ثم مات ميتة طبيعية في فراشه ... كبرت تلك الطفلة وصارت فتاة مكتملة الأنوثة، وتزوجت من شاب وسيم، قسيم من خير شباب القرية، فأنجبا طفلة أنثى أخرى، وهكذا تأجل تنفيذ العهد لجيل آخر، ولعدة أجيال بعده كان نسل الطبيب من الإناث فقط ... كان أهل القرية جميعهم يعرفون هذا العهد، ، ويترقبون المولود الذكر المنتظر في كل طفل يولد من نسل الطبيب، ويعلمون أنهم لو خالفوا هذا العهد، لأكلهم الطاعون الدملي اللعين حتى آخر واحد فيهم، كما حدث لكل من فكر من أهل القرية في مغادرتها، فهاجمه المرض اللعين بعد أيام قليلة من مغادرته، واضطره للعودة، أو سبق عودته وقضى عليه بتلك الميتة البشعة المؤلمة ... مع كل مولود يأتي من نسل الطبيب كان أهل القرية يترقبون، ثم يتنهدون في ارتياح عندما يعلمون أنها (أنثى)، فيقيمون الأفراح لذلك ... حتى عشرين سنة مضت، عندما أنجبت إمرأة من نسل الطبيب طفلا ذكرا، حينها أدرك الجميع أن موعد السداد قد جاء ...
***
-          وما علاقتي أنا بكل ذلك؟
صحت بها بعصبية في وجه الشيخ (حسان)، بعد أن نجح في إعادتي إلى داخل الدار وهو يكمل لي قصة قريتهم الملعونة، فرد متجاهلا سؤالي:
-          ولكن أم الطفل وأبوه رفضا التضحية بوليدهما، وفشلت كل محاولات إقناعهما في ذلك، لم يتقبل قلبا الوالدين تلك الفكرة أبدا، وحتى وهما يدركان أن الثمن هو حياة الجميع، ومن بينها حياتهما وحياة طفلهما.
تنهد في أسى، والتزم الصمت لبرهة، ثم واصل روايته:
-           كنت حينها العمدة الجديد للقرية خلفا لأبي، وكان علي أن أكون حازما، وأقرر مافيه مصلحة الجميع، وأن استمع لصوت العقل، ولا أغلب العاطفة، فأنا لن أضحي بحياة المئات مقابل حياة طفل واحد، فقطعت العزم، وقررت أن ألتزم بما أوصانا به الطبيب منذ أربعة قرون، وهو أنت نترك الطفل تحت شجرة (أم الشعور) في ليلة قمرية ... ولكن ما حدث بعد ذلك غير كل الحسابات، غيرها تماما.
أثارت جملته الأخيرة فضولي، فسألته:
-          وماذا حدث بعد ذلك!؟
-          نجح الوالدين في الهرب بطفلهما الرضيع إلى خارج القرية.
حدق الشيخ (حسان) في وجهي للحظات، فأشرت له بعصبية لكي يكمل قصته التي أثارت فضولي بحق، فقال:
-          أرسلنا بعض الشباب في أثرهم، فما فعلاه كان كارثة بمعنى الكلمة، كارثة ستأتي على القرية، وعلى كل من فيها.
-          وهل عثروا عليهما!؟
-          لا ... فشلوا في ذلك تماما ... واضطروا في النهاية للعودة إلى لقرية بعدما هاجمهم المرض اللعين كالعادة ... أرسلنا غيرهم، وغيرهم، دون فائدة ... ولكن ...
تنهد الشيخ (حسان) وهو يردف:
-          ولكن بعد أسابيع وصلتنا أخبارهما أخيرا ... لقد مات الأب وماتت الأم، بعد أن فتك بهما المرض، وعثروا على جثتهما في غرفة بأحد الفنادق في قلب المدينة.
-          وماذا عن الطفل!؟
ابتسم ابتسامة شائهة، وهو يقول:
-          لم يكن الطفل معهما ... لقد اختفى الطفل تماما، ولم نجد له أثرا أبدا رغم كل المحاولات التي بذلناها في سبيل ذلك.
أخذت أسير جيئة وذهابا في المكان بقلق، وقد بدأت أتوقع ما ترمي إليه تلك القصة، قبل أن أسأله:
-          ولكنكم بخير كما أرى ولم يصبكم المرض.
-          بالفعل ... لم يطالبنا أهل تحت الأرض بحقهم، فنسينا أو تناسينا حتى ظننا أن الأمر قد انتهى، وأن العهد قد سقط بعد مرور كل تلك السنين ...
توقف عن الحديث لثوان، ثم أردف بلهجة تحمل بعض المرارة:
-          كان ذلك حتى أسابيع قليلة مضت عندما جاءني الممسوس، وزارني في غرفتي، وطالبني بالوفاء بالعهد وأمهلني شهرا واحدا فقط لفعل ذلك، وحذرني من العواقب، ودلني أيضا على مكان الصبي الذي بلغ الآن العشرين من عمره.
كانت ملامح الحزن والأسى قد علت وجه الشيخ (حسان)، وهو ينظر في وجهي بعينين مغرورقتين بالدموع، قبل أن يخرج من جيبه صورة (فوتوغرافية) قديمة، ويناولها لي ... نظرت إلى الصورة التي كانت لرجل وإمرأة في ملابس بلدية، فبدت ملامحهما مألوفة لي، خصوصا المرأة ... قاطع الشيخ (حسان) تلك الخاطرة وهو يقول:
-          إنها تشبهك.
لم انتبه لما قاله في البداية فسألته:
-          ماذا تقول؟
-          أقول ... إنها تشبهك ... أمك.
ألقيت الصورة كأنها حية رقطاء، وحاولت النهوض، فاستوقفني الشيخ (حسان) وهو يقول:
-          توقف يا بني ... هذه هي الحقيقة ... أنت هو هذا الطفل الذي كنا نبحث عنه منذ عشرين عاما، وأنقذه أبويه بتركه ليتربى في أحد دور الأيتام، يضحيا بحياتهما من أجله:
التقط الصورة من على الأرض وهو يضيف:
-          وهذه أمك ... وهذا أباك.
توقف للحظة قبل أن يقول بمرارة:
-          وأنا جدك.
حدقت في وجهه بدهشة، فأشاح إلى الناحية الأخرى وهو يقول بمرارة:
-          أجل هذا إبني ... وأنا جدك يابني.
تلا ذلك عاصفة من الصراخ، والسباب واتهام الشيخ (حسان) بالكذب، والتلفيق، أو بالخرق على أفضل الأحوال، استقبل الشيخ (حسان) كل ذلك بهدوء حتى هدأت العاصفة، وأفرغت ما في جوفي من الغضب، وتوقفت عن الكلام وأنا ألهث لهاث حار، غاضب، كأنفاس التنين ... نهض الشيخ (حسان) من مقعده، وتحرك بخطوات عجوزة، منهكة، حتى الطاولة، فصب بعض الماء في كوب زجاجي من آنية كانت عليها، وناوله لي فالتقطه بأصابع مرتعشة، وصببته في فمي في جرعة واحدة فقد كنت أشعر بالعطش الشديد ... تحدث الشيخ (حسان) من جديد بصوته الغليظ، ولكنته البدوية:
-          هذه هي الحقيقة يابني ... أنا لا أكذب عليك ... ما نحن فيه الآن لا يسمح بأي نوع من الكذب.
رفع كم جلبابه ليجعلني أرى ساعده العاري، فأفزعني تلك البقعة الدملية السوداء المتقيحة، والمرعبة على باطنه، تراجعت للخلف بفزع ، وأنا أقول:
-          اللعنة ... ما هذا!؟
مط شفتيه وهو يقول:
-          لقد صدق الممسوس، لقد عاد المرض ليهاجمنا جميعا وبقسوة، وعلينا أن نفي بالعهد وبسرعة، وإلا قضى المرض علينا.
زاغت عيناي، وشعرت برغبة في القئ، وأنا أقول بصوت غاضب:
-          وما ذنبي أنا ... أنا لن أضحي بحياتي من أجل بعض الترهات.
ساد الصمت المكان لدقائق، انتبهت إلى ضوء الفجر يتسلل عبر خصاص النوافذ، فقلت بعزم وأنا أنهض متوجها إلى باب الدار:
-          أنا لن أمكث في هذا المكان ثانية واحدة إضافية، أنا راحل الآن.
-          ولكنك لن تستطيع الرحيل يابني.
قلت بصوت متوعد:
-          فليحاول أحد أن يوقفني.
سرت خطوتين تجاه باب الدار، فشعرت بالدوار وبأن جدران الغرفة تدور من حولي، وصلني صوت الشيخ (حسان) وهو يقول راجيا:
-          توقف يابني، لن يمكنك الرحيل، لقد صرت منا الآن ... لو خرجت من القرية لهاجمك المرض اللعين.
شعرت أن لساني ثقيل، خدر، وأنا أرد عليه بصعوبة:
-          لن يبقيني شئ في هذا الجحيم أبدا.
قلتها وسقطت على الأرض من أثر الدوار، حاولت الاعتدال فلم استطع، فنظرت إلى الشيخ (حسان) بعينين زائغتين، وأنا أقول بصوت ممطوط، مختنق:
-          إنه الماء؟
كان آخر ما وصل إلى مسامعي قبل أن أغيب عن الوعي، هو صوت الشيخ (حسان) وهو يقول:
-          أجل يا بني ... سامحني، أنت الأمل الوحيد الباقي لهذه القرية اليائسة
***
عندما أفقت كنت في مكان مظلم، رطب، خانق ... احتجت لعدة دقائق حتى استوعب ما أنا فيه، وأتذكر الأحداث الأخيرة التي انتهت بي مخدرا وفاقد الوعي، بعد أن أوقع بي ذلك الشيخ اللعين الذي يدعي أنه جدي ... أخذت أتحسس ظلمة المكان بيدي، أنا في مكان صخري ضيق أشبه بالنفق، سقفه وجدرانه يطبقون على الجسد والروح، لا أحتاج للكثير من الذكاء لأدرك أنني داخل ذلك النفق، أسفل شجرة (أم الشعور) الذي كان ذلك الطفل القبيح يدعوني لدخوله ... تلفت حولي بذعر، هل هم هنا، يراقبونني في تلك الظلمة، ينتظرون اللحظة المناسبة لينقضوا علي، ويفتكون بي، فكرة مرعبة جعلت رعدة من الخوف والبرد تسري في جسدي ... انتبهت إلى ذلك البصيص من الضوء الذي يأتي من إحدى نهايتي النفق، فقررت أن أتوجه نحوه.
سرت لدقائق طويلة، ومع كل خطوة كان ذلك الضوء يزداد حدة، فيبعث في نفسي أملا وعزما على المضي في نفس الاتجاه ...
-          ياللهول!!
الآن استطيع أن أرى تلك القاعة العملاقة التي يؤدي إليها ذلك النفق، قاعة ضخمة، عملاقة بحجم مدينة سكنية كاملة، جدرانها الصخرية مضاءة بضوء صناعي، مشع، سقفها عالي كالسماء، يتدلى منه آلاف الجذور السميكة، يصل قطر بعضها إلى الخمسة أمتار، تتشابك وتتداخل حتى تمس الأرض وتخترقها، بالتأكيد تلك جذور (أم الشعور)، وفي تلك الجذور، وعلى الجدران، وعلى الأرض، وبعضها معلق في فضاء المكان، كانت تلك الكريات الضخمة التي تبدو كأعشاش أو أوكار لطيور عملاقة ... المكان ليس عشوائي، ولا بدائي، المكان يبدو كمدينة سكنية كبيرة، أرضها منبسطة، ومعبدة، مدينة مضيئة بضوء صناعي بقوة كألف شمس، ولكن إذا كانت تلك مدينة، إذا فأين سكانها!.. انطلقت صرخة، فزعة، من فمي عندما تجسد ذلك الطفل القبيح أمامي من العدم، وكأنه يجيب عن سؤالي، فصرخت فيه وأنا أتراجع إلى الخلف:
-          أنت ... ماذا تريد مني!؟
جاءني الصوت العميق الرغوي من خلفي:
-          مرحبا بك أيها الفتى ... انتظرناك لمئات الأعوام.
التفت إلى الخلف فلمحت ذلك الكيان ذو العباءة السوداء وغطاء الرأس الذي يخفي ملامحه، ولا ينجح حتى هذا الضوء القوي في إظهار شيئا منها ... انتفضت في فزع وحاولت التراجع فتعثرت وسقطت على ظهري، في نفس اللحظة التي بدأت فيها المئات، بل الآلاف من الأشخاص ذوي الهيئات القبيحة في التجسد حولي، فانطلقت صرخاتي طويلة مولولة، حاولت النهوض، فعجزت ركبتاي المرتعشتان عن ذلك، جاءني صوت الممسوس بنبرة مختلفة عن نبرته الرغوية، نبرة مهدئة، أقرب للصوت البشري المعتاد:
-          لا تقلق أيها الفتى ... هؤلاء أصحاب المكان وقد جاؤوا لتحيتك.
أشار إليهم بكف يده الذي بدا مصنوعا من قطع الفحم المتجمرة، فبدأت تلك الكائنات تتحور ويتغير شكلها وتكتسب شكلا مناقضا تماما ... تجمدت صرخة الدهشة على فمي المنفرج عن آخره، وعيناي الجاحظتان من الدهشة، على تلك الهيئة النورانية التي تحولت إليها تلك المخلوقات، وتلك الملامح والسمات الجميلة التي لم أر مثلها من قبل في حياتي، ولا أجد شيئا في عقلي وخبرتي يمكنني أن أشبهه بها، يمكن أن أصفها بقليل من التوفيق بقنديل البحر المضئ، لو كان القنديل يحمل ملامح شبه بشرية جميلة، صافية، بشرة شفافة ترى معها أعضاء الجسد الداخلية التي تومض بضوء لامع، بألوان متعددة ... أشار الممسوس لتلك المخلوقات بإشارة أخرى، فبدأت تطير وتحلق في أجواء المكان، ثم تتوجه إلى تلك الأعشاش وتختفي داخلها.
كانت دهشتي قد بلغت مداها، فحجبت خلفها مشاعر الرعب، والذعر التي كانت تكتنفني منذ لحظات، توجه إلى المسوس قائلا:
-          هيا أيها الفتى ... أعلم أن لديك ألف سؤال، وعندي إجاباتها جميعا.
توجه الممسوس إلى داخل المدينة بخطوات سريعة، عبر طرقاتها التي تغطيها وتحدها المجموعات الجذرية لشجرة (أم الشعور)، وأشار لي للحاق به، لثانية فكرت أن استغل الفرصة، وأهرب إلى الناحية الأخرى من النفق، ولكنني وجدت نفسي أتبعه يدفعني فضولي، وقناعتي أنه لا سبيل من الهرب من تلك الأشياء وذلك المصير ... سرنا لدقائق طويلة حسبتها دهرا، حتى وصلنا إلى مكان متسع يطل على فجوة ضخمة مظلمة في بطن الجدار، كأنها شاشة سينما، وأمامها مذبح صخري عليه كرة مضيئة تنبض نبضات لونية مبهرة ... توقف الممسوس محدقا في تلك الفجوة السوداء، فتوقفت خلفه لاهثا، قبل أن يقول:
-          ما هو سؤالك الأول.
أجبت بسرعة:
-          من أنتم!؟ وماذا تريدون مني!؟ هل تفكرون في ذبحي على هذا النصب!؟
أجاب بصوته البشري المهدئ:
-          منذ عشرة آلاف سنة أو يزيد جئنا إلى هذا المكان، وعبر تلك البوابة.
أشار بسبابته الجمرية إلى الفجوة المظلمة ... فسألته بصوت مرتعش:
-          هل أنتم من عالم آخر.
التفت لي، ثم بدأ يخلع عباءته ويلقيها على الأرض، فانطلقت صرخة أخرى مفزعة من فمي، لقد كان جسده وملامحه مصنوعة من الفحم أو الصخر الأسود يتخللها شقوق تشع بلون أحمر جمري، وتشع عينيه بنفس اللون الملتهب، قبل أن يتوجه لي قائلا:
-          قبل آلاف السنين اكتشف علماؤنا أن كل نقطة في هذا الكون لا يشغلها حيز فيزيقي واحد، بل يتشارك فيها عشرات الأكوان، يتبادلون شغل ذلك الحيز عبر نطاق ترددي لا يتقاطع.
شعرت بالعجب، لقد تحول ذلك المسخ إلى عالم في لحظة واحدة يتلفظ بأشياء غير مفهومة، أشياء جعلته أكثر رعبا وغموضا في نظري ... قلت بحرج بصوت خفيض:
-          لا أفهم شيئا.
حدق في بعينيه الملتهبتين:
-          كذلك قالها كل من سبقك من جنسك، عندما حاولت أن أوضحها لهم.
صمت للحظة ثم أردف:
-          أجل نحن من عالم آخر ... كون مواز، كوكب يحلق في مكان آخر من هذا الكون، مكان لا يمكن الوصول إليه بالقوعد الفيزيقية المعروفة لديكم الآن، والتي ستعرفونها بعد ذلك ...كوكب يفصله عن كوكبك تلك البوابة التي صنعها أجدادنا في الماضي، صنعوا منها المئات وعبروا منها إلى المئات من الأكوان الموازية ومنها كوكبك.
قلت محاولا الفهم:
-          هل تقصد أنكم مخلوقات فضائية ... إذا فما تلك الهيئة المرعبة التي نراكم بها على سطح الأرض.
-          عندما صنعت تلك البوابات، بدءنا مرحلة جديدة من الحضارة، وهي مرحلة ثبر أغوار الكون، والتعرف على الحضارات الأخرى، وما تعلمناه في رحلاتنا الأولى والكوارث التي حاقت بسفرائنا الأوائل في بعض الأكوان الهمجية، هي أن التشكل بهيئتنا الطبيعية، المسالمة، يعرضنا للخطر، من هنا فكر الأجداد في بعض القواعد التي تؤمن هؤلاء السفراء، ومنها التشكل بهيئة مخيفة، مرعبة، نابعة من ثقافة تلك الشعوب، تجعلهم لا يجرؤن على إيذاء هؤلاء السفراء، على الأقل في المرحلة الأولى من التواصل.
-          وكيف تفعلون ذلك!؟
-          نحن نمتلك بنية فيزيقية تختلف عنكم، وهذا الموضوع طبيعي للغاية بالنسبة لقومنا.
ساد الصمت للحظات، كانت عشرات الأسئلة تعربد في ذهني أهمها بخصوص مصيري، قاطع الممسوس تلك الأفكار وهو يقول:
-          هكذا جئنا إلى تلك الأرض من عشرة آلاف عام بمقاييس كوكبكم، وأجرينا تواصلا ناجحا، واعتبرنا قومك الأولون من الآلهة، وأقمنا اتصالا لسنوات طويلة وعشرات الرحلات إلى هنا، بل أن البعض من قومك جاء إلى كوكبنا عبر تلك البوابة، وتعلم من ثقافتنا وحضارتنا، بل أننا سمحنا لأجدادك أن يعبروا إلى كوكبنا وقتما يريدون، وذلك بفتح تلك البوابة من ناحيتكم عبر قفل جيني خاص.
رددت في عدم فهم:
-          قفل جيني خاص.
-          أجل ... شفرة جينية كقطع الأحجية مزروعة في أجساد عشرين من رجالكم ... إذا تجمع هؤلاء العشرين معا يمكنهم أن يفتحوا تلك البوابة من ناحية كوكب الأرض ... فعلنا ذلك حتى لا يكون الموضوع حصرا في يد شخص واحد.
قلت بدهشة:
-          فكرة ذكية.
-          على العكس، لم ينتبه علماؤنا إلى أن مقاييس الزمن عندكم تختلف عنها لدينا، فالزمن يمر بسرعة في تلك الناحية من الكون، واليوم أو الدورة الزمنية لدينا يعادل ألف بعدتكم ... وكذلك أعمارنا تعادل ألف مرة أعماركم.
قلت بفضول:
-          وما المشكلة في ذلك؟
-          المشكلة أنه بعد فترة قصيرة بمقاييس زماننا، مات هؤلاء الرجال العشرون، وتشتت جيناتهم في الأرض، وأصبح فتح البوابة من هذه الناحية غير ممكنا.
قلت متفاعلا مع الحديث، ومدعيا الفهم، والخبرة:
-          يمكنكم دائما إعادة ضبط القفل الجيني.
-          لم يسعفنا الوقت لذلك، فقد حدثت كارثة بيئية هائلة على كوكبنا، جعلت الحياة عليه مستحيلة، وهكذا مات الملايين من قومي، ما عدا القليل الذين تمكنوا من الهرب عبر بوابات الأكوان الموازية.
صمت للحظة ثم أردف:
-          كانت الخطة هي أن نعيش على تلك الأكوان لفترة زمنية تسمح لكوكبنا بالتعافي بيئيا، وبعدها نعود إلى الوطن عبر تلك البوابات ... توقعنا أن ألف سنة هنا ستكون كافية حينها سيكون قد مر مليون عام على كوكبنا، وأصبح صالحا للعودة والاستيطان.
عاد لصمته من جديد، فاحترمت صمته الذي طال في تلك المرة قبل أن يقاطعه قائلا:
-          هنا اكتشفنا الكارثة وهي أننا لا نملك الشفرة اللازمة لفتح البوابة من تلك الناحية.
قاطعته بسرعة:
-          سامحني ولكن ما علاقتي أنا بكل ذلك ... إذا كنتكم لا تمتلكون طريقة للعودة إلى عالمكم فيمكنكم البقاء هنا ... لقد كنتم هنا منذ آلاف السنين، ويمكنم البقاء للمزيد.
أجابني وكأنه لم يسمع تعليقي الأخير:
-          هكذا كان علينا أن نبحث عن تلك الشفرة الجينية ... كان الأمل في أن يتزاوج نسل الرجال العشرون، وتتداخل شفرتهم الجينية، على أمل أن تتجمع الشفرة في إنسان واحد من نسلهم جميعا ... احتمال واحد مقابل مئات الملايين، كان علينا أن ننتظر لآلاف الأعوام حتى يتحقق، وعندما قابلت الطبيب، علمت أن ضالتنا قد اقتربت، فالشفرة تكاد تكتمل في مركبه الوراثي بنسبة 99%، وعلمنا أننا سنحتاج إلى أول مولود ذكري من نسل الطبيب لتكون الشفرة مكتملة لديه.
حلق الصمت فوق رأسينا للحظات، عاد بعدها الممسوس ليقول:
-          هل علمت لماذا نحتاجك، ولماذا انتظرناك كل تلك السنوات، ولماذا فعلنا كل ذلك ، المرض، والعلاج، العهد، وكل شئ آخر ... كنا نبحث عن شفرتنا المنشودة التي ستفتح إلينا باب العودة إلى الوطن، شفرتنا التي تحملها بين أوصالك.
***
 أقف الآن على المذبح الحجري، أضع كلتا يدي على الكرة الزجاجية التي توقفت عن الوميض، لينتقل الوميض إلى البوابة التي أصبحت تشع بنفس الأضواء المبهرة ... صفوف المخلوقات النوارانية تمر بجواري وتعبر عبر البوابة، يلمحوني بنظرة أخيرة تحمل بعض العرفان والشكر أو هكذا حسبت، قبل أن تبتلعهم البوابة المضيئة لتقودهم إلى وطنهم ... كنت حسبهم بالمئات أو الألوف ولكنهم كانوا بالملايين، استمر مشهد عبورهم المهيب إلى وطنهم لساعة كاملة، عبر تلك البوابة التي فتحتها لهم شفرة خاصة كانت مخبأة بين جينات أجدادي وتجمعت في جسدي ... عبروا جميعا فاقترب الممسوس ليلحق بهم، فسألته:
-          ولكن قبل أن تذهب ... ماذا عن أهل القرية؟
أشار بسبابته إلى تلك الشمس الصغيرة التي تنير سقف المدينة، وجدرانها:
-          تلك البطارية مشحونة بالطاقة الكونية، وهي تغذي جذور أم الشعور وتمس ماء العين بالطاقة، وهي ستستمر في العمل لآلاف السنين الأخرى، وهي تحمل سر الشفاء وتقدمه لهم مع ثمار الشجرة، لن يعانوا من مشكلة هذا المرض لآلاف السنين.
تحرك خطوة أخرى في اتجاه البوابة، فسألته مجددا:
-          ولكن لماذا لا تبدوا هيئتك كهيئتهم؟
قال بصوته الرغوي العميق الذي أصبحت أعتاده الآن:
-          أنا لست مثلهم، أنا كما تقولون في هذا الزمان (روبوت) أو آلي يحمل ذكاء اصطناعيا، له مهمة واحدة وهي الحفاظ على حياة تلك الكائنات والعودة بهم إلى جادة الوطن في النهاية مهما كانت المعوقات ... وبفضلك قد نجحت في مهمتي.
تقدم مجددا حتى صار على بعد خطوة واحدة من البوابة، فأشار لي بيده وهو يقول:
-          إذا أردت ... يمكنك المجئ سترى أشياء لم ترها من قبل في حياتك ... لا تقلق عندما ترغب في العودة ستجد في داخلك المفتاح الذي يفتح لك الباب إلى وطنك.
قالها ثم عبر البوابة ... أخذت أفكر فيما قاله لثوان طويلة، أفكر في حياتي التي عانيت فيها الأمرين، وفي حظي العثر الذي لم يبخل علي يوما بكل منغص، وكارثي، استغرقني التفكير للحظات أخرى ثم عبرت خلفه ...
  .. (تمت) ..
ملحوظة:
إلى هنا تنتهي قصة (القرية) ... ولكن إذا كنت تتسائل عما حدث لهذا الشاب بعدما عبر البوابة الكونية فلهذا حديث آخر في قصة أخرى تنشر قريبا على صفحة القشعريرة بعنوان (عبر الأكوان) ... المؤلف




هناك تعليق واحد: