السبت، 2 ديسمبر 2017

القرية (الجزء الرابع)

قصة رعب بعنوان ... (القرية – الجزء الرابع)
ملخص ما سبق ... جماعة من البشر المصابون بمرض خبيث لا علاج له، يضلون طريقهم في الصحراء، قبل أن يجدوا أنفسهم بالقرب من واحة، وعين ماء تطل عليها شجرة عملاقة تتدلى فروعها حتى تلامس الأرض ... يقررون إقامة مخيمهم هناك في محاولة يائسة لإراحة أجسادهم التي أهلكها الطاعون الدملي، الخبيث ... وفي نفس الليلة يظهر ذلك الكيان الغامض لطبيب الجماعة وقائدها في خيمته، ليخبره أنه من أهل (تحت الأرض)، ويدله على علاج هذا المرض اللعين ... هذه أحداث جرت قبل أربعة قرون، ولكنها ترتبط بشكل وثيق بما يحدث في الحاضر، وهذا الشاب الذي يعمل في توصيل الطرود الذي وجد نفسه حبيسا في قرية منعزلة، ومطاردا من طفل قبيح سماته ليست كسمات البشر، يدعوه إلى النزول تحت الأرض ...
...
 .. (أحداث جرت في نهايات القرن السادس عشر) ..
قد يشعر البعض بالرعب والذعر لو تعرضوا لما تعرضت له، وزارهم ذلك الكيان الغامض في منتصف الليل، قد تشيب شعورهم ويصيبهم الخبال، ولكن كيف أشعر أنا بالرعب وأنا أحياه في كل لحظة مع ذلك المرض اللعين الذي يلتهم جسدي ويقودني بإصرار نحو النهاية الحتمية، كيف يمكن لمن صار يرتجي الموت حتى يخلصه من معاناته، أن يخاف من شئ آخر ... لم أنم في تلك الليلة، كان عقلي منشغلا بذلك العلاج الذي وصفه لي الزائر الغامض، هل هناك بصيصا من الأمل وسط كل هذا اليأس والعذاب، لا استطيع تصديق ذلك، ولن أتحمس له أبدا، ولكنني سأجربه على أي حال، وسأجرب أي شئ آخر يمكنه أن ينقذ قومي من هذا المصير ... ما الضير من تجربته!؟ بالتأكيد لن يجعل مصائرنا أكثر سوء ومرارة.
في الصباح جمعت بعض ثمار (أم الشعور) وجلبت الماء من العين، وصنعت منهما عقارا، وبدأت أمر على الخيام وأسقي الناس من هذا العقار الذي كان شديد المرارة، ولم أنس نصيبي، ولا نصيب زوجتي التي صحبتني في تلك الرحلة وهي سليمة الجسد فأصابها المرض أثنائها ... ثلاثة أيام، واظبت فيها على هذا النشاط، مرة في الصباح وأخرى في المساء، لم يسقط المزيد من الضحايا لحسن الحظ، ولكنني لم أرصد أي علامات على الشفاء، حتى كان صباح اليوم الرابع عندما لاحظت أن تلك الحكة التي كانت تصنعها البقع الدملية التي انتشرت أسفل إبطي قد اختفت، وعندما خلعت قميصي كانت المفاجأة والبشرى السعيدة، لقد اختفت البقع التي كانت هناك، خلعت كل ملابسي وتفحصت جسدي كله، قبل أن أصرخ في سعادة وغبطة، لا يوجد شك في ذلك، البقع الدملية القبيحة تتراجع  وتختفي بسرعة كبيرة ويتلاشى أثرها.
ارتديت ثيابي على عجل وأسرعت إلى خيام القوم ليتأكد ظني، ماحل بي حل بالجميع ... المرض ينسحب والجميع يتبادلون الأحاديث المستبشرة وقد وجد الأمل طريقه أخيرا إلى ملامحهم وصوتهم ... أقبل علي القومي وهم يجزلون لي الشكر والثناء، وانكفأ البعض على يدي وقدمي يقبلهما، ولكنني كنت أهمس في أذنه وأنا أساعده على الاعتدال قائلا:
-          الشفاء من الله ... والسبب ماء العين وثمار (أم الشعور).
بعد أسبوعين كان المرض قد انتهى تماما، واجتمع القوم ليقرروا ما عليهم فعله، وتبادلوا الأحاديث والأراء، ثم رفعوا رؤوسهم نحوي ليستمعوا إلى قراري الأخير، فوقفت بينهم بكل فخر وأنا أقول حزم:
-          سنعود غدا إلى مدينتنا ووطننا، وسنحمل معنا سر الشفاء.
لمحت الرضا عن هذا القرار في أعين الجميع، فشعرت بالراحة، لم أكن أعرف أنه في نفس تلك الليلة سيتغير كل شئ عندما زارني ذلك الكيان الغامض مرة أخرى، في تلك المرة لم أشعر بالتوجس، بل قمت بالترحيب به وشكره، فبادرني قائلا بصوته الرغوي، الغليظ، القادم من وراء غطاء الرأس الذي يخفي جل ملامحه:
-          لا يمكنكم الرحيل.
   ارتج علي للحظات، قبل أن أرد عليه باستنكار:
-          ماذا تقول؟
-          لا يمكنم الرحيل.
-          وما الذي سيمنعنا من ذلك.
اقترب مني خطوة حتى صار في مواجهتي تماما، شعرت بالبرد والرعدة تكتنف أوصالي، كنت أحدق إلى داخل غطاء رأسه في محاولة لرؤية ملامحه فلم يطالعني من تحت الغطاء إلا ذلك الظلام، والعتمة ... تحدث بنفس الصوت الغير بشري:
-          إذا رحلتم سيعاودكم المرض من جديد.
-          ماذا؟
-          المرض ما زال كامنا في أجسادكم، وما زلتم مصدرا للعدوى.
توقف للحظة ثم أردف:
-          العلاج يحاصر المرض ويوقف تأثيره، ولكنه لا يقضي عليه.
صرخت في غضب:
-          اللعنة:
قال مستدركا:
-          لا تقلق يمكنكم أن تعيشوا حياتكم بصورة طبيعية وحتى آخر يوم فيها، لن يضايقك المرض طالما تستمرون بانتظام في تناول العلاج.
فكرت لثوان، ثم قلت بأمل:
-          إذا سنصنع مقدارا ضخما من العقار ونأخذه معنا إلى وطننا.
أطلق ضحكة عالية بدت كقرعات الطبول، وهو يقول:
-          العلاج لن يؤتي ثماره بعيدا عن هذه الأرض.
توقف من جديد ثم قال بحسم:
-          الخيار لكم ... إما أن تحيوا في تلك الأرض، أو تموتوا بعيدا عنها.
استدار متوجها إلى جدار الخيمة ليغيب فيها كما فعل في المرة السابقة، ولكنه قبل أن يفعل:
-          إذا اخترتم البقاء، فهناك ثمن يجب عليك أن تدفعه.
-          وما هو هذا الثمن؟
-          الثمن هو أول مولود (ذكر) من نسلك أنت.
صرخت فيه بغضب:
-          ماذا تقول أيها المأفون؟ أنا لا نسل لي، وامرأتي عاقر ولا تنجب.
قال بصوت له رنين خاص وهو يختفي في جدار الخيمة:
-          سيشفيها العلاج، وسيقضي على كل أسقامكم، وستنجب لك زوجتك طفلا عما قريب ... المهم عندما يأتي وقت السداد ألا تنسى ذلك، وألا ينساه قومك وأحفادك من بعدك.
***
انتهى الشيخ (حسان) من رواية قصة الطبيب المذهلة، وقصة أول قوم استعمروا تلك الأرض ... كانت ملامح الذهول وعدم التصديق بادية على وجهي، فقال مردفا:
-          لم يصدق الطبيب ما قاله له الزائر، ولكنه أخبر قومه في اليوم التالي بكل ما حدث.
سألته بصوت مبحوح:
-          وماذا فعلوا؟
مط شفتيه وهو يقول:
-          أرسلوا ثلاثة من الشباب من بينهم إلى الوطن، وكانوا يحملون معهم قدرا من العقار ... كانوا يريدون التحقق من صدق مقولة الزائر الغامض.
-          وهل نجحوا في مسعاهم؟
قال وقد حملت عيناه نظرة حزينة:
-          مات إثنان منهم في الطريق، وعاد الثالث إلى هذه الأرض من جديد، وهو في حالة سيئة للغاية، بعد أن عاوده المرض، وامتلأ جسده عن آخره بالبقع الدملية ... لقد كان الزائر صادقا، فنحن لا نستطيع أن نعيش بعيدا عن هنا ... عن قريتنا ... قرية (كفر الممسوس).
أطرقت برأسي مفكرا، في محاولة لهضم ما قصصه علي ... لو لم أكن تعرضت بنفسي لتلك التجربة مع هذا الطفل القبيح، لاتهمت هذا الشيخ بالخرف، ولكنني أصدق الآن كل ما قاله، بل أن هذا الزائر هو من جاءني في الحلم وأخبرني بأنهم كانوا ينتظرونني منذ فترة طويلة ... انتبهت فجأة إلى تعليق الشيخ (حسان) الأخير، فسألته بدهشة:
-          ماذا تقصد بكلمة (نحن)؟
أجابني بصوته الفخيم، العميق:
-          بعد شهور من تلك الواقعة حملت زوجة الطبيب، وبعدها بشهور أنجبت طفلة ... لقد قبل القوم ذلك الوضع وقرروا الاستقرار في تلك الأرض، بل أنهم تناسلوا وتكاثروا وأقاموا العمران حتى آل الحال إلى ماتراه الآن ...
قاطعته وأنا أكرر سؤالي مرة أخرى:
-          لم تجب عن سؤالي يا شيخ (حسان) ... ماذا تقصد بكلمة (نحن)؟
بدا غير مكترثا وهو يقول:
-          لقد عرف القوم أن المرض ظل كامنا، متربصا داخل أجسادهم، ينتظر الفرصة المناسبة للخروج والإعلان عن وجهه القبيح، وعرفوا أيضا أنهم كانوا ينقلونه إلى الأطفال بمجرد إنجابهم، وهكذا استمر المرض متنقلا عبر الأجيال.
توقف الشيخ (حسان) عن الحديث، فسألته مستنكرا:
-          هل تقصد؟
-          نعم يا بني، جميع أهل القرية يحملون ذلك المرض اللعين داخل أجسادهم، من الشيخ العجوز حتى الطفل الرضيع.
شعرت بالشفقة للحظة، دفعتها وأنا أقول بغضب:
-          هذا قدركم ... ولكن ما ذنبي أنا في كل هذا؟
حدق في وجهي للحظات، استشعرت في عينيه الحنان مختلطا بالشجن والحزن، قبل أن ينهض ويتوجه إلى زاوية المكان ليحمل الطرد الذي جاء بي إلى هنا في بداية الأمر، ويعود به ويضعه أمامي، وهو يومئ لي برأسه ... نظرت للطرد فوجدته مازال مغلقا على حاله كما جئت به، فسألته:
-          ماذا؟
-          افتحه.
ترددت للحظة، فأومأ لي برأسه مشجعا، فأمسكت بالطرد وفضضت المغلف عنه، ثم فتحت الصندوق الداخلي، قبل أن أصيح بدهشة:
-          اللعنة ... ما هذا!؟
ففي داخل الطرد كانت هناك خمسة من الصخور، في حجم قبضة اليد ودون ذلك، نظرت في عيني الشيخ (حسان) متعجبا، وأنا أسأله:
-          ما جدوى تلك الصخور!؟
أجاب ببساطة:
-          لا شئ.
صمت للحظات، فحثثته على الاسترسال بهزات عصبية من رأسي:
-          لقد كان الهدف من هذا الشئ هو جلبك لهذا المكان ...
صعقت مما قاله الشيخ (حسان) وعربدت الأفكار داخل عقلي، قبل أن تتضح الحقيقة في النهاية، فنهضت بغضب، وأنا أصرخ في وجهه:
-          إذا هذا هو الهدف إذا ... الهدف هو جلب أضحية سيئة الحظ لتقديمها إلى تلك الغيلان التي تعيش تحت أرضكم، وكنت أنا صاحب ذلك الحظ العثر.
دفعت الطاولة التي أمامي بغضب فسقطت على الأرض وسقط الطرد وتدحرجت الصخور إلى خارجه ... أمسك الشيخ (حسان) بيدي وهو يقول محاولا تهدئتي:
-          انتظر يا بني ليس الأمر كما يبدو.
دفعت يده بقسوة، وأنا أقول بغضب:
-          أنا لن أبق هنا لحظة أخرى ... اللعنة عليكم وعلى أرضكم الممسوسة.
توجهت بسرعة نحو باب الدار يلاحقني الشيخ (حسان) محاولا تهدئتي واستبقائي دون جدوى، فتحت الباب بعنف، واندفعت إلى الخارج، قبل أن تنطلق صرخاتي المذعورة عالية مدوية تعانق ظلام الليل، فقد كان ما ينتظرني خارج الدار شيئا رهيبا مرعبا، مرعبا بحق!

.. (نهاية الجزء الرابع – يليه الجزء الخامس والأخير) ..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق